اضاءة الاحتفالات
نَدَر أن استُخدمت المشاعل وحدها للمواكب أو الاحتفالات الشعبية، وقد استمر ذلك في مختلف العصور الإسلامية. وكان المشاعليّة يُجهَّزون مع المحمل ويخرجون في موكبه وعليهم الفُوَط الزَّرْكش ويسيرون ليلاً بالمشاعل. أما في الاحتفالات الأخرى فكانت المشاعل واحدة من وسائل الإضاءة المثيرة.
وكان الملوك والعامة جميعاً يجمعون بينها وبين وسائل الإضاءة المختلفة، فقد «اجتاز نازوك الدروب في بغداد في بعض أيّام الأعياد في موكبه وبين يديه أكثر من خمس مائة فرّاش بالشموع الموكبية سوى أصحاب النفط...» (41).
وقد اعتاد الناس أن ترتبط أفراحهم العامة والخاصة بإيقاد ما يستطيعون من أضواء الشموع والمشاعل والقناديل والأنوار والثريّات، حتّى صارت من لوازم الفرح سواء في المشرق أو في الأندلس والمغرب، فليس من عرس ولا مناسبة بهيجة إلا ولوسائل الإنارة دورها فيها.
غير أن أعظم الاحتفالات كانت في المناسبات ذات الطابع الديني، وهي عديدة: ـ
أ. منها ختم القرآن: وقد شهد ابن جُبير أكثر مِن حفل منها في مكة. واحدة أعدّ والد الفتى فيها ثريا مصنوعة من الشمع مُغصَّنة قد انتظمت أنواع الفواكه الرطبة واليابسة وأعد له شمعاً كثيراً. ووضع في وسط الحرم شبيه المحراب المربّع من أعواد مشرجبة على قوائم أربع ورُبطت في أعلاه عيدان نزلت منها قناديل وأُسرجت في أعلاها مصابيح ومشاعيل، وسُمِّر دائر المحراب كله بمسامير حديدة الأطراف غُرس فيها الشمع فاستدار بالمحراب كله وأُوقدت الثريا ذات الفواكه.. (42). وفي حفل ثانٍ استنار الحطيم كله حتّى لاح في الهواء كالتاج العظيم من النور...
ب. ومنها ما كان يسمى في العهد الفاطمي بليالي الوَقيد، وهي الليالي الفضيلة الأربع: مستهل رجب، ومنتصفه ومستهل شعبان، وليلة النصف فيه، بالاضافة إلى ثبوت هلال شهر رمضان.
وقد ذكر المقريزي ما يجري في هذه الليالي في العهد الفاطمي، قال في حوادث سنة 380هـ: «خرج الناس على رسمهم في ليالي الجمع ليلة النصف من رجب إلى جامع القاهرة ـ الأزهرـ وزيد فيه في الوقيد على حافات الجامع وحول صحنه التنانير والقناديل والشمع على الرسم في كل سنة، وحضر القاضي محمد بن النعمان...
وفي ليلة النصف من شعبان كان جمع عظيم بجامع القاهرة، وأُوقدت التنانير والمصابيح على سطح الجامع ودور صحبه ووضع الشمع على المقصورة وفي مجالس العلماء...
وفي مستهل رجب سنة 516هـ/1122م جلس الخليفة الآمر... وأمر أن يُحمَل إلى القاضي خمسون ديناراً يصرفها في ثمن الشمع وأن يعتمد الركوب في الليالي الأربع بصحبته، وأن يطلق للجوامع والمساجد توسعة في الزيت برسم الوقود... وكان يطلق في أربع ليالي الوقود برسم الجوامع الستة في القاهرة ومصر جملة كبيرة من الزيت الطيب...». وكان قَوَمة الجامع القديم وحده (جامع عمرو) يجتمعون قبل ليلة الوقود بمدة إلى أن يُكملوا ثمانية عشر ألف فتيلة.
وكان إذا مضى النصف الأخير من جمادى الآخرة (كما فعل الحاكم سنة 390هـ) أمر الخليفة أن يسبك في خزائن دار فتكين ستّون شمعة وزن كل منها سدس قنطار بالمصري، تحمل إلى دار قاضي القضاة لركوب ليلة مستهل رجب. فإذا كان بعد صلاة العصر اهتم الشهود أيضاً، فمنهم من يركب بثلاث شمعات إلى اثنتين إلى واحدة.. (ويمشي الموكب) وأمام قاضي القضاة الشمع المحول إليه موقوداً مع المندوبين لذلك من الفراشين من الطبقة السفلى، من كل جانب ثلاثون شمعة.. وفي ركابهم القراء حتّى مجلس الحكم على ترتيبهم الأقدم فالأقدم وحوالي كل واحد ماله من شمع، ويقفون تحت المنظرة العالية في الرحبة ويترجلون ريثما يطل الخليفة وبين يديه شمع ويبين شخصه، فيخطب ثلاثة خُطَباء (ثم ينصرفون إلى الجوامع جامعاً بعد آخر) إلى جامع مصر حيث يوقد (للموكب) التنوّر الفضة الذي كان معلقاً فيه (43).
ج. ومنها خروج المحمل والحجيج حاملين أستار الكعبة. ويصفه الرشيدي سنة 923هـ/1517م في آخر العصر المملوكي فيذكر أنه بعد أن خلع السلطان على آمر الحج آنذاك وهو الزيني بن بركات المحتسب نزل إلى القلعة وقدّامه أعيان المباشرين والأمراء الجراكسة والمماليك. وركب أمامه قاضي القضاة، فرُجّت له المدينة وزينت الدكاكين ووقدت الشموع وعلقت له الأحمال بالقناديل... ومشت قدّامه الانكشارة يرمون بالنفط... وتصدر الموكب «الضوية» بالمشاعل وعليهم الفُوَط الزركش... (44).
أما أعظم الاحتفالات الدينية التي تنطق فيها شموس الأضواء، فكانت دون شك تلك التي تجري في ليلة القدر. وقد ذكر أن فضل الله العمري أنه كان في شمال المحراب بمسجد قرطبة بيت فيه عُدد وطسوت من ذهب وفضة وحسك، وكلها لوقيد الشمع في تلك الليلة (45). وإذا قال المَقدِسي إنه ليس أبهى من رمضان في مكة (46) فالواقع أن ذلك كان في الحرم الشريف. وقد عدّ صاحب الاستبصار فيها عشرين قنديلاً معلقة في الحطيم من أهل بغداد، وعشرة من ملك العجم، وعشرة قناديل من سنجار، واثنين وسبعين في باقي الحطيم. كما عدّ مائة وخمسين قنديلاً في سقائف المسجد الحرام، وخمس ثريات على الأبواب الرئيسة في الكعبة (47). على أن هذا العدد ليس بشيء أمام ما يضاف إليه ليلة القدر.
فلا تقع لمحة طرف إلاّ على نور يشغل حاسة البصر عن استمالة النظر، فيتوهم المتوهم، لهول ما يعاينه من ذلك، أن تلك الليلة المباركة نُزِّهت لشرفها عن لباس الظلماء فزُيِّنت بمصابيح السماء.