زيارة الناحية المقدّسة إحدى الزيارات المشهورة لسيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، وهي زيارة يُزار بها في يوم عاشوراء وغيره من الأيّام، أي أنّها من الزيارات المُطلَقة.
وزيارة الناحية فيها مزيج رائع من المودّة الصافية والمعرفة واللوعة الممزوجة بالتوسّل والرغبة، وتركيب من المعارف الروحيّة التي تبعث في الزائر ــ إضافة إلى حالة الانكسار والحُرقة ــ إحساساً بالمسؤوليّة، وتحرّكه في طريق الالتزام المسؤول.
وتشترك زيارة الناحية مع نظيرتها (زيارة عاشوراء) في انتمائهما من جهة الصدور إلى إمام العصر (عليه السلام)، وفي الوضوح الذي ترسمه لمعالم واقعة الطفّ الأليمة المفجعة، ثمّ تدفع بالزائر ــ وقد طفح كيانه بمعرفة مقام إمامه ومُقتداه وامتلأ وجوده بحبّه ومودّته والشوق إليه ــ إلى تبنّي موقف واعٍ من قضية التولّي والتبرّي؛ التولّي لإمامه الشهيد في طريق إحياء دين خاتم الرسل (صلّى الله عليه وآله)، وتولّي أصحابه وأنصاره الغرّ الميامين الذين تساقطوا الواحد تلو الآخر في سبيل العقيدة الحقّة، والتبرّي ــ في المقابل ــ من خطّ الظلام، خطّ الانحراف عن مسيرة الرسالة المحمّدية البيضاء، الذي جسّده يزيد وأعوانه وطُغمته.
تبدأ زيارة الناحية بالسلام على أنبياء الله وأولياء دينه الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، ثمّ بالسلام على أبي عبد الله الحسين الشهيد (عليه السلام) وأنصاره الأبرار الأوفياء، ثمّ تعرّج على صفات أبي عبد الله (عليه السلام) وسيرته ونهجه قبل حركته في عاشوراء، وتبيّن الأرضيّة التي مهّدت لحركة سيّد الأحرار (عليه السّلام) وقيامه، ثمّ تعدّد المصائب التي صُبّت عليه (عليه السلام) في كربلاء، والحزن الذي طبّق الخافقَين لفقده وشهادته، وبكاء السماوات السبع والأرضين السبع وما فيهنّ وما بينهنّ على ما أصابه ولحق به، ثمّ تنتهي بالتوسّل إلى الله (عزّ وجل) بحقّ الأئمّة الأطهار (عليهم السلام).
• مصادر زيارة الناحية المقدّسة:
ممّا لا يرقى إليه الشكّ أنّ هذه الزيارة قد صدرت عن الإمام المعصوم (عليه السلام)، ومن أقدم المصادر التي نقلت هذه الزيارة الشريفة كتاب المزار للشيخ المفيد (ت 413 هـ)، حيث ذكرها في أعمال يوم عاشوراء. يقول العلّامة المجلسيّ: قال الشيخ المفيد (قدّس الله روحه) ما هذا لفظه: زيارة أخرى في يوم عاشوراء برواية أخرى: إذا أردتَ زيارته بها في هذا اليوم، فقف عليه (عليه السلام) وقل: «السلام على آدم صفوة الله ...» (بحار الأنوار للمجلسيّ: 98 / 317).
ونقل هذه الزيارة بعد الشيخ المفيد تلميذُه السيّد المرتضى علم هدى (ت 436 هـ)، حسبما جاء في كتاب مصباح الزائر، نقل ذلك السيّد الأمين في كتابه (أعيان الشيعة: 8 / 219).
قال السيّد ابن طاووس في مصباح الزائر: زيارة ثانية بألفاظ شافية، يُزار بها الحسين (صلوات الله عليه)، زار بها المرتضى علمُ الهدى (رضوان الله عليه). قال: فإذا أردت الخروج فقل: «اللهمّ إليك توجّهتُ ...»، ثمّ تدخل القبّة الشريفة وتقف على القبر الشريف وقُل: «السلام على آدم صفوة الله ...» (مصباح الزائر لابن طاووس: 221).
وقد أشار الشيخ المجلسيّ في كتابه إلى هذه الزيارة المنقولة عن السيّد المرتضى (بحار الأنوار: 98 / 328).
وتبع السيّدَ المرتضى ابنُ المشهدي؛ أبو عبد الله محمّد بن جعفر بن علي المشهديّ (كان حيّاً سنة 595 هـ)، وهو تلميذ شاذان بن جبرئيل القمّي وعبد الله بن جعفر الدُّوريستي وورّام بن أبي فراس، وهو أستاذ ابن نما الحلّي وفخار بن معدّ الموسوي.
كتب ابن المشهدي في كتابه (المزار الكبير: 496 ــ 519) يقول في شأن زيارة الناحية: زيارة أخرى في يوم عاشوراء لأبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، ممّا خرج من الناحية إلى أحد الأبواب. قال: تقف عليه وتقول: «السلام على آدم صفوة الله ...».
وبعد ابن المشهدي جاء العالم الشيعيّ الكبير السيّد ابن طاووس؛ رضيّ الدين عليّ بن موسى بن طاووس الحسني البغداديّ (ت 664 هـ)، فنقل هذه الزيارة في (مصباح الزائر: 192).
ومن هذين الكتابين الأخيرين نقل متأخّرو علماء الشيعة في مؤلّفاتهم في الحديث والمزار، وألّفوا في شرح الزيارة الشروح المتعدّدة، ومن هؤلاء المتأخرّين:
1 ـ العلاّمة المجلسيّ في (بحار الأنوار: 98 / 317) و(تحفة الزائر: 333)، الزيارة الرابعة للإمام الحسين (عليه السلام).
2 ـ المحدّث النوري في (مستدرك الوسائل: 10 / 335).
3 ـ الشيخ إبراهيم بن محسن الكاشانيّ في (الصحيفة المهديّة: 203).
4 ـ الشيخ عباس القمّي في (نَفَس المهموم: 233).
5 ـ المرجع السيّد محمد هادي الميلاني في (قادتنا كيف نعرفهم: 6 / 115).
6 ـ كتاب (جامع أحاديث الشيعة المؤلَّف بإشراف من المرجع السيّد حسين البروجردي: 15 : 405).
وسوى ذلك من كتب الزيارات والأدعية..
فزيارة الناحية إذاً لها سابقة تاريخيّة عريقة تمتدّ جذورها إلى أكثر من ألف سنة.
• صدور زيارة الناحية:
تسالمت مؤلّفات الشيعة منذ القِدَم على انتساب الزيارة المعروفة بزيارة الناحية إلى الإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وقد تطرّق علماء الشيعة إلى ذكر هذه الحقيقة في مؤلّفاتهم، فنرى الشيخ المفيد (ت 413 هـ) يقول في كتابه المزار: "زيارة أخرى في يوم عاشوراء برواية أخرى"، وهي جملة تُشير إلى أنّ هذه الزيارة قد بلغته عن طريق الرواية المنقولة عن الإمام المعصوم (أنظر: بحار الأنوار للمجلسيّ: 98 / 317 ح 8، مستدرك الوسائل للمحدّث النوري: 10 335 ح 16، جامع أحاديث الشيعة: 15 / 405 ح 16 و17).
ونجد السيّد المرتضى يقدّم هذه الزيارة على باقي الزيارات التي يُزار بها السبط الشهيد أبو عبد الله الحسين (عليه السلام).
ونشاهد السيّد ابن طاووس يقول في (مصباح الزائر: 221): "زار بها المرتضى علمُ الهدى (رضوان الله عليه)"، كما نشاهد السيّد ابن طاووس أيضاً يصرّح في كتاب المزار بأنّ هذه الزيارة هي "زيارة أخرى تختصّ بالحسين (صلوات الله عليه)، وهي مرويّة بأسانيد مختلفة، وهي أوّل زيارة زار بها المرتضى علم الهدى (رضوان الله عليه)".
ومن الجليّ أنّ فقيهاً جليلاً وعالماً شهيراً كالسيّد المرتضى لا يقدّم زيارة معيّنة على الزيارات الأخرى ــ من أمثال زيارة عاشوراء ــ ولا يزور بها إلّا بعد ثبوت سندها لديه (أنظر: مستدرك الوسائل للمحدّث النوري: 10 / 335 ح 17).
وكذلك نجد ابن المشهديّ يصرّح عند نقله لهذه الزيارة بقوله: "زيارة أُخرى في يوم عاشوراء لأبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، ممّا خرج من الناحية إلى أحد الأبواب" (المزار الكبير: 496).
وفي هذه الجملة تصريح بأنّ هذه الزيارة تنتسب من جهة صدورها إلى الإمام المنتظر الحجّة ابن الحسن العسكري (عجل الله تعالى فرجه)، وأنّها ممّا خرج عنه إلى أحد نوّابه الأربعة الخاصّين، ثمّ رُوِيَت عنهم حتّى بلغت الشيخ المفيد، ومنه إلى السيّد المرتضى، ثمّ إلى بقيّة الرواة.
ومن هنا صرنا نشاهد الكتب المتأخرة تصرّح بهذه الحقيقة بلا مواربة، وعلى سبيل المثال: فقد كتب الشيخ إبراهيم بن محسن الكاشاني في (الصحيفة المهديّة: 203) يقول عن الزيارة المذكورة: "زيارة صدرت من الناحية المقدّسة إلى أحد النوّاب الأربعة". وكتب الشيخ عباس القمّي في (نَفَس المهموم: 233) يقول في وصف حوادث عاشوراء: "فكان كما وصفه ابنُه الإمام المهديّ"، أي في زيارة الناحية المقدسة. وكتب السيّد هادي الميلاني يقول: "ونجد في زيارة الإمام المهدي (صلوات الله وسلامه عليه) وصفاً دقيقاً لما جرى على جدّه الحسين (عليه السلام)" (قادتنا كيف نعرفهم: 6 / 115).
• أسناد زيارة الناحية:
زيارة الناحية لها أسناد محكمة تتّصل إلى الشيخ المفيد والسيّد المرتضى وابن المشهدي، ويحتمل أنّها رُويت مُسندةً في كتاب مزار الشيخ المفيد ومصباح السيّد المرتضى، لكنّ فُقدان هذين الكتابين من جهة وحذف أسناد الزيارات في كتاب مزار ابن المشهدي رعايةً للاختصار من جهة ثانية، ساهما في فقدان سند زيارة الناحية.
ونلاحظ أنّ ابن المشهدي يصرّح في بداية كتابه بأنّ هذه الزيارة قد بلغته بسند متّصل. يقول: "فإنّي قد جمعتُ في كتابي هذا من فنون الزيارات ... ممّا اتّصلت به من ثقات الرواة إلى السادات" (المزار الكبير: 27). ثمّ إنّ ابن المشهدي عمد ــ رعايةً للاختصار واطمئناناً منه بصدور الزيارات عن المعصوم ــ إلى حذف أسانيد الزيارات التي نقلها في كتابه.
يقول العلّامة المجلسيّ بعد نقل عبارة ابن المشهدي المذكورة: "فظهر أنّ هذه الزيارة منقولة مرويّة" (بحار الأنوار: 98 / 328).
أمّا نسخة كتاب المزار الموجودة في مكتبة السيّد المرعشيّ، فقد وردت فيها عبارة: "وهي مرويّة بأسانيد مختلفة"، وتكرّرت هذه العبارة في المستدرك للمحدّث النوري بلفظ: "وهي مروية بأسانيد" (مستدرك الوسائل: 10 / 335 ح 17)، يضاف إلى ذلك أنّ المجلسيّ نقل عن الشيخ المفيد في كتابه المزار أنّه وصف هذه الزيارة بقوله: "زيارة أخرى في يوم عاشوراء برواية أخرى" (بحار الأنوار: 98 / 317 ح 8). وبهذا أضحى من المسلَّم أنّ لهذه الزيارة أسانيد عالية ومتينة، بَيْد أنّ الشيخ المفيد والسيّد المرتضى لم يذكرا أسانيدها في كتبهما، وتبيّن أنّ السيّد المرتضى كان يقدّم هذه الزيارة على الزيارات الأخرى ــ كزيارة عاشوراء التي لها أسانيد محكمة ومتعدّدة ــ، فيزور بها ويداوم على قراءتها.
• الزيارة الثانية للناحية المقدّسة (الزيارة الرّجَبيّة(
الزيارة الثانية المنسوبة إلى الناحية المقدّسة هي الزيارة الرجبيّة، التي رواها السيّد ابن طاووس في (إقبال الأعمال) بإسناده ضمن أعمال يوم عاشوراء، ومطلعها: «السّلام على أوّلِ قتيل مِن نَسلِ خيرِ سَليل»، وتشتمل على ذكر أسماء شهداء الطفّ (أنظر: بحار الأنوار للمجلسيّ: 98 / 269 ــ 274).
وهذه الرواية مرويّةٌ أيضاً عن الشيخ المفيد في المزار (بحار الأنوار: 98 / 274)، وعن ابن المشهدي في (المزار الكبير: 162 ــ 164).
وقد تكرر ذكر هذه الزيارة ــ حسب نقل الشيخ المفيد والسيّد ابن طاووس ــ في أعمال أوّل شهر رجب وليلة النصف من شعبان، واشتملت على بعض الإضافات، كزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) وزيارة علي الأكبر (عليه السلام) وباقي الشهداء ــ دون التعرّض لأسمائهم ــ، وتُعرف هذه الزيارة بالزيارة الرجبيّة (أنظر: بحار الأنوار: 98 / 336 ــ 341).
يقول السيّد ابن طاووس في خاتمة هذه الزيارة: "وقد تقدّم عدد الشهداء في زيارة عاشوراء برواية تخالف ما سطّرناه في هذا المكان، ويختلف في أسمائهم أيضاً، وفي الزيادة والنقصان، وينبغي أن تعرف ــ أيّدك الله بتقواه ــ أنّنا اتّبعنا في ذلك ما رأيناه أو رويناه، ونقلنا في كلّ موضع كما وجدناه".
• سند الزيارة الثانية للناحية المقدّسة:
روى السيّد ــ وكذلك فعل ابن المشهدي في مزاره ــ بإسناده المتّصل عن جدّه، عن الشيخ الطوسيّ، عن أبي عبد الله محمّد بن أحمد بن عيّاش، عن أبي منصور بن عبد المنعم بن النعمان البغدادي، أنّ هذه الزيارة خرجت من الناحية المقدّسة على يد الشيخ محمّد بن غالب الاصفهانيّ. قال: "خرج من الناحية سنة اثنتين وخمسين ومائتين على يد الشيخ محمّد بن غالب الاصفهانيّ".
وهناك في هذا الشأن عدّة تساؤلات قابلة للنقاش:
1 ـ أنّ كلمة (الناحية) إشارة إلى أيّ إمام من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)؟
2 ـ هل هذه السنة (252 هـ) صحيحة؟
يطرح محقّقو علماء الشيعة عدّة احتمالات في معرض إجابتهم على هذين السؤالين:
1 ـ يقول العلاّمة المجلسيّ: "واعلَمْ أنّ في تاريخ الخبر إشكالاً، لتقدّمه على ولادة القائم (عليه السلام) بأربع سنين، لعلّها كانت اثنتين وستيّن ومائتين، ويُحتمل أن يكون خروجه عن أبي محمّد العسكري (عليه السلام)" (بحار الأنوار: 98 / 274).
2 ـ يقول الحاج الميرزا أبو الفضل الطهرانيّ: "والظاهر أنّ المراد بالناحية: الإمام الحسن العسكريّ (عليه السلام)، وقد ورد في كثير من الأخبار إطلاق هذا الاسم عليه، ذلك أنّ التاريخ المذكور سابق على ولادة الإمام المنتظر (عليه السلام) (شفاء الصدور للطهراني: 1 / 243).
نعم، إذا ما اعتبرنا أنّ سنة 252 هـ صحيحة واستبعدنا أمر التصحيف الذي يكثر في المتون المخطوطة القديمة، فإنّ المراد بالناحية المقدّسة هو الإمام العسكريّ (عليه السلام)، أمّا إذا اعتبرنا أنّ سنة 252 هـ هي تصحيف لسنة 262 هـ ــ كما يحتمل المجلسيّ والبحرانيّ ــ، فإنّ الزيارة المذكورة تكون منسوبة إلى صاحب العصر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
وزيارة الناحية فيها مزيج رائع من المودّة الصافية والمعرفة واللوعة الممزوجة بالتوسّل والرغبة، وتركيب من المعارف الروحيّة التي تبعث في الزائر ــ إضافة إلى حالة الانكسار والحُرقة ــ إحساساً بالمسؤوليّة، وتحرّكه في طريق الالتزام المسؤول.
وتشترك زيارة الناحية مع نظيرتها (زيارة عاشوراء) في انتمائهما من جهة الصدور إلى إمام العصر (عليه السلام)، وفي الوضوح الذي ترسمه لمعالم واقعة الطفّ الأليمة المفجعة، ثمّ تدفع بالزائر ــ وقد طفح كيانه بمعرفة مقام إمامه ومُقتداه وامتلأ وجوده بحبّه ومودّته والشوق إليه ــ إلى تبنّي موقف واعٍ من قضية التولّي والتبرّي؛ التولّي لإمامه الشهيد في طريق إحياء دين خاتم الرسل (صلّى الله عليه وآله)، وتولّي أصحابه وأنصاره الغرّ الميامين الذين تساقطوا الواحد تلو الآخر في سبيل العقيدة الحقّة، والتبرّي ــ في المقابل ــ من خطّ الظلام، خطّ الانحراف عن مسيرة الرسالة المحمّدية البيضاء، الذي جسّده يزيد وأعوانه وطُغمته.
تبدأ زيارة الناحية بالسلام على أنبياء الله وأولياء دينه الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، ثمّ بالسلام على أبي عبد الله الحسين الشهيد (عليه السلام) وأنصاره الأبرار الأوفياء، ثمّ تعرّج على صفات أبي عبد الله (عليه السلام) وسيرته ونهجه قبل حركته في عاشوراء، وتبيّن الأرضيّة التي مهّدت لحركة سيّد الأحرار (عليه السّلام) وقيامه، ثمّ تعدّد المصائب التي صُبّت عليه (عليه السلام) في كربلاء، والحزن الذي طبّق الخافقَين لفقده وشهادته، وبكاء السماوات السبع والأرضين السبع وما فيهنّ وما بينهنّ على ما أصابه ولحق به، ثمّ تنتهي بالتوسّل إلى الله (عزّ وجل) بحقّ الأئمّة الأطهار (عليهم السلام).
• مصادر زيارة الناحية المقدّسة:
ممّا لا يرقى إليه الشكّ أنّ هذه الزيارة قد صدرت عن الإمام المعصوم (عليه السلام)، ومن أقدم المصادر التي نقلت هذه الزيارة الشريفة كتاب المزار للشيخ المفيد (ت 413 هـ)، حيث ذكرها في أعمال يوم عاشوراء. يقول العلّامة المجلسيّ: قال الشيخ المفيد (قدّس الله روحه) ما هذا لفظه: زيارة أخرى في يوم عاشوراء برواية أخرى: إذا أردتَ زيارته بها في هذا اليوم، فقف عليه (عليه السلام) وقل: «السلام على آدم صفوة الله ...» (بحار الأنوار للمجلسيّ: 98 / 317).
ونقل هذه الزيارة بعد الشيخ المفيد تلميذُه السيّد المرتضى علم هدى (ت 436 هـ)، حسبما جاء في كتاب مصباح الزائر، نقل ذلك السيّد الأمين في كتابه (أعيان الشيعة: 8 / 219).
قال السيّد ابن طاووس في مصباح الزائر: زيارة ثانية بألفاظ شافية، يُزار بها الحسين (صلوات الله عليه)، زار بها المرتضى علمُ الهدى (رضوان الله عليه). قال: فإذا أردت الخروج فقل: «اللهمّ إليك توجّهتُ ...»، ثمّ تدخل القبّة الشريفة وتقف على القبر الشريف وقُل: «السلام على آدم صفوة الله ...» (مصباح الزائر لابن طاووس: 221).
وقد أشار الشيخ المجلسيّ في كتابه إلى هذه الزيارة المنقولة عن السيّد المرتضى (بحار الأنوار: 98 / 328).
وتبع السيّدَ المرتضى ابنُ المشهدي؛ أبو عبد الله محمّد بن جعفر بن علي المشهديّ (كان حيّاً سنة 595 هـ)، وهو تلميذ شاذان بن جبرئيل القمّي وعبد الله بن جعفر الدُّوريستي وورّام بن أبي فراس، وهو أستاذ ابن نما الحلّي وفخار بن معدّ الموسوي.
كتب ابن المشهدي في كتابه (المزار الكبير: 496 ــ 519) يقول في شأن زيارة الناحية: زيارة أخرى في يوم عاشوراء لأبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، ممّا خرج من الناحية إلى أحد الأبواب. قال: تقف عليه وتقول: «السلام على آدم صفوة الله ...».
وبعد ابن المشهدي جاء العالم الشيعيّ الكبير السيّد ابن طاووس؛ رضيّ الدين عليّ بن موسى بن طاووس الحسني البغداديّ (ت 664 هـ)، فنقل هذه الزيارة في (مصباح الزائر: 192).
ومن هذين الكتابين الأخيرين نقل متأخّرو علماء الشيعة في مؤلّفاتهم في الحديث والمزار، وألّفوا في شرح الزيارة الشروح المتعدّدة، ومن هؤلاء المتأخرّين:
1 ـ العلاّمة المجلسيّ في (بحار الأنوار: 98 / 317) و(تحفة الزائر: 333)، الزيارة الرابعة للإمام الحسين (عليه السلام).
2 ـ المحدّث النوري في (مستدرك الوسائل: 10 / 335).
3 ـ الشيخ إبراهيم بن محسن الكاشانيّ في (الصحيفة المهديّة: 203).
4 ـ الشيخ عباس القمّي في (نَفَس المهموم: 233).
5 ـ المرجع السيّد محمد هادي الميلاني في (قادتنا كيف نعرفهم: 6 / 115).
6 ـ كتاب (جامع أحاديث الشيعة المؤلَّف بإشراف من المرجع السيّد حسين البروجردي: 15 : 405).
وسوى ذلك من كتب الزيارات والأدعية..
فزيارة الناحية إذاً لها سابقة تاريخيّة عريقة تمتدّ جذورها إلى أكثر من ألف سنة.
• صدور زيارة الناحية:
تسالمت مؤلّفات الشيعة منذ القِدَم على انتساب الزيارة المعروفة بزيارة الناحية إلى الإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وقد تطرّق علماء الشيعة إلى ذكر هذه الحقيقة في مؤلّفاتهم، فنرى الشيخ المفيد (ت 413 هـ) يقول في كتابه المزار: "زيارة أخرى في يوم عاشوراء برواية أخرى"، وهي جملة تُشير إلى أنّ هذه الزيارة قد بلغته عن طريق الرواية المنقولة عن الإمام المعصوم (أنظر: بحار الأنوار للمجلسيّ: 98 / 317 ح 8، مستدرك الوسائل للمحدّث النوري: 10 335 ح 16، جامع أحاديث الشيعة: 15 / 405 ح 16 و17).
ونجد السيّد المرتضى يقدّم هذه الزيارة على باقي الزيارات التي يُزار بها السبط الشهيد أبو عبد الله الحسين (عليه السلام).
ونشاهد السيّد ابن طاووس يقول في (مصباح الزائر: 221): "زار بها المرتضى علمُ الهدى (رضوان الله عليه)"، كما نشاهد السيّد ابن طاووس أيضاً يصرّح في كتاب المزار بأنّ هذه الزيارة هي "زيارة أخرى تختصّ بالحسين (صلوات الله عليه)، وهي مرويّة بأسانيد مختلفة، وهي أوّل زيارة زار بها المرتضى علم الهدى (رضوان الله عليه)".
ومن الجليّ أنّ فقيهاً جليلاً وعالماً شهيراً كالسيّد المرتضى لا يقدّم زيارة معيّنة على الزيارات الأخرى ــ من أمثال زيارة عاشوراء ــ ولا يزور بها إلّا بعد ثبوت سندها لديه (أنظر: مستدرك الوسائل للمحدّث النوري: 10 / 335 ح 17).
وكذلك نجد ابن المشهديّ يصرّح عند نقله لهذه الزيارة بقوله: "زيارة أُخرى في يوم عاشوراء لأبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، ممّا خرج من الناحية إلى أحد الأبواب" (المزار الكبير: 496).
وفي هذه الجملة تصريح بأنّ هذه الزيارة تنتسب من جهة صدورها إلى الإمام المنتظر الحجّة ابن الحسن العسكري (عجل الله تعالى فرجه)، وأنّها ممّا خرج عنه إلى أحد نوّابه الأربعة الخاصّين، ثمّ رُوِيَت عنهم حتّى بلغت الشيخ المفيد، ومنه إلى السيّد المرتضى، ثمّ إلى بقيّة الرواة.
ومن هنا صرنا نشاهد الكتب المتأخرة تصرّح بهذه الحقيقة بلا مواربة، وعلى سبيل المثال: فقد كتب الشيخ إبراهيم بن محسن الكاشاني في (الصحيفة المهديّة: 203) يقول عن الزيارة المذكورة: "زيارة صدرت من الناحية المقدّسة إلى أحد النوّاب الأربعة". وكتب الشيخ عباس القمّي في (نَفَس المهموم: 233) يقول في وصف حوادث عاشوراء: "فكان كما وصفه ابنُه الإمام المهديّ"، أي في زيارة الناحية المقدسة. وكتب السيّد هادي الميلاني يقول: "ونجد في زيارة الإمام المهدي (صلوات الله وسلامه عليه) وصفاً دقيقاً لما جرى على جدّه الحسين (عليه السلام)" (قادتنا كيف نعرفهم: 6 / 115).
• أسناد زيارة الناحية:
زيارة الناحية لها أسناد محكمة تتّصل إلى الشيخ المفيد والسيّد المرتضى وابن المشهدي، ويحتمل أنّها رُويت مُسندةً في كتاب مزار الشيخ المفيد ومصباح السيّد المرتضى، لكنّ فُقدان هذين الكتابين من جهة وحذف أسناد الزيارات في كتاب مزار ابن المشهدي رعايةً للاختصار من جهة ثانية، ساهما في فقدان سند زيارة الناحية.
ونلاحظ أنّ ابن المشهدي يصرّح في بداية كتابه بأنّ هذه الزيارة قد بلغته بسند متّصل. يقول: "فإنّي قد جمعتُ في كتابي هذا من فنون الزيارات ... ممّا اتّصلت به من ثقات الرواة إلى السادات" (المزار الكبير: 27). ثمّ إنّ ابن المشهدي عمد ــ رعايةً للاختصار واطمئناناً منه بصدور الزيارات عن المعصوم ــ إلى حذف أسانيد الزيارات التي نقلها في كتابه.
يقول العلّامة المجلسيّ بعد نقل عبارة ابن المشهدي المذكورة: "فظهر أنّ هذه الزيارة منقولة مرويّة" (بحار الأنوار: 98 / 328).
أمّا نسخة كتاب المزار الموجودة في مكتبة السيّد المرعشيّ، فقد وردت فيها عبارة: "وهي مرويّة بأسانيد مختلفة"، وتكرّرت هذه العبارة في المستدرك للمحدّث النوري بلفظ: "وهي مروية بأسانيد" (مستدرك الوسائل: 10 / 335 ح 17)، يضاف إلى ذلك أنّ المجلسيّ نقل عن الشيخ المفيد في كتابه المزار أنّه وصف هذه الزيارة بقوله: "زيارة أخرى في يوم عاشوراء برواية أخرى" (بحار الأنوار: 98 / 317 ح 8). وبهذا أضحى من المسلَّم أنّ لهذه الزيارة أسانيد عالية ومتينة، بَيْد أنّ الشيخ المفيد والسيّد المرتضى لم يذكرا أسانيدها في كتبهما، وتبيّن أنّ السيّد المرتضى كان يقدّم هذه الزيارة على الزيارات الأخرى ــ كزيارة عاشوراء التي لها أسانيد محكمة ومتعدّدة ــ، فيزور بها ويداوم على قراءتها.
• الزيارة الثانية للناحية المقدّسة (الزيارة الرّجَبيّة(
الزيارة الثانية المنسوبة إلى الناحية المقدّسة هي الزيارة الرجبيّة، التي رواها السيّد ابن طاووس في (إقبال الأعمال) بإسناده ضمن أعمال يوم عاشوراء، ومطلعها: «السّلام على أوّلِ قتيل مِن نَسلِ خيرِ سَليل»، وتشتمل على ذكر أسماء شهداء الطفّ (أنظر: بحار الأنوار للمجلسيّ: 98 / 269 ــ 274).
وهذه الرواية مرويّةٌ أيضاً عن الشيخ المفيد في المزار (بحار الأنوار: 98 / 274)، وعن ابن المشهدي في (المزار الكبير: 162 ــ 164).
وقد تكرر ذكر هذه الزيارة ــ حسب نقل الشيخ المفيد والسيّد ابن طاووس ــ في أعمال أوّل شهر رجب وليلة النصف من شعبان، واشتملت على بعض الإضافات، كزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) وزيارة علي الأكبر (عليه السلام) وباقي الشهداء ــ دون التعرّض لأسمائهم ــ، وتُعرف هذه الزيارة بالزيارة الرجبيّة (أنظر: بحار الأنوار: 98 / 336 ــ 341).
يقول السيّد ابن طاووس في خاتمة هذه الزيارة: "وقد تقدّم عدد الشهداء في زيارة عاشوراء برواية تخالف ما سطّرناه في هذا المكان، ويختلف في أسمائهم أيضاً، وفي الزيادة والنقصان، وينبغي أن تعرف ــ أيّدك الله بتقواه ــ أنّنا اتّبعنا في ذلك ما رأيناه أو رويناه، ونقلنا في كلّ موضع كما وجدناه".
• سند الزيارة الثانية للناحية المقدّسة:
روى السيّد ــ وكذلك فعل ابن المشهدي في مزاره ــ بإسناده المتّصل عن جدّه، عن الشيخ الطوسيّ، عن أبي عبد الله محمّد بن أحمد بن عيّاش، عن أبي منصور بن عبد المنعم بن النعمان البغدادي، أنّ هذه الزيارة خرجت من الناحية المقدّسة على يد الشيخ محمّد بن غالب الاصفهانيّ. قال: "خرج من الناحية سنة اثنتين وخمسين ومائتين على يد الشيخ محمّد بن غالب الاصفهانيّ".
وهناك في هذا الشأن عدّة تساؤلات قابلة للنقاش:
1 ـ أنّ كلمة (الناحية) إشارة إلى أيّ إمام من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)؟
2 ـ هل هذه السنة (252 هـ) صحيحة؟
يطرح محقّقو علماء الشيعة عدّة احتمالات في معرض إجابتهم على هذين السؤالين:
1 ـ يقول العلاّمة المجلسيّ: "واعلَمْ أنّ في تاريخ الخبر إشكالاً، لتقدّمه على ولادة القائم (عليه السلام) بأربع سنين، لعلّها كانت اثنتين وستيّن ومائتين، ويُحتمل أن يكون خروجه عن أبي محمّد العسكري (عليه السلام)" (بحار الأنوار: 98 / 274).
2 ـ يقول الحاج الميرزا أبو الفضل الطهرانيّ: "والظاهر أنّ المراد بالناحية: الإمام الحسن العسكريّ (عليه السلام)، وقد ورد في كثير من الأخبار إطلاق هذا الاسم عليه، ذلك أنّ التاريخ المذكور سابق على ولادة الإمام المنتظر (عليه السلام) (شفاء الصدور للطهراني: 1 / 243).
نعم، إذا ما اعتبرنا أنّ سنة 252 هـ صحيحة واستبعدنا أمر التصحيف الذي يكثر في المتون المخطوطة القديمة، فإنّ المراد بالناحية المقدّسة هو الإمام العسكريّ (عليه السلام)، أمّا إذا اعتبرنا أنّ سنة 252 هـ هي تصحيف لسنة 262 هـ ــ كما يحتمل المجلسيّ والبحرانيّ ــ، فإنّ الزيارة المذكورة تكون منسوبة إلى صاحب العصر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).