ورد اسمُها في بعض المصادر: (دلهم بنت عمرو) (تاريخ الطبري: 4 / 298، إبصار العين في أنصار الحسين للسماوي: 162، أعيان الشيعة للسيّد محسن الأمين: 1 / 595)، وفي بعضها: (دَيْلم بنت عمرو) (اللهوف لابن طاووس: 44، لواعج الأشجان للأمين: 82، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 371، مثير الأحزان لابن نما: 33، المجالس الفاخرة للسيد شرف الدين: 220)، ولم نجد في كتب الرجال والتاريخ لها أيَّ ذكر، إلّا بعد أن جاء رسولُ الحسين (عليه السلام) يدعو زهيراً، بيد أنّ موقفها الذي سجّله التاريخ بكلّ عزّ وافتخار جعلها في رتبة النساء الممَيّزات، وكشف عن عمق ولائها ومعرفتها بالحقّ، وأدبها الرفيع في التعامل مع إمامها وزوجها.
روى الطبري عن أبي مخنف قال: فحدّثتني دلهم بنت عمرو، امرأة زهير بن القين ...
وروى السيد ابن طاووس قال: فقالت له زوجته، وهي ديلم بنت عمرو: سبحان الله، أيبعثُ إليك ابنُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم لا تأتيه؟! فلو أتيتَه فسمعتَ مِن كلامه.
فمضى إليه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهه، فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فحُوِّل إلى الحسين (عليه السلام)، وقال لامرأته: أنتِ طالق، فإني لا أُحبُّ أن يصيبك بسببي إلّا خير، وقد عزمتُ على صحبة الحسين (عليه السلام) لأفديه بنفسي وأقيه بروحي. ثم أعطاها مالَها، وسلّمها إلى بعض بني عمّها ليوصلها إلى أهلها، فقامت إليه وبكت وودعته، وقالت: كان اللَّه عوناً ومعيناً، خارَ اللهُ لك، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدِّ الحسين (عليه السلام).
فقال لأصحابه: مَن أحبّ أن يصحبني، وإلّا فهو آخر العهد مني به (اللهوف لابن طاووس: 44، بحار الأنوار: 44 / 372، لواعج الأشجان: 82، أعيان الشيعة: 1 / 595).
وهذا المقطع التاريخي يتحدّث لنا عن موقف زوجة زهير بن القين، هذه الأبية الصابرة، والمؤمنة العارفة، والمضحية الموالية الواعية. وبالرغم من أنّ هذا النصّ التاريخي لا يتضمّن أكثر من موقفٍ واحد لا أكثر، إلّا أنّه يكشف عن صورة تكاد تكون شاملة تؤدي إلى تفاصيل تستوعب حياة هذه الحرّة العظيمة.
• عقلها ومعرفتها:
يُعرف عقل الإنسان ومعرفته عند الهزاهز والمواقف الصعبة التي تحتاج إلى اتخاذ القرار في فترة وجيزة، لتحديد المسار على مفترَق الطرق، سيما إذا كان الطريقان من الخطورة بمكان، فإمّا إلى الجنة والسعادة الأبدية، وإمّا إلى النار والشقاوة السرمدية، فإذا اختار الطريق المفضية إلى الجنان فهو عاقل، لأنّ العقل هو ما اكتُسب به الجنان، فيما روي عن الصادق (عليه السلام) (تفسير نور الثقلين للحويزي: 1 / 76 ح 180).
والأكثر من ذلك أن يكون الإنسان من الدقة ورهافة الحسّ ما يقدّر به موقفَ الآخرين، فيتصرف تصرفاً يرفع به الحرج عنهم، فزوجة زهير أدركت بحسّها المرهف وشعورها الإنسانيّ أنّ زهيراً وقع في ورطة بين أولئك الرجال الذين كانوا يحيطونه، وكانوا على الأغلب من العثمانية، كما نصّ على ذلك بعض المؤرخين، فتحركت بعقلها ومداراتها لتستوعب الموقف وتُخرج زهيراً من حرجه بين القوم، فانبرت تحرّضه على قبول دعوة ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لتكون مشجعةً له من جهة، ومُقدِّمةً له مبرراً أمام القوم للاستجابة من جهة أُخرى.
وكان احتجاجها عليه احتجاجاً لا يقبل الردّ، فَلْيذهب ولْيستمع إلى ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم ينصرف، المهم أنّها فرصة لا كباقي الفرص، أن تأتي دعوة من سيّد شباب أهل الجنة، فكيف تضيع الفرصة، لأنّ الفرص تمرّ مرّ السحاب، ولو أفلتت الفرص فقلّما تعود، وربّما لا تعود.
وهكذا تخاطبه بصيغة المتعجب الذي لا ينقضي عجبه، وتوحي له ولمرافقيه أنّ الموقف لا يحتاج الى تأمّل أو مداراة لأحد، فإنّ الداعي ابنُ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو من يتمنى أيُّ رجل أن تتوجه له دعوة منه، فكيف يتردّد زهير أو غير زهير؟ وكأنّها تقول له ولمرافقيه ـ وهم المعنيّون في خطابها ـ: لا يمكن أن تتوقعوا من زهير أن يزهد أو يتردّد في لقاء ريحانة رسول الله وسيد شباب أهل الجنة.
وبأُسلوب التعجب وبالاحتجاج القوي الذي لا يحتمل الردّ، وفّرت كلَّ ما يحتاجه زهيرُ من عذر أمام القوم في الاستجابة لدعوة الحسين (صلوات الله عليه)، وفي نفس الوقت أدّت دورها كشقٍّ آخر لزهير (كزوجةٍ) في شدّ عزمه ودفعه الى المسارعة والاستباق الى الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)، والتنافس في الخيرات والباقيات الصالحات.
هكذا هي المرأة الصالحة التي يجعلها الله من عمّاله في الأرض، تهمّها سعادة زوجها، وأن تراه في الموضع الذي يحبّه الله ورسوله وابن رسوله، ولا تستسلم لأنانيّتها وخلودها إلى الدَّعة والراحة، فإذا ضمنت ما يرضيها لا تعير لما أصاب زوجها، خيراً كان أو شرّاً، سعيداً أصبح أو شقياً.
لقد قالت له زوجتُه: سبحان الله، أيبعث إليك ابنُ رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) ثم لا تأتيه؟! فلو أتيتَه فسمعتَ مِن كلامه.
• إخبارها بالفراق والشهادة:
ويبدو أنّ عقلها ورزانتها وكياستها وسرعة بديهتها هي التي جعلت زهيراً يصارحها فوراً بما عزم عليه، ويُفصح لها عمّا في نيته، وقد أعلن لها ولغيرها قبل ذلك باستبشاره وإشراقة وجهه، فقال لها دون أيّ مقدمات، اعتماداً على معرفتها وقوة يقينها وإيمانها بعد أن جعلها في حلٍّ منه: وقد عزمتُ على صحبة الحسين، لأفديه بنفسي وأقيه بروحي.
فهو الفراقُ الذي لا لقاء بعده إلّا في الجنة، وهو إخبار عن فراق الزوج المحبوب الذي لا يريد أن يصيب زوجته بسببه إلّا الخير، وفي نفس الوقت إخبار لها بالشهادة، وقد استوعبت الخبرين برحابة صدر وتسليمٍ مطلَق لزوجها، ومِن قَبله لإمامها.
• وداعها مع زوجها:
يبدو أنّ زوجة زهير عاشت في ظلّ زوجها حياة سعيدة، لوفور عقلها وعمق معرفتها من جهة، ولأنّها وزوجها متمسكان بحبل الله المتين، ومتدينان وفق شريعة سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله)، وسائران على منهاج سيّد الموحدين وأمير المؤمنين (عليه السلام).
ويبدو أنّ العشرة بينهما قد طالت وامتدت الأيام المشتركة بينهما، وقد طووا رحلة الحياة معاً تحت شعار زهير الذي أعلن عنه ساعة النهوض بعزمه على الشهادة: لا أُريد أن يصيبك بسببي إلّا الخير.
هذا هو الأساس المتين في العلاقة بين الزوجين، أنّ الزوج لا يريد لزوجته الّا الخير! وفي هذا الشعار إشارة الى أنّ زوجة زهير كانت تعيش في ظلّ رجل لم ترَ منه إلّا الخير، أو أنّه كان ينوي ذلك لها في كلّ تصرفاته معها، فهو ينوي لها الخير دائماً وأبداً.
وما سجّله لنا التاريخ مهما كان سريعاً وخاطفاً ومقتضباً، إلّا أنّه يكشف لنا عن عمق التسليم، وشدّة الوقار والاتزان، وقوة اليقين، والضبط الحازم للعواطف التي امتازت به هذه الحرّة المضحية، فالوداع والفراق بين زوجين حبيبين ثقيلٌ عسير، تلتهب فيه العواطف وتتكسّر فيه الجملُ والعبارات وتموت فيه الكلمات، وتختفي فيه كلُّ تفاصيل الحياة وراء هواجس البعاد، هذا لو كان الفراق والوداع لسفرٍ يُنتظَر بعده اللقاء القريب، فماذا لو كان الوداع لفراقٍ لا لقاء بعده إلّا في الآخرة؟!
ولكنّها (قامت اليه) وانتصبت أمامه، واستعدت له استعداد المتجلّد الصابر، و(بكت) و(ودّعته).
وكيف لا تبكي وهي تودع زهيراً الزوجَ الصابر الحنون، الذي تراه ـ ببصيرتها ويقينها بكلام إمامها ـ بعد أيام قليلة صريعاً على الرمضاء، مضرجاً بالدماء، مقطعاً إرباً إرباً بسيوف الأعداء، وهي تحثُّه بشجاعة المؤمن المحتسب، ليقدّم روحَه وجسمَه وكلَّ دنياه فداءً لدينه وإمامه، فما هي إلّا أيام تُعَدّ ساعتها في فترة وجيزة وبرهة سريعة، حتى يتقطّع هذا البطل الضرغام أشلاء، وترمله الدماء، ويُفصَل بين رأسه وجسده، ويُرفع رأسُه على السنان ويُشهر به في البلدان.
بكت على زهير بن القين الزوجِ الذي سينصر الحسينَ (عليه السلام)، فهي تبكي لزوجها وتبكي لصاحب ميمنة سلطان المظلومين.
• كلماتُ الوداع:
إنّ بكاءها وتلاطمَ المشاعر والأحاسيس وزحمة العواطف ساعة الوداع، لم يمنعها من تقوية عزمه، وتشجيعه وحثّه، والربط على قلبه، وشدّ أزره، والدعاء له، واغتنام الفرصة لتسجيل موقفٍ عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقالت له: كان الله عوناً ومعيناً، خار الله لك، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدِّ الحسين (عليه السلام).
وقد ذكرت في كلمات الوداع ثلاثَ فقرات:
الفقرة الأولى: كان اللَّه عوناً ومعيناً.
إنّ زهيرَ بن القين مُقدِمٌ على أمر ليس باليسير، عليه أن يشقّ أمواج الفتن بسفينة النجاة، فهو يريد أن يواجه الدنيا بأسرها، يقارع عساكرَ الدنيا والنفس، وينصر الله ورسوله وإمام زمانه المفترَض عليه طاعته، في معركةٍ يتمنى فيها زهيرُ الموتَ ألف مرّة على أن لا يصيبَ الحسينَ وفتيته أيُّ أذى، ويقاتل جيوش الكفر وعساكر الظلام والضلال، وقد اجتمع الناس كلُّهم على الحسين (عليه السلام) ورجاله.
وقد تظاهر الأعداءُ وتكردسوا في قطعات عسكرية، انتشر خبرُها في أرجاء الصحراء، وصارت تنحدر كالسيل إلى أرض كربلاء، لتقاتل عدداً محدوداً من رجال الحقّ الأوفياء، فالعدوُّ كثيرُ العَدد، قوي العُدَد، شرس الطبع، وحشي السيرة، لا يعرف القيمَ ولا الأخلاق، ممسوخ لا يفهم شيئاً من الإنسانية، ولا يألف الرحمة والرأفة والآداب. والأهم أن يعرف الإنسانُ موطأ قدمه على أرض الإيمان ونصرة وليّ الرحمان، فيقف عليها ثابتاً راسخ القدم، لا تزلزله العواصف والعواطف وتقلّب المواقف، فيبقى على يقين واستقامة في صف الإيمان، لئلّا يُحدِث ثغرةً في بنيان الحقّ المرصوص.
وهذا كلّه لا يكون إلّا بعون الله والاستعانة به، ومن أعانه الله وكان عونَه ومعينَه، لا يخشى بعده أحداً أبداً، ولو اجتمع عليه الثقلان، بل كلُّ مخلوقات القوي المنّان.
ولهذا دعت له فقالت: "كان الله عوناً ومعيناً"، فشحذت له همتَه، وشدّت على عضده، وحرضته على الإقدام على نُصرة الحسين (عليه السلام)، فإنّ قلبه وعضده مسددان بعون الله وإعانته.
الفقرة الثانية: خارَ اللهُ لك.
الاستخارة في معناها اللُّغوي: طلب الخير من الله (سبحانه وتعالى)، وهي أدبٌ شرعي، لا يستغني عنه المؤمنُ في كلّ صغيرة أو كبيرة من تفاصيل حياته، وقد ورد الحثُّ عليها في روايات أهل البيت (عليهم السلام) كثيراً (يراجع: فتح الأبواب ـ في الاستخارات ـ للسيد ابن طاووس (رحمه الله)).
ومن هذا الدعاء نستكشف فقاهةَ هذه المرأة الصالحة وتأدّبها بالأدب الشرعي، حيث تدعو لزوجها بالخير من الله، وتلتزم بالاستخارة في أدقّ وأهمّ موقف في حياتها وحياة زوجها.
وربما كان قولها: "خار اللهُ لك"، إخباراً وليس إنشاءً، بمعنى أنّها تخبره أنّ الله قد خصّك بالخير كلّه، ووفقك للّحاق بركب الشهادة بين يدي سيد الشهداء الحسين (عليه السلام)، فتكون حينئذٍ قد عبّرت عن مدى نفاذ بصيرتها وقوة معرفتها ويقينها وولائها، من خلال تمييزها الدقيق بين خطَّي الضلال والهدى، ومعرفتها أنّ نصر ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الخير الذي أراده الله لعباده الصالحين وأوليائه الصابرين.
الفقرة الثالثة: أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدِّ الحسين (عليه السلام).
رجاءٌ أخير تتمنّاه زوجة محبوبة مواتية معينة لزوجها على أمر دنياه وآخرته، من زوج وفيّ لا يريد لزوجته أن يصلها منه إلّا الخير.
لقد وظفت دلهمُ المرأة الصابرة الموقفَ أفضل توظيف، وحشّدت العواطف والعقل معاً في ظلّ ظروف خاصة لا تُنسى ولا تُردّ فيها حاجة، فتقدّمت لزوجها في آخر ساعات عمرها المبارك معه، برجاءٍ تتمنى فيه على زوجها البرّ أن يحققه لها في آخر لقاء بينهما، فاستخدمت لفظ السؤال لتعبّر له عن حاجة في نفسها، فهي ليست أُمنيّةً محضة، وإنما هي حاجة أيضاً!
ومن البديهي أنّ الموقف بظروفه وأجوائه لا يترك لأيّ زوج أن يخيّب أملَ زوجته فيه، فكيف إذا كان المرجو زهيراً والراجي دلهم؟!
• الرجاءُ العظيم:
لا يخفى أنّ رجاءها الأخير من زوجها يشير إلى عظمة قَدْرها وعلو مقامها وسموِّ نفسها، فإنّها لا تنسى في آخر لحظات عمرها مع زهير أن تذكر عنده أنّها قد ضحّت كما سيضحي زهير، وتقول له: اذكرني عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أي قُل له وأسرد عليه قصّتي وموقفي معك ونصرتي لولده وريحانته (عليه السلام)، فهي وإن لم تقاتل بالسيف والسنان، ولم تدافع عن فلذة كبد النبيّ (صلى الله عليه وآله) بيدها في الميدان، إلّا أنّها شاركت بما يناسبها في نصرة أولياء الرحمان.
وما أحلى ما تقربت به إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله)، فهي تخاطبه بـ "جدّ الحسين (عليه السلام)"، وتقول: اذكرني عند جدّ الحسين (عليه السلام)، فالحسين (عليه السلام) هو سبط النبي (صلى الله عليه وآله) الذي تقرّبت به إليه.
• لماذا الطلاق؟
إذا كان زهير يريد الالتحاق بركب الشهادة، وقد عزم على الموت بين يدي الحسين (عليه السلام)، ونوى أن يردّ زوجته إلى أهلها، فلماذا طلّقها؟ وهل كان ثمّة فرق بين أن يطلّقها أو أن يفارقها بالموت بعد أيام، وتبقى في عهدته؟!
- الجواب الأول:
يبدو ـ لأول وهلة ـ أنّ زهير بن القين قد أجاب بنفسه عن هذا السؤال، حيث قال لها: "أنتِ طالق، فإني لا أُحبّ أن يصيبك بسببي إلّا خير، وقد عزمتُ على صحبة الحسين (عليه السلام)، لأفديه بنفسي وأقيه بروحي".
فهو قد ذكر لها سببَ الطلاق بعد أن أفصح لها عن عزمه على الموت بين يدي الحسين (صلوات الله عليه)، وقال بأنّه لا يريد أن يصيبها بسببه إلّا الخير، وهذا يعني أنّه كان عالماً متيقناً أنّ المنية تُسرع إليه وتنتظره في كربلاء، وكان متوقّعاً أنّ أهل بيت الحسين (عليه السلام) يسيرون إلى السبي والسلب والنهب بعد شهادة الأولياء والحماة، فهو لا يريد أن يعرّضها لهذا السبي ويكون هو السبب في مجيئها إلى كربلاء.
- الجواب الثاني:
ربما كان بقاؤها في حبال الزوجية يغري بها الأعداء ما كانت منتسبة إلى أحد أبرز أصحاب الحسين (عليه السلام) وصاحب ميمنته، فيضيّق عليها ابنُ زياد وجلاوزته ويؤذونها بعد شهادته، فإذا طلّقها خرجت من حبالته ولم يعد لأعداء الله سبيل يحتجون عليها به، ولعلَّ قوله: "فإنّي لا أُحبّ أن يصيبك بسببي إلّا خير" إشارة الى ذلك.
- الجواب الثالث:
ربما كان زهير لم يعقّب (وهو احتمال بعيد)، ويشهد لذلك أنّ المؤرخين والنسابة لم يذكروا له عقباً، ولو كان لَبان، ولَذُكِر لأولاده موقف في ساعة اللّقاء أو في اللّحاق به في كربلاء أو بعد الشهادة أو ما شابه ذلك.
ويشهد له أيضاً أنّه سلّمها إلى بعض بني عمّها ولم يسلّمها إلى أولادها، ولو كانوا لسلّمها إليهم ولم يسلّمها إلى بني عمّها.
ويشهد له أيضاً أنّه طلب من ابن عمّه أن يوصلها إلى أهلها، ولم يذكر تسليمها إلى وُلْدها مثلاً.
وفي عبارة ابن طاووس أنّه ”أعطاها مالها“، إشارة إلى أنّه دفع لها ما تستحقّه من صداق أو تركة، لئلا تتورّط فيما بعد مع الورثة من أقربائه، حيث سترث مع الطبقة الثانية أو الثالثة، وهم الإخوة والأعمام أو الأخوال وغيرهم من رتب الطبقات، هذا كلّه على فرض عدم وجود الأولاد والأبوين.
- الجواب الرابع:
كان الطلاق علامة العزم على الموت، وكناية عن الرحيل إلى الآخرة وعدم الرجوع إلى الحياة الدنيا وزهرتها من الأموال والأزواج والأولاد، فربما طلّقها للإعلان عن عزمه.
وربما كان لفظ الطلاق ليس المراد به المعنى الاصطلاحي الشرعي الذي تترتب عليه الآثار الشرعية، وإنما هو استعمال مجازي يراد به الكناية عمّا مرّ ذكره من الفراق، تماماً كما فعل حبيب ليلة العاشر عندما استخبر نيات أصحابه، فقال لهم: لِمَ طلّقتم حلائلكم؟ فقالوا: أتينا لننصر غريب فاطمة (معالي السبطين للحائري: 1 / 340، موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السلام): 496).
وبأيّ معنىً كان الطلاق، لم يكن زهير وحده قد أقدم عليه، بل لقد فعل زهير ما فعله أصحاب الحسين (عليه السلام) جميعاً، بناءً على ما ذكره الحائري من سؤال حبيب.
• هل التقت دلهمُ بالحسين (عليه السلام)؟
لم نجد أيَّ نصّ ولا أيَّ مؤشر أو تلويح في التاريخ يدلّ على أن دلهم زوجة زهير بن القين قد التقت الحسين (عليه السلام) أو أهل بيته، بيد أنّنا نحسب استئناساً وتخميناً لا دليلَ لنا عليه، إلّا ما سنذكره من الاحتمال والتوقّع من خلال معرفتنا القاصرة بها وبزوجها، وبأدب الشيعي والموالي وذوقه في التعامل مع إمامه وأهل بيت نبيّه (عليهم السلام) وتلهّفه لرؤيته وزيارته.
فربما قيل: إنّ من البعيد جدّاً أن تكون زوجة زهير قد أمكنتها الفرصةُ من لقاء إمامها الحسين وسيدتها زينب بنت أمير المؤمنين وعقائل الوحي (عليهم السلام)، وهي تعلم أنّهم يسيرون والمنايا تسرع إليهم، وأنّها سوف لا ترى وجهَ الحسين (عليه السلام) بعد ذلك اليوم، ثم لا تذهب للقائهم، وقد جمعتهم الصحراء في موضع واحد، وتقاربت أبنيتهم، وقدّمت دلهم حياة زوجها هدية للحسين (عليه السلام)، وهي تتمنى على زوجها أن يذكرها عند جدّ الحسين (عليه السلام)، ثم لا تتشرف برؤية الحسين (عليه السلام) وشريكته في المصاب زينب (عليها السلام) وهي معهم في موضع واحد!
• إمرأة زهير تكفّن الحسين (عليه السلام) وزوجها:
قال ابن سعد صاحب (الطبقات الكبرى): وكان زهير بن القين قد قُتل مع الحسين (عليه السلام)، فقالت امرأته لغلام له يٌقال له (شجرة): إنطلق فكفّن مولاك.
قال: فجئتُ فرأيتُ حسيناً (عليه السلام) ملقى، فقلتُ: أُكفن مولاي وأدع حسيناً؟! فكفنتُ حسيناً ثم رجعت، فقلت ذلك لها، فقالت: أحسنت، وأعطتني كفناً آخر وقالت: إنطلق فكفن مولاك، ففعلت (ترجمة الإمام الحسين (عليه السلام) من طبقات ابن سعد: 81).
وقال سبط ابن الجوزي في (تذكرة الخواص): قالت امرأة زهير لغلام له: إذهب فكفّن مولاك، فذهبَ فرأى الحسين (عليه السلام) مجرّداً! فقال: أُكفن مولاي وأدع الحسين؟! لا والله. فكفّنه، ثم كفّن مولاه في كفن آخر (تذكرة الخواص: 230).
وقال الشيخ عباس القمي (رحمه الله) بعد أن ذكر قصة التحاق زهير بركب الحسين (عليه السلام)، ويأتي بعد ذلك أنّ زهيراً لمّا قُتل مع الحسين (عليه السلام)، بعثَتْ زوجتُه غلاماً له ليذهب إلى كربلاء ويكفّن مولاه، ثم ذكر كلام سبط ابن الجوزي في التذكرة (نفس المهموم: 164).
وقيل تعليقاً على هذا الخبر: إنّه قد ثبت في محلّه أنّه لا يلي أمرَ المعصوم إلّا المعصوم، وأنّ الإمام لا يغسله إلّا الإمام، ولو قُبض إمامٌ في المشرق وكان وصيُّه في المغرب لجمع الله بينهما.
ونحن لا نريد هنا نفي الخبر أو إثباته، إلّا أنّ هذا الكلام يبدو أنّه في غير محلّه، لأنّ هذا الغلام لم يتولّ أمرَ الإمام الشهيد، وغاية ما فعله أنّه رأى قرّة عين الرسول عارياً على الرمضاء تسفي عليه الريح، فلم تطاوعه نفسُه أن يترك الحسينَ (عليه السلام) بهذه الصورة المفجعة، فألقى عليه الكفن، أمّا الذي تولى تجهيزَ الحسين (عليه السلام) فهو ولده المكروب المغموم، صاحبُ الدمعة الساكبة، زينُ العابدين وقرّة عين الناظرين، عليه أفضلُ صلوات ربّ العالمين.
روى الطبري عن أبي مخنف قال: فحدّثتني دلهم بنت عمرو، امرأة زهير بن القين ...
وروى السيد ابن طاووس قال: فقالت له زوجته، وهي ديلم بنت عمرو: سبحان الله، أيبعثُ إليك ابنُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم لا تأتيه؟! فلو أتيتَه فسمعتَ مِن كلامه.
فمضى إليه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهه، فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فحُوِّل إلى الحسين (عليه السلام)، وقال لامرأته: أنتِ طالق، فإني لا أُحبُّ أن يصيبك بسببي إلّا خير، وقد عزمتُ على صحبة الحسين (عليه السلام) لأفديه بنفسي وأقيه بروحي. ثم أعطاها مالَها، وسلّمها إلى بعض بني عمّها ليوصلها إلى أهلها، فقامت إليه وبكت وودعته، وقالت: كان اللَّه عوناً ومعيناً، خارَ اللهُ لك، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدِّ الحسين (عليه السلام).
فقال لأصحابه: مَن أحبّ أن يصحبني، وإلّا فهو آخر العهد مني به (اللهوف لابن طاووس: 44، بحار الأنوار: 44 / 372، لواعج الأشجان: 82، أعيان الشيعة: 1 / 595).
وهذا المقطع التاريخي يتحدّث لنا عن موقف زوجة زهير بن القين، هذه الأبية الصابرة، والمؤمنة العارفة، والمضحية الموالية الواعية. وبالرغم من أنّ هذا النصّ التاريخي لا يتضمّن أكثر من موقفٍ واحد لا أكثر، إلّا أنّه يكشف عن صورة تكاد تكون شاملة تؤدي إلى تفاصيل تستوعب حياة هذه الحرّة العظيمة.
• عقلها ومعرفتها:
يُعرف عقل الإنسان ومعرفته عند الهزاهز والمواقف الصعبة التي تحتاج إلى اتخاذ القرار في فترة وجيزة، لتحديد المسار على مفترَق الطرق، سيما إذا كان الطريقان من الخطورة بمكان، فإمّا إلى الجنة والسعادة الأبدية، وإمّا إلى النار والشقاوة السرمدية، فإذا اختار الطريق المفضية إلى الجنان فهو عاقل، لأنّ العقل هو ما اكتُسب به الجنان، فيما روي عن الصادق (عليه السلام) (تفسير نور الثقلين للحويزي: 1 / 76 ح 180).
والأكثر من ذلك أن يكون الإنسان من الدقة ورهافة الحسّ ما يقدّر به موقفَ الآخرين، فيتصرف تصرفاً يرفع به الحرج عنهم، فزوجة زهير أدركت بحسّها المرهف وشعورها الإنسانيّ أنّ زهيراً وقع في ورطة بين أولئك الرجال الذين كانوا يحيطونه، وكانوا على الأغلب من العثمانية، كما نصّ على ذلك بعض المؤرخين، فتحركت بعقلها ومداراتها لتستوعب الموقف وتُخرج زهيراً من حرجه بين القوم، فانبرت تحرّضه على قبول دعوة ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لتكون مشجعةً له من جهة، ومُقدِّمةً له مبرراً أمام القوم للاستجابة من جهة أُخرى.
وكان احتجاجها عليه احتجاجاً لا يقبل الردّ، فَلْيذهب ولْيستمع إلى ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم ينصرف، المهم أنّها فرصة لا كباقي الفرص، أن تأتي دعوة من سيّد شباب أهل الجنة، فكيف تضيع الفرصة، لأنّ الفرص تمرّ مرّ السحاب، ولو أفلتت الفرص فقلّما تعود، وربّما لا تعود.
وهكذا تخاطبه بصيغة المتعجب الذي لا ينقضي عجبه، وتوحي له ولمرافقيه أنّ الموقف لا يحتاج الى تأمّل أو مداراة لأحد، فإنّ الداعي ابنُ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو من يتمنى أيُّ رجل أن تتوجه له دعوة منه، فكيف يتردّد زهير أو غير زهير؟ وكأنّها تقول له ولمرافقيه ـ وهم المعنيّون في خطابها ـ: لا يمكن أن تتوقعوا من زهير أن يزهد أو يتردّد في لقاء ريحانة رسول الله وسيد شباب أهل الجنة.
وبأُسلوب التعجب وبالاحتجاج القوي الذي لا يحتمل الردّ، وفّرت كلَّ ما يحتاجه زهيرُ من عذر أمام القوم في الاستجابة لدعوة الحسين (صلوات الله عليه)، وفي نفس الوقت أدّت دورها كشقٍّ آخر لزهير (كزوجةٍ) في شدّ عزمه ودفعه الى المسارعة والاستباق الى الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)، والتنافس في الخيرات والباقيات الصالحات.
هكذا هي المرأة الصالحة التي يجعلها الله من عمّاله في الأرض، تهمّها سعادة زوجها، وأن تراه في الموضع الذي يحبّه الله ورسوله وابن رسوله، ولا تستسلم لأنانيّتها وخلودها إلى الدَّعة والراحة، فإذا ضمنت ما يرضيها لا تعير لما أصاب زوجها، خيراً كان أو شرّاً، سعيداً أصبح أو شقياً.
لقد قالت له زوجتُه: سبحان الله، أيبعث إليك ابنُ رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) ثم لا تأتيه؟! فلو أتيتَه فسمعتَ مِن كلامه.
• إخبارها بالفراق والشهادة:
ويبدو أنّ عقلها ورزانتها وكياستها وسرعة بديهتها هي التي جعلت زهيراً يصارحها فوراً بما عزم عليه، ويُفصح لها عمّا في نيته، وقد أعلن لها ولغيرها قبل ذلك باستبشاره وإشراقة وجهه، فقال لها دون أيّ مقدمات، اعتماداً على معرفتها وقوة يقينها وإيمانها بعد أن جعلها في حلٍّ منه: وقد عزمتُ على صحبة الحسين، لأفديه بنفسي وأقيه بروحي.
فهو الفراقُ الذي لا لقاء بعده إلّا في الجنة، وهو إخبار عن فراق الزوج المحبوب الذي لا يريد أن يصيب زوجته بسببه إلّا الخير، وفي نفس الوقت إخبار لها بالشهادة، وقد استوعبت الخبرين برحابة صدر وتسليمٍ مطلَق لزوجها، ومِن قَبله لإمامها.
• وداعها مع زوجها:
يبدو أنّ زوجة زهير عاشت في ظلّ زوجها حياة سعيدة، لوفور عقلها وعمق معرفتها من جهة، ولأنّها وزوجها متمسكان بحبل الله المتين، ومتدينان وفق شريعة سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله)، وسائران على منهاج سيّد الموحدين وأمير المؤمنين (عليه السلام).
ويبدو أنّ العشرة بينهما قد طالت وامتدت الأيام المشتركة بينهما، وقد طووا رحلة الحياة معاً تحت شعار زهير الذي أعلن عنه ساعة النهوض بعزمه على الشهادة: لا أُريد أن يصيبك بسببي إلّا الخير.
هذا هو الأساس المتين في العلاقة بين الزوجين، أنّ الزوج لا يريد لزوجته الّا الخير! وفي هذا الشعار إشارة الى أنّ زوجة زهير كانت تعيش في ظلّ رجل لم ترَ منه إلّا الخير، أو أنّه كان ينوي ذلك لها في كلّ تصرفاته معها، فهو ينوي لها الخير دائماً وأبداً.
وما سجّله لنا التاريخ مهما كان سريعاً وخاطفاً ومقتضباً، إلّا أنّه يكشف لنا عن عمق التسليم، وشدّة الوقار والاتزان، وقوة اليقين، والضبط الحازم للعواطف التي امتازت به هذه الحرّة المضحية، فالوداع والفراق بين زوجين حبيبين ثقيلٌ عسير، تلتهب فيه العواطف وتتكسّر فيه الجملُ والعبارات وتموت فيه الكلمات، وتختفي فيه كلُّ تفاصيل الحياة وراء هواجس البعاد، هذا لو كان الفراق والوداع لسفرٍ يُنتظَر بعده اللقاء القريب، فماذا لو كان الوداع لفراقٍ لا لقاء بعده إلّا في الآخرة؟!
ولكنّها (قامت اليه) وانتصبت أمامه، واستعدت له استعداد المتجلّد الصابر، و(بكت) و(ودّعته).
وكيف لا تبكي وهي تودع زهيراً الزوجَ الصابر الحنون، الذي تراه ـ ببصيرتها ويقينها بكلام إمامها ـ بعد أيام قليلة صريعاً على الرمضاء، مضرجاً بالدماء، مقطعاً إرباً إرباً بسيوف الأعداء، وهي تحثُّه بشجاعة المؤمن المحتسب، ليقدّم روحَه وجسمَه وكلَّ دنياه فداءً لدينه وإمامه، فما هي إلّا أيام تُعَدّ ساعتها في فترة وجيزة وبرهة سريعة، حتى يتقطّع هذا البطل الضرغام أشلاء، وترمله الدماء، ويُفصَل بين رأسه وجسده، ويُرفع رأسُه على السنان ويُشهر به في البلدان.
بكت على زهير بن القين الزوجِ الذي سينصر الحسينَ (عليه السلام)، فهي تبكي لزوجها وتبكي لصاحب ميمنة سلطان المظلومين.
• كلماتُ الوداع:
إنّ بكاءها وتلاطمَ المشاعر والأحاسيس وزحمة العواطف ساعة الوداع، لم يمنعها من تقوية عزمه، وتشجيعه وحثّه، والربط على قلبه، وشدّ أزره، والدعاء له، واغتنام الفرصة لتسجيل موقفٍ عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقالت له: كان الله عوناً ومعيناً، خار الله لك، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدِّ الحسين (عليه السلام).
وقد ذكرت في كلمات الوداع ثلاثَ فقرات:
الفقرة الأولى: كان اللَّه عوناً ومعيناً.
إنّ زهيرَ بن القين مُقدِمٌ على أمر ليس باليسير، عليه أن يشقّ أمواج الفتن بسفينة النجاة، فهو يريد أن يواجه الدنيا بأسرها، يقارع عساكرَ الدنيا والنفس، وينصر الله ورسوله وإمام زمانه المفترَض عليه طاعته، في معركةٍ يتمنى فيها زهيرُ الموتَ ألف مرّة على أن لا يصيبَ الحسينَ وفتيته أيُّ أذى، ويقاتل جيوش الكفر وعساكر الظلام والضلال، وقد اجتمع الناس كلُّهم على الحسين (عليه السلام) ورجاله.
وقد تظاهر الأعداءُ وتكردسوا في قطعات عسكرية، انتشر خبرُها في أرجاء الصحراء، وصارت تنحدر كالسيل إلى أرض كربلاء، لتقاتل عدداً محدوداً من رجال الحقّ الأوفياء، فالعدوُّ كثيرُ العَدد، قوي العُدَد، شرس الطبع، وحشي السيرة، لا يعرف القيمَ ولا الأخلاق، ممسوخ لا يفهم شيئاً من الإنسانية، ولا يألف الرحمة والرأفة والآداب. والأهم أن يعرف الإنسانُ موطأ قدمه على أرض الإيمان ونصرة وليّ الرحمان، فيقف عليها ثابتاً راسخ القدم، لا تزلزله العواصف والعواطف وتقلّب المواقف، فيبقى على يقين واستقامة في صف الإيمان، لئلّا يُحدِث ثغرةً في بنيان الحقّ المرصوص.
وهذا كلّه لا يكون إلّا بعون الله والاستعانة به، ومن أعانه الله وكان عونَه ومعينَه، لا يخشى بعده أحداً أبداً، ولو اجتمع عليه الثقلان، بل كلُّ مخلوقات القوي المنّان.
ولهذا دعت له فقالت: "كان الله عوناً ومعيناً"، فشحذت له همتَه، وشدّت على عضده، وحرضته على الإقدام على نُصرة الحسين (عليه السلام)، فإنّ قلبه وعضده مسددان بعون الله وإعانته.
الفقرة الثانية: خارَ اللهُ لك.
الاستخارة في معناها اللُّغوي: طلب الخير من الله (سبحانه وتعالى)، وهي أدبٌ شرعي، لا يستغني عنه المؤمنُ في كلّ صغيرة أو كبيرة من تفاصيل حياته، وقد ورد الحثُّ عليها في روايات أهل البيت (عليهم السلام) كثيراً (يراجع: فتح الأبواب ـ في الاستخارات ـ للسيد ابن طاووس (رحمه الله)).
ومن هذا الدعاء نستكشف فقاهةَ هذه المرأة الصالحة وتأدّبها بالأدب الشرعي، حيث تدعو لزوجها بالخير من الله، وتلتزم بالاستخارة في أدقّ وأهمّ موقف في حياتها وحياة زوجها.
وربما كان قولها: "خار اللهُ لك"، إخباراً وليس إنشاءً، بمعنى أنّها تخبره أنّ الله قد خصّك بالخير كلّه، ووفقك للّحاق بركب الشهادة بين يدي سيد الشهداء الحسين (عليه السلام)، فتكون حينئذٍ قد عبّرت عن مدى نفاذ بصيرتها وقوة معرفتها ويقينها وولائها، من خلال تمييزها الدقيق بين خطَّي الضلال والهدى، ومعرفتها أنّ نصر ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الخير الذي أراده الله لعباده الصالحين وأوليائه الصابرين.
الفقرة الثالثة: أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدِّ الحسين (عليه السلام).
رجاءٌ أخير تتمنّاه زوجة محبوبة مواتية معينة لزوجها على أمر دنياه وآخرته، من زوج وفيّ لا يريد لزوجته أن يصلها منه إلّا الخير.
لقد وظفت دلهمُ المرأة الصابرة الموقفَ أفضل توظيف، وحشّدت العواطف والعقل معاً في ظلّ ظروف خاصة لا تُنسى ولا تُردّ فيها حاجة، فتقدّمت لزوجها في آخر ساعات عمرها المبارك معه، برجاءٍ تتمنى فيه على زوجها البرّ أن يحققه لها في آخر لقاء بينهما، فاستخدمت لفظ السؤال لتعبّر له عن حاجة في نفسها، فهي ليست أُمنيّةً محضة، وإنما هي حاجة أيضاً!
ومن البديهي أنّ الموقف بظروفه وأجوائه لا يترك لأيّ زوج أن يخيّب أملَ زوجته فيه، فكيف إذا كان المرجو زهيراً والراجي دلهم؟!
• الرجاءُ العظيم:
لا يخفى أنّ رجاءها الأخير من زوجها يشير إلى عظمة قَدْرها وعلو مقامها وسموِّ نفسها، فإنّها لا تنسى في آخر لحظات عمرها مع زهير أن تذكر عنده أنّها قد ضحّت كما سيضحي زهير، وتقول له: اذكرني عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أي قُل له وأسرد عليه قصّتي وموقفي معك ونصرتي لولده وريحانته (عليه السلام)، فهي وإن لم تقاتل بالسيف والسنان، ولم تدافع عن فلذة كبد النبيّ (صلى الله عليه وآله) بيدها في الميدان، إلّا أنّها شاركت بما يناسبها في نصرة أولياء الرحمان.
وما أحلى ما تقربت به إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله)، فهي تخاطبه بـ "جدّ الحسين (عليه السلام)"، وتقول: اذكرني عند جدّ الحسين (عليه السلام)، فالحسين (عليه السلام) هو سبط النبي (صلى الله عليه وآله) الذي تقرّبت به إليه.
• لماذا الطلاق؟
إذا كان زهير يريد الالتحاق بركب الشهادة، وقد عزم على الموت بين يدي الحسين (عليه السلام)، ونوى أن يردّ زوجته إلى أهلها، فلماذا طلّقها؟ وهل كان ثمّة فرق بين أن يطلّقها أو أن يفارقها بالموت بعد أيام، وتبقى في عهدته؟!
- الجواب الأول:
يبدو ـ لأول وهلة ـ أنّ زهير بن القين قد أجاب بنفسه عن هذا السؤال، حيث قال لها: "أنتِ طالق، فإني لا أُحبّ أن يصيبك بسببي إلّا خير، وقد عزمتُ على صحبة الحسين (عليه السلام)، لأفديه بنفسي وأقيه بروحي".
فهو قد ذكر لها سببَ الطلاق بعد أن أفصح لها عن عزمه على الموت بين يدي الحسين (صلوات الله عليه)، وقال بأنّه لا يريد أن يصيبها بسببه إلّا الخير، وهذا يعني أنّه كان عالماً متيقناً أنّ المنية تُسرع إليه وتنتظره في كربلاء، وكان متوقّعاً أنّ أهل بيت الحسين (عليه السلام) يسيرون إلى السبي والسلب والنهب بعد شهادة الأولياء والحماة، فهو لا يريد أن يعرّضها لهذا السبي ويكون هو السبب في مجيئها إلى كربلاء.
- الجواب الثاني:
ربما كان بقاؤها في حبال الزوجية يغري بها الأعداء ما كانت منتسبة إلى أحد أبرز أصحاب الحسين (عليه السلام) وصاحب ميمنته، فيضيّق عليها ابنُ زياد وجلاوزته ويؤذونها بعد شهادته، فإذا طلّقها خرجت من حبالته ولم يعد لأعداء الله سبيل يحتجون عليها به، ولعلَّ قوله: "فإنّي لا أُحبّ أن يصيبك بسببي إلّا خير" إشارة الى ذلك.
- الجواب الثالث:
ربما كان زهير لم يعقّب (وهو احتمال بعيد)، ويشهد لذلك أنّ المؤرخين والنسابة لم يذكروا له عقباً، ولو كان لَبان، ولَذُكِر لأولاده موقف في ساعة اللّقاء أو في اللّحاق به في كربلاء أو بعد الشهادة أو ما شابه ذلك.
ويشهد له أيضاً أنّه سلّمها إلى بعض بني عمّها ولم يسلّمها إلى أولادها، ولو كانوا لسلّمها إليهم ولم يسلّمها إلى بني عمّها.
ويشهد له أيضاً أنّه طلب من ابن عمّه أن يوصلها إلى أهلها، ولم يذكر تسليمها إلى وُلْدها مثلاً.
وفي عبارة ابن طاووس أنّه ”أعطاها مالها“، إشارة إلى أنّه دفع لها ما تستحقّه من صداق أو تركة، لئلا تتورّط فيما بعد مع الورثة من أقربائه، حيث سترث مع الطبقة الثانية أو الثالثة، وهم الإخوة والأعمام أو الأخوال وغيرهم من رتب الطبقات، هذا كلّه على فرض عدم وجود الأولاد والأبوين.
- الجواب الرابع:
كان الطلاق علامة العزم على الموت، وكناية عن الرحيل إلى الآخرة وعدم الرجوع إلى الحياة الدنيا وزهرتها من الأموال والأزواج والأولاد، فربما طلّقها للإعلان عن عزمه.
وربما كان لفظ الطلاق ليس المراد به المعنى الاصطلاحي الشرعي الذي تترتب عليه الآثار الشرعية، وإنما هو استعمال مجازي يراد به الكناية عمّا مرّ ذكره من الفراق، تماماً كما فعل حبيب ليلة العاشر عندما استخبر نيات أصحابه، فقال لهم: لِمَ طلّقتم حلائلكم؟ فقالوا: أتينا لننصر غريب فاطمة (معالي السبطين للحائري: 1 / 340، موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السلام): 496).
وبأيّ معنىً كان الطلاق، لم يكن زهير وحده قد أقدم عليه، بل لقد فعل زهير ما فعله أصحاب الحسين (عليه السلام) جميعاً، بناءً على ما ذكره الحائري من سؤال حبيب.
• هل التقت دلهمُ بالحسين (عليه السلام)؟
لم نجد أيَّ نصّ ولا أيَّ مؤشر أو تلويح في التاريخ يدلّ على أن دلهم زوجة زهير بن القين قد التقت الحسين (عليه السلام) أو أهل بيته، بيد أنّنا نحسب استئناساً وتخميناً لا دليلَ لنا عليه، إلّا ما سنذكره من الاحتمال والتوقّع من خلال معرفتنا القاصرة بها وبزوجها، وبأدب الشيعي والموالي وذوقه في التعامل مع إمامه وأهل بيت نبيّه (عليهم السلام) وتلهّفه لرؤيته وزيارته.
فربما قيل: إنّ من البعيد جدّاً أن تكون زوجة زهير قد أمكنتها الفرصةُ من لقاء إمامها الحسين وسيدتها زينب بنت أمير المؤمنين وعقائل الوحي (عليهم السلام)، وهي تعلم أنّهم يسيرون والمنايا تسرع إليهم، وأنّها سوف لا ترى وجهَ الحسين (عليه السلام) بعد ذلك اليوم، ثم لا تذهب للقائهم، وقد جمعتهم الصحراء في موضع واحد، وتقاربت أبنيتهم، وقدّمت دلهم حياة زوجها هدية للحسين (عليه السلام)، وهي تتمنى على زوجها أن يذكرها عند جدّ الحسين (عليه السلام)، ثم لا تتشرف برؤية الحسين (عليه السلام) وشريكته في المصاب زينب (عليها السلام) وهي معهم في موضع واحد!
• إمرأة زهير تكفّن الحسين (عليه السلام) وزوجها:
قال ابن سعد صاحب (الطبقات الكبرى): وكان زهير بن القين قد قُتل مع الحسين (عليه السلام)، فقالت امرأته لغلام له يٌقال له (شجرة): إنطلق فكفّن مولاك.
قال: فجئتُ فرأيتُ حسيناً (عليه السلام) ملقى، فقلتُ: أُكفن مولاي وأدع حسيناً؟! فكفنتُ حسيناً ثم رجعت، فقلت ذلك لها، فقالت: أحسنت، وأعطتني كفناً آخر وقالت: إنطلق فكفن مولاك، ففعلت (ترجمة الإمام الحسين (عليه السلام) من طبقات ابن سعد: 81).
وقال سبط ابن الجوزي في (تذكرة الخواص): قالت امرأة زهير لغلام له: إذهب فكفّن مولاك، فذهبَ فرأى الحسين (عليه السلام) مجرّداً! فقال: أُكفن مولاي وأدع الحسين؟! لا والله. فكفّنه، ثم كفّن مولاه في كفن آخر (تذكرة الخواص: 230).
وقال الشيخ عباس القمي (رحمه الله) بعد أن ذكر قصة التحاق زهير بركب الحسين (عليه السلام)، ويأتي بعد ذلك أنّ زهيراً لمّا قُتل مع الحسين (عليه السلام)، بعثَتْ زوجتُه غلاماً له ليذهب إلى كربلاء ويكفّن مولاه، ثم ذكر كلام سبط ابن الجوزي في التذكرة (نفس المهموم: 164).
وقيل تعليقاً على هذا الخبر: إنّه قد ثبت في محلّه أنّه لا يلي أمرَ المعصوم إلّا المعصوم، وأنّ الإمام لا يغسله إلّا الإمام، ولو قُبض إمامٌ في المشرق وكان وصيُّه في المغرب لجمع الله بينهما.
ونحن لا نريد هنا نفي الخبر أو إثباته، إلّا أنّ هذا الكلام يبدو أنّه في غير محلّه، لأنّ هذا الغلام لم يتولّ أمرَ الإمام الشهيد، وغاية ما فعله أنّه رأى قرّة عين الرسول عارياً على الرمضاء تسفي عليه الريح، فلم تطاوعه نفسُه أن يترك الحسينَ (عليه السلام) بهذه الصورة المفجعة، فألقى عليه الكفن، أمّا الذي تولى تجهيزَ الحسين (عليه السلام) فهو ولده المكروب المغموم، صاحبُ الدمعة الساكبة، زينُ العابدين وقرّة عين الناظرين، عليه أفضلُ صلوات ربّ العالمين.