: بَيِّنَاتٌ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ :ق4:
=========================
: بحوثٌ قرآنيَّة مَعرِفيَّة :
==============================
: القسمُ الرابع :
==========
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاةُ والسلامُ على نبينا محمد وآله المعصومين
: القُرآنُ يُخاطبُ الإنسان :
==============
إنَّ مِن أبرز ما تمثَّلَ به الخطاب القرآني هو المنحى الإنساني بحيث جعلَ الإنسانَ موضوعه الرئيس حكمةً وقصدا.
فضلاً عن مشموليّة الخطاب القرآني للعالمين أجمعين
وهذا المنحى الإنساني الذي تجلى في دلالات النص القرآني لفظاً ومعنىً وهدفا يشي إلى حقيقة مهمةٍ جدا
وهي أنَّ القرآن الكريم هو كتابُ للإنسان بما هو إنسان قبل التلبس بأيِّ عنوان آخر.
لذا جائت كلمة الناس في عمومها النصي دليلاً على ذلك وخاصة في بدء النزول القرآني في مكة.
حتى كانت أكثر من غيرها إستعمالاً في آيات القرآن الكريم بحيث بلغت العدد 179 مرة إستعمالا.
قال تعالى:
(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )) البقرة21
(( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )) سبأ28
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً }الكهف54
(( وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً )) الإسراء106
(( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)) البقرة185
(( وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )) آل عمران97
وكلمة الناس فيها من العموم ما لا يخفى على أحد
حتى
أنَّ سيبويه قال :
الناسُ أي الناسُ الناسُ بكل مكان وعلى كل حال
كما نعرف .
:لسان العرب: ابن منظور: مادة أنس :
إذاً إذا عرفنا أنَّ الناس هم أولاً وبالذات مقصودون بالخطاب القرآني الكريم.
فماذا يُريدُ القرآن منهم ؟
طبعاً إنَّ القرآن الكريم قد إمتاز بالأجوبة الذكيَّة الجاهزة نصّاً
على كل سؤال مُتوقع طرحه من قبل الناس أنفسهم.
في أي بعد كان سواء على مستوى الكون أوالعقيدة
أو الحياة أو المصير أو غيرها.
وهذه الإجابات الذكيَّة الجاهزة قرآنياً تكشف عن عمق الحكمة والدراية الإحاطيّة تكوينيا وتشريعيا.
والتي هي من أبرز معالم الله تعالى وصفاته.
قال تعالى:
(( وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ )) النمل6
والمعنى:
وإنك -أيها الرسول الأكرم محمد
:صلى الله عليه وآله وسلَّم:
- لتتلقى القرآن من عند الله, الحكيم في خلقه وتدبيره الذي أحاط بكل شيء علمًا.
وتتجلى هذه الإجابات في البعد العقدي الديني
كقوله تعالى.
(( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ )) الحديد25
فالناسُ بما هم أُناسٌ هم مادة الخطاب القرآني القويم
وهم مَعنيون بمفاد الخطاب وأهدافه الحياتية.
أما الأوصاف المتأخرة إكتساباً فهي تأتي من التلبس الإرادي بالعنوان الصالح أو الطالح.
لذا نجد تعدد التوصيف للناس بعد تحقق الإسلام والإيمان والهدى واليقين في نفوسهم
أو عدم تحقق ذلك بسبب كفرهم أو فسقهم أو ظلمهم
قد أخذ منحى آخر في سياقية الخطاب القرآني
فتغيَّرتْ كلمة الناس إلى الوصف الفعلي الذي تلبَّسوا به واقعا.
حتى أصبح الوصف الفعلي هو مادة الخطاب القرآني
بحيث تجد قصد النص يتجه بإتجاه العنوان وبيان هويّة المُعنون به
كقوله تعالى:
الم{1}
ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ{2}
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ{3}
والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ{4}
أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{5}
هذا على مستوى الهوية الصالحة والعنوان الإيجابي
أما على مستوى بيان العنوان السلبي والهوية الضالة
فقال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ{6}
خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ{7 :
لاحظوا مدى وضوح الوصف والهوية التي إكتسبها الناسُ إراديا بعدما عُرِضَتْ عليهم دعوة الله تعالى.
فألبسوا أنفسهم وصفاً مصيريا إيحابا أو سلبا.
لذا إذا أردنا أن نفهم قصد الخطاب القرآني وحكمته ودلالاته
فعلينا أن ندرك جيدا منهجيَّة الخطاب القرآني ذاته وتخطيطه الذكي في المبدأ والمنتهى معرفيا .
ذلك كون مُنشأ النص القرآني لفظا ومعنى ودلالة وحكمة هو الله تعالى.
وممكن الوقوف على منهجيَّة الخطاب القرآني في حال الفحص والبحث والمتابعة لمسائل القرآن من موضوعات ومحمولات وأحكام ونتائج.
بحيث نجد الوعي والقدرة الإبداعية الحيَّة تتكيَّف مع الحياة والواقع والإنسان ثبوتا وتغيَّرا .
لا سيما ما أصَّلهُ القرآن الكريم في خطابات العموم والإطلاق والفوقانيات والقضايا الحقيقية وجوديا
والتي لا تقبل التموضع لا وقتاً ولا مكانا.
وكمثال على ذلك هو خطاب الله تعالى للإنسان بما هو إنسان حتى بلغ عدد الإستعمال 56 مرة نصاً
أو للناس بما هم إناس.
في قوله تعالى:
{وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ }إبراهيم34
(( وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً )) الإسراء67
ِ{أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً }مريم67
(( وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )) الأحقاف15
ويتبعُ القسم الخامس إن شاء اللهُ تعالى
والسلامُ عليكمُ ورحمة الله وبركاته
مرتضى علي الحلي : النجف الأشرف
تعليق