قال اللّه تعالى: (لا تحرك به لسانك لتعجل به × ان علينا جمعه وقرآنه × فاذا قرآناه فاتبع قرآنه)(65).
وقال تعالى: (انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون).
وقال تعالى: (سنقرئك فلا تنسى الا ما شاء اللّه).
من القضايا المسلم بها لدى جميع المسلمين ان القرآن نزل على النبي(ص) مفرقاعلى امتداد ثلاثة وعشرين عاما، وهي مدة نزول الوحي والرسالة، وان الرسول(ص)كان اذا نزل عليه الشيء من القرآن قام بتبليغه، وبيان ما فيه من العمل والتطبيق الى منحوله، فيتلقاه منه اصحابه بالقراءة والحفظ.
روى عبادة بن الصامت قال: (كان رسول اللّه(ص) يشغل، فاذا قدم رجل مهاجر علىرسول اللّه(ص) دفعه الى رجل منا يعلمه القرآن)(66).
وروى كليب قال: (كنت مع علي(ع) فسمع ضجتهم في المسجد يقراون القرآن،فقال: طوبى لهؤلاء...)(67).
وعن عبادة بن الصامت قال: (كان الرجل اذا هاجر دفعه النبي(ص) الى رجل منا يعلمهالقرآن، وكان يسمع بمسجد رسول اللّه(ص) ضجة بتلاوة القرآن، حتى امرهم رسولاللّه ان يخفضوا اصواتهم، لئلا يتغالطوا)(68).
وقد رغب رسول اللّه(ص) المسلمين، وحثهم على حفظ القرآن وتدارسه وتعليمه،فنشطت حركة القراءة والحفظ والتعليم، واشتدت العناية بكتاب اللّه العزيز، فكان فيجيل الصحابة من يحفظ القرآن حفظا كاملا على عهد النبي(ص) وهم الامام علي بنابي طالب(ع) وابيبن كعب، وابو الدرداء، وسعد بن عبيد بن النعمان، وثابت بن زيدبن النعمان، ومعاذ بن جبل، وعبيد بن معاوية بن زيد بن ثابت(69)، وكان هناك منيحفظ بعضه والكثير منه.
ويستفاد من الاخبار اهتمام جيل الصحابة البالغ بحفظ القرآن وتلاوته.
كما روي ان بعض الصحابة كان يعرض حفظه على النبي(ص) ليتاكد من حفظه.
ومن الثابت لدى المسلمين جميعا ان رسول اللّه(ص) كان له كتاب يكتبون ماينزل منالوحي فيدون على العسب واللخاف وجريد النخل.
قال اليعقوبي: (وكان كتابه الذين يكتبون الوحي والكتب والعهود: علي بن ابي طالب،وعثمان بن عفان، وعمرو بن العاص بن امية، ومعاوية بن ابي سفيان، وشرحبيل بنحسنة، وعبد اللّه بن سعد بن ابي سرح، والمغيرة بن شعبة، ومعاذ بن جبل، وزيد بنثابت، وحنظلة بن الربيع، وابي بن كعب، وجهيم بن الصلت، والحصين بنالنميري)(70).
وقال زيد بن ثابت: (كنا عند النبي(ص) نؤلف القرآن من الرقاع)(71).
ويتحصل من ذلك: ان اللّه سبحانه تعهد بحفظ القرآن من الضياع والتحريف، كمانصت الايات الانفة الذكر. وان الحقائق التاريخية تدحض شبهات التحريف التافهة.
فقد كان العشرات من جيل الصحابة يحفظون القرآن عن ظهر قلب، وان القرآن كانمجموعا ومدونا على عهد رسول اللّه(ص) على قطع من الجلد او الجريد او اللخافاو العسب... الخ.
روايات جمع القرآن:
واذا تاكد لنا ان رسول اللّه(ص) كان قد دون القرآن على جريد النخل واللخافوالعسب... الخ.
وان القرآن كان مجموعا في صدور الحفاظ فما معنى جمع القرآن الذي تحدثت بهالروايات التاريخية بعد النبي(ص) وبشكل متعارض، فكان بعضها يقول ان ابا بكر قدجمع القرآن، وبعضها يقول ان عمر بن الخطاب كان قد جمع القرآن، وبعضها يقول انعثمان هو الذي جمع القرآن، واخرى تقول ان الذي جمعه هو الامام علي(ع).
فيما يلي نستعرض بعضا من تلك الروايات:
روى زيد بن ثابت، قال: (ارسل الي ابو بكر مقتل اهل اليمامة فاذا عمر بن الخطابعنده. قال ابو بكر: ان عمر اتاني، فقال: ان القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن،واني اخشى ان يستحر القتل بالقراء بالمواطن ، فيذهب كثير من القرآن، واني ارى انتامر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول اللّه(ص)؟ قال عمر:هذا واللّه خير، فلم يزل ابو بكر يراجعني حتى شرح اللّه صدري لذلك، ورايت في ذلكالذي رآى عمر، قال زيد: قال ابو بكر: انك رجل شاب عاقل لانتهمك، وقد كنتتكتب الوحي لرسول اللّه(ص) فتتبع القرآن باجمعه، فواللّه لو كلفوني نقل جبل منالجبال ما كان اثقل علي مما امرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعلهرسولاللّه(ص)؟ قال: هو واللّه خير، فلم يزل ابو بكر يراجعني حتى شرح اللّه صدريللذي شرح له صدر ابي بكر وعمر، فتتبعت القرآن اجمعه من العسب، واللخاف،وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع ابي خزيمة الانصاري، لم اجدهامع احد غيره.
(لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوفرحيم × فان تولوا فقل حسبي اللّه لا اله الا هو عليه توكلت وهو رب العرشالعظيم)(72).
حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند ابي بكر حتى توفاه اللّه ثم عند عمر حياته، ثمعند حفصة بنت عمر)(73).
وهناك روايات تقول ان عمر بن الخطاب هو الذي جمع القرآن: فقد روى يحيى بنعبد الرحمن بن حاطب، قال: (اراد عمر بن الخطاب ان يجمع القرآن فقام في الناس،فقال: من كان تلقى من رسول اللّه(ص) شيئا من القرآن فلياتنا به، وكانوا كتبوا ذلك فيالصحف، والالواح، والعسب، وكان لا يقبل من احد شيئا حتى يشهد شهيدان، فقتلوهو يجمع ذلك اليه، فقام عثمان، فقال: من كان عنده من كتاب اللّه شيء فلياتنا به، وكان لا يقبل من ذلك شيئا حتى يشهد عليه شهيدان، فجاء خزيمة بن ثابت، فقال: انيقد رايتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما، قالوا: ما هما ! قال: تلقيت من رسول اللّه(ص)

وهناك روايات تقول ان عثمان بن عفان هو الذي جمع القرآن: فقد روى ابن شهاب انانس بن مالك حدثه: (ان حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي اهل الشام فيفتح ارمينية واذربيجان مع اهل العراق. فافزع حذيفة اختلافهم في القراءة. فقالحذيفة لعثمان: يا امير المؤمنين ادرك هذه الامة قبل ان يختلفوا في الكتاب اختلافاليهود والنصارى، فارسل عثمان الى حفصة ان ارسلي الينا بالصحف ننسخها فيالمصاحف، ثم نردها اليك، فارسلت بها حفصة الى عثمان فامر زيد بن ثابت، وعبد اللّهبن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام، فنسخوها فيالمصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: اذا اختلفتم انتم وزيد بن ثابت فيشيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فانما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى اذا نسخواالصحف في المصاحف رد عثمان الصحف الى حفصة، وارسل الى كل افق بمصحفمما نسخوا، وامر بما سواه من القرآن في كل صحيفة او مصحف ان يحرق)(75).
قال ابن شهاب: واخبرني خارجة بن زيد بن ثابت سمع زيد بن ثابت قال: فقدت آيةمن الاحزاب حين نسخنا المصحف، قد كنت اسمع رسول اللّه(ص) يقرا بها،فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الانصاري.
(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه)(76)
فالحقناها في سورتها فيالمصحف(77).
وعن محمد بن اسحاق: روى الثقة ان حذيفة بن اليمان قدم على عثمان بن عفان، وكانبالعراق، وقال لعثمان: ادرك هذه الامة قبل ان يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهودوالنصارى.
فارسل عثمان الى حفصة ان ارسلي الينا بالصحف ننسخها في المصاحف،ثم نردها اليك، فارسلت بها حفصة الى عثمان، فامر عثمان زيد بن ثابت، وعبد اللّه بنالزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها فيالمصاحف)(78).
وهناك روايات تقول ان الامام علي بن ابي طالب(ع) هو الذي جمع القرآن.
قال اليعقوبي: (روى بعضهم ان علي بن ابي طالب كان جمعه لما قبض رسول اللّه،واتى به يحمله على جمل، فقال: هذا القرآن قد جمعته، وكان قد جزاه سبعةاجزاء...)(79).
ونقل ابن النديم في كتابه الفهرست: (... عن علي(ع) انه راى من الناس طيرة عند وفاةالنبي(ص) فاقسم انه لا يضع عن ظهره رداءه حتى يجمع القرآن، فجلس في بيته ثلاثةايام حتى جمع القرآن، فهو اول مصحف جمع فيه القرآن من قلبه، وكان المصحفعند اهل جعفر، ورايت انا في زماننا عند ابي يعلى حمزة الحسني(رحمهاللّه)مصحفا قد سقط منه اوراق بخط علي بن ابي طالب يتوارثه بنو حسن على مر الزمان،وهذا ترتيب السور من ذلك المصحف...)(80).
ونجد في رواية اسلام عمر وثيقه تاريخه تؤيد عناية رسول اللّه(ص) بتدوين القرآنفي مكة المكرمة، ومن بدء نزوله، والمواظبة على حفظه، وانه كان يتداول بينهممكتوبا على صحف تحوي النازل منه كله او بعضه آنذاك، كما كان يتداول حفظا.
فقد جاء في تلك الرواية: (...فرجع عمر عامدا الى اخته وختنه، وعندهما خباب بنالارت معه صحيفة، فيها (طه) يقرءهما اياها،فلما سمعوا حس عمر، تغيب خباب في مخدع لهم، او في بعض البيت، واخذتفاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها...)(81).
وجاء ايضا ان عمر هاجم بيت اخته فاطمة وزوجها، وهما يقرئان القرآن، فضربهما،فقالت له اخته: (وان كان الحق في غير دينك اني اشهد ان لا اله الا اللّه وان محمدا عبدهورسوله، فقال عمر: اعطوني الكتاب الذي هو عندكم فاقراه، وكان عمر يقرا الكتاب،فقالت اخته: انك رجس، وانه لا يمسه الا المطهرون فقم واغتسل او توضا، فقامفتوضا، ثم اخذ الكتاب، فقرا (طه) حتى انتهى الى: (انني انا اللّه لا اله الا انا فاعبدنيواقم الصلاة لذكري)...)(82).
ودراسة هذه الوثيقة تؤكد ان الرسول(ص) كان يدون القرآن من بدء الدعوة في مكةالمكرمة. وذلك واضح في عبارتي (معه صحيفة فيها طه). (واعطوني الكتاب الذي هوعندكم فاقراه) فحوادث هذه الوثيقة، كما يذكر المؤرخون، كانت في المرحلة السرية،وكما تشير الحادثة ذاتها الى ذلك، مما يكشف المشروع النبوي لتدوين القرآنوجمعه مدونا، اضافة الى جمعه في صدور الحفاظ، كما ذكر.
وقد قام المرجع الديني الراحل السيد ابو القاسم الخوئي(رحمهاللّه) بدراسةوتحليل هذه الروايات ونقدها، واستخلاص النتائج بشكل علمي متين منها في كتابهالبيان في تفسير القرآن.
ويمكننا ان نستخلص من مجموع تلك الروايات ما يلي:
1 ان القرآن كان مدونا بكامله على عهد رسول اللّه(ص) وانه كان محفوظا بكامله فيصدور الحفاظ.
2 ان روايات الجمع: يقصد بها تدوين كامل القرآن في مصحف موحد، بدلا من كونهمتناثرا في العسب واللخاف وقطع القماش والقراطيس والجريد...الخ.
وهذا ما قام به الامام علي(ع) من حفظه، كما تفيد الروايات، واصرحها ما نقله ابنالنديم: (فهو اول مصحف جمع فيه القرآن من قلبه).
3 ان ما قام به عثمان بن عفان، كما تفيد الروايات، كان سببه هو الاختلاف فيالقراءات، لذا فان عمل عثمان تركز في توحيد القراءات من خلال كتابة مصحف جمعفيه كامل القرآن، كما تفيد رواية ابن الاثير في الكامل.
4 ان احتمال ان يقوم بتدوين القرآن، في مصحف موحد اكثر من صحابي في آن واحدمسالة مقبولة، ولا تعني التعارض.