وُلِد مصعب بن عُمَير في أُسرةٍ غنيَّةٍ ومترفة، ونشأَ في ظلالِ النَّعيم والبحبوحةِ، وكانَ والداهُ يعتنيان به عنايةً بالغة، ويُعدّانِه لكي يكون من أَفضل شبابِ مكَّةَ وأَكملهم.
كان مصعب جميل الوجه، وكان يرتدي أَحسن الثِّياب وأَغلاها، ويتعطَّرُ بأجودِ أَنواع العُطور. وكان حَسَن الأَخلاق.
وفجأةً .. اختفتِ البَسمةُ من وجهه، وحلَّ محلَّها الوجوم والاستغراق في التَّأمُّل والتّفكير.
لَفتَ هذا التّبدُّل الذي طرأَ على مصعبٍ انتباه النّاس، وأَخذوا يتساءلون عن السَّبب الذي جعله واجماً وحزيناً.
إِنّ لذَّات الدُّنيا الفانية لا يمكن أن تسيطر على ذوي النُّفوس العالية، فبالرَّغم من أنَّ مصعباً كان قد نشأ في أسرةٍ مترفة، إِلاّ أَنَّ أخلاقه الفاضلة كانت تهديه، وتردعه عن ممارسة الأعمال المنافية للآداب والخلق القويم.
ذهب مصعب إلى دار الأرقم المخزوميّ، وتشرَّف بمقابلة النَّبيِّ صلّى الله عليه وآله، واستمع لآياتٍ من القرآن الكريم، فدخل الإيمان قلبه، واعتنق الدِّين الإسلاميَّ الحنيف.
كان لأُمِّ مصعبٍ نفوذ في البيت، وشخصيَّة قويَّة. فلّما سمعت بأَنَّ ولدها قد أسلم غضبت غضباً شديداً، وأخذت تعنِّفه قائلةً:
ـ لقد خيَّبت أملي فيك، لماذا تركتَ دين آبائك وأجدادك، واتَّبعت محمَّداً ؟!
ولكنَّ مصعباً ـ الذي ذاق حلاوة الإيمانِ، وشرح الله صدره للإسلام ـ قابل غضب والدته بثباتٍ، وقال لها:
ـ كُفَّي عن هذا الكلام يا أميِّ. من الخير لكِ أن تعتنقي أنتِ الإسلام أيضاً، لكي تسعدي في الدّنيا، وتفوزي في الآخرة.
ولمّا فقدت الأمُّ الأمل في رجوع ولدها عن الإسلام، حبسته في إِحدى الغرف، ووضعت عليه حارساً من المشركين، يضيِّق عليه الخناق، ويعذِّبه.
ولكنَّ السَّجن والتَّعذيب .. ليس بمقدورهما التَّأثير على إِرادة المؤمن، وإِرجاعه عن الإسلام إِلى عقائد الشِّرك.
بقي مصعب مدةً من الزَّمن، يعاني من السِّجن والتَّعذيب، حتّى أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله، بعض المسلمين بالهجرة إِلى الحبشة. وحينئذٍ تمكَّن مصعبٌ من الخروج من السِّجن، وهاجر معهم.
كان النَّبيُّ صلّى الله عليه وآله، مجتمعاً بأَصحابه حين أقبل مصعب من بعيدٍ، وقد ارتدى عباءةً قديمة، وثوباً مرقَّعاً، وهو الذي كان قبل إِسلامه منعَّماً، يحيا حياة التَّرف، ويلبس الثِّياب الفاخرة.
نظر إليه المسلمون بإِجلالٍ وإكبارٍ، وقال أحدهم:
ـ لَم أرَ في مكَّة شابّاً منعَّماً مثل مصعب بن عُمَير، ولكنَّه ضحّى بكلِّ شيءٍ سبيل الإِسلام.
وأرادت أُمُّ مصعبٍ أَن تقبض عليه وتضعه في السِّجن من جديد، لكنَّه وقف أمامها بحزمٍ، وقال:
ـ أُماه، كُفِّي عن هذا السُّلوك، وتشرَّفي بدين الإِسلام؛ فإِنَّه دين الحقِّ.
لكنَّ أُمَّه بقيت مصرَّةً على الشِّرك، وقالت:
ـ لن أَفعل هذا أَبداً، ولن يقول النّاس عنيّ أنَّني فضَّلتِ دين ابني على دين آبائي.
ولمّا رأى مصعب إِصرار أُمِّه على الكُفر، ابتعد عنها والدُّموع تسيل من عينيه.
أَصبح مصعب بن عمير، بفضل التَّربية الإِسلاميَّة، عالماً عارفاً، وخطيباً مقتدراً، واستطاع بقوَّة بيانه أن يؤثِّر في الكثيرين، ويجعلهم يعتنقون الإِسلام.
كان بين أصحاب النبيِّ صلّى الله عليه وآله مسلمون أكبر سنّاً من مصعب، ولكنَّ مصعباً كان يتميَّز بصفاتٍ فريدةٍ جعلت النَّبيَّ صلّى الله عليه وآله يختاره من بينهم، ويكلِّفه بمهمَّةٍ خطيرة.
كان ستَّةٌ من أهل يثرب ( من قبيلة الخزرج ) قد حضروا إلى مكَّة، واتَّصلوا برسول الله صلّى الله عليه وآله سرّاً في منطقة العقبة، واعتنقوا الإسلام على يديه وبايعوه، وقد سمّى المؤرِّخون هذه البيعة ( بيعة العَقَبة الأولى ).
وبعد مضيِّ عامٍ على هذا الحادث، جاء إِلى مكّة ثلاثة وسبعون شخصاً من أهالي يثرب، والتقَوا برسول الله صلّى الله عليه وآله في نفس المنظقة، وأسلموا على يديه، فكانت ( بيعةُ العقبةِ الثَّانية ).
وحينئذٍ قرَّر النبيُّ صلّى الله عليه وآله أن يبعث إلى يثرب شخصاً يعلِّم المسلمين أحكام دينهم، ويدعو المشركين لاعتناق الإسلام.
فأرسل لهذا الغرض مصعبَ بن عُمَير.
استقرَّ مصعب في بيت أسعد بن زرارة، وشرع يجمع المسلمين، ويتلو عليهم آيات القرآن الكريم، ويشرح لهم أحكام الدِّين الحنيف.
وفي أحد الأيّام، وبينما كان مصعب منهمكاً بتلاوة القرآن الكريم .. دخل أُسيد بن حضيرٍ رئيس قبيلة بني عبد الأشهل، وشهر سيفه على مصعبٍ، وصاح غاضباً:
ـ هل بلغَتْ بك الجرأة أن تُضلَّ قبيلتين وتُخرِج قومي من دينهم ؟!
رفع مصعب رأسه، ونظر إلى أُسيدٍ بشجاعةٍ وثبات، ثمَّ تكلَّم بهدوءٍ قائلاً:
ـ يمكنك أن تجلس بعض الوقت، وتستمع إِلى كلامي، فإن وجدته حقّاً أخذتَ به، وإن لم يكن كذلك فإنني سأغادر هذا المكان ..
ولمّا كان أُسيد رجلاً منصفاً وعاقلاً، فقد وافق على ما عرضه عليه مصعب، فوضع سيفه في غِمده، وجلس بين الحاضرين.
وشرع مصعب يبيّن أحكام الدِّين الإسلاميّ، ويتلو ـ بصوتِه الملائكيِّ ـ آياتٍ من القرآن الكريم.
فتأثّر أُسيد بكلامه، واصفرّ لونه، وقال بصورتٍ عالٍ:
إِنَّني لم أسمع بمثل هذا الكلام في حياتي أبداً، ألا قل لي .. ماذا يتعيَّن علَيَّ أن أفعل لأدخل في الإسلام ؟
فأجابه مصعب:
ـ إِنّ عليك أن تغتسل وتتطهّر، ثمّ تتلوَ الشَّهادتَين، وهما: أشهدُ أنْ لا إِلهَ إلاّ الله، وأشهدُ أنَّ محمّداً رسولُ الله.
خرج أُسيد مسرعاً، ولم يلبث أن عاد وقطرات الماء تتساقط منه، ليقول بصوتٍ عالٍ:
ـ أشهدُ أن لا إِلهَ إلاّ الله، و أشهدُ أَنَّ مُحمّداً رسولُ الله.
فتعالت صيحات التَّكبير من أفواه المسلمين، وأصبح أسيد ـ الذي كان قبل قليلٍ كافراً ـ واحداً من المسلمين.
شارك مصعب بن عُيَمر في معركة بدرٍ في السنة الثالثة للهجرة.
وفي معركة أُحد، أَعطاه رسول الله صلّى الله عليه وآله راية المسلمين لكي يحملها في المعركة. وهجم المسلمون على الكفّار بكلِّ شجاعةٍ وإِقدام.
كان النصر في بداية المعركة للمسلمين، ولكنّ عدم انضباط الحُرّاس الذين وضعهم رسول الله على الجبل لحماية ظهر المسلمين، أدّى إِلى تغيير الموقف ..
لقد شاهد أولئك الحرّاس انتصار المسلمين، وهزيمة المشركين، فتركوا مكانهم، وأسرعوا يجمعون الغنائم، فاستغلَّ المشركون هذه الفرصة، وهجموا على المسلمين من الخلف، فانهزم المسلمون، ولم يبق إِلاّ قليل منهم يدافعون عن رسول الله، وقد أحاط بهم جيش المشركين.
كان الموقف صعباً ورهيباً، وكان مصعب يحمل الراية بإحدى يديه، بينما يشهر بيده الأُخرى سيفه، يضرب به أَعناق المشركين، وهو يزأر كالأسد، ويرفع صوته بالتكبير.
وبينما مصعب في قلب المعركة، أهوى أحد المشركين بسيفه على يده اليمنى .. فقطعها. ولكنَّ مصعباً لم ينسحب من الميدان، بل بقي ثابتاً في مكانه، يحمل راية المسلمين بيده اليُسرى، ويتلو قول الله تعالى:
ـ « وَمَا مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ الله شَيْئاً، وَسَيَجزي اللهُ الشَّاكِرِينَ .
وفي تلك اللّحظات، وجَّه أحد الكافرين ضربةً بسيفه إلى مصعب، قطع بها يده اليسرى. وسدَّد آخَرُ رمحاً إلى بطنه، فخرَّ صريعاً، وقد نال الشَّهادة في سبيل دينه.
ومع أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وآله كان قد أثخنَتْه الجراح، إلاّ أنّه تفقَّد الجرحى، وأمر بدفن الشهداء. وكان متأثِّراً جدّاً لشهادة عمِّه حمزة، وما حصل من التمثيل بجثَّته مِن قِبل هندٍ. زوجة أبي سفيان أمِّ معاوية!
ووقف النبيُّ صلّى الله عليه وآله على جسد مصعب بن عمير، وأخذ ينظر إليه بعينٍ تترقرق بالدمع، وهو يتلو قوله تعالى بصورتٍ متهدِّج:
مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَ قُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَمَا بَدَّلُوا تَبدِيلاً .
كان مصعب جميل الوجه، وكان يرتدي أَحسن الثِّياب وأَغلاها، ويتعطَّرُ بأجودِ أَنواع العُطور. وكان حَسَن الأَخلاق.
وفجأةً .. اختفتِ البَسمةُ من وجهه، وحلَّ محلَّها الوجوم والاستغراق في التَّأمُّل والتّفكير.
لَفتَ هذا التّبدُّل الذي طرأَ على مصعبٍ انتباه النّاس، وأَخذوا يتساءلون عن السَّبب الذي جعله واجماً وحزيناً.
إِنّ لذَّات الدُّنيا الفانية لا يمكن أن تسيطر على ذوي النُّفوس العالية، فبالرَّغم من أنَّ مصعباً كان قد نشأ في أسرةٍ مترفة، إِلاّ أَنَّ أخلاقه الفاضلة كانت تهديه، وتردعه عن ممارسة الأعمال المنافية للآداب والخلق القويم.
ذهب مصعب إلى دار الأرقم المخزوميّ، وتشرَّف بمقابلة النَّبيِّ صلّى الله عليه وآله، واستمع لآياتٍ من القرآن الكريم، فدخل الإيمان قلبه، واعتنق الدِّين الإسلاميَّ الحنيف.
كان لأُمِّ مصعبٍ نفوذ في البيت، وشخصيَّة قويَّة. فلّما سمعت بأَنَّ ولدها قد أسلم غضبت غضباً شديداً، وأخذت تعنِّفه قائلةً:
ـ لقد خيَّبت أملي فيك، لماذا تركتَ دين آبائك وأجدادك، واتَّبعت محمَّداً ؟!
ولكنَّ مصعباً ـ الذي ذاق حلاوة الإيمانِ، وشرح الله صدره للإسلام ـ قابل غضب والدته بثباتٍ، وقال لها:
ـ كُفَّي عن هذا الكلام يا أميِّ. من الخير لكِ أن تعتنقي أنتِ الإسلام أيضاً، لكي تسعدي في الدّنيا، وتفوزي في الآخرة.
ولمّا فقدت الأمُّ الأمل في رجوع ولدها عن الإسلام، حبسته في إِحدى الغرف، ووضعت عليه حارساً من المشركين، يضيِّق عليه الخناق، ويعذِّبه.
ولكنَّ السَّجن والتَّعذيب .. ليس بمقدورهما التَّأثير على إِرادة المؤمن، وإِرجاعه عن الإسلام إِلى عقائد الشِّرك.
بقي مصعب مدةً من الزَّمن، يعاني من السِّجن والتَّعذيب، حتّى أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله، بعض المسلمين بالهجرة إِلى الحبشة. وحينئذٍ تمكَّن مصعبٌ من الخروج من السِّجن، وهاجر معهم.
* * *
وبعد مدَّةٍ، عاد مصعب إِلى مكَّة مع عددٍ من المسلمين، وأسرع لزيارة رسول الله صلّى الله عليه وآله، مع أنَّه كان في حالةٍ من التّعب الشَّديد، بسبب السَّفر.كان النَّبيُّ صلّى الله عليه وآله، مجتمعاً بأَصحابه حين أقبل مصعب من بعيدٍ، وقد ارتدى عباءةً قديمة، وثوباً مرقَّعاً، وهو الذي كان قبل إِسلامه منعَّماً، يحيا حياة التَّرف، ويلبس الثِّياب الفاخرة.
نظر إليه المسلمون بإِجلالٍ وإكبارٍ، وقال أحدهم:
ـ لَم أرَ في مكَّة شابّاً منعَّماً مثل مصعب بن عُمَير، ولكنَّه ضحّى بكلِّ شيءٍ سبيل الإِسلام.
وأرادت أُمُّ مصعبٍ أَن تقبض عليه وتضعه في السِّجن من جديد، لكنَّه وقف أمامها بحزمٍ، وقال:
ـ أُماه، كُفِّي عن هذا السُّلوك، وتشرَّفي بدين الإِسلام؛ فإِنَّه دين الحقِّ.
لكنَّ أُمَّه بقيت مصرَّةً على الشِّرك، وقالت:
ـ لن أَفعل هذا أَبداً، ولن يقول النّاس عنيّ أنَّني فضَّلتِ دين ابني على دين آبائي.
ولمّا رأى مصعب إِصرار أُمِّه على الكُفر، ابتعد عنها والدُّموع تسيل من عينيه.
أَصبح مصعب بن عمير، بفضل التَّربية الإِسلاميَّة، عالماً عارفاً، وخطيباً مقتدراً، واستطاع بقوَّة بيانه أن يؤثِّر في الكثيرين، ويجعلهم يعتنقون الإِسلام.
كان بين أصحاب النبيِّ صلّى الله عليه وآله مسلمون أكبر سنّاً من مصعب، ولكنَّ مصعباً كان يتميَّز بصفاتٍ فريدةٍ جعلت النَّبيَّ صلّى الله عليه وآله يختاره من بينهم، ويكلِّفه بمهمَّةٍ خطيرة.
كان ستَّةٌ من أهل يثرب ( من قبيلة الخزرج ) قد حضروا إلى مكَّة، واتَّصلوا برسول الله صلّى الله عليه وآله سرّاً في منطقة العقبة، واعتنقوا الإسلام على يديه وبايعوه، وقد سمّى المؤرِّخون هذه البيعة ( بيعة العَقَبة الأولى ).
وبعد مضيِّ عامٍ على هذا الحادث، جاء إِلى مكّة ثلاثة وسبعون شخصاً من أهالي يثرب، والتقَوا برسول الله صلّى الله عليه وآله في نفس المنظقة، وأسلموا على يديه، فكانت ( بيعةُ العقبةِ الثَّانية ).
وحينئذٍ قرَّر النبيُّ صلّى الله عليه وآله أن يبعث إلى يثرب شخصاً يعلِّم المسلمين أحكام دينهم، ويدعو المشركين لاعتناق الإسلام.
فأرسل لهذا الغرض مصعبَ بن عُمَير.
استقرَّ مصعب في بيت أسعد بن زرارة، وشرع يجمع المسلمين، ويتلو عليهم آيات القرآن الكريم، ويشرح لهم أحكام الدِّين الحنيف.
وفي أحد الأيّام، وبينما كان مصعب منهمكاً بتلاوة القرآن الكريم .. دخل أُسيد بن حضيرٍ رئيس قبيلة بني عبد الأشهل، وشهر سيفه على مصعبٍ، وصاح غاضباً:
ـ هل بلغَتْ بك الجرأة أن تُضلَّ قبيلتين وتُخرِج قومي من دينهم ؟!
رفع مصعب رأسه، ونظر إلى أُسيدٍ بشجاعةٍ وثبات، ثمَّ تكلَّم بهدوءٍ قائلاً:
ـ يمكنك أن تجلس بعض الوقت، وتستمع إِلى كلامي، فإن وجدته حقّاً أخذتَ به، وإن لم يكن كذلك فإنني سأغادر هذا المكان ..
ولمّا كان أُسيد رجلاً منصفاً وعاقلاً، فقد وافق على ما عرضه عليه مصعب، فوضع سيفه في غِمده، وجلس بين الحاضرين.
وشرع مصعب يبيّن أحكام الدِّين الإسلاميّ، ويتلو ـ بصوتِه الملائكيِّ ـ آياتٍ من القرآن الكريم.
فتأثّر أُسيد بكلامه، واصفرّ لونه، وقال بصورتٍ عالٍ:
إِنَّني لم أسمع بمثل هذا الكلام في حياتي أبداً، ألا قل لي .. ماذا يتعيَّن علَيَّ أن أفعل لأدخل في الإسلام ؟
فأجابه مصعب:
ـ إِنّ عليك أن تغتسل وتتطهّر، ثمّ تتلوَ الشَّهادتَين، وهما: أشهدُ أنْ لا إِلهَ إلاّ الله، وأشهدُ أنَّ محمّداً رسولُ الله.
خرج أُسيد مسرعاً، ولم يلبث أن عاد وقطرات الماء تتساقط منه، ليقول بصوتٍ عالٍ:
ـ أشهدُ أن لا إِلهَ إلاّ الله، و أشهدُ أَنَّ مُحمّداً رسولُ الله.
فتعالت صيحات التَّكبير من أفواه المسلمين، وأصبح أسيد ـ الذي كان قبل قليلٍ كافراً ـ واحداً من المسلمين.
شارك مصعب بن عُيَمر في معركة بدرٍ في السنة الثالثة للهجرة.
وفي معركة أُحد، أَعطاه رسول الله صلّى الله عليه وآله راية المسلمين لكي يحملها في المعركة. وهجم المسلمون على الكفّار بكلِّ شجاعةٍ وإِقدام.
كان النصر في بداية المعركة للمسلمين، ولكنّ عدم انضباط الحُرّاس الذين وضعهم رسول الله على الجبل لحماية ظهر المسلمين، أدّى إِلى تغيير الموقف ..
لقد شاهد أولئك الحرّاس انتصار المسلمين، وهزيمة المشركين، فتركوا مكانهم، وأسرعوا يجمعون الغنائم، فاستغلَّ المشركون هذه الفرصة، وهجموا على المسلمين من الخلف، فانهزم المسلمون، ولم يبق إِلاّ قليل منهم يدافعون عن رسول الله، وقد أحاط بهم جيش المشركين.
كان الموقف صعباً ورهيباً، وكان مصعب يحمل الراية بإحدى يديه، بينما يشهر بيده الأُخرى سيفه، يضرب به أَعناق المشركين، وهو يزأر كالأسد، ويرفع صوته بالتكبير.
وبينما مصعب في قلب المعركة، أهوى أحد المشركين بسيفه على يده اليمنى .. فقطعها. ولكنَّ مصعباً لم ينسحب من الميدان، بل بقي ثابتاً في مكانه، يحمل راية المسلمين بيده اليُسرى، ويتلو قول الله تعالى:
ـ « وَمَا مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ الله شَيْئاً، وَسَيَجزي اللهُ الشَّاكِرِينَ .
وفي تلك اللّحظات، وجَّه أحد الكافرين ضربةً بسيفه إلى مصعب، قطع بها يده اليسرى. وسدَّد آخَرُ رمحاً إلى بطنه، فخرَّ صريعاً، وقد نال الشَّهادة في سبيل دينه.
* * *
انتهت معركة أحد ...ومع أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وآله كان قد أثخنَتْه الجراح، إلاّ أنّه تفقَّد الجرحى، وأمر بدفن الشهداء. وكان متأثِّراً جدّاً لشهادة عمِّه حمزة، وما حصل من التمثيل بجثَّته مِن قِبل هندٍ. زوجة أبي سفيان أمِّ معاوية!
ووقف النبيُّ صلّى الله عليه وآله على جسد مصعب بن عمير، وأخذ ينظر إليه بعينٍ تترقرق بالدمع، وهو يتلو قوله تعالى بصورتٍ متهدِّج:
مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَ قُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَمَا بَدَّلُوا تَبدِيلاً .
تعليق