عاشت السيدة المعصومة في كنف والديها الكريمين، تكتسب منهما الفضائل والمكارم، إذ كان أبوها إماما معصوما وليس له في الفضائل والتقى كفوا أحد، وأمها «نجمة» أيضا من النساء الصالحات المؤمنات التي تعلمت في مدرسة زوجة الإمام الصادق (عليه السلام). وكانت معروفة بالتقوى في ذلك الزمان. ومن هنا فقد أشارت «حميدة» أم الإمام الكاظم (عليه السلام) على ابنها الإمام بالزواج من «نجمة».
كانت السيدة المعصومة تستفيد كل يوم من والدها وأخيها المعصومين (عليهما السلام) وامها التقية العالمة بحيث وصلت إلى مقام رفيع من العلم والفضيلة وصارت عارفة بالكثير من العلوم والمسائل الإسلامية في أيام صباها.
في أحد تلك الأيام أتى جمع من الشيعة إلى المدينة لكي يعرضوا بعض أسئلتهم الدينية على الإمام الكاظم (عليه السلام) ويأخذوا العلم من معدنه، ولكن كان الإمام الكاظم وكذلك الإمام الرضا (عليه السلام) مسافرين، ولم يكونا حاضرين في المدينة. فاغتم الجمع، لأنهم لم يجدوا حجة الله ومن يقدر على جواب مسائلهم، واضطروا للتفكير بالرجوع إلى بلدهم. وعندما رأت السيدة المعصومة (عليها السلام) حزن هؤلاء النفر أخذت منهم أسئلتهم التي كانت مكتوبة، وأجابت عليها، وعندئذ تبدل حزن الجماعة بفرح شديد ورجعوا ـ مع ظفرهم بجواب مسائلهم ـ إلى ديارهم راجحين مفلحين. ولكنهم في الطريق وفي خارج المدينة التقوا بالإمام الكاظم (عليه السلام) وحدثوه بما جرى عليهم. وبعد ما رأى الإمام جواب ابنته على تلك المسائل أثنى على بنته بعبارة مختصرة قائلا: «فداها أبوها».
2ـ بداية المحنة وشهادة الإمام الكاظم (عليه السلام)..
كان حكام ذلك الزمان يؤذون أبناء النبي (صلى الله عليه وآله) كثيرا. وخاصة الإمام الكاظم (عليه السلام)، فإنه (عليه السلام) لاقى من الخلفاء الجور والآلام والأقاصي كثيرة. وهذه الآلام والمحن كانت تؤلم القلب الطاهر للسيدة المعصومة (عليها السلام)، وكان المسلي الوحيد لها وللعائلة هو أخوها المفدى الإمام الرضا (عليه السلام).
صادفت أيام حياة الإمام الكاظم (عليه السلام) عهد خمسة من حكام العباسيين الظلمة، وهم: أبو العباس السفاح والمنصور الدوانيقي والهادي والمهدي وهارون. وكل واحد من هؤلاء الطواغيت أذاق الإمام (عليه السلام) وسائر العلويين المتقين أنواع العذاب والتنكيل.
عندما ولدت السيدة المعصومة (عليها السلام) كانت قد مضت ثلاث سنوات من خلافة هارون العباسي الذي كان له قصب السبق في ميدان الظلم والبطش ونهب أموال المسلمين. وكان تابعا للهوى معجبا بالدنيا.
ولم يتيسر للإمام الكاظم (عليه السلام) السكوت على ظلم هارون وخيانته للإسلام والأمة الإسلامية لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه وإلا فعليه لعنة الله»، وأخذ الإمام (عليه السلام) بأن ينهى عن المنكر، وقام في وجه سياسة هارون الماحقة للدين.
و هارون ـ لعلمه بتشدد آل علي (عليه السلام) وخاصة الإمام الكاظم (عليه السلام) في مقاومة الطواغيت والإستنكار عليهم ـ استنفد كل الوسائل لإخماد صوتهم وأنفق الكثير من أموال المسلمين على الشعراء لكي ينتقصوا منهم. وكان يسجن العلويين أو يبعدهم ويقتل بعضا منهم بعد التعذيب الكثير في السجن.
وبعد ما استحكمت حكومته الظالمة على البلاد الإسلامية أمر بإعتقال الإمام الكاظم (عليه السلام) وسجنه. ومن هنا حرمت السيدة المعصومة (عليها السلام) من والدها والإستفادة من معينه الصافي وذلك في أواخر حياته الشريفة، وشعرت بالحزن الشديد على فقده.
وكان عمر السيدة المعصومة حينذاك أقل من عشر سنوات، وكانت تحترق لفراق أبيها وتطيل البكاء عليه.
وكذلك كان يصعب على الإمام الكاظم (عليه السلام) فراق أولاده البررة كالإمام الرضا (عليه السلام) والسيدة المعصومة، فصبر جميل.
كان الإمام الكاظم (عليه السلام) قد بدل ظلمة السجن نورا بذكر الله، وبدل تلك الأيام الصعبة بالسبحات الطويلة إلى أجمل الأيام. ولكن قلبه كان يخفق في السجن عندما يتذكر ابنته المعصومة ويشتاق إلى لقائها.
في السنتين الأخيرتين من حياة الإمام الكاظم (عليه السلام) كان ينقل من سجن إلى سجن. بقي (عليه السلام) في سجن عيسى بن جعفر والي البصرة سنة، وقد أثرت صفاته الحميدة في حارس السجن بحيث اعتزل الحارس من حراسة السجن. بعد ذلك حمل الإمام (عليه السلام) بأمر هارون إلى بغداد وسجن عند فضل بن الربيع ثم عند الفضل بن عيسى. وأخيرا نقل إلى سجن السندي بن شاهك.
وسبب التنقل بين هذه السجون هو أن هارون كان يأمر صاحب السجن بقتل الإمام (عليه السلام)، لكن لم يقدم بل ولم يقدر أحد من هؤلاء على هذا العمل الشنيع وأبى كل منهم عنه. إلى أن سمه السندي بن شاهك بأمر من هارون.
كان هارون يعرف أن الناس إذا علموا بقتل الإمام (عليه السلام) على يديه ستكون له عواقب خطيرة. فبدا له مكر بأن يأتي بجماعة من الشيعة قبل استشهاد الإمام (عليه السلام)، لكي يشهدوا أن الإمام (عليه السلام) مريض ويجوز أن يتوفى بمرضه ولا يكون موته مستندا بقتله من أحد.
لكن يقظة الإمام ومعرفته بعواقب الأمور قد فضحت هارون، فإنه (عليه السلام) مع شدة تأثير السم في بدنه الشريف قال لمن حوله: «لقد سمني هذا الرجل بتسع تمرات وسيخضر بدني غدا وسأقضي بعد غد».
وأخيرا بعد يومين من كلام الإمام (عليه السلام) في الخامس والعشرين من شهر رجب سنة 183 ه.ق. قضى الإمام الكاظم (عليه السلام) نحبه مسموماً مستشهداً، ولحق إمام آخر من أئمة الشيعة بآبائه الطاهرين.
عندما سمعت الشيعة خبر استشهاد إمامهم الكاظم (عليه السلام) لبسوا ثوب الحزن وبعيون عبرى نصبوا مآتم العزاء، فإنهم فقدوا قائدهم الذي عشقوه بكل وجودهم ولا شيء يمكن أن يسكن أفئدتهم الحزينة. ومن بينهم من لا يسكن عبرته وهو السيدة المعصومة وكانت في حداثة سنها وقد أوجعها خبر استشهاد أبيها (عليه السلام). حيث انتظرت سنين لعل أباها العزيز يرجع يوما ويعتنقها، ولكنها الآن لا بد أن تتصبر على مصيبة فقدانه وتتجرع الحزن والآلام.
3ـ سفر الرضا (عليه السلام) إلى مرو..
بعد استشهاد الإمام الكاظم (عليه السلام) انتقلت الإمامة إلى ابنه على بن موسى الرضا (عليه السلام) الذي كان في الخامسة والثلاثين من عمره الشريف. وكان (عليه السلام) بالإضافة إلى إمامته الإلهية وهداية الأمة الإسلامية الوصي الوحيد لأبيه الكاظم (عليه السلام) الذي يتولى مسئولية أبناء الإمام الكاظم (عليه السلام) إخوانه وأخواته.
وبالرغم من استمرار ضغط حكومة هارون كان الإمام الرضا (عليه السلام) مشغولا بمهمته الإلهية من دون أي خوف ورهبة، ولم يتوان لحظة عن نشر الحق والهدى. مع كل ذلك لم تكن الظروف تسمح لهارون بالتعرض للإمام (عليه السلام) أو إظهار العداوة له.
ثم في سنة 193 ه.ق. مرض هارون ومات بمرضه، وتخلص المسلمون من شر واحد من السفاكين. وبعد هارون ارتقى «الأمين» منصة الخلافة ولم تدم خلافته أكثر من أربع سنوات، حيث وقعت أحداث دامية بين «الأمين» وأخيه «المأمون» على منصب الخلافة، وأخيرا في سنة 198 ه.ق. قتل الأمين بيد أخيه وتسنم المأمون منصب الخلافة.
اغتنم الإمام الرضا (عليه السلام) فرصة اشتغال الحكام بالحروب واستطاع من دون أي مزاحم تربية أتباعه وتعليمهم.
في هذه المدة لم يتفرغ العباسيون من جهة النـزاع في الحكومة لإيذاء الإمام (عليه السلام) وشيعته. وبعد ما استقام أمر الحكومة للمأمون قام بتقوية أركان حكمه بالحيلة والإغراء. ومن مكره وخدعته لعامة الناس جمع العلماء حوله وأسس مجالس علمية وحاول أن يظهر نفسه بأنه حاكم خبير ومحب للعلم وأهله. ومن جهة أخرى ولأجل جلب حماية الشيعة كان يظهر حبه لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) ويلعن معاوية.
ونظرا لإتساع رقعة البلاد الإسلامية ووجود المخالفين في أطرافها كان المأمون ـ لحفظ إمارته ـ مضطرا ومحتاجا إلى جلب حماية الشيعة وإلا فلو انضم الشيعة إلى صفوف المعارضين فإن الأمر سيصعب عليه، ولهذا ولكي يخدع العلويين والشيعة عزم على انتخاب الإمام الرضا (عليه السلام) لولاية عهده.
ولو قبل الإمام (عليه السلام) ولاية العهد فلا شك أن الشيعة سيكفوا عن مخالفة الدولة التي إمامهم ولي عهد فيها. ومن هنا تبادلت رسائل كثيرة بين المأمون والإمام الرضا (عليه السلام)، والإمام كان يرفض ولاية العهد ويمتنع عن قبولها. لكن الخليفة يصر عليها.
الرسائل المتوالية لم تثمر شيئا، والإمام (عليه السلام) من خلال موقفه الواعي أحبط مؤامرة الخليفة الشيطانية وذهبت محاولاته إدراج الرياح، وصرح (عليه السلام) في رسائله برفض طلب المأمون.
لكن المأمون لم يكف ولتحقيق هدفه أرسل «رجاء بن أبىالضحاك» إلى المدينة وذلك سنة 200 ه.ق. لكي يشخص بالإمام (عليه السلام) من المدينة إلى «مرو» التي كانت مركز حكومته، والمأمون كان يأمل أنه يستطيع أن يحصل على موافقة الإمام (عليه السلام) لقبول ولاية العهد. وبعد إجبار الإمام وإكراهه على الخروج من المدينة، قام إلى زيارة قبر جده (صلى الله عليه وآله) والأئمة الأربعة في البقيع (عليهم السلام)، ثم ودع أولاده وإخوانه وأخواته ومنهن أخته الكريمة السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، وغادر متجها إلى مرو.
وبلوعة وحزن شديد ودع الإمام (عليه السلام) من قبل عائلته وأقربائه، ورجعوا إلى بيوتهم مهمومين مغمومين، لأنهم فقدوا أعز ملجأ لهم.
ومع مغادرة الإمام الرضا (عليه السلام) انتهت اللحظات السعيدة في حياة السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، فإنها بعد استشهاد أبيها الإمام الكاظم (عليه السلام) وجدت الرحمة والحنان في كنف أخيها الرضا (عليه السلام) والآن وقد سافر مضطرا، وبعد هذا الأخ الشفيق مستصعب جدا على جميع عائلة الإمام الكاظم (عليه السلام) وخاصة السيدة المعصومة.
وكان المأمون قد خطط أن لا يكون مسير الإمام من المدن التي يسكنها الشيعة خصوصا الكوفة وقم. لأنه كان يخشى أن يؤدى حضور الإمام (عليه السلام) إلى ثورة الناس واستنهاضهم وتمردهم على عمال المأمون، بحيث يفلت زمام الأمور من السلطة.
التاريخ المشرق للكوفة وقم يشهد بحب وولاء أهلهما لآل بيت الرسول (عليهم السلام)، وهذا معلوم للخليفة كالشمس في رابعة النهار، لذلك كان يمانع من مرور الإمام الرضا (عليه السلام) بتلك المدن الشيعية.
وبالرغم من تدبير المأمون فإن المسلمين في بقية المدن الواقعة في مسير حركة الإمام (عليه السلام) استقبلوا ابن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بحفاوة لا مثيل لها، وحال دخول مدنهم كانوا ينهلون من غزارة علمه (عليه السلام). وفي بعض المدن الإيرانية استقبل الناس ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما لا مثيل ولا نظير له في التاريخ، فكان يأتي جميع أهل المدينة ويحيطون براحلة الإمام وأخذوا يستفيدون من وجوده الشريف.
نيسابور أحد تلك المدن، فإن أهلها عندما استشعروا بوصول الإمام (عليه السلام) إلى قرب ديارهم خرجوا من البيوت وأحاطوا بقافلته، واجتمعوا حول محمله كي يتعلموا العلم من معدنه، وقالوا: «يابن رسول الله نريد أن نأخذ من علمك ونسمع كلامك» فاستجاب (عليه السلام) طلبهم وذكر لهم حديث سلسلة الذهب وهو ما رواه عن أبيه عن آبائه عليهم السلام عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «إن الله سبحانه وتعالى يقول: كلمة لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي». وبعد أن تقدم مركب الإمام خطوات أخرج الإمام (عليه السلام) رأسه الشريف من المحمل وقال: «بشروطها، وأنا من شروطها». يقصد الإمام (عليه السلام) أن قول لا إله إلا الله خاصة لا يكفي لدخول الجنة، بل القائل لا بد وأن يعتقد بإمامة الأئمة الحق ومنهم الإمام الرضا (عليه السلام). أو يريد الإمام (عليه السلام) أنه لا يمكن لأحد أن يصل إلى حقيقة التوحيد إلا من طريق أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا هو الطريق الوحيد لمعرفة الله جل جلاله.
وبعد ذلك السفر الطويل وصل الإمام (عليه السلام) إلى مرو. وعند الوصول استقبل المأمون للإمام الرضا وأصر عليه بقبول ولاية العهد. لكن الإمام (عليه السلام) كان مقيما على رأيه مظهرا عدم قبوله لها. فاستمر النـزاع بين الإمام والخليفة حول مسألة ولاية العهد لمدة شهرين، وفي النهاية اجبر الإمام بسبب تهديدات المأمون على القبول، وفي السابع من شهر رمضان المبارك سنة 201 ه.ق. مع حزن عميق وقلب كئيب قبل ولاية العهد، لكنه شرط أن لا يتدخل في أي قرار من قرارات السلطة. والمأمون قبل منه الشرط.
4 ـ حركة السيدة المعصومة (عليها السلام) من المدينة إلى مرو..
مضت سنة على سفر الإمام الرضا (عليه السلام) إلى مرو، وأهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله) في المدينة حرموا من عزيزهم الذي كانوا يستشعرون الرحمة واليمن بجواره، ولم يكن يسكن رويهم شيء سوى رؤيتهم للإمام المعصوم (عليه السلام).
السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) كبقية إخوتها وأخواتها قل صبرها وكانت كل يوم تجزع لفراق أخيها الرضا (عليه السلام).
في هذه الأيام كتب الإمام (عليه السلام) رسالة مخاطبا أخته السيدة المعصومة (عليها السلام)، وأرسل الرسالة بيد أحد خدامه إلى المدينة المنورة، وأمره أن لا يتوقف وسط الطريق كي يوصل الكتاب إلى المدينة المنورة بأقصر زمان ممكن، وكذلك فإنه (عليه السلام) دل الرسول على منـزل أبيه حيث تسكن أخته المعصومة لكي لا يسأل من شخص آخر عن منـزل الإمام الكاظم (عليه السلام).
وصل مبعوث الإمام إلى المدينة المنورة وامتثالا لأمر الإمام(عليه السلام) سلم الكتاب إلى السيدة المعصومة. وعلى الرغم من أننا لا نعرف شيئا من محتوى ذلك الكتاب، لكنه مهما كان فقد أشعل نار الشوق في أهله وأقربائه. ومن هنا قررت السيدة المعصومة وبعض إخوة الإمام وأبناء إخوته أن يتحركوا نحو مرو ليلتحقوا بالإمام(عليه السلام).
وبسرعة جهزت عدة السفر وتهيأ القافلة للسير وبعد أخذ الماء والمتاع خرجوا من المدينة قاصدين مرو.
كان في هذه القافلة السيدة فاطمة المعصومة ويرافقها خمسة من إخوتها، هم: فضل، جعفر، هادى، قاسم وزيد. ومعهم بعض أبناء إخوة السيدة المعصومة وعدة من العبيد والجواري.
تحركت قافلة عشاق الإمام الرضا(عليه السلام)، وبغير المنازل الضرورية للصلاة والغذاء والإستراحة لم تتوقف لحظة عن المسير، مخلفة هضاب الحجاز وصحاريه وراءها مبتعدة يوما فيوما عن مدينة الرسول(صلى الله عليه وآله).
السفر في صحاري الحجاز كان صعبا للغاية حتى أن الإبل أحياناً تستسلم للعجز وتتقاعس عن المسير، فكيف بالمسافرين الذين لا بد لهم أن يذهبوا إلى مرو. لكن نور الأمل ولقاء الإمام كان يشرق في قلوب أهل القافلة ويحثهم على إدامة السير وسط رمال وأعاصير الصحراء.
في تلك الأيام، كان خطر اللصوص وقطاع الطريق يهدد كل مسافر، ويخلق له مشاكل كثيرة. وإذا هجموا على قافلة لا يبقى لأحد أمل في إدامة السفر، وأقل ما يفعلونه نهب الأموال والمجوهرات والدواب. وإلا ففي كثير من الحالات يقتلون أعضاء القافلة لسرقة أموالهم. وهذا الخطر كان يهدد فاطمة المعصومة(عليه السلام) ومرافقيها، لكنهم توكلوا على الله تعالى واستمروا بالسير ويوما فيوما كانوا يقتربون من المقصد.
مرت الأيام والليالي وقافلة قاصدي الإمام الرضا(عليه السلام) خلفت صحراء الحجاز وراءها ولم يبق لها شيء دون الوصول إلى أرض إيران.
عناء السفر كانت تؤذي السيدة المعصومة كثيرا، ومع أن قطع هذا الطريق الوعر كان شاقا على شابة مثلها ولكنها لشدة ولهها وشوقها إلى زيارة أخيها كانت مستعدة لتحمل أضعاف هذا العناء.
كانت السيدة في طريقها دائما تتصور الوجه المشرق للإمام الرضا(عليه السلام) وتتذكر الأيام التي قضتها في المدينة، ولأنها ترى أن عينها ستقر برؤيته، فإنها كانت مسرورة جدا.
انتهت المرحلة الصعبة من هذا السفر، وأخيرا وصلت القافلة إلى أراضي إيران، ولا بد أيضا من السفر واجتيازت المدن والقرى واحدة بعد أخرى.
5 ـ القافلة في ساوة...
و أخيرا وصلت القافلة إلى مدينة ساوة. وهناك مرضت السيدة المعصومة مرضا شديدا بحيث لم تقدر على إدامة المسير. هذا السفر الطويل المتعب من المدينة المنورة إلى ساوة وإن كان أضعف بدنها، إلا أن شدة المرض أنحلت جسمها وأشحبت لونها.
هل إن أخت الإمام الرضا(عليه السلام) تستطيع في هذا الحال أن تكمل سفرها لتزور أخاها العزيز في مرو؟ وهل تستعيد عافيتها وتديم السفر لتلتقي أخاها؟ هذه أسئلة كانت تشغل فكرة السيدة المعصومة وتزيد من قلقها.
وعلى أية حال، قررت السيدة بعد ذلك الذهاب إلى «قم»، وسألت من معها: «كم بيني وبين قم؟» أجابوها: عشرة فراسخ. وعند ذلك أمرتهم بالتوجه إلى قم.
كانت قم في خلال الوقت ملجأ الشيعة، مع أن مذهب التشيع لم يكن شايعا في إيران، لكن بسبب هجرة الأشعريين العرب من الكوفة إلى قم فهذه المدينة كانت مدينة شيعية وجميع ساكنيها من محبي أهل بيت الرسول(عليهم السلام).
الأشعريون ـ وبسبب ظلم عمال بني أمية الذين تجاوزوا الحد في عداوتهم لأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) ولشيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ قد هاجروا من الكوفة وسكنوا هنا وبنوا مدينة قم وأسسوها. ولما بلغ خبر وصول السيدة المعصومة إلى ساوة ومرضها هناك، إلى أهل قم، أجمع كل أهل المدينة أن يذهبوا إلى السيدة ويطلبوا منها الإقامة في قم. ولكن ذهب «موسى بن خزرج» ممثلاً من أهل قم إلى بنت الإمام الكاظم(عليه السلام) وأخبرها برغبة القميين وفرط اشتياقهم بزيارتها، وأجابت السيدة المعصومة طلبهم وأمرت بالحركة نحو قم.
أخذ موسى بن خزرج زمام ناقة السيدة المعصومة(عليها السلام) مفتخراً، وقادها إلى المدينة التي كانت تنتظر قدوم أخت الإمام الرضا(عليه السلام) حتى وصلت القافلة إلى بداية مدينة قم. (1)
6 ـ وفاة السيدة المعصومة(عليها السلام)..
في 23 ربيع الأول سنة 201 ه.ق. وصلت قافلة السيدة المعصومة إلى مدينة قم، واستقبلها الناس بحفاوة بالغة، وكانوا مسرورين لدخول السيدة ديارهم.
وكان موسى بن خزرج ذا يسر وبيت وسيع، وأنزل السيدة في داره وتكفل لضيافة السيدة المعصومة(عليها السلام) ومرافقيها. واستشعر موسى بن خزرج فرط السعادة بخدمته لضيوف الرضا(عليه السلام) القادمين من مدينة الرسول(صلى الله عليه وآله). وهيأ لهم كل ما يحتاجونه بسرعة.
ثم اتخذت السيدة فاطمة المعصومة معبداً لها في منـزل موسى بن خزرج لكي تبتهل إلى الله وتعبده وتناجيه وتشكو إليه آلامها وتستعينه على ما ألم بها. وهذا المعبد باق إلى الآن ويسمى بـ«بيت النور».
أقلق مرض بنت الإمام الكاظم مرافقيها وأهالي قم كثيرا، مع أنهم لم يبخلوا عليها بشيء من العلاج، إلا أن حالها يزداد سوءا يوما بعد يوم. لأن المرض قد تجذر في بدنها الشريف.
وفي العاشر من ربيع الثاني 201 ه.ق. توفيت السيدة المعصومة(عليها السلام) دون أن ترى أخاها. ودمعة عينها وغم فؤادها لم تسكن ولم تنقض لفراقه.
أفجع أهل قم بتلك المصيبة وفي غاية الحزن لوفاتها أقاموا العزاء عليها.
7 ـ مراسم الدفن...
تكفلت نساء الشيعة ومحبات أهل البيت (عليهم السلام) باحترام كبير غسل الجسد المطهر للسيدة المعصومة وكفنوها. وعندما حان وقت الدفن رأى زعماء الأشعريين ووجوههم أن يدفن الجسد الطاهر في مكان مناسب غير المقبرة العامة. وإنما عزموا هذا الأمر لما يهمهم من شدة الإحترام لبنت الإمام الكاظم (عليه السلام) ولم يرغبوا أن تدفن بجنب الآخرين.
موسى بن خزرج الذي كان صاحب قصب السبق في هذا الأمر خصص بستاناً كبيراً له في منطقة يقال لها: «بابلان» عند نهر قم (مساحة الحرام الحالية) لدفن الجسد الطاهر. والآن كل شيء جاهز، ولكن من الشخص الذي يباشر ويتولى دفن السيدة المعصومة (عليها السلام)؟ تبادل الحاضرون الرأي، وأخيرا اتفقوا أن يوكلوا هذا العمل إلى شيخ كبير صالح اسمه «قادر»، وأرسلوا شخصا لإحضار «قادر»، ولكنه لم يجده. وإذا براكبين متوجهين من جهة النهر واقتربا إلى محل الدفن. وعندما وصلا إلى الجسد الشريف للسيدة نزلا من المركب وصلاها على الجنازة، ثم توليا دفن الجسد الطاهر. ومع تعجب الحاضرين ركبا راحلتهما وابتعدا بسرعة.
انتهت مراسم الدفن بكل احترام بين حزن الشيعة وبكائهم، وأصبحت مدينة قم التي سميت بحق «عش آل محمد (عليهم السلام)» مزار بضعة الإمام الكاظم (عليه السلام).
ثم إن موسى بن خزرج أوقف بستانه ـ احتراماً لمزار السيدة ـ للمسلمين، كي يدفن شيعة علي (عليه السلام) موتاهم حول المرقد الشريف.
8 ـ المزار الشريف السيدة المعصومة(عليها السلام)..
بنى أهل قم كوخاً من الحصر على مرقد السيدة المعصومة(عليها السلام)، وبعد مضي خمسين سنة وباهتمام من السيدة زينب بنت الإمام الجواد (عليه السلام) بنيت أول قبة على قبر السيدة المعصومة.
ثم جدد بناء الحرم المطهر من قبل محبي وشيعة أهل البيت (عليهم السلام) وتوسع حتى أصبح بالشكل الذي هو عليه الآن.
وبعد سنوات من وفاة السيدة المعصومة دفنت عدة من بنات الأئمة بجوار المزار الشريف ما يوجب مزيد أهمية هذه التربة المباركة الطاهرة.
على طول التاريخ كان الحرم المنور للسيدة المعصومة ملاذا للشيعة وسبب خير وبركة لأهل قم.
وكم من المحتاجين يسرت حاجاتهم، وكم من المرضى نالوا الشفاء بفضل كريمة أهل البيت (عليهم السلام)، ويوم القيامة ستأخذ إن شاء الله بأيدي زوارها إلى شاطئ النجاة، «يا فاطمة اشفعي لنا في الجنة...».
وروي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «إنها تدخل كل شيعتنا الجنة بشفاعتها».
وفي هذه القرون الأخيرة تربى الكثير من العلماء المجاهدون من جوار هذه التربة المباركة ومتوسلا بها. هؤلاء الفقهاء الذين كانوا منشأ خير وبركة في العالم الإسلامي ومنهم العالم المجاهد الإمام السيد روح الله الموسوي الخميني يرون جميعا توفيقهم رهنا لزيارة السيدة المعصومة (عليه السلام)، ويفتتحون عظائم أمورهم في جوار الحرم المبارك، هذا الإمام الخميني بدأ ثورته المباركة من جوار الحرم.
وفي هذه الأيام يزهر الحرم المقدس للسيدة المعصومة كأنه جوهرة وسط مدينة قم.
وكل يوم تأتي القوافل من مختلف نقاط إيران والعالم لزيارة هذا الحرم الشريف، إظهارا للمحبة الخالصة لنبي الإسلام ولأهل بيته(عليهم السلام).
والسلام عليها يوم ولدت ويوم ماتت ويوم تبعث حيا.
ــــــــــــــــــــــ
1) لا بأس بأن نتبرك بذكر بعض الروايات الواردة في فضل قم وأهله:
ألف: عن أبى الحسن الأول (عليه السلام) قال: «قم عش آل محمد ومأوى شيعتهم...». «بحار الأنوار»، ج 57، ص.214
ب: عن الصادق(عليه السلام): «إذا أصابتكم بلية وعناء فعليكم بقم، فإنه مأوى الفاطميين ومستراح المؤمنين...». «بحار الأنوار»، ج 57، ص.215
ج: عن الصادق(عليه السلام) قال: «ستخلو كوفة من المؤمنين ويأزر عنها العلم كما تأزر الحية في جحرها، ثم يظهر العلم ببلدة يقال لها قم. وتصير معدنا للعلم والفضل حتى لا يبقى في الأرض مستضعف في الدين حتى المخدرات في الجبال. وذلك عند قرب ظهور قائمنا، فيجعل الله قم وأهله قائمين مقام الحجة، ولولا ذلك لساخت الأرض بأهلها ولم يبق في الأرض حجة، فيفيض العلم منه إلى سائر البلاد في المشرق والمغرب، فيتم حجة الله على الخلق حتى لا يبقى أحد على الأرض لم يبلغ إليه الدين والعلم». «بحار الأنوار»، ج 57، ص.213
كانت السيدة المعصومة تستفيد كل يوم من والدها وأخيها المعصومين (عليهما السلام) وامها التقية العالمة بحيث وصلت إلى مقام رفيع من العلم والفضيلة وصارت عارفة بالكثير من العلوم والمسائل الإسلامية في أيام صباها.
في أحد تلك الأيام أتى جمع من الشيعة إلى المدينة لكي يعرضوا بعض أسئلتهم الدينية على الإمام الكاظم (عليه السلام) ويأخذوا العلم من معدنه، ولكن كان الإمام الكاظم وكذلك الإمام الرضا (عليه السلام) مسافرين، ولم يكونا حاضرين في المدينة. فاغتم الجمع، لأنهم لم يجدوا حجة الله ومن يقدر على جواب مسائلهم، واضطروا للتفكير بالرجوع إلى بلدهم. وعندما رأت السيدة المعصومة (عليها السلام) حزن هؤلاء النفر أخذت منهم أسئلتهم التي كانت مكتوبة، وأجابت عليها، وعندئذ تبدل حزن الجماعة بفرح شديد ورجعوا ـ مع ظفرهم بجواب مسائلهم ـ إلى ديارهم راجحين مفلحين. ولكنهم في الطريق وفي خارج المدينة التقوا بالإمام الكاظم (عليه السلام) وحدثوه بما جرى عليهم. وبعد ما رأى الإمام جواب ابنته على تلك المسائل أثنى على بنته بعبارة مختصرة قائلا: «فداها أبوها».
2ـ بداية المحنة وشهادة الإمام الكاظم (عليه السلام)..
كان حكام ذلك الزمان يؤذون أبناء النبي (صلى الله عليه وآله) كثيرا. وخاصة الإمام الكاظم (عليه السلام)، فإنه (عليه السلام) لاقى من الخلفاء الجور والآلام والأقاصي كثيرة. وهذه الآلام والمحن كانت تؤلم القلب الطاهر للسيدة المعصومة (عليها السلام)، وكان المسلي الوحيد لها وللعائلة هو أخوها المفدى الإمام الرضا (عليه السلام).
صادفت أيام حياة الإمام الكاظم (عليه السلام) عهد خمسة من حكام العباسيين الظلمة، وهم: أبو العباس السفاح والمنصور الدوانيقي والهادي والمهدي وهارون. وكل واحد من هؤلاء الطواغيت أذاق الإمام (عليه السلام) وسائر العلويين المتقين أنواع العذاب والتنكيل.
عندما ولدت السيدة المعصومة (عليها السلام) كانت قد مضت ثلاث سنوات من خلافة هارون العباسي الذي كان له قصب السبق في ميدان الظلم والبطش ونهب أموال المسلمين. وكان تابعا للهوى معجبا بالدنيا.
ولم يتيسر للإمام الكاظم (عليه السلام) السكوت على ظلم هارون وخيانته للإسلام والأمة الإسلامية لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه وإلا فعليه لعنة الله»، وأخذ الإمام (عليه السلام) بأن ينهى عن المنكر، وقام في وجه سياسة هارون الماحقة للدين.
و هارون ـ لعلمه بتشدد آل علي (عليه السلام) وخاصة الإمام الكاظم (عليه السلام) في مقاومة الطواغيت والإستنكار عليهم ـ استنفد كل الوسائل لإخماد صوتهم وأنفق الكثير من أموال المسلمين على الشعراء لكي ينتقصوا منهم. وكان يسجن العلويين أو يبعدهم ويقتل بعضا منهم بعد التعذيب الكثير في السجن.
وبعد ما استحكمت حكومته الظالمة على البلاد الإسلامية أمر بإعتقال الإمام الكاظم (عليه السلام) وسجنه. ومن هنا حرمت السيدة المعصومة (عليها السلام) من والدها والإستفادة من معينه الصافي وذلك في أواخر حياته الشريفة، وشعرت بالحزن الشديد على فقده.
وكان عمر السيدة المعصومة حينذاك أقل من عشر سنوات، وكانت تحترق لفراق أبيها وتطيل البكاء عليه.
وكذلك كان يصعب على الإمام الكاظم (عليه السلام) فراق أولاده البررة كالإمام الرضا (عليه السلام) والسيدة المعصومة، فصبر جميل.
كان الإمام الكاظم (عليه السلام) قد بدل ظلمة السجن نورا بذكر الله، وبدل تلك الأيام الصعبة بالسبحات الطويلة إلى أجمل الأيام. ولكن قلبه كان يخفق في السجن عندما يتذكر ابنته المعصومة ويشتاق إلى لقائها.
في السنتين الأخيرتين من حياة الإمام الكاظم (عليه السلام) كان ينقل من سجن إلى سجن. بقي (عليه السلام) في سجن عيسى بن جعفر والي البصرة سنة، وقد أثرت صفاته الحميدة في حارس السجن بحيث اعتزل الحارس من حراسة السجن. بعد ذلك حمل الإمام (عليه السلام) بأمر هارون إلى بغداد وسجن عند فضل بن الربيع ثم عند الفضل بن عيسى. وأخيرا نقل إلى سجن السندي بن شاهك.
وسبب التنقل بين هذه السجون هو أن هارون كان يأمر صاحب السجن بقتل الإمام (عليه السلام)، لكن لم يقدم بل ولم يقدر أحد من هؤلاء على هذا العمل الشنيع وأبى كل منهم عنه. إلى أن سمه السندي بن شاهك بأمر من هارون.
كان هارون يعرف أن الناس إذا علموا بقتل الإمام (عليه السلام) على يديه ستكون له عواقب خطيرة. فبدا له مكر بأن يأتي بجماعة من الشيعة قبل استشهاد الإمام (عليه السلام)، لكي يشهدوا أن الإمام (عليه السلام) مريض ويجوز أن يتوفى بمرضه ولا يكون موته مستندا بقتله من أحد.
لكن يقظة الإمام ومعرفته بعواقب الأمور قد فضحت هارون، فإنه (عليه السلام) مع شدة تأثير السم في بدنه الشريف قال لمن حوله: «لقد سمني هذا الرجل بتسع تمرات وسيخضر بدني غدا وسأقضي بعد غد».
وأخيرا بعد يومين من كلام الإمام (عليه السلام) في الخامس والعشرين من شهر رجب سنة 183 ه.ق. قضى الإمام الكاظم (عليه السلام) نحبه مسموماً مستشهداً، ولحق إمام آخر من أئمة الشيعة بآبائه الطاهرين.
عندما سمعت الشيعة خبر استشهاد إمامهم الكاظم (عليه السلام) لبسوا ثوب الحزن وبعيون عبرى نصبوا مآتم العزاء، فإنهم فقدوا قائدهم الذي عشقوه بكل وجودهم ولا شيء يمكن أن يسكن أفئدتهم الحزينة. ومن بينهم من لا يسكن عبرته وهو السيدة المعصومة وكانت في حداثة سنها وقد أوجعها خبر استشهاد أبيها (عليه السلام). حيث انتظرت سنين لعل أباها العزيز يرجع يوما ويعتنقها، ولكنها الآن لا بد أن تتصبر على مصيبة فقدانه وتتجرع الحزن والآلام.
3ـ سفر الرضا (عليه السلام) إلى مرو..
بعد استشهاد الإمام الكاظم (عليه السلام) انتقلت الإمامة إلى ابنه على بن موسى الرضا (عليه السلام) الذي كان في الخامسة والثلاثين من عمره الشريف. وكان (عليه السلام) بالإضافة إلى إمامته الإلهية وهداية الأمة الإسلامية الوصي الوحيد لأبيه الكاظم (عليه السلام) الذي يتولى مسئولية أبناء الإمام الكاظم (عليه السلام) إخوانه وأخواته.
وبالرغم من استمرار ضغط حكومة هارون كان الإمام الرضا (عليه السلام) مشغولا بمهمته الإلهية من دون أي خوف ورهبة، ولم يتوان لحظة عن نشر الحق والهدى. مع كل ذلك لم تكن الظروف تسمح لهارون بالتعرض للإمام (عليه السلام) أو إظهار العداوة له.
ثم في سنة 193 ه.ق. مرض هارون ومات بمرضه، وتخلص المسلمون من شر واحد من السفاكين. وبعد هارون ارتقى «الأمين» منصة الخلافة ولم تدم خلافته أكثر من أربع سنوات، حيث وقعت أحداث دامية بين «الأمين» وأخيه «المأمون» على منصب الخلافة، وأخيرا في سنة 198 ه.ق. قتل الأمين بيد أخيه وتسنم المأمون منصب الخلافة.
اغتنم الإمام الرضا (عليه السلام) فرصة اشتغال الحكام بالحروب واستطاع من دون أي مزاحم تربية أتباعه وتعليمهم.
في هذه المدة لم يتفرغ العباسيون من جهة النـزاع في الحكومة لإيذاء الإمام (عليه السلام) وشيعته. وبعد ما استقام أمر الحكومة للمأمون قام بتقوية أركان حكمه بالحيلة والإغراء. ومن مكره وخدعته لعامة الناس جمع العلماء حوله وأسس مجالس علمية وحاول أن يظهر نفسه بأنه حاكم خبير ومحب للعلم وأهله. ومن جهة أخرى ولأجل جلب حماية الشيعة كان يظهر حبه لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) ويلعن معاوية.
ونظرا لإتساع رقعة البلاد الإسلامية ووجود المخالفين في أطرافها كان المأمون ـ لحفظ إمارته ـ مضطرا ومحتاجا إلى جلب حماية الشيعة وإلا فلو انضم الشيعة إلى صفوف المعارضين فإن الأمر سيصعب عليه، ولهذا ولكي يخدع العلويين والشيعة عزم على انتخاب الإمام الرضا (عليه السلام) لولاية عهده.
ولو قبل الإمام (عليه السلام) ولاية العهد فلا شك أن الشيعة سيكفوا عن مخالفة الدولة التي إمامهم ولي عهد فيها. ومن هنا تبادلت رسائل كثيرة بين المأمون والإمام الرضا (عليه السلام)، والإمام كان يرفض ولاية العهد ويمتنع عن قبولها. لكن الخليفة يصر عليها.
الرسائل المتوالية لم تثمر شيئا، والإمام (عليه السلام) من خلال موقفه الواعي أحبط مؤامرة الخليفة الشيطانية وذهبت محاولاته إدراج الرياح، وصرح (عليه السلام) في رسائله برفض طلب المأمون.
لكن المأمون لم يكف ولتحقيق هدفه أرسل «رجاء بن أبىالضحاك» إلى المدينة وذلك سنة 200 ه.ق. لكي يشخص بالإمام (عليه السلام) من المدينة إلى «مرو» التي كانت مركز حكومته، والمأمون كان يأمل أنه يستطيع أن يحصل على موافقة الإمام (عليه السلام) لقبول ولاية العهد. وبعد إجبار الإمام وإكراهه على الخروج من المدينة، قام إلى زيارة قبر جده (صلى الله عليه وآله) والأئمة الأربعة في البقيع (عليهم السلام)، ثم ودع أولاده وإخوانه وأخواته ومنهن أخته الكريمة السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، وغادر متجها إلى مرو.
وبلوعة وحزن شديد ودع الإمام (عليه السلام) من قبل عائلته وأقربائه، ورجعوا إلى بيوتهم مهمومين مغمومين، لأنهم فقدوا أعز ملجأ لهم.
ومع مغادرة الإمام الرضا (عليه السلام) انتهت اللحظات السعيدة في حياة السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، فإنها بعد استشهاد أبيها الإمام الكاظم (عليه السلام) وجدت الرحمة والحنان في كنف أخيها الرضا (عليه السلام) والآن وقد سافر مضطرا، وبعد هذا الأخ الشفيق مستصعب جدا على جميع عائلة الإمام الكاظم (عليه السلام) وخاصة السيدة المعصومة.
وكان المأمون قد خطط أن لا يكون مسير الإمام من المدن التي يسكنها الشيعة خصوصا الكوفة وقم. لأنه كان يخشى أن يؤدى حضور الإمام (عليه السلام) إلى ثورة الناس واستنهاضهم وتمردهم على عمال المأمون، بحيث يفلت زمام الأمور من السلطة.
التاريخ المشرق للكوفة وقم يشهد بحب وولاء أهلهما لآل بيت الرسول (عليهم السلام)، وهذا معلوم للخليفة كالشمس في رابعة النهار، لذلك كان يمانع من مرور الإمام الرضا (عليه السلام) بتلك المدن الشيعية.
وبالرغم من تدبير المأمون فإن المسلمين في بقية المدن الواقعة في مسير حركة الإمام (عليه السلام) استقبلوا ابن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بحفاوة لا مثيل لها، وحال دخول مدنهم كانوا ينهلون من غزارة علمه (عليه السلام). وفي بعض المدن الإيرانية استقبل الناس ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما لا مثيل ولا نظير له في التاريخ، فكان يأتي جميع أهل المدينة ويحيطون براحلة الإمام وأخذوا يستفيدون من وجوده الشريف.
نيسابور أحد تلك المدن، فإن أهلها عندما استشعروا بوصول الإمام (عليه السلام) إلى قرب ديارهم خرجوا من البيوت وأحاطوا بقافلته، واجتمعوا حول محمله كي يتعلموا العلم من معدنه، وقالوا: «يابن رسول الله نريد أن نأخذ من علمك ونسمع كلامك» فاستجاب (عليه السلام) طلبهم وذكر لهم حديث سلسلة الذهب وهو ما رواه عن أبيه عن آبائه عليهم السلام عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «إن الله سبحانه وتعالى يقول: كلمة لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي». وبعد أن تقدم مركب الإمام خطوات أخرج الإمام (عليه السلام) رأسه الشريف من المحمل وقال: «بشروطها، وأنا من شروطها». يقصد الإمام (عليه السلام) أن قول لا إله إلا الله خاصة لا يكفي لدخول الجنة، بل القائل لا بد وأن يعتقد بإمامة الأئمة الحق ومنهم الإمام الرضا (عليه السلام). أو يريد الإمام (عليه السلام) أنه لا يمكن لأحد أن يصل إلى حقيقة التوحيد إلا من طريق أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا هو الطريق الوحيد لمعرفة الله جل جلاله.
وبعد ذلك السفر الطويل وصل الإمام (عليه السلام) إلى مرو. وعند الوصول استقبل المأمون للإمام الرضا وأصر عليه بقبول ولاية العهد. لكن الإمام (عليه السلام) كان مقيما على رأيه مظهرا عدم قبوله لها. فاستمر النـزاع بين الإمام والخليفة حول مسألة ولاية العهد لمدة شهرين، وفي النهاية اجبر الإمام بسبب تهديدات المأمون على القبول، وفي السابع من شهر رمضان المبارك سنة 201 ه.ق. مع حزن عميق وقلب كئيب قبل ولاية العهد، لكنه شرط أن لا يتدخل في أي قرار من قرارات السلطة. والمأمون قبل منه الشرط.
4 ـ حركة السيدة المعصومة (عليها السلام) من المدينة إلى مرو..
مضت سنة على سفر الإمام الرضا (عليه السلام) إلى مرو، وأهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله) في المدينة حرموا من عزيزهم الذي كانوا يستشعرون الرحمة واليمن بجواره، ولم يكن يسكن رويهم شيء سوى رؤيتهم للإمام المعصوم (عليه السلام).
السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) كبقية إخوتها وأخواتها قل صبرها وكانت كل يوم تجزع لفراق أخيها الرضا (عليه السلام).
في هذه الأيام كتب الإمام (عليه السلام) رسالة مخاطبا أخته السيدة المعصومة (عليها السلام)، وأرسل الرسالة بيد أحد خدامه إلى المدينة المنورة، وأمره أن لا يتوقف وسط الطريق كي يوصل الكتاب إلى المدينة المنورة بأقصر زمان ممكن، وكذلك فإنه (عليه السلام) دل الرسول على منـزل أبيه حيث تسكن أخته المعصومة لكي لا يسأل من شخص آخر عن منـزل الإمام الكاظم (عليه السلام).
وصل مبعوث الإمام إلى المدينة المنورة وامتثالا لأمر الإمام(عليه السلام) سلم الكتاب إلى السيدة المعصومة. وعلى الرغم من أننا لا نعرف شيئا من محتوى ذلك الكتاب، لكنه مهما كان فقد أشعل نار الشوق في أهله وأقربائه. ومن هنا قررت السيدة المعصومة وبعض إخوة الإمام وأبناء إخوته أن يتحركوا نحو مرو ليلتحقوا بالإمام(عليه السلام).
وبسرعة جهزت عدة السفر وتهيأ القافلة للسير وبعد أخذ الماء والمتاع خرجوا من المدينة قاصدين مرو.
كان في هذه القافلة السيدة فاطمة المعصومة ويرافقها خمسة من إخوتها، هم: فضل، جعفر، هادى، قاسم وزيد. ومعهم بعض أبناء إخوة السيدة المعصومة وعدة من العبيد والجواري.
تحركت قافلة عشاق الإمام الرضا(عليه السلام)، وبغير المنازل الضرورية للصلاة والغذاء والإستراحة لم تتوقف لحظة عن المسير، مخلفة هضاب الحجاز وصحاريه وراءها مبتعدة يوما فيوما عن مدينة الرسول(صلى الله عليه وآله).
السفر في صحاري الحجاز كان صعبا للغاية حتى أن الإبل أحياناً تستسلم للعجز وتتقاعس عن المسير، فكيف بالمسافرين الذين لا بد لهم أن يذهبوا إلى مرو. لكن نور الأمل ولقاء الإمام كان يشرق في قلوب أهل القافلة ويحثهم على إدامة السير وسط رمال وأعاصير الصحراء.
في تلك الأيام، كان خطر اللصوص وقطاع الطريق يهدد كل مسافر، ويخلق له مشاكل كثيرة. وإذا هجموا على قافلة لا يبقى لأحد أمل في إدامة السفر، وأقل ما يفعلونه نهب الأموال والمجوهرات والدواب. وإلا ففي كثير من الحالات يقتلون أعضاء القافلة لسرقة أموالهم. وهذا الخطر كان يهدد فاطمة المعصومة(عليه السلام) ومرافقيها، لكنهم توكلوا على الله تعالى واستمروا بالسير ويوما فيوما كانوا يقتربون من المقصد.
مرت الأيام والليالي وقافلة قاصدي الإمام الرضا(عليه السلام) خلفت صحراء الحجاز وراءها ولم يبق لها شيء دون الوصول إلى أرض إيران.
عناء السفر كانت تؤذي السيدة المعصومة كثيرا، ومع أن قطع هذا الطريق الوعر كان شاقا على شابة مثلها ولكنها لشدة ولهها وشوقها إلى زيارة أخيها كانت مستعدة لتحمل أضعاف هذا العناء.
كانت السيدة في طريقها دائما تتصور الوجه المشرق للإمام الرضا(عليه السلام) وتتذكر الأيام التي قضتها في المدينة، ولأنها ترى أن عينها ستقر برؤيته، فإنها كانت مسرورة جدا.
انتهت المرحلة الصعبة من هذا السفر، وأخيرا وصلت القافلة إلى أراضي إيران، ولا بد أيضا من السفر واجتيازت المدن والقرى واحدة بعد أخرى.
5 ـ القافلة في ساوة...
و أخيرا وصلت القافلة إلى مدينة ساوة. وهناك مرضت السيدة المعصومة مرضا شديدا بحيث لم تقدر على إدامة المسير. هذا السفر الطويل المتعب من المدينة المنورة إلى ساوة وإن كان أضعف بدنها، إلا أن شدة المرض أنحلت جسمها وأشحبت لونها.
هل إن أخت الإمام الرضا(عليه السلام) تستطيع في هذا الحال أن تكمل سفرها لتزور أخاها العزيز في مرو؟ وهل تستعيد عافيتها وتديم السفر لتلتقي أخاها؟ هذه أسئلة كانت تشغل فكرة السيدة المعصومة وتزيد من قلقها.
وعلى أية حال، قررت السيدة بعد ذلك الذهاب إلى «قم»، وسألت من معها: «كم بيني وبين قم؟» أجابوها: عشرة فراسخ. وعند ذلك أمرتهم بالتوجه إلى قم.
كانت قم في خلال الوقت ملجأ الشيعة، مع أن مذهب التشيع لم يكن شايعا في إيران، لكن بسبب هجرة الأشعريين العرب من الكوفة إلى قم فهذه المدينة كانت مدينة شيعية وجميع ساكنيها من محبي أهل بيت الرسول(عليهم السلام).
الأشعريون ـ وبسبب ظلم عمال بني أمية الذين تجاوزوا الحد في عداوتهم لأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) ولشيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ قد هاجروا من الكوفة وسكنوا هنا وبنوا مدينة قم وأسسوها. ولما بلغ خبر وصول السيدة المعصومة إلى ساوة ومرضها هناك، إلى أهل قم، أجمع كل أهل المدينة أن يذهبوا إلى السيدة ويطلبوا منها الإقامة في قم. ولكن ذهب «موسى بن خزرج» ممثلاً من أهل قم إلى بنت الإمام الكاظم(عليه السلام) وأخبرها برغبة القميين وفرط اشتياقهم بزيارتها، وأجابت السيدة المعصومة طلبهم وأمرت بالحركة نحو قم.
أخذ موسى بن خزرج زمام ناقة السيدة المعصومة(عليها السلام) مفتخراً، وقادها إلى المدينة التي كانت تنتظر قدوم أخت الإمام الرضا(عليه السلام) حتى وصلت القافلة إلى بداية مدينة قم. (1)
6 ـ وفاة السيدة المعصومة(عليها السلام)..
في 23 ربيع الأول سنة 201 ه.ق. وصلت قافلة السيدة المعصومة إلى مدينة قم، واستقبلها الناس بحفاوة بالغة، وكانوا مسرورين لدخول السيدة ديارهم.
وكان موسى بن خزرج ذا يسر وبيت وسيع، وأنزل السيدة في داره وتكفل لضيافة السيدة المعصومة(عليها السلام) ومرافقيها. واستشعر موسى بن خزرج فرط السعادة بخدمته لضيوف الرضا(عليه السلام) القادمين من مدينة الرسول(صلى الله عليه وآله). وهيأ لهم كل ما يحتاجونه بسرعة.
ثم اتخذت السيدة فاطمة المعصومة معبداً لها في منـزل موسى بن خزرج لكي تبتهل إلى الله وتعبده وتناجيه وتشكو إليه آلامها وتستعينه على ما ألم بها. وهذا المعبد باق إلى الآن ويسمى بـ«بيت النور».
أقلق مرض بنت الإمام الكاظم مرافقيها وأهالي قم كثيرا، مع أنهم لم يبخلوا عليها بشيء من العلاج، إلا أن حالها يزداد سوءا يوما بعد يوم. لأن المرض قد تجذر في بدنها الشريف.
وفي العاشر من ربيع الثاني 201 ه.ق. توفيت السيدة المعصومة(عليها السلام) دون أن ترى أخاها. ودمعة عينها وغم فؤادها لم تسكن ولم تنقض لفراقه.
أفجع أهل قم بتلك المصيبة وفي غاية الحزن لوفاتها أقاموا العزاء عليها.
7 ـ مراسم الدفن...
تكفلت نساء الشيعة ومحبات أهل البيت (عليهم السلام) باحترام كبير غسل الجسد المطهر للسيدة المعصومة وكفنوها. وعندما حان وقت الدفن رأى زعماء الأشعريين ووجوههم أن يدفن الجسد الطاهر في مكان مناسب غير المقبرة العامة. وإنما عزموا هذا الأمر لما يهمهم من شدة الإحترام لبنت الإمام الكاظم (عليه السلام) ولم يرغبوا أن تدفن بجنب الآخرين.
موسى بن خزرج الذي كان صاحب قصب السبق في هذا الأمر خصص بستاناً كبيراً له في منطقة يقال لها: «بابلان» عند نهر قم (مساحة الحرام الحالية) لدفن الجسد الطاهر. والآن كل شيء جاهز، ولكن من الشخص الذي يباشر ويتولى دفن السيدة المعصومة (عليها السلام)؟ تبادل الحاضرون الرأي، وأخيرا اتفقوا أن يوكلوا هذا العمل إلى شيخ كبير صالح اسمه «قادر»، وأرسلوا شخصا لإحضار «قادر»، ولكنه لم يجده. وإذا براكبين متوجهين من جهة النهر واقتربا إلى محل الدفن. وعندما وصلا إلى الجسد الشريف للسيدة نزلا من المركب وصلاها على الجنازة، ثم توليا دفن الجسد الطاهر. ومع تعجب الحاضرين ركبا راحلتهما وابتعدا بسرعة.
انتهت مراسم الدفن بكل احترام بين حزن الشيعة وبكائهم، وأصبحت مدينة قم التي سميت بحق «عش آل محمد (عليهم السلام)» مزار بضعة الإمام الكاظم (عليه السلام).
ثم إن موسى بن خزرج أوقف بستانه ـ احتراماً لمزار السيدة ـ للمسلمين، كي يدفن شيعة علي (عليه السلام) موتاهم حول المرقد الشريف.
8 ـ المزار الشريف السيدة المعصومة(عليها السلام)..
بنى أهل قم كوخاً من الحصر على مرقد السيدة المعصومة(عليها السلام)، وبعد مضي خمسين سنة وباهتمام من السيدة زينب بنت الإمام الجواد (عليه السلام) بنيت أول قبة على قبر السيدة المعصومة.
ثم جدد بناء الحرم المطهر من قبل محبي وشيعة أهل البيت (عليهم السلام) وتوسع حتى أصبح بالشكل الذي هو عليه الآن.
وبعد سنوات من وفاة السيدة المعصومة دفنت عدة من بنات الأئمة بجوار المزار الشريف ما يوجب مزيد أهمية هذه التربة المباركة الطاهرة.
على طول التاريخ كان الحرم المنور للسيدة المعصومة ملاذا للشيعة وسبب خير وبركة لأهل قم.
وكم من المحتاجين يسرت حاجاتهم، وكم من المرضى نالوا الشفاء بفضل كريمة أهل البيت (عليهم السلام)، ويوم القيامة ستأخذ إن شاء الله بأيدي زوارها إلى شاطئ النجاة، «يا فاطمة اشفعي لنا في الجنة...».
وروي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «إنها تدخل كل شيعتنا الجنة بشفاعتها».
وفي هذه القرون الأخيرة تربى الكثير من العلماء المجاهدون من جوار هذه التربة المباركة ومتوسلا بها. هؤلاء الفقهاء الذين كانوا منشأ خير وبركة في العالم الإسلامي ومنهم العالم المجاهد الإمام السيد روح الله الموسوي الخميني يرون جميعا توفيقهم رهنا لزيارة السيدة المعصومة (عليه السلام)، ويفتتحون عظائم أمورهم في جوار الحرم المبارك، هذا الإمام الخميني بدأ ثورته المباركة من جوار الحرم.
وفي هذه الأيام يزهر الحرم المقدس للسيدة المعصومة كأنه جوهرة وسط مدينة قم.
وكل يوم تأتي القوافل من مختلف نقاط إيران والعالم لزيارة هذا الحرم الشريف، إظهارا للمحبة الخالصة لنبي الإسلام ولأهل بيته(عليهم السلام).
والسلام عليها يوم ولدت ويوم ماتت ويوم تبعث حيا.
ــــــــــــــــــــــ
1) لا بأس بأن نتبرك بذكر بعض الروايات الواردة في فضل قم وأهله:
ألف: عن أبى الحسن الأول (عليه السلام) قال: «قم عش آل محمد ومأوى شيعتهم...». «بحار الأنوار»، ج 57، ص.214
ب: عن الصادق(عليه السلام): «إذا أصابتكم بلية وعناء فعليكم بقم، فإنه مأوى الفاطميين ومستراح المؤمنين...». «بحار الأنوار»، ج 57، ص.215
ج: عن الصادق(عليه السلام) قال: «ستخلو كوفة من المؤمنين ويأزر عنها العلم كما تأزر الحية في جحرها، ثم يظهر العلم ببلدة يقال لها قم. وتصير معدنا للعلم والفضل حتى لا يبقى في الأرض مستضعف في الدين حتى المخدرات في الجبال. وذلك عند قرب ظهور قائمنا، فيجعل الله قم وأهله قائمين مقام الحجة، ولولا ذلك لساخت الأرض بأهلها ولم يبق في الأرض حجة، فيفيض العلم منه إلى سائر البلاد في المشرق والمغرب، فيتم حجة الله على الخلق حتى لا يبقى أحد على الأرض لم يبلغ إليه الدين والعلم». «بحار الأنوار»، ج 57، ص.213