بسم الله الرحمن الرحيم
الشبهة: التنافي بين علة الغيبة ـ خوف القتل ـ وبين العلم بموته
قال القفاري: «أما سبب غيبته: فقد جاء في الكافي عن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله يقول: إن للقائم عليه السلام غيبة قبل أن يقوم ، قلت: ولم؟ قال: إنه يخاف - وأومأ بيده إلى بطنه - يعني القتل ،
وجاءت عندهم روايات عدة في هذا ، وأكد ذلك شيخ الطائفة الطوسي بقوله: لا علة تمنع من ظهوره إلا خوفه على نفسه من القتل ، لأنه لو كان غير ذلك لما ساغ له الاستتار وكان يتحمل المشاق والأذى ، فإن منازل الأئمة وكذلك الأنبياء عليهم السلام إنما تعظم لتحملهم المشاق العظيمة في ذات الله تعالى.
ولكن هذا التعليل للغيبة الذي يؤكده شيخ الطائفة لا يتصور في حق الأئمة - على ما يعتقد الشيعة - لأن الأئمة يعلمون متى يموتون ، ولا يموتون إلا باختيار منهم ، كما أثبت ذلك الكليني في الكافي في روايات عديدة ، وأثبت ذلك المجلسي في بحار الأنوار ،.. فكيف يخرجون من هذا التناقض؟» ([1]).
جواب الشبهة :
إن ما أورده الدكتور القفاري لهذه الإشكالية مدفوع بأمرين:
الأول: حياة الإمام المهدي مقيدة ولها شروط
إن حياة الإمام في مدة طويلة مشروطة بشرائط منها ـ اختفائه عن الناس وهذا لا يتنافى مع علمه بمدة عمره ووقت موته أو قتله وذلك لأننا نقول: إن علمه بموته لم يكن مطلقاً بل هو مشروط باختفائه وهروبه من القتل ، وهذا ليس ببعيد فإن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يعلم متى يموت ، ولكنه خرج وفرّ عن الناس وآوى إلى الغار ثم هاجر إلى المدينة، فهل تستطيع أن تقول: هذا تناقض كيف هرب من الموت وهو عالم به؟!
إذن هناك شروط لحياة الأنبياء أو الأئمة منها الهروب أو الخوف من القتل لمصلحة تقتضي هذا الخوف ولا تلازم أو تناقض بين الأمرين.
الثاني: لوح المحو والإثبات يشمل الموت والحياة
إن الله سبحانه وتعالى أخبرنا في كتابه الشريف في قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } ([2]). وهذا ما يطلق عليه بلوح المحو والإثبات فيشمل الموت والحياة والرزق وغير ذلك.
قال الشيخ المفيد: >وقد يكون الشيء مكتوباً بشرط ، فيتغير الحال فيه ، قال تعالى: {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} ([3]). فتبين أن الآجال على ضربين: ضرب منها مشترط ، يصح فيه الزيادة والنقصان ، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} ([4]). وقوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} ([5]) فتبين أن آجالهم كانت مشروطة في الامتداد بالبر ، والانقطاع بالفسوق< ([6]).
أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن علي في أنه سأل رسول الله عن هذه الآية الكريمة {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأقرن عيني أمتي بتفسيرها ، الصدقة على وجهها ، وبر الوالدين واصطناع المعروف يحول الشقاء سعادة ، ويزيد في الرزق ، ويقي مصارع السوء< ([7]).
إذن الآجال مشروطة بأفعال معينة قد يطول العمر بها وقد يقصر ، والإمام المعصوم لا يخرج عن ذلك القانون الإلهي ، مع علمه بموته وأجله ، ولكن مع ذلك يعلم بطرو محو الله على الأجل ولذا يحتاط ويخاف من وقوع بعض الأمور التي قد تقع طبقاً لذلك القانون الرباني ، وهذا الأمر حدثتنا عنه الروايات فعن أصبغ بن نباتة: >أن أمير المؤمنين عدل من حائط مائل إلى آخر ، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتفر من قضاء الله ؟ قال: أفر من قضاء الله إلى قدره عز وجل< ([8]).
قال السيد الطباطبائي: >إن القدر لا يحتم المقدر فمن المرجو أن لا يقع ما قدر أما إذا كان القضاء فلا مندفع له < ([9]).
فالإمام علي كما في هذه الرواية ـ مع علمه المسبق بأنه سوف يقتل بيد أشقى الآخرين في مسجد الكوفة ـ فرّ من ذلك الحائط.
وكذلك الأمر فيما نحن فيه فإن الإمام المهدي يخضع لتلك القاعدة الربانية وهي المحو والإثبات في اللوح المحفوظ ، وهذا لا يتنافى مع علمه المسبق بطول عمره.
ولا يرد إشكال الجهل على الله تعالى ذكره؛ لأن ذلك بداء والبداء يستلزم الجهل بعلمه تعالى ، فهذا مردود؛ لأن البداء معناه ظهور الشيء بعد خفائه ، ولكن ليس المراد هنا ظهور الشيء لله جل شانه بعد خفائه عنه ، بل المراد ظهور الشيء من الله لمن يشاء من خلقه بعد إخفائه عنهم فـ (بدا لله) أي بدا حكم الله أو شأن الله.
إذن فلا تعارض بين علمه المحيط بكل شيء وبين تغيير حكمه.
الهوامش:
([1]) أصول مذهب الشيعة: ج2 ص1036.
([2]) الرعد: 39.
([3]) الأنعام: 2.
([4]) فاطر: 11.
([5]) الأعراف: 96.
([6]) الشيخ المفيد ، تصحيح اعتقادات الإمامية: ص66 ، الناشر: دار المفيد ـ بيروت ، ط2 ، 1414هـ.
([7]) كنز العمال: ج2 ص443. الدر المنثور: ج4 ص66 ، الناشر: دار المعروف ـ بيروت. الناشر: مؤسسة الرسالة بيروت ، ط1409هـ.
([8]) الحسن بن سليم الحلي ، مختصر بصائر الدرجات: ص136ـ 137 ، الناشر: المطبعة الحيدرية النجف الأشرف ، ط 1370هـ.
([9]) الميزان: ج13 ص75. الناشر: منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية ـ قم.
الشبهة: التنافي بين علة الغيبة ـ خوف القتل ـ وبين العلم بموته
قال القفاري: «أما سبب غيبته: فقد جاء في الكافي عن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله يقول: إن للقائم عليه السلام غيبة قبل أن يقوم ، قلت: ولم؟ قال: إنه يخاف - وأومأ بيده إلى بطنه - يعني القتل ،
وجاءت عندهم روايات عدة في هذا ، وأكد ذلك شيخ الطائفة الطوسي بقوله: لا علة تمنع من ظهوره إلا خوفه على نفسه من القتل ، لأنه لو كان غير ذلك لما ساغ له الاستتار وكان يتحمل المشاق والأذى ، فإن منازل الأئمة وكذلك الأنبياء عليهم السلام إنما تعظم لتحملهم المشاق العظيمة في ذات الله تعالى.
ولكن هذا التعليل للغيبة الذي يؤكده شيخ الطائفة لا يتصور في حق الأئمة - على ما يعتقد الشيعة - لأن الأئمة يعلمون متى يموتون ، ولا يموتون إلا باختيار منهم ، كما أثبت ذلك الكليني في الكافي في روايات عديدة ، وأثبت ذلك المجلسي في بحار الأنوار ،.. فكيف يخرجون من هذا التناقض؟» ([1]).
جواب الشبهة :
إن ما أورده الدكتور القفاري لهذه الإشكالية مدفوع بأمرين:
الأول: حياة الإمام المهدي مقيدة ولها شروط
إن حياة الإمام في مدة طويلة مشروطة بشرائط منها ـ اختفائه عن الناس وهذا لا يتنافى مع علمه بمدة عمره ووقت موته أو قتله وذلك لأننا نقول: إن علمه بموته لم يكن مطلقاً بل هو مشروط باختفائه وهروبه من القتل ، وهذا ليس ببعيد فإن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يعلم متى يموت ، ولكنه خرج وفرّ عن الناس وآوى إلى الغار ثم هاجر إلى المدينة، فهل تستطيع أن تقول: هذا تناقض كيف هرب من الموت وهو عالم به؟!
إذن هناك شروط لحياة الأنبياء أو الأئمة منها الهروب أو الخوف من القتل لمصلحة تقتضي هذا الخوف ولا تلازم أو تناقض بين الأمرين.
الثاني: لوح المحو والإثبات يشمل الموت والحياة
إن الله سبحانه وتعالى أخبرنا في كتابه الشريف في قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } ([2]). وهذا ما يطلق عليه بلوح المحو والإثبات فيشمل الموت والحياة والرزق وغير ذلك.
قال الشيخ المفيد: >وقد يكون الشيء مكتوباً بشرط ، فيتغير الحال فيه ، قال تعالى: {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} ([3]). فتبين أن الآجال على ضربين: ضرب منها مشترط ، يصح فيه الزيادة والنقصان ، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} ([4]). وقوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} ([5]) فتبين أن آجالهم كانت مشروطة في الامتداد بالبر ، والانقطاع بالفسوق< ([6]).
أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن علي في أنه سأل رسول الله عن هذه الآية الكريمة {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأقرن عيني أمتي بتفسيرها ، الصدقة على وجهها ، وبر الوالدين واصطناع المعروف يحول الشقاء سعادة ، ويزيد في الرزق ، ويقي مصارع السوء< ([7]).
إذن الآجال مشروطة بأفعال معينة قد يطول العمر بها وقد يقصر ، والإمام المعصوم لا يخرج عن ذلك القانون الإلهي ، مع علمه بموته وأجله ، ولكن مع ذلك يعلم بطرو محو الله على الأجل ولذا يحتاط ويخاف من وقوع بعض الأمور التي قد تقع طبقاً لذلك القانون الرباني ، وهذا الأمر حدثتنا عنه الروايات فعن أصبغ بن نباتة: >أن أمير المؤمنين عدل من حائط مائل إلى آخر ، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتفر من قضاء الله ؟ قال: أفر من قضاء الله إلى قدره عز وجل< ([8]).
قال السيد الطباطبائي: >إن القدر لا يحتم المقدر فمن المرجو أن لا يقع ما قدر أما إذا كان القضاء فلا مندفع له < ([9]).
فالإمام علي كما في هذه الرواية ـ مع علمه المسبق بأنه سوف يقتل بيد أشقى الآخرين في مسجد الكوفة ـ فرّ من ذلك الحائط.
وكذلك الأمر فيما نحن فيه فإن الإمام المهدي يخضع لتلك القاعدة الربانية وهي المحو والإثبات في اللوح المحفوظ ، وهذا لا يتنافى مع علمه المسبق بطول عمره.
ولا يرد إشكال الجهل على الله تعالى ذكره؛ لأن ذلك بداء والبداء يستلزم الجهل بعلمه تعالى ، فهذا مردود؛ لأن البداء معناه ظهور الشيء بعد خفائه ، ولكن ليس المراد هنا ظهور الشيء لله جل شانه بعد خفائه عنه ، بل المراد ظهور الشيء من الله لمن يشاء من خلقه بعد إخفائه عنهم فـ (بدا لله) أي بدا حكم الله أو شأن الله.
إذن فلا تعارض بين علمه المحيط بكل شيء وبين تغيير حكمه.
الهوامش:
([1]) أصول مذهب الشيعة: ج2 ص1036.
([2]) الرعد: 39.
([3]) الأنعام: 2.
([4]) فاطر: 11.
([5]) الأعراف: 96.
([6]) الشيخ المفيد ، تصحيح اعتقادات الإمامية: ص66 ، الناشر: دار المفيد ـ بيروت ، ط2 ، 1414هـ.
([7]) كنز العمال: ج2 ص443. الدر المنثور: ج4 ص66 ، الناشر: دار المعروف ـ بيروت. الناشر: مؤسسة الرسالة بيروت ، ط1409هـ.
([8]) الحسن بن سليم الحلي ، مختصر بصائر الدرجات: ص136ـ 137 ، الناشر: المطبعة الحيدرية النجف الأشرف ، ط 1370هـ.
([9]) الميزان: ج13 ص75. الناشر: منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية ـ قم.
تعليق