التوهج الصوفي في بردة البوصيري(ليلى الدردوري )
ظلت ولا تزال قصيدة "البردة" على مدى العصور إلى اليوم مصدر إلهام الشعراء المسلمين، ومدرسة بحق لشعراء المدائح النبوية بعد الإمام شرف الدين محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي البوصيري، نسبة على أبو صير إحدى قرى بني سويف من صعيد مصر حيث ولد سنة (608هـ - 1213م)، لأسرة ترجع جذورها إلى قبيلة صنهاجة إحدى قبائل البربر التي استوطنت الصحراء جنوبي المغرب، فعلى دعة شهرة هذه القصيدة في الآفاق، وروحها الصوفية العذبة، وعاطفتها العقدية الصادقة، وتوهج رؤاها الروحية، وجمال تصويرها ودقة ألفاظها، وحسن صياغتها وجودة سبكها، وبراعة نظمها الشعري قد شكلت للشعراء علامة بيضاء يهتدون بها، ويسلكون نهجها، وينظمون على طريقتها، ولئن ظهرت قصائد عديدة في فن المديح النبوي أمتعت عقل ووجدان ملايين المسلمين فإن "البردة" دليل ريادة البوصيري وأستاذيته في هذا الفن بلا منازع، بما يشهد عليها أنها ذرة شعر المديح النبوي في الإسلام وعين رائعة من عيون الشعر العربي رواء للروح، وشفاء لأسقام النفس، أما مطلعها فيتبقى أبرع مطالع القصائد العربية وفيه يقول: أمن تذكر جيران بذي سلــــــم مزجت دمعا جرى من مقلتي بــــدم؟أم هبت الريح من تلقاء كاظمة وأومض البرق في الظلماء من إضم؟فما لعينيك إن قلت أكففا همتـا؟ وما لقلبك إن قلت إستفــق يهــــــــــم؟وهي قصيدة طويلة تقع في مائة وستين بيتا يقول في نهايتها:يا نفس لا تقنطي من زلة عظمـت إن الكبائر في الغفران كاللمــــمولئن شغلت البردة الشعراء وشكلت قصيدة مركزية حوارية بالمعارضة تارة والتقليد أخرى لمتنها بمظاهر التناص إلا أنها ظلت في تاريخ المديح النبوي قصيدة القصائد والمثال المدحي النبوي السائر الذي يستقطب الذاتي والجماعي والإنساني، على أن أبرز المعارضات عليها قصيدة (نهج البردة) لأحمد شوقي والتي تقع في مائة وتسعين بيتا ومطلعها : ريم على القاع بين البان والعلـــــم أحل سفك دمي في الأشهر الحرموالمؤكد أن البوصيري أطلق على هذه القصيدة تسمية (البردة) من باب المحاكاة والمشاكلة للقصيدة الشهيرة "بانت سعاد" لكعب بن زهير وأما "البردة" فهي إحالة على عنوان القصيدة الأصلي "الكواكب الدرية في مدح خير البرية" على أن لها إسم آخر هو " البرأة" تبعا لما يروي من أن الإمام البوصيري برئ إثر إنشادها من علة كانت قد ألمت به، والشائع بأنها تسمى أيضا بقصيدة (الشدائد)، بسبب من أن قراءتها تفريج للشدائد وأمان من الفقر، والمرض وتيسير لكل عسير، ولقد بلغ من إحتفاء الصوفية بالبردة أن وضعوا شروطا لقراءتها مثل الوضوء، واستقبال القبلة، والدقة في تصحيح ألفاظها وإعرابها، على أن يكون القارئ عالما بمعانيها، حتى ظهرت فئة منهم تستدعى لقراءتها في الجنائز والأفراح، إلى غير ذلك من عناية الأزهريين بدارسة حاشية الباجوري على البردة، في دروس كانت تتلقاها جماهير الطلاب خارج حصص المقررات، والحقيقة أن الشاعرية الموفورة للبوصيري في ثنايا هذه القصيدة على مستويات المعجم والتركيب النحوي والبلاغي والإيقاعي والتجانسات الصوتية المساهمة في تنسيقها توزيعات الحروف، إلى ما تضفيه الظواهر الأسلوبية المتنوعة من تحقيق تعادل في الإيقاع الكمي والصوتي غاية في القوة والرصانة والتميز بما لم تتوافر فيه قط لكثير ممن خاضوا غمار المديح النبوي والشعر الصوفي، فقد أجمع النقاد والشعراء على أنها أفضل المدائح النبوية بعد قصيدة كعب المذكورة، علما أن للبوصيري أيضا القصيدة الهمزية في مدح النبي (ص)، وهي لا تقل جودة وفصاحة عن بردته الشهيرة ومطلعها: كيف ترقى رقيــــك الأنبيـــــــاء يا سماء ما طاولتها سمـــاء؟لم يساورك في علاك وقد حـــال سنى منك دونهم سنـــــــــاءإضافة إلى قصيدة أخرى له على وزن (ميمية) كعب ومطلعها:إلى متى أنت باللذات مشغــــــول وأنت في كل ما قدمـــت مسؤول؟!وهي في مجملها مدائح نبوية للبوصيري موسومة بالرصانة والجزالة وجمال التعبير، ورهافة الحس، وقوة العاطفة الدينية، وإجادة استعمالات البديع، وبراعة توظيف أساليب البيان مع تغليب المحسنات البديعية، لكن من دونما تكلف أو تصنع فيما يبقى للبردة ميسمها الذي يجليها دخرا متوجها للروح، وملاذا لتوبة النفس وسيرة نبوية شريفة من أبياتها قول البوصيري : محمد سيد الكونيين والثقلـــــيـــــــــــــن والفريقين من عرب وعجـمهو الحبيب الذي ترجى شفاعته بكل هول من الأهوال مقتحـــمفاق النبيين في خلق وفي خلــق ولم يدانوه في علم ولا كــــــرمفمبلغ العلم فيه أنه بشـــــــــــــر وأنه خير خلق الله كلهـــــــــــمدعني ووصفي آيات له ظهـرت ظهور نار القرى ليلا على علـــممولاي صلى وسلم دائما وأبــدا على حبيبك خير الخلق كلهـــــــمظلمت سنة من أحيا الظلام إلى أن إشتكت قدماه الضر مــن رومراعت بعثته قلوب العدا أنبــــاء كنبأة أجفلت غفلا من الغنـــــــمإلى أن يقول في التحذير من هوى النفس:فان أمارتي بالسوء ما اتعظـــت من جهلها بنذير الشيب و الهرم ثم وأن يقول في الشفاعة و المناجاة :مالي ما ألوذ بـــه يا أكرم الرسـل سواك عند حلول الحادث العممولن يضيق رسول الله جاهك بـي إذا الكريم تحلى بإسم منتقــــــمولئن جارى البوصيري في جزء من شعره كثيرا من شعر معاصريه في توظيف اللفظ المولد، فإن له تجارب عديدة في الأهاجي، إلا أنه مال بعدئذ إلى التنسك وحياة الزهد، واتجه إلى شعر المديح النبوي. وآثار البوصيري شعرية ونثرية، فقد ترك عددا من القصائد والأشعار ضمنها ديوانه الشعري، وقصيدته الشهيرة (البردة) و(القصيدة المضرية في مدح خير البرية) والقصيدة (الخمرية) وقصيدة (ذخر المعاذ) ولامية في الرد على اليهود والنصارى بعنوان (المخرج المردود على النصارى واليهود) و(تهذيب الألفاظ العامية)، ووفاته بالإسكندرية سنة ( 695هـ - 1295م).
تعليق