مسيح الفداء... وحسين الشهادة محاور لقاء وحوار
كلمة في ختام مهرجان ربيع الشهادة الثقافي العالمي الثامن / الدكتور... لويس صليبا
ما أن وطئت قدماي أرض التربة الحسينية وكحّلت عيناي برؤية المرقد المبارك حتى ذكرت قول المسيح في الإنجيل:
«الحق الحق أقول لكم، ليس حبّ أعظم من هذا أن يبذل الإنسان ذاته عمّن يحبّ» (يوحنا 15/13).
ولا بدّ من أن نقرّ بحقيقة واقعة هنا، مفادها أنه يصعب على كل مَن عرف يسوع الأناجيل ومشى في طريقه أن لا يذكُره ويتذكّره عندما يذكر الحسين، وهذا ما أشار إليه الكثير من الباحثين والمستشرقين لا بل أكّدوه. يقول أستاذي المستشرق بيير لوري( ) «في ما يخصّ القيمة الإيثارية التي تصل إلى حدّ الشهادة [في عاشوراء] فأية قراءة غربيّة من أصل مسيحي لهذه الحالة تشعر أنها على أرض معروفة لديها نظراً للتراث الديني المسيحي بشأن مصير المسيح»( ).
ويقول المستشرق القس والبروفسور يان آرفيد هنينغسون Jan Arvid Henningsson( ):«كربلاء هذه المأساة ميّزت بين الإسلام التقليدي النظري وبين المسلمين الشيعة الذين يمثلهم الإمام الحسين من ناحية ومن ناحية أخرى كانت عند المسيحيين علامة تذكّر بالمسيح المتألّم وموته على الصليب»( ).
وواقع الأمر لِمَن شاء أن يدرس شهادة الحسين ويتوقف عند فهم محبّي أهل البيت لها أن الربط بينها وبين فداء المسيح ليس مقصوراً على الفكر المسيحي المعاصر خصوصاً أو الحديث عموماً، بل إن المقارنة بين المسيح والحسين حاضرة في الفكر الإمامي منذ أقدم العصور. يُروى عن الإمام زين العابدين السجّاد أي ابن الحسين وهو الناجي الوحيد من رجال أهل البيت في مذبحة كربلاء «أنه أخبر بأن مريم العذراء جاءت من الشام إلى كربلاء فولدت عيسى بالمكان الذي دفن فيه الحسين ثم عادت تلك الليلة إلى الشام»( ).
إنها بالطبع رواية أقرب إلى الأساطير. وككلّ أسطورة فأهميتها تكمن في دلالاتها ورمزيتها لا في تاريخيتها. فهي تدلّ على أن الربط بين المسيح والحسين قديم ومتجذّر في الفكر الإمامي.
وثمّة أخرى تُروى عن الإمام السادس جعفر الصادق عن الرسول، صلعم، أن الملائكة جاءت بتراب بيت المقدس إلى كربلاء ليدفن فيها الحسين( ).
وثالثة تقول إن العذراء مريم البتول حملت بالمسيح وولدته لستة أشهر فقط، وفاطمة الزهراء البتول حملت بالحسين وولدته كذلك لستة أشهر، ولم يكن أحد كذلك سواهما( ).
وفي التقليد المسيحي أنه حُبل بيسوع تسعة أشهر لا ستة، لكن أهمية هذه الروايات الإمامية تكمن في دلالاتها لا في تاريخيتها كما أسلفنا.
وقد فهم الفكر الإمامي، ومنذ القدم، ثورة الحسين بأنها “خيار للشهادة حُسم منذ الخروج من مكّة من حيث كان في طريقه حينئذ إلى الموت، افتداءً للأمّة في وجه الظالمين، السائرين بها إلى الانحراف». كما ينقل المؤرّخ د. إبراهيم بيضون( ). ويضيف هذا المؤرّخ الرصين في موضع آخر من بحثه:«كان الحسين يراهن على خيارات عدّة آخرها ومن ثم أعظمها أن يواجه الشهادة ويفتدي بدمه الإسلام»( ).
أو لم ينسب الشاعر إلى الإمام الشهيد قوله:
إن كان دين محمد لم يستقم
إلا بقتلي يا سيوف خذيني( )
ألا يذكّر هذا القول بالحبّ الأعظم أي بذل الذات كما جاء في آية الإنجيل السالفة الذكر.
هذا الحب المتفاني يبوح به الإمام الحسين عليه السلام، بل يصرخ قائلاً:
تركتُ الخلق طرّاً في هواكا
وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطّعتني في الحبّ إرباً
لما مال الفؤادُ إلى سواكا( )
لقد كانت شهادته بذلاً للذات في سبيل مَن يحبّ وما يحبّ.
وهل من كرم وجود أعظم من هذا.
لقد بلغ جود الحسين اللامحدود، ولا عجب في ذلك فقد ورث الكرم عن جدّه الرسول، صلعم، فبالإسناد إلى زينب بنت أبي رافع أن فاطمة، أتت بابنيها الحسن والحسين عليهم السلام إلى الرسول، صلعم، وقالت: هذان ابناك فورّثهما شيئاً« فقال: أما الحسن فله هيبتي وسؤددي، فأما الحسين فإن له جرأتي وجودي. فقالت فاطمة: رضيت يا رسول الله. فلذلك كان الحسن حليماً مهيباً، والحسين نجداً جوّاداً»( ).
هذا الميراث الروحي لم يستطع أحد أن ينازع آل البيت عليه، وإن استطاع البعض أن ينتزع منهم حقهم في الوصاية والسلطة. وميراثهم الروحي هذا هو ما أبقى مدرستهم زاهرة ومتألّقة عبر العصور، وجعل أتباعها ينمون ويكثرون في كل صقع وزمان إلى الآن، رغم ما تعرّضوا له من اضطهاد وقمع عبر العصور.
الحسين، قلنا، مثال الكرم والجود حتى بالنفس. وجوده هذا يرتبط بفضيلة أخرى من كبريات فضائله. يقول سيّد الشهداء «أبخل الناس مَن بخُل بالسلام».
وإذا قرأنا قوله هذا معكوساً لجاء أكرم الناس من عمّ سلامه الخلق أجمعين. وهذا هو تحديداً سلام الحسين. أفلا يخرج مَن يزور هذا المرقد المقدّس بدمعة في العين... وسلام في القلب.
وسلام الحسين الشمولي هذا لا بدّ أن يذكّرنا بسلام المسيح:«سلاماً أترك لكم وسلامي خاصة أعطيكم، (يوحنا 14/27) هكذا كان عطاؤه الأخير لتلامذته، لقد أودعهم سلامه وكفى. وأوصاهم أن ينشروا السلام حيث يحلّون:«أيّ مكان دخلتم فقولوا أولاً السلام على هذا البيت، فإن كان فيه مَن يحبّ السلام فسلامكم يحلّ عليه، وإلا رجع إليكم»، (لوقا 10/5 – 6).
كان الحسين من أهل السلام ومسالماً. وهو حتى عندما حوصر في كربلاء وبدا له المصير الأسود محتّماً رفض أن يبدأ محاصريه بالحرب. وقد سنحت له ولِمَن معه فرصة الإجهاز على أحد كبار قادة محاصريه “شِمْر بن ذي الجوشن”، لكنه رفض أن يستغلّ هذه الفرصة لكي لا يكون البادئ بالحرب. يروي أبو محنف أقدم ناقلي أخبار وقعة الطفّ:«فقال له مسلم بن عوسجة: يا ابن رسول الله جُعلتُ فداك، ألا أرميه [شمر] بسهم فإنه قد أمكنني. وليس يسقط سهم، فالفاسق من أعظم الجبّارين. فقال له الحسين: لا ترمه، فإني أكره أن أبدأهم»( ).
نزعة السلام والمسالمة هذه عند الحسين علامة قوّة هي لا ضعف، فهو عندما يتكلّم عن العجز يقول:«أعجز الناس من عجز عن الدعاء» العاجز مَن لا يدعو، والدعاء هنا بالمطلق للأعداء والأحبّاء. ألا يذكّرنا هذا بقول المسيح:«أحبّوا أعداءكم باركوا مَن يلعنكم، باركوا ولا تلعنوا»، (لوقا 6/27 – 28).
وقد قرن الحسين قوله بالفعل، نقل كتّاب السيَر ووقعة الطفّ أن الحسين «ظلّ يدعو قومه الذين اجتمعوا على قتله إلى آخر لحظة، ويبكي عليهم لإصرارهم على ما يوجب إدخالهم النار»( ).
موقف لا بدّ له أن يرجعنا إلى موقف المسيح من معذّبيه: «إغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون»، (لوقا 23/34).
والحسين ليس بغريب عن تقليد المغفرة هذا، ألم يوصِ أبوه أمير المؤمنين وهو على فراش الموت حينما سُئل عن مصير قاتله:«إن أعش فالأمر لي، وإن أمت فالأمر لكم (...) وإن تعفوا أقرب إلى التقوى».
وتستوقفنا دعوة الحسين جلاّديه قبل استشهاده:«إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون يوم المعاد، فكونوا في أمر دنياكم أحراراً»( ).
إنها دعوة إلى قيم إنسانية شاملة تتخطّى كل انتماء ديني أو عرقي أو جغرافي، وفي الإنجيل دعوة مشابهة:«دعاكم الله لتكونوا أحراراً» (غلاطية 5/13).
وتلفتني في ملحمة استشهاد الحسين ما تلقّى من طعنات وحراب. يروي أبو مخنف عن الإمام الصادق عن والده الباقر عن الإمام زين العابدين الذي شهد الواقعة:«وجد بالحسين عليه السلام حين قتل ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وثلاثون ضربة سيف»( ).
رمزية الأعداد جدّ مؤثرة هنا. لقد تلقّى طعنات بعدد سنوات حياة المسيح على الأرض. ومن الضربات بعدد هذه السنوات أيضاً زائد ضربة إضافية له.
ويستوقفني في مجال المقارنة بين الحسين والمسيح رأي للمؤرّخ المستشرق اللبناني الأصل فيليب حتي (1886 – 1978) ( )، يقول فيه:«أكسب الموت علياً ما لم تُكسبه الحياة. وهو إن أعوزته مزايا الزعامة والسياسة من يقظة وتبصّر وحزم وحيلة فإنه مثال أعلى لخلق العربي الكريم (...) إن عليّاً الذي لم يفلح في ميدان السياسة الدنيوية قد رفع الموت قدره وأحلّه مركزاً لا ينافسه فيه إلاّ الرسول. وإن مواكب الحجّاج الذين يتوافدون إلى مشهد عليّ في النجف الأشرف وإلى مشهدالحسين شهيد الشيعة الأعظم في كربلاء،وما يمارسونه من حالات الأسى والتفجع كل سنةحين تنشر في العاشر من محرّم راية الحزن في أنحاء عالم الشيعة، وما في ذكرى مقتل الحسين المؤثر من ألم وغصّة. كل هذه الأمور تثبت أن الموت قد ييسّر للمرء أن يكون ولياً أو مسيحاً أكثر من الحياة»( ).
لا شكّ أن حتي لا يعرّض بشهادة الإمامين عليّ والحسين وحسب بل وبفداء المسيح كذلك. وكأنه يقول إن موت الثلاثة هؤلاء لم يكُن نهاية لهم كما تصوّر أعداؤهم، بل كان البداية: بداية سيَر بل وأساطير أحياناً حيكت حول حياتهم ومماتهم انتهت إلى تقديس مغالٍ بل وتأليه أحياناً. وفي ما يقوله هذا المؤرّخ اللبناني جانب من حقيقة: والنماذج من تاريخنا المعاصر والحالي على ذلك كثيرة. فكم من سيّاسي في سيرته مثالب وآفات حوّله اغتياله إلى شهيد وبطل قومي لا يشقّ له غبار ولا يرشق حتى بوردة. وفي تاريخ لبنان والعراق في السنوات العشر الأخيرة أمثلة عديدة على ذلك.
الموت استشهاداً أسرع طريق إلى الولاية والمسيحانية يقول حتي.
ولكن يصعب أن تكون هذه حال يسوع وعليّ والحسين فلئن كان موت هؤلاء المأساوي قد ساهم في ترسيخ رسالتهم وشهادتهم في الذاكرة والوعي الجماعي، فقد كانت سيرتهم وحياتهم مثالاً للعطاء وبذل الذات، وما كانت طريقة موتهم سوى إحدى صور هذا البذل وقد بلغ ذروته، وكأن استشهادهم كان نتيجة حتمية وطبيعية وتتويجاً لهذا البذل المستمرّ والمتواصل.
ولن أمضي أبعد من ذلك في المقارنة بين رائدين ومعلّمين: المسيح والحسين. فلا أريد لمقاربتي أن تكون محاولة مصطنعة في التوفيق والتلفيق Syncrétisme. وأنا مدرك أن مفاهيم الفداء في المسيحية وشهادة الحسين في الإمامية تختلف، وهنا أتفق مع أستاذي المستشرق بيير لوري في قوله:«إن الفكرة القائلة بأن معاناة إنسان ما يمكن أن يستفيد منها أناس آخرون لا وجود لها في الإسلام»( ).
ونقاط الاختلاف بيّنة بين النظرتين المسيحية والإمامية يقول لوري.
ورغم اختلاف النظرتين الواضح، فقد وجد داخل الإسلام وخارجه من رأى في شهادة الحسين فداء. ففي الداخل أشرنا إلى هذا التيار في ما نقلنا عن المؤرّخ أحمد بيضون، أما خارج الإسلام فنتوقف برهة عند شهادة للكاتب والمفكّر الهندوسي رام كُمار( ) يقول:«كان الإمام الحسين إنساناً كاملاً رهن كل حياته للإنسانية وفدى نفسه لأجلها، ولو لم تكن فديته في صحراء كربلاء، ما كنا نعرف للإنسانية معنى»( ).
فها هو مفكّر ليس بمسلم ولا بمسيحي يقرأ ثورة الحسين واستشهاده بمفهوم مسيحي ومصطلحات مسيحية.
النظرتان والمفهومان في المسيحية والإمامية يختلفان قلنا، وهذا لا يمنع أن يكون بينهما نقاط عديدة وجوهرية مشتركة توقفنا عندها في هذا العرض الموجز. لقد كانت مغريات الجمع بين شهادة الحسين وفداء المسيح مثيرة لدرجة أن بعض المفكّرين لم يستطع أن يتفادى السقوط في التجربة.
وما يهمّنا ختاماً أن الحسين بمعاناته وشهادته ورسالته الإنسانية يمكن أن يكون أساساً متيناً للقاء بين المسيحية والإسلام لا سيما الإمامي. وهذا ما أكّده المستشرق القس والبروفسور هنينغسون بقوله:«يمكن أن يصبح الحسين بالفعل جسراً وحلقة وصل بين المسيحيين والمسلمين»( )
وهو يختم بحثه بما يلي:«بغضّ النظر عن التقاليد، فهناك مفاهيم مشتركة بين المسيحية والإسلام من النظرة الشيعية. (...) وهناك دائماً صلة قريبة ومعانٍ متقاربة لفهم بعضنا البعض بتناغم الإيمان للسير في الطريق الحق لِمَن يريد أن يسير، والطريق ليس شاقاً للذي يريد أن يمشي نحو كربلاء»( ).
أيها الأحباء... أيها السادة.
كانت رسالتنا وغايتنا من المشاركة في هذا المهرجان الكريم أن نطرح فكرة الحوار المسيحي-الإمامي مشروعاً للبحث وأن ندعو إلى السير فيه. وإذا كانت هذه الرسالة قد وصلت ولقيت أصداءً إيجابية فلأن مَن ربوا على فكر الحسين واستوحوا شهادته هم أوّل وأكثر مَن يعي أهمية اللقاء والحوار.
قلنا إن الكرم والسلام من أبرز ما علّم الحسين.
الكرم خبرناه في هذا المهرجان وقد أفاضه علينا منظّموه فما وفّروا عنصراً من وسائل الراحة إلاّ وبذلوه. ولا عجب في ذلك فقد تعلّموا الكرم من سيد الشهداء... والكرماء.
والسلام لقيناه... لمسناه وخبرناه من زيارة إمام العدل والسلام.
يبقى دورنا نحن الآن... وقد نعمنا أياماً من العمر بسلام الإمام وكرم أتباعه ومحبّيه، أن ننقل سلامه... أو نذراً منه إلى مَن نلقى بعد الرجوع.
وعسى السلام الذي يشعّ من هذه العتبات المقدّسة يعمّ الخلق أجمعين.
تعليق