بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بعد أن إنحدر الزمان بالأمة الإسلامية وابتعدت عن عصر الوحي، وبعد ان امتدت بها الأيام والسنون وفقدت الأمة الجيل الذي عاصر الرسول الذي أُرسل إليها ليخرجها من ظلمة الجهل إلى نور العلم ومن عصر التخلف إلى عصر الحضارة والتمدن، فبعد أن فقدت الأمة رسولها والجيل الذي عاصره وسمع منه أخذت تنشأ المدارس المتعددة والمذاهب الإسلامية المختلفة.
ن بين تلك المدارس التي ظهرت في الساحة الإسلامية هي مدرسة أئمة أهل البيت الذي غرس بذورها الإمام علي بن الحسين عليه السلام وترعرعت ونمت وتشكلت هيكليتها على يد ولده الإمام محمد الباقر عليه السلام وظهرت وبانت أركانها واتسعت أطرافها وجنت ثمارها في زمن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام وشاع صيتها في عصره حتى نُسبت إليه فكان زعيمها وعميدها.
كانت مدرسة الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام تتميز عن غيرها من المدارس الإسلامية التي عاصرتها أو سبقتها وتأخرت عنها، فمدرسة الصادق عليه السلام شمخت بنفسها وسطع نورها حتى شغلت العيون والأفكار عما سواه فكأنك لا تكاد ترى شيئاً سواها إذا ما قيست لهذه المدرسة العملاقة.
ويمكن ان نشير إلى بعض نقاط القوة التي ميزت هذه المدرسة عن غيرها من المدارس الإسلامية، وأضفت عليها هالة من العظمة والرصانة والإتقان فمن نقاط القوة هي قوة شخصية المؤسس لهذه المدرسة، فإن المؤسس لهذه المدرسة هو جعفر بن محمد الصادق الذي كان أفضل أهل زمانه نسباً وعلماً وفضلاً وخُلقاً وعبادة وحكمة وزهداً في الدنيا، مما حدا بالقريب والبعيد، العدو والصديق، ان يطري على هذه الشخصية ويذكرها بكل جميل.
فمثلاً إمام المذهب الحنفي أبو حنيفة الذي تتلمذ على يد الإمام الصادق عليه السلام يقول في حقه: (ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمد الصادق)[1]، وهذه الكلمة لم تصدر عن شخصية مهملة ومن أطراف الأمة، بل تفوه بها رجلُ يُعّد من أبرز رجالات المذاهب الإسلامية وإمام المذهب الحنفي، فهذا الرجل ينص على ان الإمام الصادق عليه السلام هو أفقه من عاصره ولا يوجد في العالم الإسلامي أفقه منه.
وهكذا يقول إمام المذهب المالكي مالك بن أنس: (ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً)[2].
وقال الشهيد زيد بن علي بن الحسين عم الإمام الصادق عليه السلام: في كل زمان رجل منا أهل البيت يحتج الله به على خلقه، وحجة زماننا ابن أخي جعفر بن محمد، لا يضل من تبعه ولا يهتدي من خالفه[3].
وقال فيه الشهرستاني: جعفر بن محمد الصادق هو ذو علم غزير في الدين وأدب كامل في الحكمة وزهد بالغ في الدنيا وورع تام عن الشهوات[4].
وذكره الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء بقوله: (جعفر الصادق كبير الشأن، من أئمة العلم كان أولى بالأمر من أبي جعفر المنصور)[5].
وقال في موضع آخر من كتابه: جعفر الصادق ... الإمام العلم، أبو عبد الله الهاشمي العلوي الحسيني المدني ... ومناقب جعفر كثيرة، وكان يصلح للخلافة لو وفضله وعلمه وشرفه ...)[6]. كما قال ابن حجر في الصواعق: (جعفر الصادق ... نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وأنتشر صيته في جميع البلدان، وروى عنه الأئمة الأكابر)[7].
وهناك أقوال كثيرة منقولة عن علماء المذاهب الإسلامية في حق الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام ومقامه الرفيع في العلم والفضل والكمال، وقد نقل الشيخ محمد أمين الأميني في كتابه جعفر بن محمد الصادق رمز الحضارة الإسلامية أكثر من خمسين عالماً من علماء المسلمين من مختلف المذاهب وهم يذكرون الإمام الصادق بكل جميل[8].
ولذا يقول الشيخ محمد أبو زهرة شيخ الأزهر: ما أجمع علماء الإسلام على اختلاف طوائفهم في أمر كما اجمعوا على فضل الإمام الصادق وعلمه[9].
فواحدة من امتيازات هذه المدرسة أن المؤسس لها هو شخصية أجمعت العلماء على سعة علمه ومتانة دليله وشدة ورعه وتقواه وزهده وعبادته.
والامتياز الثاني لهذه المدرسة على غيرها من المدارس الإسلامية: ان هذه المدرسة تتصف بالشمولية، فهي لا تقتصر على دراسة الفقه والحديث كما هو المتعارف في سائر المدارس بل كان فيها الفقه والحديث والتفسير وعلوم القرآن وعلم الكلام وفنون العربية بل تجاوزت ذلك لتشمل العلوم الإنسانية أمثال علم الكيمياء والطب والفلك وعلم الهيئة والطبيعة وغيرها.
فكانت مدرسة تشتمل على أصناف كثيرة من العلوم الإسلامية والإنسانية ومن النقاط التي تمثل مواقع قوة في هذه المدرسة، امتيازها عما سواها من المدارس هي الدقة والعمق العلمي.
فمدرسة الإمام الصادق عليه السلام لم تكن مدرسة سطحية بل مدرسة تعتمد الدليل والنقد العلمي، وتحليل الآراء وإراجاع الأقوال إلى أصولها ليتبين صحتها من سقمها ولذلك كان الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام وتلامذته لا يفحمون؟ بمقال ولا يغلبون في مناظرة ولا بأس هنا من ذكر حادثة جرت بين الإمام الصادق عليه السلام وبين أبي حنيفة إمام المذهب الحنفي، يقول أبي حنيفة: ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد، لما أقدمه المنصور الحيرة بعث إليّ فقال: يا أبا حنيفة: ان الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد، فهيّء له من مسائلك الصعاب . فقال:
فهيّأت له أربعين مسألة ، ثم بعث إليَّ أبي جعفر وهو بالحيرة فأتيته .
فدخلت عليه ، وجعفر جالس عن يمينه ، فلما بصرت به دخلني من الهيبة لجعفر ما لم يدخل لأبي جعفر ، فسلّمت واذن لي فجلست ، ثم التفت إلى جعفر ، فقال : يا أبا عبد الله : تعرف هذا؟
قال: نعم، هذا أبو حنيفة، ثم أتبعها: قد أتانا.
ثم قال: يا أبا حنيفة هات من مسائلك، تسأل أبا عبد الله!
وابتدأت أسأله، وكان يقول في المسألة: أنتم تقولون فيها كذا وكذا وأهل المدينة يقولون كذا وكذا، ونحن نقول كذا وكذا، فربما تابعنا، وربما تابع أهل المدينة وربما خالفنا جميعا، حتى أتيت على أربعين مسألة ما أخرم فيها مسألة: ثم قال أبو حنيفة: أليس قد روينا ان أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس[10].
وهناك أمثلة كثيرة يمكن أن يستدل بها على ما تتمتع به هذه المدرسة من الدقة ومتانة الدليل، منها المحاور التي جرت بين الإمام الصادق عليه السلام وبين أبي حنيفة أيضاً التي أثبت فيها الإمام الصادق عليه السلام بطلان القياس الذي كان يقول به أبو جنيفه وهناك كتب قد خُصت لنقل هذه المناظرات أمثال الاحتجاح (للشيخ الطبرسي).
كما ان هذه المدرسة المباركة قد امتازت بكثرة طلابها الذين بلغ عددهم أربعة آلاف طالب كما نص على ذلك المؤرخون، وهو عدد ليس بالسهل، وهذه الأعداد الهائلة والجموع الغفيرة وأكثرهم من رموز الساحة الفكرية الإسلامية الذين كان لهم شأن فيما بعد لا تجتمع حول هذه المدرسة لولا أنهم رؤوا أنها أفضل من غيرها.
فهذه المدرسة الكبرى كانت تشتمل على كل هذا العدد الضخم من الطلاب وكل هؤلاء درسوا بالمباشرة عن الإمام الصادق عليه السلام، وكان هؤلاء التلامذة الأربعة آلاف لهم تلاميذ وهناك كلمة جميلة للأديب جوزيف الهاشم في خصوص هذه النقطة يقول فيها: لم يكن الإمام الصادق صامتاً محايداً فأعرض عن الحرب ـ كما أتهموه ـ وعن انقاذ أساس العقيدة والتشريع، لقد شنها حرباً بلا هوادة على الهراطقة والغلاة والطغاة والملحدين وامتشق السلاح الأمضى في معمعة الانحراف الديني والخلقي، فأنشأ جيشه المظفر، جيش الأربعة آلاف طالب يعده حارساً أميناً للكيان الإسلامي، وجيلاً سياسياً صالحاً مهيئاً لتسلم مقاليد الدولة وصيانة حق الشعب في مواجهة الغوغائيين والانتهازيين[11].
إذاً فمدرسة الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام كانت تمثل جيشاً فكرياً يقارع التيارات الفكرية المنحرفة عن خط السماء من داخل المساحة الإسلامية وخارجها، فكان تلامذة هذه المدرسة حماة الدين وحفظة الرسالة حتى أوصلوها سليمة من التحريف، نقية من الشوائب إلى الأجيال التي تلتهم.
ومن هنا فإن مدرسة جعفر الصادق عليه السلام امتازت عن غيرها من المدارس بعظمة مؤسسها واتفاق جميع المسلمين على أفضليته في العلم والعبادة والزهد والورع وامتازت بشموليتها لشتى المعارف الإسلامية والعلوم الإنسانية، كما تميزت باتبنائها واعتمادها على دقة الدليل ومتانته، وبكثرة من تخرج من هذه المدرسة على يد مؤسسها.
1 ـ يقول محمد كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي في حق الإمام الصادق عليه السلام: استفاد منه العلم جماعة من أعيان الأئمة وأعلامهم: مثل يحيى بن سعيد الأنصاري، وابن جريح ومالك بن أنس والثوري وابن عيينة وأبي حنيفة وشعبة وأيوب السجستاني وغيرهم وعدوا أخذهم عنه منقبة شرفوا بها وفضيلة اكتسبوها[12].
الا ان السؤال المهم الذي لابد ان يطرح في الوسط العلمي والثقافي للأمة الإسلامية جمعاء هو ما هي وظيفتنا، وما هو دورنا في هذا المشروع الحضاري الكبير الذي أراد به الإمام الصادق عليه السلام ان يخرج الأمة الإسلامية إلى حالة حضارية ثقافية في شتى الميادين ومختلف العلوم والمعارف الإسلامية والإنسانية على حد سوى، فما هو دورنا في هذا المشروع؟
وكيف يمكن للفرد المسلم ان يصبح عنصراً فعالاً في مدرسة جعفر بن محمد الصادق عليه السلام ليحضى برضا الله وبرضا وليه وحجته فيحضى بكلمة تماثل ما قاله الإمام الصادق عليه السلام في حق تلميذة هشام بن الحكم: أهلاً بناصرنا بيده ولسانه وقلبه.
الإمام كان يتمنى ان يشترك جميع أتباعه في هذا المشروع الحضاري، ولذا يقول: ليست السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقوا في الحلال والحرام[13]. ونحن في هذه المقالة نسجل بعض الوظائف على سبيل الذكر لا الحصر:
الوظيفة الأولى: تعريف الأمة جمعاء بما تحتويه هذه المدرسة الخالدة من أفكار ومبادئ وأسس علمية وثقافية في مختلف الميادين المعرفية الإسلامية. فعلى المؤمن ان يطلع على هذه الثقافة الجعفرية من مصادرها الموثوقة ثم يقوم بنقلها للأمة من خلال القلم والكلمة والمشاهد التلفزيونية والشعر و ...[14].
الوظيفة الثانية: التعريف برجالات هذه المدرسة وأبطالها ممن تتلمذ على يد الإمام سلام الله عليه أمثال زرارة ومحمد بن مسلم وبريد العجلي وأبو بصير وأبان بن تغلب وهشام بن الحكم ومحمد المعروف بمؤمن الطاق وغيرهم ممن أذعنت الساحة العلمية لهم وأشادت بفضلهم. فهؤلاء العظماء الذين لا يقاس بهم أحد ممن سواهم لابد أن تعرفهم الأمة وتتعرف على سلوكهم وأخلاقهم وأفكارهم وماله من المناظرات والحجج مع علماء المذاهب والأديان.
الوظيفة الثالثة: بيان المناظرات والمحاججات التي جرت بين الإمام الصادق عليه السلام أو أحد تلامذته وبين علماء المذاهب وعلماء الملل والأديان والملحدين والزنادقة آنذاك وحكايتها للأمة، فإن هذه المناظرات حكايات جميلة تحمل في طياتها الحكم والدليل المحكم الذي يقوي عقيدة الصديق ويستبصر بها البعيد عن معين معرفة المدرسة الجعفرية.
ولعل المتأمل يجد وظائف أخرى يمكن تسجلها في هذا المضمار، فليعمل كل مرء بما يقرّ به من الحق ونشره (وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله المؤمنون)[15].
والحمد لله رب العالمين
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بعد أن إنحدر الزمان بالأمة الإسلامية وابتعدت عن عصر الوحي، وبعد ان امتدت بها الأيام والسنون وفقدت الأمة الجيل الذي عاصر الرسول الذي أُرسل إليها ليخرجها من ظلمة الجهل إلى نور العلم ومن عصر التخلف إلى عصر الحضارة والتمدن، فبعد أن فقدت الأمة رسولها والجيل الذي عاصره وسمع منه أخذت تنشأ المدارس المتعددة والمذاهب الإسلامية المختلفة.
ن بين تلك المدارس التي ظهرت في الساحة الإسلامية هي مدرسة أئمة أهل البيت الذي غرس بذورها الإمام علي بن الحسين عليه السلام وترعرعت ونمت وتشكلت هيكليتها على يد ولده الإمام محمد الباقر عليه السلام وظهرت وبانت أركانها واتسعت أطرافها وجنت ثمارها في زمن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام وشاع صيتها في عصره حتى نُسبت إليه فكان زعيمها وعميدها.
كانت مدرسة الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام تتميز عن غيرها من المدارس الإسلامية التي عاصرتها أو سبقتها وتأخرت عنها، فمدرسة الصادق عليه السلام شمخت بنفسها وسطع نورها حتى شغلت العيون والأفكار عما سواه فكأنك لا تكاد ترى شيئاً سواها إذا ما قيست لهذه المدرسة العملاقة.
ويمكن ان نشير إلى بعض نقاط القوة التي ميزت هذه المدرسة عن غيرها من المدارس الإسلامية، وأضفت عليها هالة من العظمة والرصانة والإتقان فمن نقاط القوة هي قوة شخصية المؤسس لهذه المدرسة، فإن المؤسس لهذه المدرسة هو جعفر بن محمد الصادق الذي كان أفضل أهل زمانه نسباً وعلماً وفضلاً وخُلقاً وعبادة وحكمة وزهداً في الدنيا، مما حدا بالقريب والبعيد، العدو والصديق، ان يطري على هذه الشخصية ويذكرها بكل جميل.
فمثلاً إمام المذهب الحنفي أبو حنيفة الذي تتلمذ على يد الإمام الصادق عليه السلام يقول في حقه: (ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمد الصادق)[1]، وهذه الكلمة لم تصدر عن شخصية مهملة ومن أطراف الأمة، بل تفوه بها رجلُ يُعّد من أبرز رجالات المذاهب الإسلامية وإمام المذهب الحنفي، فهذا الرجل ينص على ان الإمام الصادق عليه السلام هو أفقه من عاصره ولا يوجد في العالم الإسلامي أفقه منه.
وهكذا يقول إمام المذهب المالكي مالك بن أنس: (ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً)[2].
وقال الشهيد زيد بن علي بن الحسين عم الإمام الصادق عليه السلام: في كل زمان رجل منا أهل البيت يحتج الله به على خلقه، وحجة زماننا ابن أخي جعفر بن محمد، لا يضل من تبعه ولا يهتدي من خالفه[3].
وقال فيه الشهرستاني: جعفر بن محمد الصادق هو ذو علم غزير في الدين وأدب كامل في الحكمة وزهد بالغ في الدنيا وورع تام عن الشهوات[4].
وذكره الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء بقوله: (جعفر الصادق كبير الشأن، من أئمة العلم كان أولى بالأمر من أبي جعفر المنصور)[5].
وقال في موضع آخر من كتابه: جعفر الصادق ... الإمام العلم، أبو عبد الله الهاشمي العلوي الحسيني المدني ... ومناقب جعفر كثيرة، وكان يصلح للخلافة لو وفضله وعلمه وشرفه ...)[6]. كما قال ابن حجر في الصواعق: (جعفر الصادق ... نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وأنتشر صيته في جميع البلدان، وروى عنه الأئمة الأكابر)[7].
وهناك أقوال كثيرة منقولة عن علماء المذاهب الإسلامية في حق الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام ومقامه الرفيع في العلم والفضل والكمال، وقد نقل الشيخ محمد أمين الأميني في كتابه جعفر بن محمد الصادق رمز الحضارة الإسلامية أكثر من خمسين عالماً من علماء المسلمين من مختلف المذاهب وهم يذكرون الإمام الصادق بكل جميل[8].
ولذا يقول الشيخ محمد أبو زهرة شيخ الأزهر: ما أجمع علماء الإسلام على اختلاف طوائفهم في أمر كما اجمعوا على فضل الإمام الصادق وعلمه[9].
فواحدة من امتيازات هذه المدرسة أن المؤسس لها هو شخصية أجمعت العلماء على سعة علمه ومتانة دليله وشدة ورعه وتقواه وزهده وعبادته.
والامتياز الثاني لهذه المدرسة على غيرها من المدارس الإسلامية: ان هذه المدرسة تتصف بالشمولية، فهي لا تقتصر على دراسة الفقه والحديث كما هو المتعارف في سائر المدارس بل كان فيها الفقه والحديث والتفسير وعلوم القرآن وعلم الكلام وفنون العربية بل تجاوزت ذلك لتشمل العلوم الإنسانية أمثال علم الكيمياء والطب والفلك وعلم الهيئة والطبيعة وغيرها.
فكانت مدرسة تشتمل على أصناف كثيرة من العلوم الإسلامية والإنسانية ومن النقاط التي تمثل مواقع قوة في هذه المدرسة، امتيازها عما سواها من المدارس هي الدقة والعمق العلمي.
فمدرسة الإمام الصادق عليه السلام لم تكن مدرسة سطحية بل مدرسة تعتمد الدليل والنقد العلمي، وتحليل الآراء وإراجاع الأقوال إلى أصولها ليتبين صحتها من سقمها ولذلك كان الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام وتلامذته لا يفحمون؟ بمقال ولا يغلبون في مناظرة ولا بأس هنا من ذكر حادثة جرت بين الإمام الصادق عليه السلام وبين أبي حنيفة إمام المذهب الحنفي، يقول أبي حنيفة: ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد، لما أقدمه المنصور الحيرة بعث إليّ فقال: يا أبا حنيفة: ان الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد، فهيّء له من مسائلك الصعاب . فقال:
فهيّأت له أربعين مسألة ، ثم بعث إليَّ أبي جعفر وهو بالحيرة فأتيته .
فدخلت عليه ، وجعفر جالس عن يمينه ، فلما بصرت به دخلني من الهيبة لجعفر ما لم يدخل لأبي جعفر ، فسلّمت واذن لي فجلست ، ثم التفت إلى جعفر ، فقال : يا أبا عبد الله : تعرف هذا؟
قال: نعم، هذا أبو حنيفة، ثم أتبعها: قد أتانا.
ثم قال: يا أبا حنيفة هات من مسائلك، تسأل أبا عبد الله!
وابتدأت أسأله، وكان يقول في المسألة: أنتم تقولون فيها كذا وكذا وأهل المدينة يقولون كذا وكذا، ونحن نقول كذا وكذا، فربما تابعنا، وربما تابع أهل المدينة وربما خالفنا جميعا، حتى أتيت على أربعين مسألة ما أخرم فيها مسألة: ثم قال أبو حنيفة: أليس قد روينا ان أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس[10].
وهناك أمثلة كثيرة يمكن أن يستدل بها على ما تتمتع به هذه المدرسة من الدقة ومتانة الدليل، منها المحاور التي جرت بين الإمام الصادق عليه السلام وبين أبي حنيفة أيضاً التي أثبت فيها الإمام الصادق عليه السلام بطلان القياس الذي كان يقول به أبو جنيفه وهناك كتب قد خُصت لنقل هذه المناظرات أمثال الاحتجاح (للشيخ الطبرسي).
كما ان هذه المدرسة المباركة قد امتازت بكثرة طلابها الذين بلغ عددهم أربعة آلاف طالب كما نص على ذلك المؤرخون، وهو عدد ليس بالسهل، وهذه الأعداد الهائلة والجموع الغفيرة وأكثرهم من رموز الساحة الفكرية الإسلامية الذين كان لهم شأن فيما بعد لا تجتمع حول هذه المدرسة لولا أنهم رؤوا أنها أفضل من غيرها.
فهذه المدرسة الكبرى كانت تشتمل على كل هذا العدد الضخم من الطلاب وكل هؤلاء درسوا بالمباشرة عن الإمام الصادق عليه السلام، وكان هؤلاء التلامذة الأربعة آلاف لهم تلاميذ وهناك كلمة جميلة للأديب جوزيف الهاشم في خصوص هذه النقطة يقول فيها: لم يكن الإمام الصادق صامتاً محايداً فأعرض عن الحرب ـ كما أتهموه ـ وعن انقاذ أساس العقيدة والتشريع، لقد شنها حرباً بلا هوادة على الهراطقة والغلاة والطغاة والملحدين وامتشق السلاح الأمضى في معمعة الانحراف الديني والخلقي، فأنشأ جيشه المظفر، جيش الأربعة آلاف طالب يعده حارساً أميناً للكيان الإسلامي، وجيلاً سياسياً صالحاً مهيئاً لتسلم مقاليد الدولة وصيانة حق الشعب في مواجهة الغوغائيين والانتهازيين[11].
إذاً فمدرسة الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام كانت تمثل جيشاً فكرياً يقارع التيارات الفكرية المنحرفة عن خط السماء من داخل المساحة الإسلامية وخارجها، فكان تلامذة هذه المدرسة حماة الدين وحفظة الرسالة حتى أوصلوها سليمة من التحريف، نقية من الشوائب إلى الأجيال التي تلتهم.
ومن هنا فإن مدرسة جعفر الصادق عليه السلام امتازت عن غيرها من المدارس بعظمة مؤسسها واتفاق جميع المسلمين على أفضليته في العلم والعبادة والزهد والورع وامتازت بشموليتها لشتى المعارف الإسلامية والعلوم الإنسانية، كما تميزت باتبنائها واعتمادها على دقة الدليل ومتانته، وبكثرة من تخرج من هذه المدرسة على يد مؤسسها.
1 ـ يقول محمد كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي في حق الإمام الصادق عليه السلام: استفاد منه العلم جماعة من أعيان الأئمة وأعلامهم: مثل يحيى بن سعيد الأنصاري، وابن جريح ومالك بن أنس والثوري وابن عيينة وأبي حنيفة وشعبة وأيوب السجستاني وغيرهم وعدوا أخذهم عنه منقبة شرفوا بها وفضيلة اكتسبوها[12].
الا ان السؤال المهم الذي لابد ان يطرح في الوسط العلمي والثقافي للأمة الإسلامية جمعاء هو ما هي وظيفتنا، وما هو دورنا في هذا المشروع الحضاري الكبير الذي أراد به الإمام الصادق عليه السلام ان يخرج الأمة الإسلامية إلى حالة حضارية ثقافية في شتى الميادين ومختلف العلوم والمعارف الإسلامية والإنسانية على حد سوى، فما هو دورنا في هذا المشروع؟
وكيف يمكن للفرد المسلم ان يصبح عنصراً فعالاً في مدرسة جعفر بن محمد الصادق عليه السلام ليحضى برضا الله وبرضا وليه وحجته فيحضى بكلمة تماثل ما قاله الإمام الصادق عليه السلام في حق تلميذة هشام بن الحكم: أهلاً بناصرنا بيده ولسانه وقلبه.
الإمام كان يتمنى ان يشترك جميع أتباعه في هذا المشروع الحضاري، ولذا يقول: ليست السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقوا في الحلال والحرام[13]. ونحن في هذه المقالة نسجل بعض الوظائف على سبيل الذكر لا الحصر:
الوظيفة الأولى: تعريف الأمة جمعاء بما تحتويه هذه المدرسة الخالدة من أفكار ومبادئ وأسس علمية وثقافية في مختلف الميادين المعرفية الإسلامية. فعلى المؤمن ان يطلع على هذه الثقافة الجعفرية من مصادرها الموثوقة ثم يقوم بنقلها للأمة من خلال القلم والكلمة والمشاهد التلفزيونية والشعر و ...[14].
الوظيفة الثانية: التعريف برجالات هذه المدرسة وأبطالها ممن تتلمذ على يد الإمام سلام الله عليه أمثال زرارة ومحمد بن مسلم وبريد العجلي وأبو بصير وأبان بن تغلب وهشام بن الحكم ومحمد المعروف بمؤمن الطاق وغيرهم ممن أذعنت الساحة العلمية لهم وأشادت بفضلهم. فهؤلاء العظماء الذين لا يقاس بهم أحد ممن سواهم لابد أن تعرفهم الأمة وتتعرف على سلوكهم وأخلاقهم وأفكارهم وماله من المناظرات والحجج مع علماء المذاهب والأديان.
الوظيفة الثالثة: بيان المناظرات والمحاججات التي جرت بين الإمام الصادق عليه السلام أو أحد تلامذته وبين علماء المذاهب وعلماء الملل والأديان والملحدين والزنادقة آنذاك وحكايتها للأمة، فإن هذه المناظرات حكايات جميلة تحمل في طياتها الحكم والدليل المحكم الذي يقوي عقيدة الصديق ويستبصر بها البعيد عن معين معرفة المدرسة الجعفرية.
ولعل المتأمل يجد وظائف أخرى يمكن تسجلها في هذا المضمار، فليعمل كل مرء بما يقرّ به من الحق ونشره (وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله المؤمنون)[15].
والحمد لله رب العالمين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ـ تذكرة الحفاظ، الذهبي، ج 1 ص166.
[2] ـ مناقب آل أبي طالب، بن شهر آشوب، ج3 ص372.
[3] ـ الأمالي، الشيخ الصدق، ص637.
[4] ـ الملل والنحل، الشهرستاني، ج1 ص166.
[5] ـ سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج13 ص120.
[6] ـ سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج9 ص93.
[7] ـ الصواعق المحرقة، ابن حجر، ص201.
[8] ـ الامام جعفر الصادق رمز الحضارة الإسلامية، ص14 ـ ص27.
[9] ـ مؤتمر الامام الصادق عليه السلام والمذاهب الإسلامية ص153.
[10] ـ سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج6 ص258.
[11] ـ الإمام الصادق رمز الحضارة الإسلامية، ص28 نقلاً عن مؤتمر الامام جعفر الصادق ص150 ـ ص155.
[12] ـ مطالب المسؤول في مناقب آل الرسول، محمد بن طلحة الشافعي، ص437.
[13] ـ المحاسن، البرقي،/ ج1 ص229.
[14] ـ فان الكثير من أبناء الأمة الإسلامية لم يتعرفوا على فكر مدرسة أهل البيت عليهم السلام بشكلها الصحيح لذلك أبتعداو عنها، ولو قُدر لبعضهم الإطلاع على الفكر الأصيل الصافي لهذه المدرسة لاتبعوها، وكما يقول الإمام الرضا عليه السلام: فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لتبعونا. معاني الاخبار، الصدوق ، ص180.
[15] ـ التوبة، 105.
[1] ـ تذكرة الحفاظ، الذهبي، ج 1 ص166.
[2] ـ مناقب آل أبي طالب، بن شهر آشوب، ج3 ص372.
[3] ـ الأمالي، الشيخ الصدق، ص637.
[4] ـ الملل والنحل، الشهرستاني، ج1 ص166.
[5] ـ سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج13 ص120.
[6] ـ سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج9 ص93.
[7] ـ الصواعق المحرقة، ابن حجر، ص201.
[8] ـ الامام جعفر الصادق رمز الحضارة الإسلامية، ص14 ـ ص27.
[9] ـ مؤتمر الامام الصادق عليه السلام والمذاهب الإسلامية ص153.
[10] ـ سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج6 ص258.
[11] ـ الإمام الصادق رمز الحضارة الإسلامية، ص28 نقلاً عن مؤتمر الامام جعفر الصادق ص150 ـ ص155.
[12] ـ مطالب المسؤول في مناقب آل الرسول، محمد بن طلحة الشافعي، ص437.
[13] ـ المحاسن، البرقي،/ ج1 ص229.
[14] ـ فان الكثير من أبناء الأمة الإسلامية لم يتعرفوا على فكر مدرسة أهل البيت عليهم السلام بشكلها الصحيح لذلك أبتعداو عنها، ولو قُدر لبعضهم الإطلاع على الفكر الأصيل الصافي لهذه المدرسة لاتبعوها، وكما يقول الإمام الرضا عليه السلام: فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لتبعونا. معاني الاخبار، الصدوق ، ص180.
[15] ـ التوبة، 105.