علاقة علي (ع) بالمسجد سرٌّ لن ينكشف أبداً
--------------------------------------------------------------------------------
حيّرت علاقة أمير المؤمنين (ع) بالمسجد عقول الناس منذ العصر الإسلامي الأول، فاجتهدوا في سبر أغوارها وبذلوا الكثير محاولين اكتناه أسرارها، لكنها بقيت مكنونة عصية على العقل البشري المحدود.
فالإمام علي (ع) هو الإنسان الوحيد الذي دخل الى هذه الدنيا من باب المسجد، وخرج منها الى عالم الخلود من باب المسجد أيضاً. وطوال فترة مكوثه في هذا العالم حفلت حياة سيد الأوصياء (عليه السلام) بحوادث وأقوال وأفعال عمّقت تلك العلاقة بشكل غير مسبوق.
فما هي بعض ملامح هذه العلاقة؟ وما هي أقواله وأفعاله (ع) التي تفصح عن بعض هذا السرّ؟
وليد البيت الحرام الكعبة المشرفة .
إن حيرة المرء إزاء تلك العلاقة تزداد عندما يعلم أنها ولدت قبيل ولادة علي (ع)، حين أوت أمه الحامل به وهي على وشك الوضع، الى أعظم حرم وأعز مكان، ألا وهو بيت الله الحرام، حيث وضعت وليدها.. وحاز (ع) بذلك كرامة لم تكن لأحد قبله، ولن تكون لإنسان من بعده.. حتى قال الشاعر:
ولدته في حرم الإله وأمـنــه
والبيت حيث فناؤه والمسجد
بيضاء طاهرة الثياب كريمة
طابت وطاب وليدها والمولد
ما لُف في خرق القوابل مثله
إلا ابن آمنـــة النبي محمــــد
إعمار أول مسجد
ثم تعززت تلك العلاقة مع انطلاق الإسلام في أفُقه الأرحب، لما هاجر رسول الله (ص) الى المدينة المنورة وشرع في بناء أول دار عبادة في الإسلام، لتكون تلك أول خطوة في مسيرة بناء دولة الإسلام، وتعبيراً عن موقع المسجد في دين الله.
وقد اشترك الإمام (ع) في بناء "مسجد قباء"، فكان يحمل الأحجار ويرتجز:
لا يستوي من يعمل المساجدا
يدأب فيها قائماً وقاعـــــــــدا
ومن يُرى عن الغبار حائــدا
ونلاحظ في هذه الأبيات أن الأمير (ع) ميّز بين الناس حينها تبعاً لعملهم في إعمار المساجد، ما يمثّل مفهوماً إسلامياً أصيلاً مأخوذاً من قوله تعالى: "إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر..".
والملاحظ أيضاً أنه (ع) وسع مفهوم الإعمار ليشمل الإعمار المعنوي والروحي مضافاً الى الإعمار المادّي، وهذا المفهوم الإسلامي الأصيل مأخوذ من الحديث القدسي: "إن بيوتي في الأرض المساجد، وإن زوّاري فيها عمّارها".
فوائد زيارة المساجد
في ما سبق علمنا أهمية المسجد في الإسلام، ولكن ما هي تحديداً الفوائد العملية التي يجنيها الإنسان من زيارة المسجد؟ وللإجابة عن هذا السؤال نترك علياً (ع) يحدثنا:
"من اختلف الى المسجد أصاب إحدى الثماني: أخاً مستفاداً في الله عز وجل، أو علماً مستطرفاً، أو آية محكمة، أو رحمة منتظرة، أو كلمة تردّه عن ردى، أو يسمع كلمة تدلّه على هدى، أو يترك ذنباً خشية أو حياءً".
وحتماً يطول المقام بنا في شرح هذا الحديث، لكننا نستدل على عظمة أثر المسجد في الإسلام بقولين لعالمين غربيين، الأول هو الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي، الذي كتب عن تأثير مسجد قرطبة الأندلسي على الحضارة الأوروبية بقوله: "لقد شكلت جامعة قرطبة في أروقة المسجد الكبير، مركز إشعاع الثقافة في أوروبا بأسرها".
والثاني هو العالم الفرنسي فنسان مونتاي، الذي يروي عن والده العالم أيضاً قوله: "إن بعض المساجد المتواضعة كان لها من الأثر في نشر الإسلام ما يفوق ما كان للكاتدرائيات الضخمة في نشر المسيحية".
الدنيا.. مسجد
هذا مفهوم الإعمار، وهذا فوائد المساجد، ولكن ما هو مفهوم المسجد عند الإمام (ع)؟ وهل يقتصر على هذا البناء المزخرف ذي القبة الملونة والمئذنة الشاهقة؟ والإجابة حتماً سلبية، لأن مفهوم المسجد عند علي (ع) أوسع من ذلك بكثير، فها هو يحدد ذلك المفهوم في نهج البلاغة عندما سمع رجلاً يذم الدنيا فأجابه بالقول:
(...) إن الدنيا دار صدق لمن صدقها (...) ومسجد أحبّاء الله، ومصلّى ملائكة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله (...).
هنا يتسع المسجد الى أقصى حد متجاوزاً حدوده الاصطلاحية ليغطي الدنيا كاملة، فالمؤمن العاقل اللبيب يستطيع أن يرى الدنيا بصورة المسجد:
في المسجد تصيب أخــــــاً في الله، وفي الدنيا كذلك..
في المسجد تصيب علماً مستطرفاً، وفي الدنيا كذلك..
وفي المسجد آية ورحمة، وفي الدنيا كذلك..
وفي هذا الحديث يلقي الإمام (ع) علينا مسؤوليات جساماً، فإذا كان مقياس التفاضل هو إعمار المساجد، فإن إعمار الدنيا مقياس للتفاضل أيضاً. وإذا كان إعمار المساجد وإحياء لياليها ونظافتها وتنظيمها واجباً علينا، فإن إعمار الدنيا وإحياءها وتنظيمها وتنظيفها واجب عليناً أيضاً.
مساجد آخر الزمان
ومما يزيد الحيرة أمام علاقة علي (ع) بالمسجد، أنها لم تكن محدودة بزمان وجود علي (ع) في هذه الدنيا، بل إنه تطلّع نحو المستقبل الآتي ونظر الى المساجد ووصف حالها في آخر الزمان فقال: "يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه من القرآن إلا رسمه، ومن الإسلام إلا اسمه.. مساجدهم يومئذ عامرة من البناء، خراب من الهدى".
وهذه أصدق صورة واضحة لكثير من مساجد هذا العصر، فهي عامرة بالفن والجمال والضخامة والمتانة، خراب من الهدى والإيمان. لقد انقلبت الصورة التي أرادها الإسلام، وتحوّل المسجد من بناء بسيط مادياً عامر معنوياً وروحياً، الى قلاع فخمة هجرتها الروحانية.
فوز علي (عليه السلام)
لقد بلغ من عشق أمير المؤمنين (عليه السلام) للمسجد أن فضّل الجلوس فيه على الجلوس في الجنة، معلّلاً ذلك بأن جلوسه في الجنة فيه رضا نفسه، بينما جلسة المسجد فيها رضا الله سبحانه.. وبذا يسلك الإمام درب العبودية الحقة والتوحيد الكامل، مقدماً رضا ربّ العالمين على رضا النفس البشرية.
لقد تجلّى حب الإمام (عليه السلام) للمسجد بأن هلل مسروراً عندما طعنه ابن ملجم لعنة الله في مسجد الكوفة، معتبراً أن خروجه من الدنيا وولوجه عالم الآخرة من باب المسجد فوز عظيم، فهتف قائلاً: "فزت وربِّ الكعبة".. ليضيف حيرة جديدة وسراً جديداً الى علاقته بالمسجد
--------------------------------------------------------------------------------
حيّرت علاقة أمير المؤمنين (ع) بالمسجد عقول الناس منذ العصر الإسلامي الأول، فاجتهدوا في سبر أغوارها وبذلوا الكثير محاولين اكتناه أسرارها، لكنها بقيت مكنونة عصية على العقل البشري المحدود.
فالإمام علي (ع) هو الإنسان الوحيد الذي دخل الى هذه الدنيا من باب المسجد، وخرج منها الى عالم الخلود من باب المسجد أيضاً. وطوال فترة مكوثه في هذا العالم حفلت حياة سيد الأوصياء (عليه السلام) بحوادث وأقوال وأفعال عمّقت تلك العلاقة بشكل غير مسبوق.
فما هي بعض ملامح هذه العلاقة؟ وما هي أقواله وأفعاله (ع) التي تفصح عن بعض هذا السرّ؟
وليد البيت الحرام الكعبة المشرفة .
إن حيرة المرء إزاء تلك العلاقة تزداد عندما يعلم أنها ولدت قبيل ولادة علي (ع)، حين أوت أمه الحامل به وهي على وشك الوضع، الى أعظم حرم وأعز مكان، ألا وهو بيت الله الحرام، حيث وضعت وليدها.. وحاز (ع) بذلك كرامة لم تكن لأحد قبله، ولن تكون لإنسان من بعده.. حتى قال الشاعر:
ولدته في حرم الإله وأمـنــه
والبيت حيث فناؤه والمسجد
بيضاء طاهرة الثياب كريمة
طابت وطاب وليدها والمولد
ما لُف في خرق القوابل مثله
إلا ابن آمنـــة النبي محمــــد
إعمار أول مسجد
ثم تعززت تلك العلاقة مع انطلاق الإسلام في أفُقه الأرحب، لما هاجر رسول الله (ص) الى المدينة المنورة وشرع في بناء أول دار عبادة في الإسلام، لتكون تلك أول خطوة في مسيرة بناء دولة الإسلام، وتعبيراً عن موقع المسجد في دين الله.
وقد اشترك الإمام (ع) في بناء "مسجد قباء"، فكان يحمل الأحجار ويرتجز:
لا يستوي من يعمل المساجدا
يدأب فيها قائماً وقاعـــــــــدا
ومن يُرى عن الغبار حائــدا
ونلاحظ في هذه الأبيات أن الأمير (ع) ميّز بين الناس حينها تبعاً لعملهم في إعمار المساجد، ما يمثّل مفهوماً إسلامياً أصيلاً مأخوذاً من قوله تعالى: "إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر..".
والملاحظ أيضاً أنه (ع) وسع مفهوم الإعمار ليشمل الإعمار المعنوي والروحي مضافاً الى الإعمار المادّي، وهذا المفهوم الإسلامي الأصيل مأخوذ من الحديث القدسي: "إن بيوتي في الأرض المساجد، وإن زوّاري فيها عمّارها".
فوائد زيارة المساجد
في ما سبق علمنا أهمية المسجد في الإسلام، ولكن ما هي تحديداً الفوائد العملية التي يجنيها الإنسان من زيارة المسجد؟ وللإجابة عن هذا السؤال نترك علياً (ع) يحدثنا:
"من اختلف الى المسجد أصاب إحدى الثماني: أخاً مستفاداً في الله عز وجل، أو علماً مستطرفاً، أو آية محكمة، أو رحمة منتظرة، أو كلمة تردّه عن ردى، أو يسمع كلمة تدلّه على هدى، أو يترك ذنباً خشية أو حياءً".
وحتماً يطول المقام بنا في شرح هذا الحديث، لكننا نستدل على عظمة أثر المسجد في الإسلام بقولين لعالمين غربيين، الأول هو الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي، الذي كتب عن تأثير مسجد قرطبة الأندلسي على الحضارة الأوروبية بقوله: "لقد شكلت جامعة قرطبة في أروقة المسجد الكبير، مركز إشعاع الثقافة في أوروبا بأسرها".
والثاني هو العالم الفرنسي فنسان مونتاي، الذي يروي عن والده العالم أيضاً قوله: "إن بعض المساجد المتواضعة كان لها من الأثر في نشر الإسلام ما يفوق ما كان للكاتدرائيات الضخمة في نشر المسيحية".
الدنيا.. مسجد
هذا مفهوم الإعمار، وهذا فوائد المساجد، ولكن ما هو مفهوم المسجد عند الإمام (ع)؟ وهل يقتصر على هذا البناء المزخرف ذي القبة الملونة والمئذنة الشاهقة؟ والإجابة حتماً سلبية، لأن مفهوم المسجد عند علي (ع) أوسع من ذلك بكثير، فها هو يحدد ذلك المفهوم في نهج البلاغة عندما سمع رجلاً يذم الدنيا فأجابه بالقول:
(...) إن الدنيا دار صدق لمن صدقها (...) ومسجد أحبّاء الله، ومصلّى ملائكة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله (...).
هنا يتسع المسجد الى أقصى حد متجاوزاً حدوده الاصطلاحية ليغطي الدنيا كاملة، فالمؤمن العاقل اللبيب يستطيع أن يرى الدنيا بصورة المسجد:
في المسجد تصيب أخــــــاً في الله، وفي الدنيا كذلك..
في المسجد تصيب علماً مستطرفاً، وفي الدنيا كذلك..
وفي المسجد آية ورحمة، وفي الدنيا كذلك..
وفي هذا الحديث يلقي الإمام (ع) علينا مسؤوليات جساماً، فإذا كان مقياس التفاضل هو إعمار المساجد، فإن إعمار الدنيا مقياس للتفاضل أيضاً. وإذا كان إعمار المساجد وإحياء لياليها ونظافتها وتنظيمها واجباً علينا، فإن إعمار الدنيا وإحياءها وتنظيمها وتنظيفها واجب عليناً أيضاً.
مساجد آخر الزمان
ومما يزيد الحيرة أمام علاقة علي (ع) بالمسجد، أنها لم تكن محدودة بزمان وجود علي (ع) في هذه الدنيا، بل إنه تطلّع نحو المستقبل الآتي ونظر الى المساجد ووصف حالها في آخر الزمان فقال: "يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه من القرآن إلا رسمه، ومن الإسلام إلا اسمه.. مساجدهم يومئذ عامرة من البناء، خراب من الهدى".
وهذه أصدق صورة واضحة لكثير من مساجد هذا العصر، فهي عامرة بالفن والجمال والضخامة والمتانة، خراب من الهدى والإيمان. لقد انقلبت الصورة التي أرادها الإسلام، وتحوّل المسجد من بناء بسيط مادياً عامر معنوياً وروحياً، الى قلاع فخمة هجرتها الروحانية.
فوز علي (عليه السلام)
لقد بلغ من عشق أمير المؤمنين (عليه السلام) للمسجد أن فضّل الجلوس فيه على الجلوس في الجنة، معلّلاً ذلك بأن جلوسه في الجنة فيه رضا نفسه، بينما جلسة المسجد فيها رضا الله سبحانه.. وبذا يسلك الإمام درب العبودية الحقة والتوحيد الكامل، مقدماً رضا ربّ العالمين على رضا النفس البشرية.
لقد تجلّى حب الإمام (عليه السلام) للمسجد بأن هلل مسروراً عندما طعنه ابن ملجم لعنة الله في مسجد الكوفة، معتبراً أن خروجه من الدنيا وولوجه عالم الآخرة من باب المسجد فوز عظيم، فهتف قائلاً: "فزت وربِّ الكعبة".. ليضيف حيرة جديدة وسراً جديداً الى علاقته بالمسجد
تعليق