الكلمة
ليست الكلمة لفظ يخرج من الأفواه ليبين مكنون صاحبه، فيلقيها صاحبها متى ما رأى حاجة إلى ذلك ، بل الكلمة هي إحدى الطريقين الذيَن يُسيّران عالم الإنسان . فبالكلمة يعبد الرحمن وتُدخَل الجنان ، وبالكلمة يُقتل الإنسان ، وتضحى المحبة هجران، وبها تقطع أرزاق العباد ويدب الخراب في البلاد ،وبالكلمة تُعمّر الجنان وتطفئ النيران ، وبالكلمة تصرع الرجال وتُيتم الأطفال، وبالكلمة تبدل الآثار وتزيف الأخبار، وبالكلمة تزول المفاسد وتعقد العقائد .إن الكلمة الواحدة لتقع في مسامع الرجال فتمحو أحوال وتثبت أحوال.
إن الكلمة لها سلطان النفاذ من أقطار السماوات والأرض والولوج إلى عالم الآخرة فتبني هنالك لصاحبها بنيان ، أو تحفر له حفرة الخسران. إنها لتؤسس في قلوب الناس بغضك أو محبتك ، إذن هي تصوغ القلب كيفما تريد .
إن لكل كلمة ، طيبة كانت أو خبيثة وطأة وأثراً ، فإن نفذت إلى القلب فعلت به الأفاعيل . وربما كانت في النفوس ابلغ من الأفعال وصولات الرجال .
والكلمة رسول منبعها وأصلها إن أُفهمت أو أُبهمت ،حيث تستمد فاعليتها وتأثيرها من دواخل أربابها ، فليس ثمة كلمة من خلاء ، أو ألفاظ جوفاء وإنما هي معقودة بمعاقد منبعها ، وليس من كلمة إلا ولها أثر ، خفي أو ظهر . فتستمد قوتها وضعفها وطول بقائها وقصر مدتها وعمق أثرها ، من منبعها ومولدها ، فإن كانت وليدة طهارة ، خرجت معجونة بتلك الطهارة ، مطهرة لما طرقته بنسبتها وإن كانت ظاهراً غير ذلك ، وإن كان خَبُثَ منبعها خَبُثَت وإن كانت غير ذلك ظاهراً ، فرب كلمة ظاهرها خير أو حق لكنها صدرت من واقع سوء ، فأتبعت واقعها وجانبت ظاهرها حيث المولد هو الواقع ، كما قيل ( كلمة حق يراد بها بطل) أي أن منبعها باطل ، فالحكم في الكلام لمنبعه وليس لألفاظه .
إذن ينبغي على العاقل أن يعامل الكلمة بغاية الحذر ، فربما هدمت بناء سنين أو شيدت ما لا طاقة له به ، ولا أعني الحذر في ألفاظها أو مقامها ، وإنما الأهم أن يكون مصدرها ومنبعها طاهر ، حينئذ لا تحتاج إلى زيادة جهدٍ ، فإن ما كان أصله طاهر يبعد عليه أن يكون مُنجِساً أو يجلب لصاحبه غير الطهارة ، قال تعالى: {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} فتكون محمودة المنبع ومحمودة الغاية وحسنة الأثر ، فتؤدي نفعها وبناءها في كل الأزمان {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } أي لها الأذن الإلهي بالتأثير ولها الفاعلية المستفادة من ذلك الأذن ، وإن كان صاحبها يجهل أبعادها ويجهل طرق سيرها ، إنما أُسِّسَ نظام الخلق على أُسُس الطهارة والخير والصلاح ، فمن ذلك ستأخذ مسراها ومجراها في ذلك النظام ، يقول الرسول الأعظم (ص)إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله تعالى له بها رضوانه إلى يوم يلقاه ).
وله الحمد في الآخرة والأولى
تعليق