سفير الإمام الحسين (عليه السلام) مسلم بن عقيل (عليه السلام)
تتابعت كتب أهل الكوفة إلى الإمام الحسين (عليه السلام)،
وهي تحثه على المسير والقدوم إليهم لإنقاذهم من ظلم الأمويِّين وعُنفهم، وكانت بعض تلك الرسائل تحمِّلُه المسؤولية أمام الله والأمة إن تأخر عن إجابتهم.
ورأى الإمام – قبل كل شيء – أن يختارَ لِلُقيَاهُم سفيراً له،
يُعرِّفه باتجاهاتهم وَصِدقِ نِيَّاتِهم، فإن رأى منهم نيَّة صادقة، وعزيمة مُصمَّمة، فيأخذ البيعة منهم، ثم يتوجّه إليهم بعد ذلك.
وقد اختار (عليه السلام) لسفارتِه ثقتَه وكبيرَ أهلِ بيتِه مسلم بن عقيل، فاستجاب له عن رِضىً ورغبة، وَزوَّدَهُ برسالة وهي: (مِن الحُسينِ بن عَلي إِلى مَن بلغهُ كتابي هذا مِن أوليائِه وَشيعَتِه بالكوفة:
سلامٌ عليكم، أما بعد: فَقَد أتَتْني كُتُبكُم، وفهمتُ ما ذكرتُم مِن مَحبَّتِكم لِقُدومِي عَليكم، وأنا بَاعثٌ إِليكم بِأخي وابنِ عَمِّي وثِقتي من أهلي مسلم بن عقيل، لِيعلمَ لِي كُنْهَ أمْرِكُم، ويكتبَ إِليَّ بما يَتبَيَّن له من اجتماعِكُم، فإن كان أمرُكم على ما أتَتْني بِه كُتُبُكم، وأخبَرَتني به رُسُلُكم، أسرعتُ القُدومَ إليكُم إِن شَاء اللهُ، وَالسَّلام).
وتَسلَّم مسلم الرسالة، وغادر مكة ليلة النصف من رمضان، فَصلَّى في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله)، وَطَاف بِضريحِه، وَودَّع أهله وأصحابه، وكان ذلك هو الوداع الأخير لهم، واتَّجهَ صَوبَ العِراق، واستأجر دَليلين من قَيس يَدُلاَّنَه عَلى الطريق.
وسار مسلم يطوي البيداء، حتى دخل الكوفة فاختار النزول في بيت المختار الثقفي، لوثوقه منه بإخلاصه للإمام الحسين (عليه السلام) وتفانيه في حبه.
وفتح المختار أبواب داره لمسلم، وقابله بمزيد من الحفاوة والتكريم، ودعا الشيعة إلى مقابلته، فأقبلوا إليه من كُلِّ حَدبٍ وصَوب، وهم يظهرون لَهُ الولاء والطاعة.
وانثَالَت الشيعةُ على مسلم تبايعه للإمام الحسين (عليه السلام)، وكانت صيغة البيعة الدعوة إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله (صلى الله عليه وآله)، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقِسمَة الغنائم بين المسلمين بالسويَّة، وَرَد المَظالم إلى أهلها، ونصرة أهل البيت (عليهم السلام).
رسالة مسلم للإمام الحسين (عليه السلام):
ازداد مسلم إيماناً ووثوقاً بنجاح الدعوة حينما بايعه ذلك العدد الهائل من أهل الكوفة، فكتب للإمام (عليه السلام) يَستَحِثّه فيها على القدوم إليهم برسالة هذا نَصُّها:
(فإنَّ الرائدَ لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا، فَعجِّل حين يأتيك كتابي، فإن الناس كُلُّهم معك، ليس لَهم في آل معاوية رأي وَلا هَوى).
أما موقف النعمان بن بشير – والي الكوفة – من الثورة فقد كان موقفاً يتسم باللِّين والتسامح، وقد اتَّهمَهُ الحزب الأموي بالضعف، أو التضاعف في حفظ مصلحة الدولة، والاهتمام بسلامتها، فأجابهم: لأَنْ أكونَ ضعيفاً وأنا في طاعة الله أحَبُّ إليَّ من أن أكون قوياً في معصية الله، وما كنتُ لأهتك ستراً ستره الله.
ودافع النعمان عن نفسه بأنه لا يعتمد على أية وسيلة تبعده عن الله، ولا يسلك طريقاً يتجافى مع دينه، وقد استبانَ للحزب الأموي ضعف النعمان، وانهياره أمام الثورة.
اتصال الحزب الأموي بدمشق:
قام الحزب الأموي باتصال سريع بحكومة دمشق، وطلبوا منها اتخاذ الإجراءات الفورية قبل أن يتَّسع نطاق الثورة، ويأخذ العراق استقلاله، وينفصل عن التبعية لدمشق.
ومن بين الرسائل التي وفدت على يزيد رسالة عبد الله الحَضْرَمي التي جاء فيها: (أما بعد: فان مسلم بن عقيل قدم الكوفة، وبايعته الشيعة للحسين بن علي، فإن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قويا ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوك، فإن النعمان بن بشير رجلٌ ضعيف، أو هو يَتَضعَّف).
فكتب يزيد إلى عبيد الله بن زياد والي البصرة هذه الرسالة: (أما بعد: فإنه كتب إليَّ شيعتي من أهل الكوفة يُخبرونني أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لِشَقِّ عصا المسلمين، فَسِرْ حين تقرأُ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة، فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة، حتى تثقفه فتوثقه، أو تقتله، أو تنفيه، والسلام).
فأمر يزيد بِتَولِيةِ عبيد الله بن زياد على الكوفة بدلاً من النعمان بن بشير.
وفي اليوم الثاني لِوصولِه إلى الكوفة خَرجَ مُتقلِّداً سيفه، ومعتمّاً بعمامة، فاعْتَلى أعوادَ المنبر وخطب الناس، فقال: (أما بعد: فان أمير المؤمنين ولاَّني مِصرَكُم وثغركم وفيئكم، وأمرني بإنصاف مَظلومكم، وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، وبالشدة على مُريبكم، فأنا لِمُطيعكم كالوالد البرَّ الشفيق، وسيفي وسوطي على من ترك أمري وخالف عهدي.
ولم يُعرِّض في خطابه للإمام الحسين وسفيره مسلم (عليهما السلام)، وذلك خوفاً من انتفاضة الجماهير عليه وهو بعد لم يَحكُم أمره، وعمد ابن زياد إلى نشر الإرهاب وإذاعة الخوف.
ويقول بعض المؤرخين: إنه لما أصبح ابن زياد بعد قدومه إلى الكوفة صَال وجَال، وأرعَد وأبرَق، وأمسك جماعة من أهل الكوفة فقتلهم في الساعة، وقد عمد إلى ذلك لإِماتَةِ الأعصاب، وَصَرف الناس عن الثورة.
وفي اليوم الثاني أمر بجمع الناس في المسجد وخرج إليهم بِزيٍّ غير ما كان يخرج به، فخطب فيهم خطاباً عنيفا تَهدَّد فيه وتوعَّد، فقد قال بعد حمد الله والثناء عليه: (فإنه لا يُصلح هذا الأمر إلا في شِدَّة من غير عنف، ولِينٍّ من غير ضعف، وأن آخذ البريء بالسقيم، والشاهِد بالغائب، والوَلي بالوالي).
وبعد أن علم الطاغية بواسطة جواسيسه بأن هانئ بن عروة هو العضو البارز في الثورة وأن مسلم قد غَيَّر مكانه من دار المختار إلى دار هانئ، وأن هانئ يقوم بِدَورٍ فعَّال في دعم الثورة ومساندتها بجميع قدراته، وعرف ابن زياد بأن دار هانئ أصبحت مركزاً عامّاً للشيعة، ومَقَرّاً لمسلم بن عقيل، لم يقم ابن زياد بكبس وتطويق دار هانئ، وأحجم عن ذلك لعجزه عسكرياً، وعدم مقدرته على فتح باب الحرب.
فإن دار هانئ مع الدُور التي كانت محيطة بها كانت تضم أربعة آلاف مقاتل مِمَّن بايعوا مسلماً، بالإضافة إلى أتباع هانئ ومكانته المَرمُوقة في الكوفة، فلهذا لم يستطع ابن زياد من القيام بشيء نظراً للمضاعفات السيئة.
رسل الغدر:
أنفق ابن زياد لياليه ساهراً يطيل التفكير، ويطيل البحث مع حاشيته في شان هانئ، فهو أعزُّ من في المصر، وأقوى شخصية يستطيع القيام بحماية الثورة، فإذا قضى عليه فقد استأصل الثورة من جذورها.
وقد اتفق رأيهم على إبلاغ هانئ برغبة ابن زياد بزيارته، وشكَّلوا وفداً لدعوته إلى قصر الإمارة، فحضر معهم إلى القصر.
وبعد مشَادَة كلامية طالبَهُ ابن زياد بتسليم مسلم، فَسَخرَ منه هانئ وأنكر عليه قائلاً له مقالة الرجل الشريف: لا آتيك بضيفي أبداً.
وعندها سجنه ابن زياد في إحدى غرف القصر.
ولما علم مسلم بما جرى لهانئ بادر لإعلان الثورة على ابن زياد، لعلمه بأنه سيلقى نفس المصير الذي لاقاه هانئاً.
فأوعز إلى أصحابه، فاجتمع إليه أربعة آلاف، وهم ينادون بشعار المسلمين يوم بدر: يا مَنصُور أَمت.
وعندها أوعز الطاغية إلى جماعة من وجوه أهل الكوفة أن يبادروا بِبَثِّ الذعر ونشر الخوف بين الناس، وترويج الإشاعات الآتية:
الأولى: التهديد بجيوش أهل الشام التي ستشيع فيهم القتل والتنكيل إن بقوا مُصرِّين على المعصية والعناد.
الثانية: حِرمانَهُم من العطاء.
الثالثة: تَجميرهم في مَغَازي أهل الشام، وَزَجِّهم في سَاحات الحُروب.
الرابعة: أنهم إذا أصرّوا على التَمرّد فإن ابن زياد سَيُعلن الأحكام العرفية، وَيسَوِّسَهم بسياسة أبيه، والتي تحمل شارات الموت والدمار، حتى يقضي على جميع ألوان الشغب والعصيان.
وانطلق هؤلاء الجواسيس إلى صفوف جيش مسلم، فأخذوا يشيعون الخوف، ويبثّون الأراجيف، ويظهرون لهم الإشفاق خوفاً عليهم من جيوش أهل الشام القادمة.
فَمُنِي جيشُ مسلم بهزيمة مُخزية لم يَحدث لها نظير في جميع فترات التاريخ، فقد هَزمَتهُ الدعايات المُضلِّلة من دون أن تكون في قِبالِهِ أيَّة قُوَّة عسكرية، ولم يمضِ قليل من الوقت حتى انهزم معظم جيش مسلم.
وقد صلَّى بجماعة منهم صلاة العشاء في الجامع الأعظم فكانوا يَفرّون في أثناء الصلاة، وما أنهى ابن عقيل صلاته حتى انهزموا بأجمعهم، وقد أمسى وحيداً طريداً مُشرَّداً، لا مأوى يأوي إليه، ولا قَلبٌ يعطف عليه.
شهادة مسلم بن عقيل (عليه السلام):
طوى مسلم ليلته حزيناً تساوِرُه الهُموم، وكان – فيما يقول المؤرخون – قد قضى شطراً من الليل في عبادة الله، ما بين الصلاة وقراءة القرآن.
وقد خفق في بعض الليل، فرأى عَمَّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فأخبره بِسرعَةِ اللحَاق به، فأيقنَ عند ذلك بِدُنُوِّ الأجلِ المحتوم منه.
وقد أصدرت سلطات ابن زياد أمراً تَضمَّنَ ما يأتي:
أولاً: الحكم بالإعدام على كل من آوى مسلماً مهما كانت مكانته الاجتماعية.
ثانياً: إنَّ دِيَّة مسلم تكون لمن جاء به.
ثالثاً: إن من ظَفِر بمسلم تمنحه السلطة عشرة آلاف درهم.
رابعاً: إن من يأتي به يكون من المُقرَّبين عند الطاغية يزيد، وينال ثقته.
وتَمَنَّى أكثر أولئك الأوغاد الظفر بمسلم بين عقيل، لينالوا المكافأة، وكذا التَقَرّب إلى يزيد بن معاوية.
وبعد أن جرت معركة غير متكافئة بين مسلم وبين أزلام ابن زياد جُرح فيها مسلم، ووقع في أسر أعدائه، وسلَّموه إلى الطاغية ابن زياد، فأمر بإلقائه من أعلى القصر.
واستقبل مسلم الموت بثغر باسم، فَصُعِدَ به إلى أعلى القصر، وكان يسبِّح الله ويستغفره بِكلِّ طُمأنينة ورضا ويقول: (اللَّهُمَّ احكُمْ بيننا وبَين قَومٍ غَرّونا وَخذلونا).
واستُدعِيَ الجَلاَّدُ، فَضَربَ عُنُقَه، وَرَمى برأسه وجسدهِ (عليه السلام) إلى الأرض،
وسقط مسلم بن عقيل (عليه السلام) شهيداً،
دفاعاً عن الحق، ودفاعاً عن مولاه
وهي تحثه على المسير والقدوم إليهم لإنقاذهم من ظلم الأمويِّين وعُنفهم، وكانت بعض تلك الرسائل تحمِّلُه المسؤولية أمام الله والأمة إن تأخر عن إجابتهم.
ورأى الإمام – قبل كل شيء – أن يختارَ لِلُقيَاهُم سفيراً له،
يُعرِّفه باتجاهاتهم وَصِدقِ نِيَّاتِهم، فإن رأى منهم نيَّة صادقة، وعزيمة مُصمَّمة، فيأخذ البيعة منهم، ثم يتوجّه إليهم بعد ذلك.
وقد اختار (عليه السلام) لسفارتِه ثقتَه وكبيرَ أهلِ بيتِه مسلم بن عقيل، فاستجاب له عن رِضىً ورغبة، وَزوَّدَهُ برسالة وهي: (مِن الحُسينِ بن عَلي إِلى مَن بلغهُ كتابي هذا مِن أوليائِه وَشيعَتِه بالكوفة:
سلامٌ عليكم، أما بعد: فَقَد أتَتْني كُتُبكُم، وفهمتُ ما ذكرتُم مِن مَحبَّتِكم لِقُدومِي عَليكم، وأنا بَاعثٌ إِليكم بِأخي وابنِ عَمِّي وثِقتي من أهلي مسلم بن عقيل، لِيعلمَ لِي كُنْهَ أمْرِكُم، ويكتبَ إِليَّ بما يَتبَيَّن له من اجتماعِكُم، فإن كان أمرُكم على ما أتَتْني بِه كُتُبُكم، وأخبَرَتني به رُسُلُكم، أسرعتُ القُدومَ إليكُم إِن شَاء اللهُ، وَالسَّلام).
وتَسلَّم مسلم الرسالة، وغادر مكة ليلة النصف من رمضان، فَصلَّى في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله)، وَطَاف بِضريحِه، وَودَّع أهله وأصحابه، وكان ذلك هو الوداع الأخير لهم، واتَّجهَ صَوبَ العِراق، واستأجر دَليلين من قَيس يَدُلاَّنَه عَلى الطريق.
وسار مسلم يطوي البيداء، حتى دخل الكوفة فاختار النزول في بيت المختار الثقفي، لوثوقه منه بإخلاصه للإمام الحسين (عليه السلام) وتفانيه في حبه.
وفتح المختار أبواب داره لمسلم، وقابله بمزيد من الحفاوة والتكريم، ودعا الشيعة إلى مقابلته، فأقبلوا إليه من كُلِّ حَدبٍ وصَوب، وهم يظهرون لَهُ الولاء والطاعة.
وانثَالَت الشيعةُ على مسلم تبايعه للإمام الحسين (عليه السلام)، وكانت صيغة البيعة الدعوة إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله (صلى الله عليه وآله)، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقِسمَة الغنائم بين المسلمين بالسويَّة، وَرَد المَظالم إلى أهلها، ونصرة أهل البيت (عليهم السلام).
رسالة مسلم للإمام الحسين (عليه السلام):
ازداد مسلم إيماناً ووثوقاً بنجاح الدعوة حينما بايعه ذلك العدد الهائل من أهل الكوفة، فكتب للإمام (عليه السلام) يَستَحِثّه فيها على القدوم إليهم برسالة هذا نَصُّها:
(فإنَّ الرائدَ لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا، فَعجِّل حين يأتيك كتابي، فإن الناس كُلُّهم معك، ليس لَهم في آل معاوية رأي وَلا هَوى).
أما موقف النعمان بن بشير – والي الكوفة – من الثورة فقد كان موقفاً يتسم باللِّين والتسامح، وقد اتَّهمَهُ الحزب الأموي بالضعف، أو التضاعف في حفظ مصلحة الدولة، والاهتمام بسلامتها، فأجابهم: لأَنْ أكونَ ضعيفاً وأنا في طاعة الله أحَبُّ إليَّ من أن أكون قوياً في معصية الله، وما كنتُ لأهتك ستراً ستره الله.
ودافع النعمان عن نفسه بأنه لا يعتمد على أية وسيلة تبعده عن الله، ولا يسلك طريقاً يتجافى مع دينه، وقد استبانَ للحزب الأموي ضعف النعمان، وانهياره أمام الثورة.
اتصال الحزب الأموي بدمشق:
قام الحزب الأموي باتصال سريع بحكومة دمشق، وطلبوا منها اتخاذ الإجراءات الفورية قبل أن يتَّسع نطاق الثورة، ويأخذ العراق استقلاله، وينفصل عن التبعية لدمشق.
ومن بين الرسائل التي وفدت على يزيد رسالة عبد الله الحَضْرَمي التي جاء فيها: (أما بعد: فان مسلم بن عقيل قدم الكوفة، وبايعته الشيعة للحسين بن علي، فإن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قويا ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوك، فإن النعمان بن بشير رجلٌ ضعيف، أو هو يَتَضعَّف).
فكتب يزيد إلى عبيد الله بن زياد والي البصرة هذه الرسالة: (أما بعد: فإنه كتب إليَّ شيعتي من أهل الكوفة يُخبرونني أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لِشَقِّ عصا المسلمين، فَسِرْ حين تقرأُ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة، فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة، حتى تثقفه فتوثقه، أو تقتله، أو تنفيه، والسلام).
فأمر يزيد بِتَولِيةِ عبيد الله بن زياد على الكوفة بدلاً من النعمان بن بشير.
وفي اليوم الثاني لِوصولِه إلى الكوفة خَرجَ مُتقلِّداً سيفه، ومعتمّاً بعمامة، فاعْتَلى أعوادَ المنبر وخطب الناس، فقال: (أما بعد: فان أمير المؤمنين ولاَّني مِصرَكُم وثغركم وفيئكم، وأمرني بإنصاف مَظلومكم، وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، وبالشدة على مُريبكم، فأنا لِمُطيعكم كالوالد البرَّ الشفيق، وسيفي وسوطي على من ترك أمري وخالف عهدي.
ولم يُعرِّض في خطابه للإمام الحسين وسفيره مسلم (عليهما السلام)، وذلك خوفاً من انتفاضة الجماهير عليه وهو بعد لم يَحكُم أمره، وعمد ابن زياد إلى نشر الإرهاب وإذاعة الخوف.
ويقول بعض المؤرخين: إنه لما أصبح ابن زياد بعد قدومه إلى الكوفة صَال وجَال، وأرعَد وأبرَق، وأمسك جماعة من أهل الكوفة فقتلهم في الساعة، وقد عمد إلى ذلك لإِماتَةِ الأعصاب، وَصَرف الناس عن الثورة.
وفي اليوم الثاني أمر بجمع الناس في المسجد وخرج إليهم بِزيٍّ غير ما كان يخرج به، فخطب فيهم خطاباً عنيفا تَهدَّد فيه وتوعَّد، فقد قال بعد حمد الله والثناء عليه: (فإنه لا يُصلح هذا الأمر إلا في شِدَّة من غير عنف، ولِينٍّ من غير ضعف، وأن آخذ البريء بالسقيم، والشاهِد بالغائب، والوَلي بالوالي).
وبعد أن علم الطاغية بواسطة جواسيسه بأن هانئ بن عروة هو العضو البارز في الثورة وأن مسلم قد غَيَّر مكانه من دار المختار إلى دار هانئ، وأن هانئ يقوم بِدَورٍ فعَّال في دعم الثورة ومساندتها بجميع قدراته، وعرف ابن زياد بأن دار هانئ أصبحت مركزاً عامّاً للشيعة، ومَقَرّاً لمسلم بن عقيل، لم يقم ابن زياد بكبس وتطويق دار هانئ، وأحجم عن ذلك لعجزه عسكرياً، وعدم مقدرته على فتح باب الحرب.
فإن دار هانئ مع الدُور التي كانت محيطة بها كانت تضم أربعة آلاف مقاتل مِمَّن بايعوا مسلماً، بالإضافة إلى أتباع هانئ ومكانته المَرمُوقة في الكوفة، فلهذا لم يستطع ابن زياد من القيام بشيء نظراً للمضاعفات السيئة.
رسل الغدر:
أنفق ابن زياد لياليه ساهراً يطيل التفكير، ويطيل البحث مع حاشيته في شان هانئ، فهو أعزُّ من في المصر، وأقوى شخصية يستطيع القيام بحماية الثورة، فإذا قضى عليه فقد استأصل الثورة من جذورها.
وقد اتفق رأيهم على إبلاغ هانئ برغبة ابن زياد بزيارته، وشكَّلوا وفداً لدعوته إلى قصر الإمارة، فحضر معهم إلى القصر.
وبعد مشَادَة كلامية طالبَهُ ابن زياد بتسليم مسلم، فَسَخرَ منه هانئ وأنكر عليه قائلاً له مقالة الرجل الشريف: لا آتيك بضيفي أبداً.
وعندها سجنه ابن زياد في إحدى غرف القصر.
ولما علم مسلم بما جرى لهانئ بادر لإعلان الثورة على ابن زياد، لعلمه بأنه سيلقى نفس المصير الذي لاقاه هانئاً.
فأوعز إلى أصحابه، فاجتمع إليه أربعة آلاف، وهم ينادون بشعار المسلمين يوم بدر: يا مَنصُور أَمت.
وعندها أوعز الطاغية إلى جماعة من وجوه أهل الكوفة أن يبادروا بِبَثِّ الذعر ونشر الخوف بين الناس، وترويج الإشاعات الآتية:
الأولى: التهديد بجيوش أهل الشام التي ستشيع فيهم القتل والتنكيل إن بقوا مُصرِّين على المعصية والعناد.
الثانية: حِرمانَهُم من العطاء.
الثالثة: تَجميرهم في مَغَازي أهل الشام، وَزَجِّهم في سَاحات الحُروب.
الرابعة: أنهم إذا أصرّوا على التَمرّد فإن ابن زياد سَيُعلن الأحكام العرفية، وَيسَوِّسَهم بسياسة أبيه، والتي تحمل شارات الموت والدمار، حتى يقضي على جميع ألوان الشغب والعصيان.
وانطلق هؤلاء الجواسيس إلى صفوف جيش مسلم، فأخذوا يشيعون الخوف، ويبثّون الأراجيف، ويظهرون لهم الإشفاق خوفاً عليهم من جيوش أهل الشام القادمة.
فَمُنِي جيشُ مسلم بهزيمة مُخزية لم يَحدث لها نظير في جميع فترات التاريخ، فقد هَزمَتهُ الدعايات المُضلِّلة من دون أن تكون في قِبالِهِ أيَّة قُوَّة عسكرية، ولم يمضِ قليل من الوقت حتى انهزم معظم جيش مسلم.
وقد صلَّى بجماعة منهم صلاة العشاء في الجامع الأعظم فكانوا يَفرّون في أثناء الصلاة، وما أنهى ابن عقيل صلاته حتى انهزموا بأجمعهم، وقد أمسى وحيداً طريداً مُشرَّداً، لا مأوى يأوي إليه، ولا قَلبٌ يعطف عليه.
شهادة مسلم بن عقيل (عليه السلام):
طوى مسلم ليلته حزيناً تساوِرُه الهُموم، وكان – فيما يقول المؤرخون – قد قضى شطراً من الليل في عبادة الله، ما بين الصلاة وقراءة القرآن.
وقد خفق في بعض الليل، فرأى عَمَّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فأخبره بِسرعَةِ اللحَاق به، فأيقنَ عند ذلك بِدُنُوِّ الأجلِ المحتوم منه.
وقد أصدرت سلطات ابن زياد أمراً تَضمَّنَ ما يأتي:
أولاً: الحكم بالإعدام على كل من آوى مسلماً مهما كانت مكانته الاجتماعية.
ثانياً: إنَّ دِيَّة مسلم تكون لمن جاء به.
ثالثاً: إن من ظَفِر بمسلم تمنحه السلطة عشرة آلاف درهم.
رابعاً: إن من يأتي به يكون من المُقرَّبين عند الطاغية يزيد، وينال ثقته.
وتَمَنَّى أكثر أولئك الأوغاد الظفر بمسلم بين عقيل، لينالوا المكافأة، وكذا التَقَرّب إلى يزيد بن معاوية.
وبعد أن جرت معركة غير متكافئة بين مسلم وبين أزلام ابن زياد جُرح فيها مسلم، ووقع في أسر أعدائه، وسلَّموه إلى الطاغية ابن زياد، فأمر بإلقائه من أعلى القصر.
واستقبل مسلم الموت بثغر باسم، فَصُعِدَ به إلى أعلى القصر، وكان يسبِّح الله ويستغفره بِكلِّ طُمأنينة ورضا ويقول: (اللَّهُمَّ احكُمْ بيننا وبَين قَومٍ غَرّونا وَخذلونا).
واستُدعِيَ الجَلاَّدُ، فَضَربَ عُنُقَه، وَرَمى برأسه وجسدهِ (عليه السلام) إلى الأرض،
وسقط مسلم بن عقيل (عليه السلام) شهيداً،
دفاعاً عن الحق، ودفاعاً عن مولاه
الإمام الحسين (عليه السلام).
تعليق