الموقع الجغرافي لغدير خمّ د : محمّد باقر النجفي
اعتمد البكري الأندلسي العالم الجغرافي المتوفّي سنة 487هـ في كتابه (معجم ما استعجم) 1 : 492 على قول السكوني : أنّ آ«موضع غدير خمّ يقال له الخرّارآ» .
لكن وادي الخرّار يقع اليوم على ما هو المشهور بالظهر في امتداد وادي الخانق ، وهذا ما جعلني أسأل نفسي : كيف يمكن أن نجد المكان التاريخي لغدير خمّ استناداً إلى مثل هذه الموقعيّة .
بحثت في ذلك مدّة طويلة ، وتِهتُ في العبارات المتناقضة غير المفهومة ، وكلّما كنت أتقدّم في ذلك كنت أبتعد عن اللغة العلميّة الجغرافيّة ، وأبتعد في اصطلاحات الرواة وسياق عبارات المؤرّخين أكثر .
ولم أرَ دارساً في دراسته لكلام الرسول(صلى الله عليه وآله) في غدير خم ، يمارس نظرة جغرافية تاريخيّة ، ذهب إلى المنطقة لدراسة هذه الواقعة التاريخية الإسلامية في ميدان مشاهدة الموقع الجغرافي ، ولذلك لم يكن لي بُدٌّ إلاّ أن آخذ على عاتقي عبء السفر ، وأطوي فيافي الحجاز ، وأنزل في رابغ ، وأبحث عن موقع الغدير هنا وهناك . أُشاهدُ وأقرأ حتّى أجد بقلبي موضع الرسول وأُقبّله .
وبما أنّي طويت العرض الجغرافي 47/22 ، والطول الجغرافي 58 / 38 لصحراء رابغ لأغادر إلى ميقات الجحفة في العرض الجغرافي 42 / 22 والطول الجغرافي 8 / 39 ، فإنّ أوّل سؤال طرق ذهني هو : هل إنّ المكان الفعلي للميقات هو في نفس المكان المشهور في التاريخ بالجحفة ؟ فإن كان الجواب نعم ، فما هو دليله ، وإن لم يكن ، فماهو مقدار المسافة بين المكانين ؟
للوصول إلى جواب ، طويت مسافة نحو جهة الشمال الشرقيّ لمسجد ميقات الجحفة حتّى أصل إلى تلّ يقع في برقاء القطيعاء ، لأقوم بمشاهدة فيافي أطراف المنطقة ، وعندما وصلت إلى رأس التلّ النصف صخري وشاهدت الأطراف ، رأيت في الشمال الغربي بناءاً تاريخياً عظيماً مغموراً في الرمال .
وفي تلك اللحظة أيضاً رأيت البناء بقايا قصر وشبه قلعة أيضاً مرتفعة ،
تقع بالضبط في بداية وادي الحلق ، تدهش كلّ ناظر بعظمتها الخافية
الخامدة .
ورأيت أنّ موقع هذا البناء بالضبط في الحدّ الفاصل بين الحرّة الشرقية التي تسمّى (أبو برّة) والحرّة الجنوبية المشهورة بـ (العزورية) ، في بداية المسير الذي يذهب إلى (الخرّار) ، وعندما أردت أن اُحدِّد الموقع الجغرافي لهذا (الحصن) أو حسب قول الناس في أطراف المنطقة : قصر عُليا ، وصلت إلى أقرب عرض جغرافي 44/ 22 وطول جغرافي 7 / 39 ، وبالضبط في 16كم عن رابغ بجانب ساحل البحر الأحمر ، و9 كم عن شرق الجادّة الساحليّة (المدينة ـ جدّة ـ مكّة) .
* خريطة الموقع الجغرافيّ لرابغ
ونظراً لحدوث تغيير في مسير (وادي مر) و(وادي الخانق) باتجاه (وادي الخرّار) ، ومن هناك بطرف (وادي الحلق) واتصاله بـ (وادي الغائضة) ، فإنّ
وجود مثل هذا البناء العالي من القرون الماضية ، يشير إلى مركزيّة ، أي واد
في الجحفة ؟ وهل هو سوى أن يُعيّن بدقّة محلّ تجمّع أهالي الجحفة ، في تقاطع هذه الأودية ؟ وإذا كان كذلك ، فيجب أن يكون محلّ الميقات أبعد من مركز بلدة الجحفة .
اسمحوا لي أن ندرس الموضوع بكلّ صبر ، ونراعي الأمانة في الاستناد إلى المصادر ، لنستطيع فهم الإبهامات التأريخية لموقعيّة محلّ غدير خمّ ، ونجد الأجوبة التأريخية لذلك .
إنّ بقايا البناء التاريخي بجدرانه المرتفعة إلى 8م وطوله البالغ 33م والذي مبلغ مجموع مساحته 1089م ، لا يمكن أن يكون ـ في مجتمع قليل الأفراد مثل الجحفة في القرن 3 ، 4هـ ـ حصناً عسكرياً فقط ، ويجب أن يُرى كقلعة يعيش فيها أهل الجحفة ، وكان الحجّاج والمعتمرون المصريّون والمغاربة ، يُستضافون فيه ، ليُعدّ لهم عدّة سفرهم من ميقات الجحفة إلى مكّة .
ومثل اختيار هذا الرأي عن الجغرافيّة التأريخية للجحفة ، يوافق قول (الإمام الحربي) الذي كان يعيش في أواخر القرن الثالث ، حيث كتب : آ«الجحفة . . . عليها حصن وبابان ، والمنازل والسوق داخل الحصنآ» [1].
وسألت نفسي : لماذا بُني مثل هذه القلعة على مسافة تبلغ 4 / 5كم من مسجد ميقات الجحفة ؟! وصرت أبحث حتّى وصلت إلى مصدر تأريخي جغرافي ، وذلك هو قول البكري الأندلسي ، حيث كتب : آ«وفي أوّل الجحفة مسجد النبيّ صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم ، به موضع يقال له عَزوَرآ» [2].
فأيّ مسجد هذا بُني باسم النبي(صلى الله عليه وآله) ويقع في حوار الجهة الشماليّة الشرقيّة لحدود هذه القلاع الفعليّة في الجحفة ؟ ومن البديهي أنّ حَدَثَين مهمّين للتأريخ الإسلامي أضفَيا على الجحفة أهمّية خاصّة :
الأوّل : انتخاب المحلّ بعنوان ميقات للحجّ ، والثاني : هو الحدث الذي حصل أثناء رجوع النبيّ(صلى الله عليه وآله) من حجّة الوداع ، ونكتفي حول هذا الحدث المعنوي في السيرة من بين المصادر الأساس فقط ، بقول مؤرّخ كبير :
كتب ابن واضح اليعقوبيّ يقول [3]:
إنّ نبي الإسلام آ«خرج ليلاً منصرفاً إلى المدينة ، فصار إلى موضع بالقرب من الجحفة ، يقال له : غدير خمّ ، لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجّة ، وقام خطيباً وأخذ بيد علي بن أبي طالب فقال : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله! قال : فمن كنت مولاه ، فعليّ مولاه ، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه . . .آ» .
وقد بُني هذا المسجد باعتبار هذا الحدث التأريخي من توقّف الرسول(صلى الله عليه وآله)وإيراد خطبته ، وكان له أهمّية خاصّة في نظر التابعين والمسلمين الآخرين في القرون الإسلاميّة الاُولى ; فعندما يقول البكري الأندلسي : آ«غدير خمّ على ثلاثة أميال من الجحفة . . . وهي الغيضة التي تسمّى خمّآ» ، يُعلم أنّ محلّ غدير خمّ كان أبعد من محلّ ميقات (الجحفة) .
وقد ذكر الأسدي أيضاً ـ استناداً لما صرّح به السمهودي نفس المسافة 3 أميال [4]. وأرى ـ رغم أنّ عرام قد قال : آ«دون الجحفة على ميل غدير خمّآ» ،
خلافاً للنووي والزمخشري اللذين ذكرا نفس الثلاثة أميال ـ أنّه يجب أن لا يغلطنا ذلك ، لأنّا إذا قرّرنا حساب المسافة 3 أميال من مجمع ميقات الجحفة ، فسيكون محل البناء التأريخي في حدود مسجد غدير خمّ ، حيث عندما قسنا الفاصلة من مسجد الميقات إلى بقايا البناء التأريخي كانت حوالي 4000 ـ 5000م ، ونظراً بأنّ كلّ ميل عربي يساوي حوالي 1700م ، فذلك يتّفق أصولياً مع إشارة الإمام الحربي والبكري والزمخشري والثوري .
* تصاوير من منطقة الجحفة
وبعد حصول الاطمئنان من نتائج هذه الدراسة ، تعمّقتُ في الآراء المغايرة لها ، وبعد الجمع بين الآراء ، صرت أمام رأيين جديرين بالالتفات ، فأوّلاً : تأمّلت في رأي عرام القائل : بأنّ المسافة بين الغدير والجحفة ميل واحد ، فوجدت أنّ هذا الرأي لا يمكن أن يتغاير مع رأيي ، لأنّه لا يوضح هل أنّ مبدأ القياس كان من حصن الجحفة أو من محلّ الميقات ؟ لاسيما إذا اعتبرنا المسافة ميلاً واحداً من مركز حصن الجحفة حيث نحصل على نتيجة الثلاثة أميال بين حدود الميقات إلى غدير خمّ [5].
والرأي الآخر هو الاحتمال الذي احتمله الباحث المكّي المعاصر عاتق بن غيث البلادي ، حيث كتب : آ«عند البحث حول الموقع الجغرافي للجحفة ، رأيت رجلاً في البادية ، فسألته عن محلّ غدير خمّ ، وإنّ رجل البادية : آ«أشار إلى نخلات مطلع الشمس فقال : هُذيك ويسمّونه اليوم (الغربة) ، ويقع شرق رابغ بما يقرب من 26 كلمآ» [6].
أوّلاً : لم أجد في أيّ مصدر أنّ مؤرّخاً أو سائحاً أو جغرافياً وأديباً يرى أنّ غدير خم يقع في (غربة) . وكلّ ما علمناه عن طريق القوافل بين مكّة والمدينة ، وعرفناه بالخرائط التأريخية ، لم يكن مسير القوافل في شرق وادي مرّة في أيّ مكان . وما هو موجود ويمكن الاطمئنان به ، هو طريق الجحفة نحو الشمال عن طريق العزورية ، وليس من جهة حرّة ذويبان ، وكان بناءُ مسجد الغدير ومحلُّ عبادة قوافل الحجّاج يقع في نفس هذا المسير [7].
ثانياً : إذا رأينا أنّ قلعة الجحفة هي مركز الجحفة ، فسيكون محلّ غدير خمّ بزعم عاتق البلادي في بُعد 8 كم أي 7 أميال من الشمال الشرقيّ للجحفة ، ولايمكن أن نجد هذه المسافة في أيّ مصدر تأريخي ، وما هو موجود هو الحديث عن 1 ـ 3 أميال ، وعلى أكثر حدّ 2 ـ 5 كم .
ثالثاً : إذا أخذنا محلّ الميقات مركزاً للجحفة ، فستكون مسافة غدير خمّ إلى الميقات 14كم ، وتلك ليست بالمسافة القليلة لطرق قوافل الحجّاج حتّى يوقع الجغرافيّون والمؤرّخون في خطأ منها ، ليروا أنّ غدير خمّ عند الجحفة .
رابعاً : كيف يمكن الاعتماد على قول شخص تصوّر ـ بعد قرون ـ أنّ غدير خمّ بئر حولها عدد من النخيل ، في حين أنّ المحقّقين يذكرون محلّ غدير خمّ بعنوان بناء مسجد باسم غدير خم ، حيث كان على الأقلّ مدّة قرون في معرض أنظار الجغرافيين محلاًّ لعبادة قوافل الحجّاج والمدينة .
اسمحوا لي أن نطالع هذه الوثيقة التأريخيّة التالية :
خصّص الكليني في (الفروع من الكافي[8]) تحت عنوان آ«كتاب الحجّآ» فصلاً بغدير خمّ ، وقد أثبتت هذه الوثيقة تحت هذا العنوان : آ«عن أبان عن أبي عبدالله(عليه السلام)
قال : يستحبّ الصلاة في مسجد غدير خم لأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) أقام فيه . . .آ» .
ونقل عن عبد الرحمن الحجّاج أنّه قال : سألت أبا إبراهيم(عليه السلام) عن الصلاة في مسجد غدير خم في النهار وأنا مسافر ، فقال : صلّ فيه فإنّ فيه فضلاً . . .
ويرى السمهودي ـ بعد سبعة قرون ـ : أنّ محلّ غدير خم مسجد باسم غدير خم ويقول : آ«أخبرني مخبر أنّه رأى هذا المسجد على نحو هذه المسافة من الجحفة ، وقد هدم السيل بعضهآ» [9].
وقد وقعت في شكّ آخر وهو : أنّ أشخاصاً رووا خطبة النبي(صلى الله عليه وآله) في غدير خمّ وأشاروا إلى مكان آخر غير الجحفة ، فدرست مثل هذه الوثائق ورأيت أنّ جميع الآراء قائمة على الغدير الموجود في الجحفة ، وأنّهم كانوا يسمّونها سابقاً بـ آ«المهيعةآ» ، اُؤكّد أنّ الجحفة أو المهيعة هي التي تشير المصادر المتعدّدة إلى أنّ آبارها تقع في الطريق الذي بين مكّة ومصر والعراق والشام وفي مسير عودة الرسول(صلى الله عليه وآله)من مكّة إلى المدينة ، ولهذا نكتفي بعدد من المصادر التأريخية المعتمدة .
نقرأ في حديث جابر بن عبدالله عن الواقعة التي ذكرها ابن عقدة في (حديث الولاية) : آ«كنّا مع النبيّ في حجّة الوداع ، فلمّا رجع إلى الجحفة نزل ، ثمّ خطب الناس . . .آ» .
ونقرأ بسند حذيفة بن اُسيد في (الفصول المهمّة) لابن الصبّاغ المالكي : آ«لمّا صدر رسول الله من حجّة الوداع ولم يحجّ غيرها ، أقبل حتّى إذا كان بالجحفة . . .آ» .
ونقرأ في قول زيد بن أرقم الذي أثبته ابن طلحة الشافعي : آ«نزل رسول الله الجحفة ثمّ أقبل على الناس . . .آ» [10].
وهذا ، سوى ما صرّح به الرواة عن صحابة الرسول(صلى الله عليه وآله) : آ«إذ كان بالجحفة وذلك يوم غدير خم 18 من ذي الحجّة وله مسجد معروفآ» . . . آ«لمّا خرج النبي
إلى حجّة الوداع نزل الجحفةآ» ولم أجد إشارة إلى مكان آخر ، ولم يصرّح أيّ سند في الوثائق التأريخية للسفر الإلهي وحجّة الوداع بغير الجحفة إلى الخرّار أو وادي مرّ أو . . . فقلت لنفسي : لماذا يجب أن نبتعد كعاتق البلادي 18 ميلاً من الجحفة تبعاً لشخص غير معروف ، وذلك للبحث عن بئر ونبع الغدير في مكان غير معروف باسم (الغربة) بدلاً من دراسة حدود آثار خربة لبناء المسجد المشهور في التأريخ .
وكان عاتق ـ الذي هو لي بمثابة عالم محبوب ـ لا يطمئن إلى مثل هذا الاحتمال ، حيث لم يشر أبداً في كتابه [11]، إلى محلّ هذا الغدير في (الغربة) ، واكتفى بنفس أقوال القدماء أمثال (الزمخشري) الذي قال : آ«بالجحفة ، وقيل هو على ثلاثة أميال من الجحفة . . .آ» .
وقال (عرام) : آ«ودون الجحفة على ميلآ» ، وآ«قال الحازمي : خم واد . . . عند الجحفة بغدير . . .آ» صفحات 156 ـ 158 . في حين أنّ عاتق طبع كتابه (على طريق الهجرة) سنة 1398هـ ، فلماذا لم يشر إلى هذا الكشف وهذه النتيجة ، في سفره العلمي هذا سنة 1393هـ المطابق (1983م) في كتابه (معجم معالم الحجاز) تحت مادّة آ«خمآ» ، مع أنّ الطبعة الاُولى لذلك كانت بعد خمس سنوات من طبع كتابه (على طريق الهجرة) في سنة 1979م الموافق لسنة 1399هـ .
وأرى أنّ الجحفة لم تكن في زمن هجرة الرسول سوى قرية في محلّ التقاء القوافل ; وإلاّ كان موضعها يذكر في مسير الهجرة . ولماذا لا نرى أنّ قراها في حدود مسجد الغدير بعد ذلك وفي القرن الثاني ، حيث ظهرت في القرن الثاني بصورة مجموعة قرى ، وكانت إلى القرن الخامس الهجري مورد اهتمام الحكومات العلويّة في المدينة والمغرب ، وكذلك الخلفاء الفاطميّين .
وإنّ قبول هذا الرأي يلزم أن نستطيع بيان دليل تأريخي موثّق يعتمد بُعد محلّ مسجد الميقات عن مركز الجحفة ، لنقبل على أساس ذلك أنّ موقع مسجد غدير خم على بُعد 3 أميال من مسجد الميقات ، وقد تبدّل بعد ذلك إلى مركز الجحفة في محلّ بقايا القلعة السّكنية التأريخية المذكورة ، وأنّ الحافز الذي جعل أدارسة مراكش يهتمّون بشكل خاصّ منذ سنة 172 ـ 310 هـ لعمارة وعمران هذه المنطقة هو حفظ ذكرى الغدير في مسير العودة من حجّة الوداع ، بدليل الاهتمام بسفر الحجّاج المصريّين والمغاربة ، ويجب أن لا ننسى أنّ منطقة الحرمين ـ مكّة والمدينة ـ كانت جزءاً لا يتجزّأ من حكومة مصر ، وقد انضمّت بعد سقوط الفاطميّين إلى منطقة نفوذ صلاح الدِّين الأيّوبي ، كما يجب أن لا ننسى أنّه لا يمكن أن نرى وثائق للبناء التأريخي الباقي في الجحفة تشير إلى بناء كان يرتبط باهتمام الخلفاء العبّاسيّين لأنّ الفنّ المعماري المستخدم فيه يرجع إلى القرن 3 ـ 4 هـ ، وكلّ هذه الآراء تعود إلى بيان شواهد تاريخيّة جغرافيّة تثبت أنّ محلّ مسجد الميقات يبعد عن مركز الجحفة .
وكان هذا الموضوع ماثلا أمام عيني شهوراً خلال دراستي ، وعند مراجعتي لأيّ كتاب في التأريخ والجغرافيا والحديث . . . كنت اُدقِّق في معانيه بكلّ صبر وأناة ، عَلّي أجد جواب سؤالي ، إلى أن واجهت في دار الغربة ـ صدفةً ـ سنداً أحسبُ أنّه يمكن أن يُعدّ دليلاً تأريخياً موثّقاً .
وقد نقل هذا السند محمّد بن عمر الواقدي المتوفّى 207هـ في كتاب (المغازي) ، والنصّ العربي له : آ«فحدّثني أفلح بن حميد عن أبيه عن ابن عمر ، قال : . . . ونزل يوم الجمعة الجحفة ، ثمّ راح منها فصلّى في المسجد الذي يُحرم منه مُشرفاً خارجاً من الجحفة . . .آ» ، إذاً مسجد الميقات بناء كان خارج الجحفة ، والدليل التأريخي هذا السند في تأكيده على جملة آ«خارجاً من الجحفةآ» [12].
وإنّ مفهوم آ«خارجاً من الجحفةآ» ، أي أنّه خارج عن حدود مساكن الجحفة التي صار لها فيما بعد سور وبقايا آخِرِ بناء له موجود إلى اليوم ، ولهذا كان بئر الغدير بعيداً من مكان الميقات وإلى جانب أبنية مركز الجحفة في القرنين 2 ،3هـ .
اسمحو لي أن نوسّع الدراسة في هذا الموضوع ، ونتعمّق في المفهوم الجغرافي للألفاظ في الوثائق التأريخية بدلاً من الخلط في الوثائق ، ونطابق ذلك مع الموقع الجغرافي الفعلي لمنطقة الجحفة .
ذكر الحربي : آ«وبين المسجد والعين ، والغيضة ، وهي غدير خمآ» [13].
وقد أثبت السمهودي هذه العبارة نقلاً عن الأسدي[14] ، ولكنّه لم يسأل الأسدي عن مفهوم (العين) الجغرافي في هذه العبارة وعندما حقّقت في ذلك وجدّت أنّ الحربي قال في ذلك : آ«عين في بطن الوادي ، عليها حصن وبابان ، والمنازل في السوق داخل الحصنآ» [15].
إذاً ، إذا كان الحصن يقع بين مسجد الميقات و(عين الغيضة) ، والبناء يقع على بُعد 4 ـ 5 كم من الميقات ، فلا شكّ أنّ محلّ الغيضة الذي صرّح الإمام الحربيّ في القرن 3هـ فيه بقوله : آ«وهي غدير خمآ» ، في نفس هذه المجموعة من بقايا الأبنية بجانب الجحفة .
إذاً ، إنّ ما ذكره البكري : آ«موضع غدير خم يقال له الخرّارآ[16]» ليس بإشارة إلى مسافة بعيدة من هذه الأبنية ، لأنّ البكري ذكر أيضاً : آ«وهي الغيضة التي تسمّى خمّآ» [17].
وإنّ قول صاحب المشارق : آ«وإن خمّاً اسم غيضة هناك وبها غديرآ» كان مورد استناد عاتق البلادي في كتابه ، ولكنّه غفل عن أهمّية الاعتماد بسنديته في تعيين محلّ الغدير [18].
وعلى ذلك يمكن القول : إنّ المحلّ الذي ورد باسم (الخرّار) في المنطقة هو نفس محلّ غدير خمّ في موضع الغيضة ، وإلاّ لم يكن السمهودي ليصرّح : آ«الخرّار : إنّه بالجحفةآ» [19].
ويوجد هنا إبهام أساسي ، وهو إشارة الحربيّ إلى المسجدين في الجحفة دون أن يأتي على ذكر اسم لمسجد غدير خم ، فقد كتب تحت مادّة الجحفة : آ«وفي أوّلها مسجد للنبي يقال له مسجد الأئمّةآ» [20].
أوّلاً : إنّ هذه العلامة تتعلّق بالقرن 3هـ ، وعلى حدّ فهمي أنّه لا يدلّ على أنّ نفس هذه الأسماء بقيت في القرن 4 ، 5هـ .
ثانياً : إنّ الجحفة كانت عامرة إلى القرن 5 هـ ، وقد تبدّلت إلى خَرِبة في القرن 6هـ ، وما قاله جغرافيّو القرن 6 هـ وما بعده ، ليس هو بأوصاف الجحفة في القرن 1ـ3هـ ، ولا أوصافها في عصر الفاطميّين وسلطتهم على الحجاز في القرن 4هـ إلى أواخر القرن 5هـ .
وللاطمئنان بشكل أكبر ، سعيت لإعادة النظر بدقّة في المصادر التأريخيّة والجغرافيّة ، ومقارنتها بالدراسات الجديدة لمراكز التحقيقات الجامعيّة في العربية السعودية .
يتطابق اسم عَزوَر مع اسم (حرّة عزور) ]اليوم باسم العزورية[ الذي يقع بالضبط في شمال بناء الجحفة التأريخي ، حيث كانت المنطقة العامرة ، التي بقيت آثار سورها بعد التخريب بالضبط أمامي . بناءً على ذلك ، لا وجود بعد هذا لعمارة المسجد الذي كان مشهوراً في زمن الحربيّ بعزور .
ولكن كان هناك مسجد باسم الأئمّة ، وهو نفس المسجد الجنوبيّ حسب رأي أساتذة الجغرافيا في جامعة الملك عبد العزيز بجدّة ، وقد كتبوا بصورة صريحة في رسالة (إمارة رابغ): آ«مسجد الأئمّة هو في موضع الميقاتآ» [21].
ونظراً لتصريح جميع الدارسين المتقدّمين ببناء مسجدين في الجحفة باسم النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، أحدهما ميقات الإحرام ، والآخر غدير ذكرى لخطبة الغدير ، فلاشكّ أنّ (مسجد عزور) الذي يرى الحربيّ أنّه (مسجد للنبي) لايمكن أن يكون غير (مسجد غدير خم) .
لم ير السمهودي بناء هذا المسجد في أواخر القرن 9هـ بنفسه ، ولكنّه قال : أطلعه شخص : آ«أنّه رأى هذا المسجد على نحو هذه المسافة من الجحفة ، قد هدم السيلُ بعضَهآ[22]» ، ويتّضح هذا الرأي بدليل تاريخيّ آخر .
لاحظوا ، يتعرّض السمهودي في ذيل الفصل الثالث إلى جميع المساجد الموجودة في هذا الطريق البالغ 400كم ، ويقول : فيما ينسب إليه صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم من المساجد التي بين مكّة والمدينة . ولكن عندما يصل منطقة الجحفة ، يذكر مسجد الجحفة فقط ، ويصف موقعها بصورة عابرة ، ويذكر بعده (مسجد الغدير) ، ثمّ مسجد قديد الذي هو نفس (خيمة أُمّ معبد) [23].
فإن كنّا لا نرى أنّ (مسجد الأئمّة) هو الميقات و(مسجد عزور) هو غدير خم ، فإذاً أين يقع (مسجد الأئمّة) و(مسجد عزور) ؟! ، بالتأكيد إنّ اسم عزور في زمن الحربيّ هو نفس (مسجد غدير خم) في المصادر التأريخية الجغرافيّة للقرن 3 ـ أوّل القرن 6 هـ الذي انهدم في نفس ذلك القرن ، ووصل خبر خرابه للسمهودي ، ولا توجد له إلى اليوم علامة ولا اسم جوار خرائب الجحفة ، وانّ أهمّ المصادر التي وجدتها في هذا الخصوص هو رأي (نصر) الذي يقول : آ«عَزوَر ثنية الجحفة ; عليها الطريق بين مكّة والمدينةآ»(1) [24].
سألت نفسي بوصفي أحد دارسي فيافي الحجاز : لماذا خربت الجحفة العامرة ؟ ولم يبق اليوم منها سوى صحراء يابسة؟! ولماذا لا يوجد أثر لذلك العمران ؟! الجحفة التي صرّح كبار الدارسين بعمرانها ، منهم ابن رستة صاحب الأثر الجغرافي (الأعلاق النفيسة) في القرن 3 هـ حيث كتب يقول : آ«وهي قرية كبيرة ، وفيها سوق ، ومياه شربها من بئر . . .آ»(2) [25].
ووصفها المقدسيّ الجغرافيّ الآخر : إنّها آ«مدينة عامرةآ»(3) [26].
وذكرها الاصطخري في النصف الأوّل من القرن 4هـ بعنوان آ«منزل عامرآ» .
وكتب ابن خلدون في (تاريخ العبر) : آ«عامرة في عهد المأمونآ»(4) [27].
وذكرها الحميري في الروض المعطار ، بعنوان : آ«قرية جامعة لها منبرآ» ، وأتى على ذكرها البكري في القرن 5 هـ بنفس المضمون أيضاً و . . .
ولكن كيف صارت الجحفة بهذه الصورة; حيث عبّر عنها ياقوت الحموي ـ المتوفي سنة 616هـ في كتابه (معجم البلدان) بعد كلّ تلك الأهمّية لهذا
الموضوع ـ بعبارة قصيرة : آ«وهي الآن خرابآ» [28]. . . ، وكان هذا الخراب متزامناً مع خراب مسجد غدير خم ، وقد قبل الباحثون الجغرافيّون في جامعة الملك عبد العزيز في جدّة أنّه آ«لقد دُثر المسجد الشماليّ مع اندثار الجحفةآ[29]» المسجد الشمالي ؟!
وقد ذكروا أنّ هجرة قبائل من بني سليم : آ«اضطراب ظروف المنطقة في العصر العبّاسي الثاني . . . إلى بلاد المغرب العربيآ» كانت من عوامل هذا الانهدام[30].
وبالنتيجة ، إذا رأينا أنّ الانهدام كان بسبب بعثرة العبّاسيّين الناسَ من حول الغدير ، لم نظهر فهماً صحيحاً للمصادر التأريخية ، وهل إنّ طرح العوامل الجغرافية ـ مثل تغيير مسير (وادي مر وعُنيب) يمكن أن يكون له نفس الأهمّية التي تكمن في تغيير مسير قوافل الحجّ من الجحفة إلى رابغ ؟ أو هجرة القبائل في المنازعات الدينيّة للفاطميّين والعبّاسيّين ؟[31]!
وعندما بحثت في أنّه كيف يستطيع الحجّاج المغاربة والمصريّون الإحرام في الطريق البحري دون أن يتوقّفوا في ميقات الجحفة ؟ وقفةً من شأنها أن توجب ازدهار وإعمار الخرائب على أيّ حال ، علمتُ أنّهم كانوا يتوقّفون في ساحل البحر الأحمر الشرقيّ عندما كانت السفينة تصل رابغ ، دون أن يذهبوا إلى الجحفة حيث كانوا يعيّنون معياراً لحدّ الحرام ، حتّى أنّهم كانوا في بعض الأحيان يقومون بمراسم الإحرام، عندما كانت السفينة تمرّ أمام رابغ ، وقد أشار إبراهيم رفعت إلى ذلك إشارة عابرة ضمن شرح سفر حجّ المصريّين في سنة 1308هـ / مارس 1901م[32].
ولذلك سألت نفسي ـ بوصفي أحد الباحثين ـ : لماذا يجب أن يبقى هذا الميقات متهدّماً طيلة قرون مديدة ، كي لا تكون حادثة توقّف الرسول(صلى الله عليه وآله) في مكان باسم غدير خم إحراجاً لقوم ووسيلة لآخرين ؟!
إنّ سقوط الفاطميّين سنة 567هـ بيد صلاح الدِّين الأيّوبي ، وتسنّم الأيوبيّين السلطة في مصر 564 / 648 هـ الذي صار ـ مع الأسف ـ سبباً لازدهار ميناء جدّة ، وجعل الجحفة في مسير الانهدام ومعرضه ، جعلهم يفرحون أنّهم استطاعوا ـ عوضاً عن الفهم الصحيح للتأريخ ـ أن يحذفوا التأريخ!
والآن ـ وقد جُدِّد بناء مسجد الميقات ، وتوفّرت الإمكانات اللازمة للذين يريدون أن ينسلّوا من أنفسهم في هذا الميقات ليضعوها أمام الله ـ فإنّ الفرصة سانحة لإحياء تاريخ أهمّ مكان على مسير عودة الرسول من حجّة الوداع ، بإحياء مسجد الغدير في جهة شمال شرقي البناء التأريخي ، وبنفس الاعتبار التأريخي والشرعي ، وهمّة الذين جدّدوا بناء مسجد الميقات ، وبناء مسجد بدر في بدر ، وبناء مسجد العقبة في منى ، ومسجد عمر ومسجد عليّ(عليه السلام) في المدينة .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المناسك وأماكن طرق الحجّ ومعالم الجزيرة : 457 .
[2] معجم ما استعجم 1 : 368 .
[3] تاريخ اليعقوبي ، ج م ص112 ، استناداً إلى آ«س / د مركز التحقيقات الكامبيوتريّة للعلوم الإسلامية ، قم سي . ار . سي ، باسم نور السيرة .
[4] وفاء الوفاء : 1204
[5] الخارطة التي رسمتها للموقع الجغرافي ، كانون الثاني 1997 / اسفند 1375
[6] عاتق البلادي، طريق الهجرة: 61.
[7] خريطة مسير القوافل القديمة في منطقة رابغ
[8] الفروع من الكافي 4 : 566 .
[9] وفاء الوفاء 2 : 1018
[10] مطالب السؤال : 16
[11] معجم معالم الحجاز 3 ، ط : 1 ، 1979م ، تحت مادّة آ«خمآ» .
[12] كتاب المغازي ، تحقيق مارسدن جونس ، ج3 ص1096 ، ط / 1966م مصر دار المعارف
[13] المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة : ص458
[14] وفاء الوفاء : 1204
[15] المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة : 458
[16] معجم ما استعجم : ص492
[17] المصدر نفسه : 368
[18] معجم معالم الحجاز : 156
[19] وفاء الوفاء : 1200
[20] المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة : 457
[21] إمارة رابغ : 17
[22] وفاء الوفاء : 1018
[23] المصدر نفسه : 1001
[24] حمد الجاسر ، هامش ص457 (لكتاب المناسك) للإمام الحربي
[25] الأعلاق النفيسة ; مادّة : الجحفة
[26] أحسن التقاسيم : 11
[27] تاريخ العبر 3 : 52
[28] معجم البلدان 2 : 111
[29] إمارة رابغ : 17
[30] المصدر نفسه : 33
[31] راجع في هذا الشأن كتاب (بنو سليم) تأليف عبد القدوس الأنصاري ط : العربية السعودية ، وكتاب آ«صبح الأعشىآ» للقلقشندي في منتصف القرن 5هـ ، الذي كتب في عصره : آ«ومن الجحفة وحولها إلى ثنية المعروفة بعقبة السويس لسليمآ» 4 : 385 .
[32] مرآة الحرمين 1 : 15
اعتمد البكري الأندلسي العالم الجغرافي المتوفّي سنة 487هـ في كتابه (معجم ما استعجم) 1 : 492 على قول السكوني : أنّ آ«موضع غدير خمّ يقال له الخرّارآ» .
لكن وادي الخرّار يقع اليوم على ما هو المشهور بالظهر في امتداد وادي الخانق ، وهذا ما جعلني أسأل نفسي : كيف يمكن أن نجد المكان التاريخي لغدير خمّ استناداً إلى مثل هذه الموقعيّة .
بحثت في ذلك مدّة طويلة ، وتِهتُ في العبارات المتناقضة غير المفهومة ، وكلّما كنت أتقدّم في ذلك كنت أبتعد عن اللغة العلميّة الجغرافيّة ، وأبتعد في اصطلاحات الرواة وسياق عبارات المؤرّخين أكثر .
ولم أرَ دارساً في دراسته لكلام الرسول(صلى الله عليه وآله) في غدير خم ، يمارس نظرة جغرافية تاريخيّة ، ذهب إلى المنطقة لدراسة هذه الواقعة التاريخية الإسلامية في ميدان مشاهدة الموقع الجغرافي ، ولذلك لم يكن لي بُدٌّ إلاّ أن آخذ على عاتقي عبء السفر ، وأطوي فيافي الحجاز ، وأنزل في رابغ ، وأبحث عن موقع الغدير هنا وهناك . أُشاهدُ وأقرأ حتّى أجد بقلبي موضع الرسول وأُقبّله .
وبما أنّي طويت العرض الجغرافي 47/22 ، والطول الجغرافي 58 / 38 لصحراء رابغ لأغادر إلى ميقات الجحفة في العرض الجغرافي 42 / 22 والطول الجغرافي 8 / 39 ، فإنّ أوّل سؤال طرق ذهني هو : هل إنّ المكان الفعلي للميقات هو في نفس المكان المشهور في التاريخ بالجحفة ؟ فإن كان الجواب نعم ، فما هو دليله ، وإن لم يكن ، فماهو مقدار المسافة بين المكانين ؟
للوصول إلى جواب ، طويت مسافة نحو جهة الشمال الشرقيّ لمسجد ميقات الجحفة حتّى أصل إلى تلّ يقع في برقاء القطيعاء ، لأقوم بمشاهدة فيافي أطراف المنطقة ، وعندما وصلت إلى رأس التلّ النصف صخري وشاهدت الأطراف ، رأيت في الشمال الغربي بناءاً تاريخياً عظيماً مغموراً في الرمال .
وفي تلك اللحظة أيضاً رأيت البناء بقايا قصر وشبه قلعة أيضاً مرتفعة ،
تقع بالضبط في بداية وادي الحلق ، تدهش كلّ ناظر بعظمتها الخافية
الخامدة .
ورأيت أنّ موقع هذا البناء بالضبط في الحدّ الفاصل بين الحرّة الشرقية التي تسمّى (أبو برّة) والحرّة الجنوبية المشهورة بـ (العزورية) ، في بداية المسير الذي يذهب إلى (الخرّار) ، وعندما أردت أن اُحدِّد الموقع الجغرافي لهذا (الحصن) أو حسب قول الناس في أطراف المنطقة : قصر عُليا ، وصلت إلى أقرب عرض جغرافي 44/ 22 وطول جغرافي 7 / 39 ، وبالضبط في 16كم عن رابغ بجانب ساحل البحر الأحمر ، و9 كم عن شرق الجادّة الساحليّة (المدينة ـ جدّة ـ مكّة) .
* خريطة الموقع الجغرافيّ لرابغ
ونظراً لحدوث تغيير في مسير (وادي مر) و(وادي الخانق) باتجاه (وادي الخرّار) ، ومن هناك بطرف (وادي الحلق) واتصاله بـ (وادي الغائضة) ، فإنّ
وجود مثل هذا البناء العالي من القرون الماضية ، يشير إلى مركزيّة ، أي واد
في الجحفة ؟ وهل هو سوى أن يُعيّن بدقّة محلّ تجمّع أهالي الجحفة ، في تقاطع هذه الأودية ؟ وإذا كان كذلك ، فيجب أن يكون محلّ الميقات أبعد من مركز بلدة الجحفة .
اسمحوا لي أن ندرس الموضوع بكلّ صبر ، ونراعي الأمانة في الاستناد إلى المصادر ، لنستطيع فهم الإبهامات التأريخية لموقعيّة محلّ غدير خمّ ، ونجد الأجوبة التأريخية لذلك .
إنّ بقايا البناء التاريخي بجدرانه المرتفعة إلى 8م وطوله البالغ 33م والذي مبلغ مجموع مساحته 1089م ، لا يمكن أن يكون ـ في مجتمع قليل الأفراد مثل الجحفة في القرن 3 ، 4هـ ـ حصناً عسكرياً فقط ، ويجب أن يُرى كقلعة يعيش فيها أهل الجحفة ، وكان الحجّاج والمعتمرون المصريّون والمغاربة ، يُستضافون فيه ، ليُعدّ لهم عدّة سفرهم من ميقات الجحفة إلى مكّة .
ومثل اختيار هذا الرأي عن الجغرافيّة التأريخية للجحفة ، يوافق قول (الإمام الحربي) الذي كان يعيش في أواخر القرن الثالث ، حيث كتب : آ«الجحفة . . . عليها حصن وبابان ، والمنازل والسوق داخل الحصنآ» [1].
وسألت نفسي : لماذا بُني مثل هذه القلعة على مسافة تبلغ 4 / 5كم من مسجد ميقات الجحفة ؟! وصرت أبحث حتّى وصلت إلى مصدر تأريخي جغرافي ، وذلك هو قول البكري الأندلسي ، حيث كتب : آ«وفي أوّل الجحفة مسجد النبيّ صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم ، به موضع يقال له عَزوَرآ» [2].
فأيّ مسجد هذا بُني باسم النبي(صلى الله عليه وآله) ويقع في حوار الجهة الشماليّة الشرقيّة لحدود هذه القلاع الفعليّة في الجحفة ؟ ومن البديهي أنّ حَدَثَين مهمّين للتأريخ الإسلامي أضفَيا على الجحفة أهمّية خاصّة :
الأوّل : انتخاب المحلّ بعنوان ميقات للحجّ ، والثاني : هو الحدث الذي حصل أثناء رجوع النبيّ(صلى الله عليه وآله) من حجّة الوداع ، ونكتفي حول هذا الحدث المعنوي في السيرة من بين المصادر الأساس فقط ، بقول مؤرّخ كبير :
كتب ابن واضح اليعقوبيّ يقول [3]:
إنّ نبي الإسلام آ«خرج ليلاً منصرفاً إلى المدينة ، فصار إلى موضع بالقرب من الجحفة ، يقال له : غدير خمّ ، لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجّة ، وقام خطيباً وأخذ بيد علي بن أبي طالب فقال : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله! قال : فمن كنت مولاه ، فعليّ مولاه ، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه . . .آ» .
وقد بُني هذا المسجد باعتبار هذا الحدث التأريخي من توقّف الرسول(صلى الله عليه وآله)وإيراد خطبته ، وكان له أهمّية خاصّة في نظر التابعين والمسلمين الآخرين في القرون الإسلاميّة الاُولى ; فعندما يقول البكري الأندلسي : آ«غدير خمّ على ثلاثة أميال من الجحفة . . . وهي الغيضة التي تسمّى خمّآ» ، يُعلم أنّ محلّ غدير خمّ كان أبعد من محلّ ميقات (الجحفة) .
وقد ذكر الأسدي أيضاً ـ استناداً لما صرّح به السمهودي نفس المسافة 3 أميال [4]. وأرى ـ رغم أنّ عرام قد قال : آ«دون الجحفة على ميل غدير خمّآ» ،
خلافاً للنووي والزمخشري اللذين ذكرا نفس الثلاثة أميال ـ أنّه يجب أن لا يغلطنا ذلك ، لأنّا إذا قرّرنا حساب المسافة 3 أميال من مجمع ميقات الجحفة ، فسيكون محل البناء التأريخي في حدود مسجد غدير خمّ ، حيث عندما قسنا الفاصلة من مسجد الميقات إلى بقايا البناء التأريخي كانت حوالي 4000 ـ 5000م ، ونظراً بأنّ كلّ ميل عربي يساوي حوالي 1700م ، فذلك يتّفق أصولياً مع إشارة الإمام الحربي والبكري والزمخشري والثوري .
* تصاوير من منطقة الجحفة
وبعد حصول الاطمئنان من نتائج هذه الدراسة ، تعمّقتُ في الآراء المغايرة لها ، وبعد الجمع بين الآراء ، صرت أمام رأيين جديرين بالالتفات ، فأوّلاً : تأمّلت في رأي عرام القائل : بأنّ المسافة بين الغدير والجحفة ميل واحد ، فوجدت أنّ هذا الرأي لا يمكن أن يتغاير مع رأيي ، لأنّه لا يوضح هل أنّ مبدأ القياس كان من حصن الجحفة أو من محلّ الميقات ؟ لاسيما إذا اعتبرنا المسافة ميلاً واحداً من مركز حصن الجحفة حيث نحصل على نتيجة الثلاثة أميال بين حدود الميقات إلى غدير خمّ [5].
والرأي الآخر هو الاحتمال الذي احتمله الباحث المكّي المعاصر عاتق بن غيث البلادي ، حيث كتب : آ«عند البحث حول الموقع الجغرافي للجحفة ، رأيت رجلاً في البادية ، فسألته عن محلّ غدير خمّ ، وإنّ رجل البادية : آ«أشار إلى نخلات مطلع الشمس فقال : هُذيك ويسمّونه اليوم (الغربة) ، ويقع شرق رابغ بما يقرب من 26 كلمآ» [6].
أوّلاً : لم أجد في أيّ مصدر أنّ مؤرّخاً أو سائحاً أو جغرافياً وأديباً يرى أنّ غدير خم يقع في (غربة) . وكلّ ما علمناه عن طريق القوافل بين مكّة والمدينة ، وعرفناه بالخرائط التأريخية ، لم يكن مسير القوافل في شرق وادي مرّة في أيّ مكان . وما هو موجود ويمكن الاطمئنان به ، هو طريق الجحفة نحو الشمال عن طريق العزورية ، وليس من جهة حرّة ذويبان ، وكان بناءُ مسجد الغدير ومحلُّ عبادة قوافل الحجّاج يقع في نفس هذا المسير [7].
ثانياً : إذا رأينا أنّ قلعة الجحفة هي مركز الجحفة ، فسيكون محلّ غدير خمّ بزعم عاتق البلادي في بُعد 8 كم أي 7 أميال من الشمال الشرقيّ للجحفة ، ولايمكن أن نجد هذه المسافة في أيّ مصدر تأريخي ، وما هو موجود هو الحديث عن 1 ـ 3 أميال ، وعلى أكثر حدّ 2 ـ 5 كم .
ثالثاً : إذا أخذنا محلّ الميقات مركزاً للجحفة ، فستكون مسافة غدير خمّ إلى الميقات 14كم ، وتلك ليست بالمسافة القليلة لطرق قوافل الحجّاج حتّى يوقع الجغرافيّون والمؤرّخون في خطأ منها ، ليروا أنّ غدير خمّ عند الجحفة .
رابعاً : كيف يمكن الاعتماد على قول شخص تصوّر ـ بعد قرون ـ أنّ غدير خمّ بئر حولها عدد من النخيل ، في حين أنّ المحقّقين يذكرون محلّ غدير خمّ بعنوان بناء مسجد باسم غدير خم ، حيث كان على الأقلّ مدّة قرون في معرض أنظار الجغرافيين محلاًّ لعبادة قوافل الحجّاج والمدينة .
اسمحوا لي أن نطالع هذه الوثيقة التأريخيّة التالية :
خصّص الكليني في (الفروع من الكافي[8]) تحت عنوان آ«كتاب الحجّآ» فصلاً بغدير خمّ ، وقد أثبتت هذه الوثيقة تحت هذا العنوان : آ«عن أبان عن أبي عبدالله(عليه السلام)
قال : يستحبّ الصلاة في مسجد غدير خم لأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) أقام فيه . . .آ» .
ونقل عن عبد الرحمن الحجّاج أنّه قال : سألت أبا إبراهيم(عليه السلام) عن الصلاة في مسجد غدير خم في النهار وأنا مسافر ، فقال : صلّ فيه فإنّ فيه فضلاً . . .
ويرى السمهودي ـ بعد سبعة قرون ـ : أنّ محلّ غدير خم مسجد باسم غدير خم ويقول : آ«أخبرني مخبر أنّه رأى هذا المسجد على نحو هذه المسافة من الجحفة ، وقد هدم السيل بعضهآ» [9].
وقد وقعت في شكّ آخر وهو : أنّ أشخاصاً رووا خطبة النبي(صلى الله عليه وآله) في غدير خمّ وأشاروا إلى مكان آخر غير الجحفة ، فدرست مثل هذه الوثائق ورأيت أنّ جميع الآراء قائمة على الغدير الموجود في الجحفة ، وأنّهم كانوا يسمّونها سابقاً بـ آ«المهيعةآ» ، اُؤكّد أنّ الجحفة أو المهيعة هي التي تشير المصادر المتعدّدة إلى أنّ آبارها تقع في الطريق الذي بين مكّة ومصر والعراق والشام وفي مسير عودة الرسول(صلى الله عليه وآله)من مكّة إلى المدينة ، ولهذا نكتفي بعدد من المصادر التأريخية المعتمدة .
نقرأ في حديث جابر بن عبدالله عن الواقعة التي ذكرها ابن عقدة في (حديث الولاية) : آ«كنّا مع النبيّ في حجّة الوداع ، فلمّا رجع إلى الجحفة نزل ، ثمّ خطب الناس . . .آ» .
ونقرأ بسند حذيفة بن اُسيد في (الفصول المهمّة) لابن الصبّاغ المالكي : آ«لمّا صدر رسول الله من حجّة الوداع ولم يحجّ غيرها ، أقبل حتّى إذا كان بالجحفة . . .آ» .
ونقرأ في قول زيد بن أرقم الذي أثبته ابن طلحة الشافعي : آ«نزل رسول الله الجحفة ثمّ أقبل على الناس . . .آ» [10].
وهذا ، سوى ما صرّح به الرواة عن صحابة الرسول(صلى الله عليه وآله) : آ«إذ كان بالجحفة وذلك يوم غدير خم 18 من ذي الحجّة وله مسجد معروفآ» . . . آ«لمّا خرج النبي
إلى حجّة الوداع نزل الجحفةآ» ولم أجد إشارة إلى مكان آخر ، ولم يصرّح أيّ سند في الوثائق التأريخية للسفر الإلهي وحجّة الوداع بغير الجحفة إلى الخرّار أو وادي مرّ أو . . . فقلت لنفسي : لماذا يجب أن نبتعد كعاتق البلادي 18 ميلاً من الجحفة تبعاً لشخص غير معروف ، وذلك للبحث عن بئر ونبع الغدير في مكان غير معروف باسم (الغربة) بدلاً من دراسة حدود آثار خربة لبناء المسجد المشهور في التأريخ .
وكان عاتق ـ الذي هو لي بمثابة عالم محبوب ـ لا يطمئن إلى مثل هذا الاحتمال ، حيث لم يشر أبداً في كتابه [11]، إلى محلّ هذا الغدير في (الغربة) ، واكتفى بنفس أقوال القدماء أمثال (الزمخشري) الذي قال : آ«بالجحفة ، وقيل هو على ثلاثة أميال من الجحفة . . .آ» .
وقال (عرام) : آ«ودون الجحفة على ميلآ» ، وآ«قال الحازمي : خم واد . . . عند الجحفة بغدير . . .آ» صفحات 156 ـ 158 . في حين أنّ عاتق طبع كتابه (على طريق الهجرة) سنة 1398هـ ، فلماذا لم يشر إلى هذا الكشف وهذه النتيجة ، في سفره العلمي هذا سنة 1393هـ المطابق (1983م) في كتابه (معجم معالم الحجاز) تحت مادّة آ«خمآ» ، مع أنّ الطبعة الاُولى لذلك كانت بعد خمس سنوات من طبع كتابه (على طريق الهجرة) في سنة 1979م الموافق لسنة 1399هـ .
وأرى أنّ الجحفة لم تكن في زمن هجرة الرسول سوى قرية في محلّ التقاء القوافل ; وإلاّ كان موضعها يذكر في مسير الهجرة . ولماذا لا نرى أنّ قراها في حدود مسجد الغدير بعد ذلك وفي القرن الثاني ، حيث ظهرت في القرن الثاني بصورة مجموعة قرى ، وكانت إلى القرن الخامس الهجري مورد اهتمام الحكومات العلويّة في المدينة والمغرب ، وكذلك الخلفاء الفاطميّين .
وإنّ قبول هذا الرأي يلزم أن نستطيع بيان دليل تأريخي موثّق يعتمد بُعد محلّ مسجد الميقات عن مركز الجحفة ، لنقبل على أساس ذلك أنّ موقع مسجد غدير خم على بُعد 3 أميال من مسجد الميقات ، وقد تبدّل بعد ذلك إلى مركز الجحفة في محلّ بقايا القلعة السّكنية التأريخية المذكورة ، وأنّ الحافز الذي جعل أدارسة مراكش يهتمّون بشكل خاصّ منذ سنة 172 ـ 310 هـ لعمارة وعمران هذه المنطقة هو حفظ ذكرى الغدير في مسير العودة من حجّة الوداع ، بدليل الاهتمام بسفر الحجّاج المصريّين والمغاربة ، ويجب أن لا ننسى أنّ منطقة الحرمين ـ مكّة والمدينة ـ كانت جزءاً لا يتجزّأ من حكومة مصر ، وقد انضمّت بعد سقوط الفاطميّين إلى منطقة نفوذ صلاح الدِّين الأيّوبي ، كما يجب أن لا ننسى أنّه لا يمكن أن نرى وثائق للبناء التأريخي الباقي في الجحفة تشير إلى بناء كان يرتبط باهتمام الخلفاء العبّاسيّين لأنّ الفنّ المعماري المستخدم فيه يرجع إلى القرن 3 ـ 4 هـ ، وكلّ هذه الآراء تعود إلى بيان شواهد تاريخيّة جغرافيّة تثبت أنّ محلّ مسجد الميقات يبعد عن مركز الجحفة .
وكان هذا الموضوع ماثلا أمام عيني شهوراً خلال دراستي ، وعند مراجعتي لأيّ كتاب في التأريخ والجغرافيا والحديث . . . كنت اُدقِّق في معانيه بكلّ صبر وأناة ، عَلّي أجد جواب سؤالي ، إلى أن واجهت في دار الغربة ـ صدفةً ـ سنداً أحسبُ أنّه يمكن أن يُعدّ دليلاً تأريخياً موثّقاً .
وقد نقل هذا السند محمّد بن عمر الواقدي المتوفّى 207هـ في كتاب (المغازي) ، والنصّ العربي له : آ«فحدّثني أفلح بن حميد عن أبيه عن ابن عمر ، قال : . . . ونزل يوم الجمعة الجحفة ، ثمّ راح منها فصلّى في المسجد الذي يُحرم منه مُشرفاً خارجاً من الجحفة . . .آ» ، إذاً مسجد الميقات بناء كان خارج الجحفة ، والدليل التأريخي هذا السند في تأكيده على جملة آ«خارجاً من الجحفةآ» [12].
وإنّ مفهوم آ«خارجاً من الجحفةآ» ، أي أنّه خارج عن حدود مساكن الجحفة التي صار لها فيما بعد سور وبقايا آخِرِ بناء له موجود إلى اليوم ، ولهذا كان بئر الغدير بعيداً من مكان الميقات وإلى جانب أبنية مركز الجحفة في القرنين 2 ،3هـ .
اسمحو لي أن نوسّع الدراسة في هذا الموضوع ، ونتعمّق في المفهوم الجغرافي للألفاظ في الوثائق التأريخية بدلاً من الخلط في الوثائق ، ونطابق ذلك مع الموقع الجغرافي الفعلي لمنطقة الجحفة .
ذكر الحربي : آ«وبين المسجد والعين ، والغيضة ، وهي غدير خمآ» [13].
وقد أثبت السمهودي هذه العبارة نقلاً عن الأسدي[14] ، ولكنّه لم يسأل الأسدي عن مفهوم (العين) الجغرافي في هذه العبارة وعندما حقّقت في ذلك وجدّت أنّ الحربي قال في ذلك : آ«عين في بطن الوادي ، عليها حصن وبابان ، والمنازل في السوق داخل الحصنآ» [15].
إذاً ، إذا كان الحصن يقع بين مسجد الميقات و(عين الغيضة) ، والبناء يقع على بُعد 4 ـ 5 كم من الميقات ، فلا شكّ أنّ محلّ الغيضة الذي صرّح الإمام الحربيّ في القرن 3هـ فيه بقوله : آ«وهي غدير خمآ» ، في نفس هذه المجموعة من بقايا الأبنية بجانب الجحفة .
إذاً ، إنّ ما ذكره البكري : آ«موضع غدير خم يقال له الخرّارآ[16]» ليس بإشارة إلى مسافة بعيدة من هذه الأبنية ، لأنّ البكري ذكر أيضاً : آ«وهي الغيضة التي تسمّى خمّآ» [17].
وإنّ قول صاحب المشارق : آ«وإن خمّاً اسم غيضة هناك وبها غديرآ» كان مورد استناد عاتق البلادي في كتابه ، ولكنّه غفل عن أهمّية الاعتماد بسنديته في تعيين محلّ الغدير [18].
وعلى ذلك يمكن القول : إنّ المحلّ الذي ورد باسم (الخرّار) في المنطقة هو نفس محلّ غدير خمّ في موضع الغيضة ، وإلاّ لم يكن السمهودي ليصرّح : آ«الخرّار : إنّه بالجحفةآ» [19].
ويوجد هنا إبهام أساسي ، وهو إشارة الحربيّ إلى المسجدين في الجحفة دون أن يأتي على ذكر اسم لمسجد غدير خم ، فقد كتب تحت مادّة الجحفة : آ«وفي أوّلها مسجد للنبي يقال له مسجد الأئمّةآ» [20].
أوّلاً : إنّ هذه العلامة تتعلّق بالقرن 3هـ ، وعلى حدّ فهمي أنّه لا يدلّ على أنّ نفس هذه الأسماء بقيت في القرن 4 ، 5هـ .
ثانياً : إنّ الجحفة كانت عامرة إلى القرن 5 هـ ، وقد تبدّلت إلى خَرِبة في القرن 6هـ ، وما قاله جغرافيّو القرن 6 هـ وما بعده ، ليس هو بأوصاف الجحفة في القرن 1ـ3هـ ، ولا أوصافها في عصر الفاطميّين وسلطتهم على الحجاز في القرن 4هـ إلى أواخر القرن 5هـ .
وللاطمئنان بشكل أكبر ، سعيت لإعادة النظر بدقّة في المصادر التأريخيّة والجغرافيّة ، ومقارنتها بالدراسات الجديدة لمراكز التحقيقات الجامعيّة في العربية السعودية .
يتطابق اسم عَزوَر مع اسم (حرّة عزور) ]اليوم باسم العزورية[ الذي يقع بالضبط في شمال بناء الجحفة التأريخي ، حيث كانت المنطقة العامرة ، التي بقيت آثار سورها بعد التخريب بالضبط أمامي . بناءً على ذلك ، لا وجود بعد هذا لعمارة المسجد الذي كان مشهوراً في زمن الحربيّ بعزور .
ولكن كان هناك مسجد باسم الأئمّة ، وهو نفس المسجد الجنوبيّ حسب رأي أساتذة الجغرافيا في جامعة الملك عبد العزيز بجدّة ، وقد كتبوا بصورة صريحة في رسالة (إمارة رابغ): آ«مسجد الأئمّة هو في موضع الميقاتآ» [21].
ونظراً لتصريح جميع الدارسين المتقدّمين ببناء مسجدين في الجحفة باسم النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، أحدهما ميقات الإحرام ، والآخر غدير ذكرى لخطبة الغدير ، فلاشكّ أنّ (مسجد عزور) الذي يرى الحربيّ أنّه (مسجد للنبي) لايمكن أن يكون غير (مسجد غدير خم) .
لم ير السمهودي بناء هذا المسجد في أواخر القرن 9هـ بنفسه ، ولكنّه قال : أطلعه شخص : آ«أنّه رأى هذا المسجد على نحو هذه المسافة من الجحفة ، قد هدم السيلُ بعضَهآ[22]» ، ويتّضح هذا الرأي بدليل تاريخيّ آخر .
لاحظوا ، يتعرّض السمهودي في ذيل الفصل الثالث إلى جميع المساجد الموجودة في هذا الطريق البالغ 400كم ، ويقول : فيما ينسب إليه صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم من المساجد التي بين مكّة والمدينة . ولكن عندما يصل منطقة الجحفة ، يذكر مسجد الجحفة فقط ، ويصف موقعها بصورة عابرة ، ويذكر بعده (مسجد الغدير) ، ثمّ مسجد قديد الذي هو نفس (خيمة أُمّ معبد) [23].
فإن كنّا لا نرى أنّ (مسجد الأئمّة) هو الميقات و(مسجد عزور) هو غدير خم ، فإذاً أين يقع (مسجد الأئمّة) و(مسجد عزور) ؟! ، بالتأكيد إنّ اسم عزور في زمن الحربيّ هو نفس (مسجد غدير خم) في المصادر التأريخية الجغرافيّة للقرن 3 ـ أوّل القرن 6 هـ الذي انهدم في نفس ذلك القرن ، ووصل خبر خرابه للسمهودي ، ولا توجد له إلى اليوم علامة ولا اسم جوار خرائب الجحفة ، وانّ أهمّ المصادر التي وجدتها في هذا الخصوص هو رأي (نصر) الذي يقول : آ«عَزوَر ثنية الجحفة ; عليها الطريق بين مكّة والمدينةآ»(1) [24].
سألت نفسي بوصفي أحد دارسي فيافي الحجاز : لماذا خربت الجحفة العامرة ؟ ولم يبق اليوم منها سوى صحراء يابسة؟! ولماذا لا يوجد أثر لذلك العمران ؟! الجحفة التي صرّح كبار الدارسين بعمرانها ، منهم ابن رستة صاحب الأثر الجغرافي (الأعلاق النفيسة) في القرن 3 هـ حيث كتب يقول : آ«وهي قرية كبيرة ، وفيها سوق ، ومياه شربها من بئر . . .آ»(2) [25].
ووصفها المقدسيّ الجغرافيّ الآخر : إنّها آ«مدينة عامرةآ»(3) [26].
وذكرها الاصطخري في النصف الأوّل من القرن 4هـ بعنوان آ«منزل عامرآ» .
وكتب ابن خلدون في (تاريخ العبر) : آ«عامرة في عهد المأمونآ»(4) [27].
وذكرها الحميري في الروض المعطار ، بعنوان : آ«قرية جامعة لها منبرآ» ، وأتى على ذكرها البكري في القرن 5 هـ بنفس المضمون أيضاً و . . .
ولكن كيف صارت الجحفة بهذه الصورة; حيث عبّر عنها ياقوت الحموي ـ المتوفي سنة 616هـ في كتابه (معجم البلدان) بعد كلّ تلك الأهمّية لهذا
الموضوع ـ بعبارة قصيرة : آ«وهي الآن خرابآ» [28]. . . ، وكان هذا الخراب متزامناً مع خراب مسجد غدير خم ، وقد قبل الباحثون الجغرافيّون في جامعة الملك عبد العزيز في جدّة أنّه آ«لقد دُثر المسجد الشماليّ مع اندثار الجحفةآ[29]» المسجد الشمالي ؟!
وقد ذكروا أنّ هجرة قبائل من بني سليم : آ«اضطراب ظروف المنطقة في العصر العبّاسي الثاني . . . إلى بلاد المغرب العربيآ» كانت من عوامل هذا الانهدام[30].
وبالنتيجة ، إذا رأينا أنّ الانهدام كان بسبب بعثرة العبّاسيّين الناسَ من حول الغدير ، لم نظهر فهماً صحيحاً للمصادر التأريخية ، وهل إنّ طرح العوامل الجغرافية ـ مثل تغيير مسير (وادي مر وعُنيب) يمكن أن يكون له نفس الأهمّية التي تكمن في تغيير مسير قوافل الحجّ من الجحفة إلى رابغ ؟ أو هجرة القبائل في المنازعات الدينيّة للفاطميّين والعبّاسيّين ؟[31]!
وعندما بحثت في أنّه كيف يستطيع الحجّاج المغاربة والمصريّون الإحرام في الطريق البحري دون أن يتوقّفوا في ميقات الجحفة ؟ وقفةً من شأنها أن توجب ازدهار وإعمار الخرائب على أيّ حال ، علمتُ أنّهم كانوا يتوقّفون في ساحل البحر الأحمر الشرقيّ عندما كانت السفينة تصل رابغ ، دون أن يذهبوا إلى الجحفة حيث كانوا يعيّنون معياراً لحدّ الحرام ، حتّى أنّهم كانوا في بعض الأحيان يقومون بمراسم الإحرام، عندما كانت السفينة تمرّ أمام رابغ ، وقد أشار إبراهيم رفعت إلى ذلك إشارة عابرة ضمن شرح سفر حجّ المصريّين في سنة 1308هـ / مارس 1901م[32].
ولذلك سألت نفسي ـ بوصفي أحد الباحثين ـ : لماذا يجب أن يبقى هذا الميقات متهدّماً طيلة قرون مديدة ، كي لا تكون حادثة توقّف الرسول(صلى الله عليه وآله) في مكان باسم غدير خم إحراجاً لقوم ووسيلة لآخرين ؟!
إنّ سقوط الفاطميّين سنة 567هـ بيد صلاح الدِّين الأيّوبي ، وتسنّم الأيوبيّين السلطة في مصر 564 / 648 هـ الذي صار ـ مع الأسف ـ سبباً لازدهار ميناء جدّة ، وجعل الجحفة في مسير الانهدام ومعرضه ، جعلهم يفرحون أنّهم استطاعوا ـ عوضاً عن الفهم الصحيح للتأريخ ـ أن يحذفوا التأريخ!
والآن ـ وقد جُدِّد بناء مسجد الميقات ، وتوفّرت الإمكانات اللازمة للذين يريدون أن ينسلّوا من أنفسهم في هذا الميقات ليضعوها أمام الله ـ فإنّ الفرصة سانحة لإحياء تاريخ أهمّ مكان على مسير عودة الرسول من حجّة الوداع ، بإحياء مسجد الغدير في جهة شمال شرقي البناء التأريخي ، وبنفس الاعتبار التأريخي والشرعي ، وهمّة الذين جدّدوا بناء مسجد الميقات ، وبناء مسجد بدر في بدر ، وبناء مسجد العقبة في منى ، ومسجد عمر ومسجد عليّ(عليه السلام) في المدينة .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المناسك وأماكن طرق الحجّ ومعالم الجزيرة : 457 .
[2] معجم ما استعجم 1 : 368 .
[3] تاريخ اليعقوبي ، ج م ص112 ، استناداً إلى آ«س / د مركز التحقيقات الكامبيوتريّة للعلوم الإسلامية ، قم سي . ار . سي ، باسم نور السيرة .
[4] وفاء الوفاء : 1204
[5] الخارطة التي رسمتها للموقع الجغرافي ، كانون الثاني 1997 / اسفند 1375
[6] عاتق البلادي، طريق الهجرة: 61.
[7] خريطة مسير القوافل القديمة في منطقة رابغ
[8] الفروع من الكافي 4 : 566 .
[9] وفاء الوفاء 2 : 1018
[10] مطالب السؤال : 16
[11] معجم معالم الحجاز 3 ، ط : 1 ، 1979م ، تحت مادّة آ«خمآ» .
[12] كتاب المغازي ، تحقيق مارسدن جونس ، ج3 ص1096 ، ط / 1966م مصر دار المعارف
[13] المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة : ص458
[14] وفاء الوفاء : 1204
[15] المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة : 458
[16] معجم ما استعجم : ص492
[17] المصدر نفسه : 368
[18] معجم معالم الحجاز : 156
[19] وفاء الوفاء : 1200
[20] المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة : 457
[21] إمارة رابغ : 17
[22] وفاء الوفاء : 1018
[23] المصدر نفسه : 1001
[24] حمد الجاسر ، هامش ص457 (لكتاب المناسك) للإمام الحربي
[25] الأعلاق النفيسة ; مادّة : الجحفة
[26] أحسن التقاسيم : 11
[27] تاريخ العبر 3 : 52
[28] معجم البلدان 2 : 111
[29] إمارة رابغ : 17
[30] المصدر نفسه : 33
[31] راجع في هذا الشأن كتاب (بنو سليم) تأليف عبد القدوس الأنصاري ط : العربية السعودية ، وكتاب آ«صبح الأعشىآ» للقلقشندي في منتصف القرن 5هـ ، الذي كتب في عصره : آ«ومن الجحفة وحولها إلى ثنية المعروفة بعقبة السويس لسليمآ» 4 : 385 .
[32] مرآة الحرمين 1 : 15
تعليق