وفد نجران .. أحداث وتفاصيل
ماذا عن نجران؟!:
قالوا: «نجران: بلد كبير يقع على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن، يشتمل على ثلاث وسبعين قرية، مسيرة يوم للراكب السريع ـ كما في فتح الباري ـ والأخدود المذكور في القرآن قرية من قراها»
وقالوا: إنه هو من مخاليف اليمن بالقرب من صنعاء، ما بين عدن وحضرموت.
وكل أهل نجران صنفين: نصارى وأميين؛ فأما النصارى فنحن نتحدث عنهم، وقد صالحهم. وأما الأميون منهم، فبعث إليهم خالد بن الوليد، فأسلموا، وقدم وفدهم على النبي «صلى الله عليه وآله»...
كتاب دعوة.. ووفد استطلاع:
وكتب رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه: {طس}.{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ما يلي:
« بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، من محمد النبي «صلى الله عليه وآله» إلى أسقف نجران وأهل نجران، إن أسلمتم فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
أما بعد.. فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام».
والظاهر: أن المبعوث إليه هذا الكتاب هو الأسقف أبو حارثة بن علقمة، فإنه كان هو الرأس فيهم.
فلما أتى الأسقف الكتاب وقرأه قُطِعَ به، وذعر ذعراً شديداً. فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له: شرحبيل بن وداعة، وكان من همدان. ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة إلا الأيهم ـ وهو السيد ـ والعاقب. فدفع الأسقف كتاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى شرحبيل وقرأه، فقال الأسقف: يا أبا مريم ما رأيك؟
فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة، فما تؤمن أن يكون هذا هو ذاك الرجل، ليس لي في النبوة رأي، ولو كان أمراً من أ مور الدنيا لأشرت عليك فيه برأي، وجهدت لك.
فقال له الأسقف: تنح فاجلس ناحية. فتنحى شرحبيل فجلس ناحية.
فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له: عبد الله بن شرحبيل، وهو من ذي أصبح من حمير، فأقرأه الكتاب وسأله ما الرأي؟
فقال نحواً من قول شرحبيل بن وداعة.
فقال له الأسقف: تنح فاجلس، فتنحى فجلس ناحية.
ثم بعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران، يدعى جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب أحد بني الحماس، فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه، فقال مثل قول شرحبيل بن وداعة، وعبد الله بن شرحبيل، فأمره الأسقف فجلس ناحية.
فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعاً أمر الأسقف بالناقوس فضرب به، ورفعت النيران السرج في الصوامع، وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا نهاراً، فإن فزعوا بالليل ضربوا بالناقوس، ورفعوا النيران في الصوامع.
فاجتمع حين ضرب بالناقوس ورفعت السرج أهل الوادي أعلاه وأسفله، وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع، وفيه ثلاث وسبعون قرية، ومائة ألف مقاتل، فقرأ عليهم الأسقف كتاب رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وسألهم عن الرأي فيه.
فاجتمع رأي أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني، وعبد الله بن شرحبيل الأصبحي، وجبار بن فيض الحارثي، فيأتوهم بخبر رسول الله «صلى الله عليه وآله».
وفد النجرانيين إلى رسول الله ':
قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله «صلى الله عليه وآله» وفد نصارى نجران، ستون راكباً، فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، منهم العاقب وهو عبد المسيح، والسيد وهو الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل، وأوس، والحارث، وزيد، وقيس، ويزيد، وخويلد، وعمرو، وخالد، وعبد الله، ويحنس، منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم: العاقب أمير القوم، وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه. واسمه عبد المسيح، والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم، ومجتمعهم، واسمه الأيهم.
وأبو حارثة بن علقمة، أحد بني بكر بن وائل أسقفهم، وحبرهم وإمامهم، وصاحب مدراسهم، وكان أبو حارثة قد شرف فيهم، ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه، ومولوه وأخدموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم.
فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم، ولبسوا حللاً لهم يجرونها من حبرة، وتختموا بالذهب.
وفي لفظ: دخلوا على رسول الله «صلى الله عليه وآله» في مسجده [في المدينة] حين صلى العصر، عليهم ثياب الحِبرات: جبب وأردية، في جمال رجال بني الحارث بن كعب.
فقال بعض من رآهم من أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» يومئذ: ما رأينا وفدا مثلهم. وقد حانت صلاتهم. فقاموا في مسجد رسول الله «صلى الله عليه وآله» يصلون نحو المشرق (فأراد الناس منعهم).
فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «دعوهم».
ثم أتوا رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فسلموا عليه، فلم يرد عليهم السلام، وتصدوا لكلامه نهاراً طويلاً، فلم يكلمهم، وعليهم تلك الحلل والخواتيم الذهب.
فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وكانوا يعرفونهما، فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس فقالوا لهما: يا عثمان، ويا عبد الرحمن، إن نبيكما كتب إلينا كتاباً فأقبلنا مجيبين له، فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا، وتصدينا لكلامه نهاراً طويلاً فأعيانا أن يكلمنا فما الرأي منكما؟ أنعود إليه، أم نرجع إلى بلادنا؟
فقالا لعلي بن أبي طالب «عليه السلام» وهو في القوم: ما الرأي في هؤلاء القوم يا أبا الحسن؟
فقال(عليه السلام) لهما: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم، ويلبسوا ثياب سفرهم، ثم يعودوا إليه.
ففعل وفد نجران ذلك ورجعوا إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فسلموا عليه فرد عليهم سلامهم ثم قال: «والذي بعثني بالحق، لقد أتوني المرة الأولى وإن إبليس لمعهم».
وفد نجران يحاور رسول الله ':
وعن ابن عباس، والأزرق بن قيس: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» دعا وفد نجران إلى الإسلام، فقال العاقب، عبد المسيح، والسيد أبو حارثة بن علقمة: قد أسلمنا يا محمد.
فقال«صلى الله عليه وآله»: «إنكما لم تسلما».
قالا: بلى، وقد أسلمنا قبلك.
قال«صلى الله عليه وآله»: «كذبتما، يمنعكما من الإسلام ثلاث فيكما: عبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، وزعمكما أن لله ولداً».
ثم سألهم وسألوه، فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى ابن مريم؟ فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى، يسرنا إن كنت نبياً أن نعلم قولك فيه.
فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «ما عندي فيه شيء يومي هذا، فأقيموا حتى أخبركم بما يقول الله في عيسى».
وعن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي: أنه سمع رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول: «ثبت (ليت) بيني وبين أهل نجران حَجاب، فلا أراهم ولا يروني»، من شدة ما كانوا يمارون رسول الله «صلى الله عليه وآله». انتهى.
وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وابن سعد عن الأزرق بن قيس، وابن جرير عن السدي، وابن جرير، وابن المنذر عن أبي جريج: أن نصارى نجران قالوا: يا محمد، فيم تشتم صاحبنا؟
قال«صلى الله عليه وآله»: «من صاحبكم»؟
قالوا: عيسى ابن مريم، تزعم أنه عبد.
قال«صلى الله عليه وآله»: «أجل، إنه عبد الله وروحه وكلمته، ألقاها إلى مريم، وروح منه».
فغضبوا وقالوا: لا، ولكنه هو الله نزل من ملكه فدخل في جوف مريم، ثم خرج منها، فأرانا قدرته وأمره، فهل رأيت قط إنساناً خلق من غير أب؟
فأنزل الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ..}.
وأنزل تبارك وتعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ المُمْتَرِينَ}.
فلما أصبحوا عادوا إليه، فقرأ عليهم الآيات، فأبوا أن يقرأوا. فأمر تعالى نبيه الكريم «صلى الله عليه وآله» بمباهلتهم فقال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللَهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَهَ عَلِيمٌ بِالمُفْسِدِينَ}
. فرضوا بمباهلته «صلى الله عليه وآله»..
فلما رجعوا إلى منازلهم قال رؤساؤهم: السيد، والعاقب، والأهتم: إن باهلنا بقومه باهلناه؛ فإنه ليس نبياً، وإن باهلنا بأهل بيته خاصة لم نباهله، فإنه لا يقدم على أهل بيته إلا وهو صادق.
وعن جابر، وابن عباس، وقتادة، وسلمة بن عبد يسوع عن ابيه عن جده، وعن حذيفة، والأزرق بن قيس، والشعبي: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» لما نزلت هذه الآيات دعا وفد نجران إلى المباهلة، فقال«صلى الله عليه وآله»: «إن الله تعالى أمرني إن لم تقبلوا هذا أن أباهلكم».
فقالوا: يا أبا القاسم، بل نرجع فننظر في أمرنا.
وفي حديث آخر فقالوا: أخرنا ثلاثة أيام، فخلا بعضهم إلى بعض وتصادقوا.
فقال السيد العاقب: والله يا معشر النصارى، لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل، ولئن لاعنتموه ليخسفن بأحد الفريقين، إنه للاستئصال لكم، وما لاعن قوم قط نبياً فبقي كبيرهم، ولا نبت صغيرهم.
وفي رواية: فقال شرحبيل: لئن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فلاعنَّاه لا يبقى على وجه الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك.
وفي رواية: لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا.
قالوا: فما الرأي يا أبا مريم؟
فقال: رأيي أن أُحَكِّمَه، فإني أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً.
فقال السيد: فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادعوا الرجل، ثم انصرفوا إلى بلادكم.
فلما انقضت المدة أقبل رسول الله «صلى الله عليه وآله» مشتملاً على الحسن والحسين في خميلة له، وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة، وله يومئذٍ عدة نسوة. فقال «صلى الله عليه وآله»: «إن أنا دعوت فأمنوا أنتم».
وعن سعد بن أبي وقاص، عن علي بن أحمر قالا: لما نزلت آية المباهلة دعا رسول الله «صلى الله عليه وآله» علياً وفاطمة، وحسناً وحسيناً، فقال«صلى الله عليه وآله»: «اللهم هؤلاء أهل بيتي». انتهى.
فتلقى شرحبيل رسول الله «صلى الله عليه وآله» فقال: إني قد رأيت خيراً من ملاعنتك.
فقال«صلى الله عليه وآله»: «وما هو»؟
فقال: حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح، فما حكمت فينا فهو جائز. وأبوا أن يلاعنوه.
وعن ابن عباس قال: لو باهل أهل نجران رسول الله «صلى الله عليه وآله» لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً.
وروي عن الشعبي مرسلاً: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال: «لقد أراني البشير بهلكة أهل نجران حتى الطير على الشجر، لو تموا على الملاعنة».
وروي عن قتادة مرسلاً: قال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «إن كان العذاب لقد نزل على أهل نجران، أن لو فعلوا لاستؤصلوا من الأرض».
ولما غدا إليهم أخذ «صلى الله عليه وآله» بيد حسن حسين، وفاطمة تمشي خلفه، وعلي خلفها، وهو يقول: «إذا أنا دعوت فأمِّنوا».
فقال أسقفهم: إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله. فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة. والله، لقد عرفتم نبوته، ولقد جاءكم بالفصل في أمر صاحبكم، أي عيسى. فوالله، ما باهل قوم نبياً إلا هلكوا، فإن أبيتم إلا دينكم فوادعوا الرجل، وانصرفوا.
فقالوا: يا أبا القاسم لا نلاعنك.
فقال«صلى الله عليه وآله»: «فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم». فأبوا.
قال: «فإني أناجزكم».
فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة. ولكن نصالحك.
فصالحهم، وقال«صلى الله عليه وآله»: «والذي نفسي بيده، إن العذاب تدلى على أهل نجران، ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر».
وفي بعض النصوص أنهم قالوا له: لم لا تباهلنا بأهل الكرامة والكبر، وأهل الشارة ممن آمن بك واتبعك؟!
فقال «صلى الله عليه وآله»: «أجل، أباهلكم بهؤلاء خير أهل الأرض، وأفضل الخلق».
ثم تذكر الرواية قول الأسقف لأصحابه: «أرى وجوهاً لو سأل الله بها أحد أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله..
إلى أن قال: أفلا ترون الشمس قد تغير لونها، والأفق تنجع فيه السحب الداكنة، والريح تهب هائجة سوداء، حمراء، وهذه الجبال يتصاعد منها الدخان؟! لقد أطلَّ علينا العذاب! انظروا إلى الطير وهي تقيء حواصلها، وإلى الشجر كيف يتساقط أوراقها، وإلى هذه الأرض ترجف تحت أقدامنا».
وبعد امتناعهم عن الدخول في الملاعنة، وتقرر ضرب الجزية على أهل نجران ..
المصدر : الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)
للعلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي- (ج1 / ص 155)
تعليق