شعائر محرم
عن: مجلة الموسم، العدد 19، 1414 هـ / 1994 م، ص 303 ـ 316
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن قصة استشهاد الإمام الحسين وآله والشعائر الدينية قد تطورت وساعدت على تكوين مجتمع شيعي في أوَد، هذه القصة التي كان يسمّيها فيشر Fisher « مثال كربلاء »، وقد تضمنت حقائق عن العدل والظلم، الحياة والموت(1).
وهناك ظاهرة هامة وهي استجابة الشيعة في أوَد وكذلك السنة والهندوس لشهر محرم الذي تقام فيه شعائر الحِداد، وتعود أهميتها أيضاً إلى أنها هيأت علاقات اجتماعية.
وكانت الشعائر في شهر محرم تتميز بالمبالغة وذلك في عهد آصف الدولة. وفي عام 1784م ضرب الحاكم نفسه بعنف وذلك في العاشر من شهر محرم حتّى أن الدم أخذ ينزف بغزارة وسقط مريضاً، وكان مرافقوه قد فعلوا مثله خلال هذا الشهر.
وكانت الاحتفالات من الأُبّهة بحيث يكاد تكون من الصعب تمييزها عن احتفالات الفرح(2). وقد كان المسلمون في لكنو يوزّعون ماء الورد بدلاً من الماء وحده، في ذكرى العطش الذي أحس به الإمام الحسين ورفاقه حين عُذِّبوا، وكانت بعض السيدات يمنحن الحليب للناس في الطريق. وأقيمت إلى جوانب البيوت أماكن حيث يستطيع الناس المارّون أن يشربوا الماء ليطفئوا عطشهم(3).
وفي أوائل عام 1800م كان نخبة القوم ذوي المراكز العالية لهم « إمام بارة »، بينما المتوسطون تقام احتفالات في بيوتهم الكبيرة(4)، وأخذ بناء « الإمام بارة » ينتشر بعد ذلك في عام1820 وما بعدها. وكانت هذه الإمام بارة تُبنى بشكل دائري له قبة، وكان حجم هذه الأبنية يختلف تبعاً لثراء الباني، وكان تستخدم أيضاً لضريح للعائلة. وكان الضيوف يجلسون على سجاد قطني ممدود على أرض الإمام بارة، وكان هناك مكانان مقدسان، أحدهما المنبر والثاني الضريح، وهو أثر من ضريح الإمام الحسين في كربلاء، وكلا المكانين يتجه إلى الكعبة. وكان رواة المراثي يجلسون في بعض الأحيان، والبعض الآخر منهم يظل واقفاً، وذلك على درجات من الخشب المغطّى بقماش مذهّب أو قماش كبير ( لونه أخضر إذا كان يملكه سيد )، وعلى كل جانب من جانبَي النصب التذكاري لقبر الإمام الحسين يوجد صفوف من المطّرزات الذهبية أو الفضية، وهي ذات حواشي تعلوها شارات، وتوجد أكُفّ ذات خمسة أصابع تمثل « الأرواح الخمسة الطاهرة » وهي: محمد، فاطمة، عليّ، الحسن والحسين(5).
وكانت هناك أشكال مختلفة من النُّصب التذكارية تبعاً لثراء الشخص الذي يملك البناء، وذلك في كل من: لكنو، دهلي، كلكته وحيدر آباد(6).
وكان يوجد في الإمام بارة الكبيرة( 14 ) ضريحاً من الفضة الخالصة لكل من الأئمة الاثني عشر، وواحد لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وآخر لفاطمة عليها السّلام(7). أما النُّصب التذكارية المصمّمة من أجل الإمام بارة فقد كانت إمّا من العاج أو الأبنوس أو خشب الصندل، وكان ثمن تلك الغير ثمينة والمصنوعة من خشب البامبو أو مواد أخرى ملونة يتراوح بين 2 ـ 200 روبيّة. وكان العمّال يصنعون هذه النصب في منازلهم ويحملوها في الشوارع(8)، ولم يكن مسموحاً للعمال والحرفيين أن يزوروا المكان دائماً، بل كان مسموحاً فقط لأقرباء الأشراف وأصدقائهم بذلك(9).
وانتشر أنموذج الحِداد لدى الطبقة العالية من لكنو إلى المقاطعات الريفية من خلال البلاط الحاكم العالي في لكنو، وأصبح حكّام فَرّوخ آباد farrukhabad في أواخر القرن الثامن عشر من الشيعة، وكان علي خان من باتوامو Bhatwamu وهو من أصحاب الأراضي الكبار ( توفي 1815م ) في أوَد، أول سُنّي ( تعلّقدار ) يصبح شيعياً ويبدأ بممارسة طقوس الحِداد في مركز حكمه(10). وكان بعض زعماء الشيخ زاده في لكنو قد تحولوا إلى المذهب الشيعي أثناء حكم صفدر جنك Safdar jang، كذلك فإن محمد إمام خان ( توفي حوالي 1760م ) من مقاطعة محمود آباد في سيتاپور Sitapur تزوج امرأة شيعيّة من شيخ زاده، وتحوّل أحد أبنائه.. وهو محمّد مظفّر علي خان ( 1790 م ). إلى المذهب الشيعي، وكان قد ورث القسم الصغير من المقاطعة في بيليرا Belera ، وبارا بانكي. ورغم أن تحوله إلى المذهب الشيعي جعله يدخل في الدوائر الحاكمة في لكنو، إلا أنه واجه عداوة كبيرة من قبل والده وأقربائه الآخرين. وبقي القسم الأكبر من محمود آباد تحت حكم شقيق مظفر علي خان وكان سنياً واسمه إكرام علي خان ( توفي حوالي 1775 ). وقد حكم أحد أبناء إكرام وهو مصاحب علي خان مقاطعة محمود آباد من 1805 ـ 1819، واستولى على أكثر من 232 قرية وأنشأ علاقات متينة مع البلاط الحاكم في أوَد بدعمهم ضد المتمردين.
ورغم أنه بقي سنياً فقد بدأ بطقوس الحِداد على الإمام الحسين في بناءٍ داخل القلعة في سيتاپور Sitapur ، ولم يكن لديه ولد، فتبنَّت زوجته في عام 1836 ولداً من أحد فروع العائلة الشيعية Belahra ، وهو ( راجا نواب علي خان ) الذي عاش طويلاً في لكنو وأصبح مقرباً لبلاط ناصر الدين حيدر. وكانت ( محمود آباد ) وهي إحدى الأماكن الريفية الكبيرة في أوَد، كانت ذات حكم شيعي(11)، كذلك فقد كان راجا نانبارا وهو سني، يحتفظ بكثير من علماء الشيعة وكثير منهم من كشمير في مركزه وذلك ليقرأوا له مراثي للإمام الحسين(12).
ويخبرنا الرحالة الأوربيون أن الفقراء والأغنياء كانوا على حد سواء يحتلفون بذكرى محرم، بل إن الشيعة حتّى في القرى كان يضعون علامة في بيوتهم هي رمز يشير إلى اليد الممدودة(13).
وقد كتب روبرتس يقول:
لقد كان كل شخص لديه مبلغ صغير من المال يوفّره لشراء الأدوات اللازمة لهذه المناسبة(14). وكانت تختلف الاحتفالات بين المظاهر البسيطة والمظاهر ذات الفخامة والأبهة(15)، وكان الأشخاص الذي ينتمون إلى الطبقة المتوسطة والفقيرة لا يستطيعون بناء إمام بارة مستقلة، فكانوا يُزخرِفون أفضل غرفة لديهم في مسكنهم لهذه الغاية ويستخدمون مواد رخيصة الثمن للتزيين(16). وكان الناس يوفّرون زيت المصابيح لهذه الغاية(17).
مجلس الحِداد
كان هناك من المراسيم الدينية الشيعية شيآن بالنسبة لشهر محرم:
1 ـ مجلس الحداد ( مجلس ) الذي يعقد في إمام بارة أو في مسكن خاص.
2 ـ الموكب، وهو أقدم الطقوس، فقد كان أصلاً في زمن الشيعة البويهيين في أوائل القرن العاشر في العراق، وقد تطور أسلوب مجلس الحداد خلال الفترة الصفوية في إيران.
وفي القديم كانت الجموع من الناس تجتمع للبكاء على الشهيد الحسين(18)، وفي أوَد خلال أوائل القرن الثامن عشر كان الأشراف أو نخبة القوم يعقدون مجالس البكاء أو الحداد في الإمام بارة الخاصة بهم مرتين في اليوم خلال العشرة أيّام الأولى من شهر محرم.
أما مجالس المساء بأضوائها المتلألئة المنبعثة من قناديل لا تحصى وثريّات، فكانت أفضل المجالس، وكان المُضيّف وأقرباؤه يجلسون على الحصير بالقرب من النصب، أما الضيوف فيزدحمون حيث يجدون مكاناً لهم. وكان المضيف يستأجر ( مولوي ) ليقوم بالقراءة في ذلك اليوم من نص فارسي يصف معاناة الإمام الحسين وأعوانه وأسرته في صراعهم ضد الأمويين. وكانت مثل هذه القراءات التي تتم بين أفراد الأشراف الذين يعرفون الفارسية في أوَد ذات تأثير كبير، وخاصة إذا بكى ( المولوي ) بإخلاص وعمق من منبره الذي يقف فيه(19).
ولما كان هذا يتطلب فقط إلماماً بالفارسية فكان من الممكن أن يكون المولوي أحد العلماء أو أحد الأشخاص وربما كان غير متمرس بالعلوم بالدينية. وكان العلماء الكبار يعقدون مجالسهم الخاصة، وهذا ما كان يعرف باسم « حديث خواني ».
وقد وصف أحد تلامذة السيد محمد ناصر آبادي، وهو مجتهد رئيسي في لكنو في ذلك الحين، تلاوة هذه الأحاديث الشفهية عن الأئمّة مع الترجمة:
« وجدته في العاشر من محرم يذكر المصائب التي وقعت في كربلاء، ويبكي بحرقة وكذلك أولئك الذين يستمعون إليه، ثمّ صعد إلى (@المنبر@) حافي القدمين، عاري الرأس والدموع تنحدر من خديه، وهكذا كان في تلك الأيام وبعد ذلك كان يذهب للمنزل وهناك يجتمع مع الناس »(20).
وبعد القراءة بالفارسية وتدعى ( العشر مجالس ) Dah Majlis ، لأن النص يتألف من عشرة فصول ( فصل لكل عشرة أيام أولى من محرم )، ويعقب ذلك استراحة يوزع فيها ماء الورد على الحاضرين، كان البعض من نخبة القوم يدخنون النارجيلة خلال هذه الفترة(21).
وبعد الاستراحة كان قرّاء الشعر يَتْلون المراثي الشعرية باللغة الأردية، وكان الجميع يفهمون حتّى الجهلاء أو الأميّين(22). وفي أوائل القرن التاسع عشر استخدم بعض رواة الشعر ما يشبه الغناء، إذ كان قراء الشعر يقرأون شعر المراثي لاستشهاد الإمام الحسين بعدة أساليب في الإلقاء والتنغيم، وكان العلماء يفضلون الأسلوب المتقيد باللغة ( تحت اللفظ خواني ) Taht al - lafz - Khani ، الذي يشبه إلقاء الشعر من قبل الشعراء. أما الأسلوب الآخر الذي يعود إلى بدايات النهضة الشيعية الثقافية في أوَد فكان يشتمل على ( سوز خواني ) Suz - Khani أو ترنيم المراثي. وفي عهد آصف الدولة، برز في هذا المجال ( حيدر خان ) وهو مغني كبير، كان يعلم سيد مير علي ويسمع في بلاط سادات علي خان.
وفي مثل هذه الأدوار كان الأسلوب الموسيقي ( Rajinas ) تبعاً للذوق، وكان الحرفيون والعمال والنساء سواء من الشيعة أو السنة أو الهندوس يحبون أو يفضلون الأساليب التي تعتمد أكثر على الموسيقى.
وفي زمن غازي الدين حيدر ( 1814 ـ 1827 ) قَدِم الناس من كل أنحاء أوَد إلى لكنو خلال شهر محرم على أمل سماع النائحة الحسينية السيدة حيدر Lady Haydar وهي تنشد بعض المراثي الشعرية في بكاء الإمام(23)، وكانت النساء ينشدن المرثيات أمام الجمهور، رغم أن العلماء كانوا يحرمون مثل هذه الاجتماعات المختلطة.
وكان بعض الشيعة المتشردين يتوجهون إلى ( سيد ديلدار علي ناصر آبادي ) بالسؤال عن النوح بشعر المراثي، فكان يردّ بأن الاستماع لمثل هذا الشعر والبكاء على الإمام والحزن عليه بكل الوسائل، كل هذا له قيمته وثوابه.
فإذا كنت المراثي تُقرأ بصوت حزين فهي لا تشكل أي مشكلة، ولكنه كان ضد الإعادة بالترنيم ( وتسمى بالفارسية ترجيع Tarji، وبالأردية Kathar، لأن هذا شديد الشبه بالموسيقى(24).
وبعد تلاوة أبيات الرثاء ينهض الجميع ويعددون الخلفاء الشرعيين بعد النبيّ محمد صلّى الله عليه وآله وفقاً للشيعة وهم الأئمّة الاثنا عشر، وكانت هذه الطقوس تتألف من قسم الولاء للأئمة والتبرؤ من الخلفاء المغتصبين(25).
وكانت مجالس الحداد تتضمن فترة تسمى ( مأتم )، وقد كان نخبة القوم من الشيعة يمارسون هذه الطقوس أيضاً، وقد كتبت مسز علي عن الاحتفالات لدى الطبقة العليا فقالت:
« لقد شاهدت الدم ينزف من صدور رجال أقوياء يضربون أنفسهم وهم يهتفون: يا حسن! يا حسين! لمدة عشر دقائق وأحياناً لفترات أطول »(26).
وكتبت أيضاً عن العلماء وعدم استحسانهم الجلد بالسوط فقالت: « إن المولوية والملا ورجال الدين لم يكونوا يشترطون في ضرب صدورهم رغم وجودهم هناك، فالعلماء كانوا من ناحية يستمرون بفترة الحداد والحزن أكثر من البقية من المؤمنين وذلك في فترة الـ 1820م وما بعدها 40 يوماً كاملة، ومع ذلك لم يكونوا يشتركون في موكب الحداد أو استعراض الحداد(27).
وقد سُئل سيد محمد ناصر آبادي عن الجلد بالسياط في فترة الـ 1820 والـ 1830، فأجاب بأن العويل والضرب على الصدر من أجل المآسي التي تعرّض لها آل البيت مباح فقط في حالة عدم قدرة المرء السيطرة على نفسه(28).
أما النساء فكنّ يشتركن في ذكرى شهر محرم، رغم أن قليلاً من الأميرات والنساء الثريات كان لهنّ إمام بارة خاصة، وإنما كانت تخصص أماكن في منازلهن مؤقتاً كإمام بارة للنساء فقط. وقد رأت مسز علي أن حزن النساء كان أكثر شدة من حزن الرجال، وذلك خلال الأيام العشرة الأولى من شهر محرم، بحيث أنّ النساء التقيات كنّ ينسينَ أحزانهن وهمومهم الخاصة خلال تلك الفترة.
وفي حيدر آباد شُوهدت النساء من الشيعة يضربن صدورهن كالرجال تماماً(29). وفي لكنو كانت النساء يتجنّبنَ لبس المجوهرات والثياب ذات الألوان البراقة وأطلقنَ شعورهن وارتدينَ ثياب الحداد السوداء، وبعضهم كنّ يلبسن باستمرار ولمدة عشرة أيام الثياب السوداء، وكانت خادمة مسز علي تصوم عن الماء طوال النهار. وفي المساء تجتمع النساء حول النصب التذكاري مع الأصدقاء من النساء وتجد العبيد والخدم يحيطون بالمُضيّفة(30).
يتبع ..
عن: مجلة الموسم، العدد 19، 1414 هـ / 1994 م، ص 303 ـ 316
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن قصة استشهاد الإمام الحسين وآله والشعائر الدينية قد تطورت وساعدت على تكوين مجتمع شيعي في أوَد، هذه القصة التي كان يسمّيها فيشر Fisher « مثال كربلاء »، وقد تضمنت حقائق عن العدل والظلم، الحياة والموت(1).
وهناك ظاهرة هامة وهي استجابة الشيعة في أوَد وكذلك السنة والهندوس لشهر محرم الذي تقام فيه شعائر الحِداد، وتعود أهميتها أيضاً إلى أنها هيأت علاقات اجتماعية.
وكانت الشعائر في شهر محرم تتميز بالمبالغة وذلك في عهد آصف الدولة. وفي عام 1784م ضرب الحاكم نفسه بعنف وذلك في العاشر من شهر محرم حتّى أن الدم أخذ ينزف بغزارة وسقط مريضاً، وكان مرافقوه قد فعلوا مثله خلال هذا الشهر.
وكانت الاحتفالات من الأُبّهة بحيث يكاد تكون من الصعب تمييزها عن احتفالات الفرح(2). وقد كان المسلمون في لكنو يوزّعون ماء الورد بدلاً من الماء وحده، في ذكرى العطش الذي أحس به الإمام الحسين ورفاقه حين عُذِّبوا، وكانت بعض السيدات يمنحن الحليب للناس في الطريق. وأقيمت إلى جوانب البيوت أماكن حيث يستطيع الناس المارّون أن يشربوا الماء ليطفئوا عطشهم(3).
وفي أوائل عام 1800م كان نخبة القوم ذوي المراكز العالية لهم « إمام بارة »، بينما المتوسطون تقام احتفالات في بيوتهم الكبيرة(4)، وأخذ بناء « الإمام بارة » ينتشر بعد ذلك في عام1820 وما بعدها. وكانت هذه الإمام بارة تُبنى بشكل دائري له قبة، وكان حجم هذه الأبنية يختلف تبعاً لثراء الباني، وكان تستخدم أيضاً لضريح للعائلة. وكان الضيوف يجلسون على سجاد قطني ممدود على أرض الإمام بارة، وكان هناك مكانان مقدسان، أحدهما المنبر والثاني الضريح، وهو أثر من ضريح الإمام الحسين في كربلاء، وكلا المكانين يتجه إلى الكعبة. وكان رواة المراثي يجلسون في بعض الأحيان، والبعض الآخر منهم يظل واقفاً، وذلك على درجات من الخشب المغطّى بقماش مذهّب أو قماش كبير ( لونه أخضر إذا كان يملكه سيد )، وعلى كل جانب من جانبَي النصب التذكاري لقبر الإمام الحسين يوجد صفوف من المطّرزات الذهبية أو الفضية، وهي ذات حواشي تعلوها شارات، وتوجد أكُفّ ذات خمسة أصابع تمثل « الأرواح الخمسة الطاهرة » وهي: محمد، فاطمة، عليّ، الحسن والحسين(5).
وكانت هناك أشكال مختلفة من النُّصب التذكارية تبعاً لثراء الشخص الذي يملك البناء، وذلك في كل من: لكنو، دهلي، كلكته وحيدر آباد(6).
وكان يوجد في الإمام بارة الكبيرة( 14 ) ضريحاً من الفضة الخالصة لكل من الأئمة الاثني عشر، وواحد لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وآخر لفاطمة عليها السّلام(7). أما النُّصب التذكارية المصمّمة من أجل الإمام بارة فقد كانت إمّا من العاج أو الأبنوس أو خشب الصندل، وكان ثمن تلك الغير ثمينة والمصنوعة من خشب البامبو أو مواد أخرى ملونة يتراوح بين 2 ـ 200 روبيّة. وكان العمّال يصنعون هذه النصب في منازلهم ويحملوها في الشوارع(8)، ولم يكن مسموحاً للعمال والحرفيين أن يزوروا المكان دائماً، بل كان مسموحاً فقط لأقرباء الأشراف وأصدقائهم بذلك(9).
وانتشر أنموذج الحِداد لدى الطبقة العالية من لكنو إلى المقاطعات الريفية من خلال البلاط الحاكم العالي في لكنو، وأصبح حكّام فَرّوخ آباد farrukhabad في أواخر القرن الثامن عشر من الشيعة، وكان علي خان من باتوامو Bhatwamu وهو من أصحاب الأراضي الكبار ( توفي 1815م ) في أوَد، أول سُنّي ( تعلّقدار ) يصبح شيعياً ويبدأ بممارسة طقوس الحِداد في مركز حكمه(10). وكان بعض زعماء الشيخ زاده في لكنو قد تحولوا إلى المذهب الشيعي أثناء حكم صفدر جنك Safdar jang، كذلك فإن محمد إمام خان ( توفي حوالي 1760م ) من مقاطعة محمود آباد في سيتاپور Sitapur تزوج امرأة شيعيّة من شيخ زاده، وتحوّل أحد أبنائه.. وهو محمّد مظفّر علي خان ( 1790 م ). إلى المذهب الشيعي، وكان قد ورث القسم الصغير من المقاطعة في بيليرا Belera ، وبارا بانكي. ورغم أن تحوله إلى المذهب الشيعي جعله يدخل في الدوائر الحاكمة في لكنو، إلا أنه واجه عداوة كبيرة من قبل والده وأقربائه الآخرين. وبقي القسم الأكبر من محمود آباد تحت حكم شقيق مظفر علي خان وكان سنياً واسمه إكرام علي خان ( توفي حوالي 1775 ). وقد حكم أحد أبناء إكرام وهو مصاحب علي خان مقاطعة محمود آباد من 1805 ـ 1819، واستولى على أكثر من 232 قرية وأنشأ علاقات متينة مع البلاط الحاكم في أوَد بدعمهم ضد المتمردين.
ورغم أنه بقي سنياً فقد بدأ بطقوس الحِداد على الإمام الحسين في بناءٍ داخل القلعة في سيتاپور Sitapur ، ولم يكن لديه ولد، فتبنَّت زوجته في عام 1836 ولداً من أحد فروع العائلة الشيعية Belahra ، وهو ( راجا نواب علي خان ) الذي عاش طويلاً في لكنو وأصبح مقرباً لبلاط ناصر الدين حيدر. وكانت ( محمود آباد ) وهي إحدى الأماكن الريفية الكبيرة في أوَد، كانت ذات حكم شيعي(11)، كذلك فقد كان راجا نانبارا وهو سني، يحتفظ بكثير من علماء الشيعة وكثير منهم من كشمير في مركزه وذلك ليقرأوا له مراثي للإمام الحسين(12).
ويخبرنا الرحالة الأوربيون أن الفقراء والأغنياء كانوا على حد سواء يحتلفون بذكرى محرم، بل إن الشيعة حتّى في القرى كان يضعون علامة في بيوتهم هي رمز يشير إلى اليد الممدودة(13).
وقد كتب روبرتس يقول:
لقد كان كل شخص لديه مبلغ صغير من المال يوفّره لشراء الأدوات اللازمة لهذه المناسبة(14). وكانت تختلف الاحتفالات بين المظاهر البسيطة والمظاهر ذات الفخامة والأبهة(15)، وكان الأشخاص الذي ينتمون إلى الطبقة المتوسطة والفقيرة لا يستطيعون بناء إمام بارة مستقلة، فكانوا يُزخرِفون أفضل غرفة لديهم في مسكنهم لهذه الغاية ويستخدمون مواد رخيصة الثمن للتزيين(16). وكان الناس يوفّرون زيت المصابيح لهذه الغاية(17).
مجلس الحِداد
كان هناك من المراسيم الدينية الشيعية شيآن بالنسبة لشهر محرم:
1 ـ مجلس الحداد ( مجلس ) الذي يعقد في إمام بارة أو في مسكن خاص.
2 ـ الموكب، وهو أقدم الطقوس، فقد كان أصلاً في زمن الشيعة البويهيين في أوائل القرن العاشر في العراق، وقد تطور أسلوب مجلس الحداد خلال الفترة الصفوية في إيران.
وفي القديم كانت الجموع من الناس تجتمع للبكاء على الشهيد الحسين(18)، وفي أوَد خلال أوائل القرن الثامن عشر كان الأشراف أو نخبة القوم يعقدون مجالس البكاء أو الحداد في الإمام بارة الخاصة بهم مرتين في اليوم خلال العشرة أيّام الأولى من شهر محرم.
أما مجالس المساء بأضوائها المتلألئة المنبعثة من قناديل لا تحصى وثريّات، فكانت أفضل المجالس، وكان المُضيّف وأقرباؤه يجلسون على الحصير بالقرب من النصب، أما الضيوف فيزدحمون حيث يجدون مكاناً لهم. وكان المضيف يستأجر ( مولوي ) ليقوم بالقراءة في ذلك اليوم من نص فارسي يصف معاناة الإمام الحسين وأعوانه وأسرته في صراعهم ضد الأمويين. وكانت مثل هذه القراءات التي تتم بين أفراد الأشراف الذين يعرفون الفارسية في أوَد ذات تأثير كبير، وخاصة إذا بكى ( المولوي ) بإخلاص وعمق من منبره الذي يقف فيه(19).
ولما كان هذا يتطلب فقط إلماماً بالفارسية فكان من الممكن أن يكون المولوي أحد العلماء أو أحد الأشخاص وربما كان غير متمرس بالعلوم بالدينية. وكان العلماء الكبار يعقدون مجالسهم الخاصة، وهذا ما كان يعرف باسم « حديث خواني ».
وقد وصف أحد تلامذة السيد محمد ناصر آبادي، وهو مجتهد رئيسي في لكنو في ذلك الحين، تلاوة هذه الأحاديث الشفهية عن الأئمّة مع الترجمة:
« وجدته في العاشر من محرم يذكر المصائب التي وقعت في كربلاء، ويبكي بحرقة وكذلك أولئك الذين يستمعون إليه، ثمّ صعد إلى (@المنبر@) حافي القدمين، عاري الرأس والدموع تنحدر من خديه، وهكذا كان في تلك الأيام وبعد ذلك كان يذهب للمنزل وهناك يجتمع مع الناس »(20).
وبعد القراءة بالفارسية وتدعى ( العشر مجالس ) Dah Majlis ، لأن النص يتألف من عشرة فصول ( فصل لكل عشرة أيام أولى من محرم )، ويعقب ذلك استراحة يوزع فيها ماء الورد على الحاضرين، كان البعض من نخبة القوم يدخنون النارجيلة خلال هذه الفترة(21).
وبعد الاستراحة كان قرّاء الشعر يَتْلون المراثي الشعرية باللغة الأردية، وكان الجميع يفهمون حتّى الجهلاء أو الأميّين(22). وفي أوائل القرن التاسع عشر استخدم بعض رواة الشعر ما يشبه الغناء، إذ كان قراء الشعر يقرأون شعر المراثي لاستشهاد الإمام الحسين بعدة أساليب في الإلقاء والتنغيم، وكان العلماء يفضلون الأسلوب المتقيد باللغة ( تحت اللفظ خواني ) Taht al - lafz - Khani ، الذي يشبه إلقاء الشعر من قبل الشعراء. أما الأسلوب الآخر الذي يعود إلى بدايات النهضة الشيعية الثقافية في أوَد فكان يشتمل على ( سوز خواني ) Suz - Khani أو ترنيم المراثي. وفي عهد آصف الدولة، برز في هذا المجال ( حيدر خان ) وهو مغني كبير، كان يعلم سيد مير علي ويسمع في بلاط سادات علي خان.
وفي مثل هذه الأدوار كان الأسلوب الموسيقي ( Rajinas ) تبعاً للذوق، وكان الحرفيون والعمال والنساء سواء من الشيعة أو السنة أو الهندوس يحبون أو يفضلون الأساليب التي تعتمد أكثر على الموسيقى.
وفي زمن غازي الدين حيدر ( 1814 ـ 1827 ) قَدِم الناس من كل أنحاء أوَد إلى لكنو خلال شهر محرم على أمل سماع النائحة الحسينية السيدة حيدر Lady Haydar وهي تنشد بعض المراثي الشعرية في بكاء الإمام(23)، وكانت النساء ينشدن المرثيات أمام الجمهور، رغم أن العلماء كانوا يحرمون مثل هذه الاجتماعات المختلطة.
وكان بعض الشيعة المتشردين يتوجهون إلى ( سيد ديلدار علي ناصر آبادي ) بالسؤال عن النوح بشعر المراثي، فكان يردّ بأن الاستماع لمثل هذا الشعر والبكاء على الإمام والحزن عليه بكل الوسائل، كل هذا له قيمته وثوابه.
فإذا كنت المراثي تُقرأ بصوت حزين فهي لا تشكل أي مشكلة، ولكنه كان ضد الإعادة بالترنيم ( وتسمى بالفارسية ترجيع Tarji، وبالأردية Kathar، لأن هذا شديد الشبه بالموسيقى(24).
وبعد تلاوة أبيات الرثاء ينهض الجميع ويعددون الخلفاء الشرعيين بعد النبيّ محمد صلّى الله عليه وآله وفقاً للشيعة وهم الأئمّة الاثنا عشر، وكانت هذه الطقوس تتألف من قسم الولاء للأئمة والتبرؤ من الخلفاء المغتصبين(25).
وكانت مجالس الحداد تتضمن فترة تسمى ( مأتم )، وقد كان نخبة القوم من الشيعة يمارسون هذه الطقوس أيضاً، وقد كتبت مسز علي عن الاحتفالات لدى الطبقة العليا فقالت:
« لقد شاهدت الدم ينزف من صدور رجال أقوياء يضربون أنفسهم وهم يهتفون: يا حسن! يا حسين! لمدة عشر دقائق وأحياناً لفترات أطول »(26).
وكتبت أيضاً عن العلماء وعدم استحسانهم الجلد بالسوط فقالت: « إن المولوية والملا ورجال الدين لم يكونوا يشترطون في ضرب صدورهم رغم وجودهم هناك، فالعلماء كانوا من ناحية يستمرون بفترة الحداد والحزن أكثر من البقية من المؤمنين وذلك في فترة الـ 1820م وما بعدها 40 يوماً كاملة، ومع ذلك لم يكونوا يشتركون في موكب الحداد أو استعراض الحداد(27).
وقد سُئل سيد محمد ناصر آبادي عن الجلد بالسياط في فترة الـ 1820 والـ 1830، فأجاب بأن العويل والضرب على الصدر من أجل المآسي التي تعرّض لها آل البيت مباح فقط في حالة عدم قدرة المرء السيطرة على نفسه(28).
أما النساء فكنّ يشتركن في ذكرى شهر محرم، رغم أن قليلاً من الأميرات والنساء الثريات كان لهنّ إمام بارة خاصة، وإنما كانت تخصص أماكن في منازلهن مؤقتاً كإمام بارة للنساء فقط. وقد رأت مسز علي أن حزن النساء كان أكثر شدة من حزن الرجال، وذلك خلال الأيام العشرة الأولى من شهر محرم، بحيث أنّ النساء التقيات كنّ ينسينَ أحزانهن وهمومهم الخاصة خلال تلك الفترة.
وفي حيدر آباد شُوهدت النساء من الشيعة يضربن صدورهن كالرجال تماماً(29). وفي لكنو كانت النساء يتجنّبنَ لبس المجوهرات والثياب ذات الألوان البراقة وأطلقنَ شعورهن وارتدينَ ثياب الحداد السوداء، وبعضهم كنّ يلبسن باستمرار ولمدة عشرة أيام الثياب السوداء، وكانت خادمة مسز علي تصوم عن الماء طوال النهار. وفي المساء تجتمع النساء حول النصب التذكاري مع الأصدقاء من النساء وتجد العبيد والخدم يحيطون بالمُضيّفة(30).
يتبع ..
تعليق