لا تزال الامة الاسلامية بخير ما بقيت متمسّكة بنهج السبط الشهيد
بقلم|سماحة آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي (دام ظلّه)
في بيانه بمناسبة محرم الحرام 1434هـ:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد الأنبياء والمرسلين محمد و على آله الطيبين الطاهرين.
السلام على رسول الله، سيد خلق الله، وخاتم النبيين، وعلى آله الهداة الميامين.
السلام على الإمام الحسين، سيّد الشهداء، وعلى أولاده، وعلى أصحابه، وعلى الذين اتبعوا نهجه القويم إلى يوم الدين.
لقد حرَّرت ملحمة الطف العظيمة طاقات الأمة الإسلامية من أغلال الخوف وقيود الشهوات، ومن ثقافة التبرير، ومن كل الأقفال التي أحاطت بالقلوب والإصر الذي أثقل النفوس. ولا تزال ذكرى الطف تحرر الأمة من تلك الأغلال والقيود. وحيث نستقبل ذكرى عاشوراء هذا العام، نجد المسلمين ـ وفي كل بقعة من الأرض ـ قد استضاؤوا ببعض دروس تلك المناسبة العظيمة، فإذا بهم ينطلقون بعنفوان جديد في مواجهة الجبت والطاغوت.
عاشوراء.. شعلة لا تنطفئ
لقد كانت ـ ولا زالت ـ عاشوراء أبي عبد الله الحسين عليه السلام شعلة مُتَّقِدة في النفوس، يهدي بها الله عباده إلى سبل السلام وإلى الصراط المستقيم.
إنها شعلة أبدية لا تنطفئ، لأنها تَتَّقد بدماء زاكية أرخصها ـ ولا يزال يرخصها ـ الصدّيقون من عباد الله في سبيل الله، ولإنقاذ الناس من حيرة الضلالة.
إنها شعلة تمد النفوس بالعزم لكي لا تجبن أمام طغيان الظالمين، وبالإيمان لكي لا تضعف أمام عصف الشهوات.
بلى، هكذا كانت، وهكذا تكون هذه الذكرى إلى يوم يرث الله الأرض ومَنْ عليها. أو لم يقل النبي صلى الله عليه واله عن حفيده الإمام الحسين عليه السلام: "وَإِنَّهُ لَمَكْتُوبٌ عَنْ يَمِينِ عَرْشِ اللَّهِ إنه مِصْبَاحُ هُدًى وَسَفِينَةُ نَجَاة"[1]؟
عاشوراء.. وإصلاح الأمة
لقد صاغ ربنا الأمة الاسلامية، وأخرجها للناس خير أمة، وقال سبحانه: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)[2].
ومِنْ أعظم قيم الأمة التي أصبحت بها خير أمة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكانت نهضة الإمام الحسين عليه السلام، هي المثل الأعظم للقيام بهذه الفريضة، لأنّ الامام الحسين عليه السلام أحيا الشريعة بدمه ودماء أهل بيته وأصحابه.
أو ترى عبر التاريخ من قام بما قام به السبط الشهيد صلوات الله عليه، في خلوص عمله، وفي عظيم عطائه، وفي شديد بلائه، أداءً لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وقد قال عليه السلام وهو يعلن أهداف قيامه المبارك: "وَأَنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَلا بَطِراً وَلا مُفْسِداً وَلا ظَالِماً، وَإِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإصلاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي صلى الله عليه وآله وسلم أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَر"[3].
وهكذا كان الامام الحسين عليه السلام، هو القدوة المثلى في القيام لله، وفي أداء فرائضه، ومن أبرزها إصلاح الأمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالقلب وباللسان وباليد وبالسيف وبالدم وبكل وسيلة ممكنة.
وهكذا كانت حياة الأمة الاسلامية وإستمرارها وصلاحها مرهونة بقيام الامام الحسين عليه السلام، وهذا تأويل كلام جده رسول الله صلى الله عليه واله: "حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْن"[4]، فكانت نهضة الإمام عليه السلام تجسيداً لنهضة جده وكانت رسالة جده صلى الله عليه وآله قائمة بنهضته.
ومن ذا الذي أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، كما فعل سيد الشهداء عليه السلام؟
وهكذا نشهد له بذلك عند زيارة مرقده: "أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَالصَّلاةَ، وَآتَيْتَ الزَّكَاةَ، وَأَمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَيْتَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَبَدْتَ اللَّهَ مُخْلِصاً حَتَّى أَتَاكَ الْيَقِين"[5].
عاشوراء.. وانبعاث الروح في الأمة
إن الأمة الإسلامية التي أخرجها الرب سبحانه للناس، كانت أمة بالغة الحيوية، عظيمة الجهاد، حكيمة، رشيدة، ولذلك فإنها إمتدت على أكبر رقعة من الأرض في فترة قياسية.
ولكنها آلت إلى الضعف بسبب ترسبات الجاهلية الأولى، وبسبب هبوط الروح الرسالية، وتسابق الناس إلى المكاسب الدنيوية الفانية.
وجاء أبو عبد الله الحسين عليه السلام، فبعث فيها الروح، وانطلقت ثورة العزم ضد الطغيان، وثورة الكرامة ضد الخنوع، وثورة الإيمان ضد النفاق، ودوّت صرخة الحق في وجه كل باطل:"هيهات منّا الذّلّة"[6].
وفي كل عصر، وفي كل عام، وفي كل يوم، كلما أوت النفوس الضعيفة إلى كهف الدعة، وارتفعت وتيرة الأعذار وزاد عدد الخانعين، فإذا بالصوت الصادر من مرقد السبط الشهيد يصعقهم ويقول لهم: "إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ دِينٌ، وَكُنْتُمْ لا تَخَافُونَ الْمَعَادَ، فَكُونُوا أَحْرَاراً فِي دُنْيَاكُم"[7].
عاشوراء.. ونسائم الكرامة الحسينية
ويهبّ نسيم الكرامة من مرقده الشريف ويحيى الله به تلك النفوس التي توحَّلت في حب الدنيا وعشق السلطة، والتسابق نحو العمالة للأجنبي وأذنابه، فإذا بالأمة تعود مرة أخرى لرشدها، وتنتفض ضد سلبياتها، وتتحدى أعاصير الفسق والنفاق.
وهكذا كانت في الأمة أبداً ودائماً جبهتان، جبهة الإيمان الخالص، إيمان الكرامة، إيمان الذين قال عنهم ربهم: (مِنَ الْمُؤْمِنينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْديلا)[8].
وجبهة النفاق الظاهر أو المبطّن، والذين قال عنهم الله سبحانه: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلينَ لإخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَليلا)[9].
وكلما هبَّت عليها نسائم الكرامة الحسينية في عاشوراء إنتفض الصادقون، وتاب المزيد من المعوِّقين، أو أُفحِموا بالأدلة الصادقة.
عاشوراء.. ثورة في ضمير الأمة
ومن هنا فإن الأمة الاسلامية لا تزال بخير ما بقيت فيها بقية تتمسك بنهج السبط الشهيد، مقيمة لشعائر عاشوراء، ومتوافدة لزيارة الامام الحسين عليه السلام في كل مناسبة.
ألم تقرأوا فضل زيارته، وفضل البكاء عليه، وفضل إقامة شعائره؟
إن أئمة الهدى عليهم السلام، ملأوا الخافقين روايات حول كل ذلك، وهكذا كانت ذكريات السبط الشهيد ثورة في ضمير الأمة، لا تدعها تنام على سرير المعاذير، وتغفو في سبات الأفكار السلبية وتستسلم لتحديات الزمن.
بلى، وإن نهج الإمام الحسين عليه السلام، يكون أكثر تأثيراً باذن الله تعالى في خلاص الأمة من براثن الكفر والفسق والنفاق، وذلك مع إتباع التوصيات التالية:
نشر المنهج الرسالي
1- في ظل التقدم العلمي في مجال التواصل بين الناس، عبر الشبكة العنكبوتية، والهواتف الذكية، والفضائيات المتزايدة، وغيرها.. أصبحت مسؤولية نشر المنهج الرسالي على عاتق كل فرد من الموالين لأهل البيت عليهم السلام، ذلك لأن نهج الإمام الحسين عليه السلام، يتحدى الكفر والفسق والنفاق بكل أطيافه، كما يتحدى المعوِّقين وأهل المعاذير الذين ينأون بأنفسهم عن مسؤولية الدفاع عن الحق، ويأوون إلى كهف التبريرات التي تسوِّل لهم شياطين الجن والإنس، ويداهنون الظالمين، ويبررون لهم عدوانهم وفسادهم وطغيانهم.
من هنا فإن هذا النهج الإلهي ينتصر بإذن الله عليهم جميعاً بحيوية أبنائه، وجديتهم، وشجاعتهم، وصدق مواقفهم، وبالتالي تضحياتهم السخية.
ألا ترى أنه لولا قيام السبط الشهيد عليه السلام، وما جرى عليه من سفك دمه، وهتك حرمته، وسبي أهله وعياله.. لولا ذلك لما بقيت للدين باقية؟
إن قيامه سلام الله عليه هو الذي أثار الأطايب من أبناء الأمة حتى أرخصوا في سبيل الله أنفسهم، وجاهدوا بكل ما أوتوا حتى نزل عليهم النصر وخسر هنالك المبطلون.
وكذلك كان لكل واحد من الموالين أمنية شائقة يعيشها أبداً أن يتَّبع نهج السبط الشهيد في الدفاع عن الحق، وفي أن تُختم حياته بالشهادة كما السبط الشهيد وأنصاره، وهذه هي ـ بعد التوكل على الله ـ الكهف الحصين للأمة، والقوة الرادعة للظالمين.
من هنا كان فرضاً علينا جميعاً الدفاع عن هذا النهج، والدعوة إليه، و بكل وسائل الإعلام والتواصل المتاحة اليوم.
لا للطاغوت.. نعم للقائد الصالح
2- إنّ تجنّب الطاغوت وعلى كل المستويات واجب شرعي، ومن دونه لا يخلص الإيمان من شوائب الشرك والشك، وقد قال ربنا سبحانه: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فقد استَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لاَ انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَميعٌ عَليمٍ)[10].
وقال الله تعالى: (وَالَّذينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِباد)[11].
وإنما يتم إجتناب الطاغوت بقطع الصلة به، وبالكفر بولايته، وتحدي سلطته، ما استطاع المسلم إلى ذلك سبيلاً، ولا يمكن ذلك إلا بالدخول في حصن ولاية الله، وولاية الرسول والائمة عليه وعليهم السلام، ومَنْ هم على سبيلهم من العلماء والمؤمنين.
إن كل مؤمن موالٍ مسؤول عن ولايته، لأنه في يوم القيامة يُدعى كل أناس بإمامهم. ومن هنا فإننا إخترنا النبي وأهل بيته أئمة لنا وقادة، لكي نُدعى بهم، ونُحشر في زمرتهم إن شاء الله تعالى. أما خاتمهم و قائمهم عجل الله فرجه، فقد أمرنا بإتخاذ الفقهاء وكلاء عنه، والحجج علينا باسمه، وأنت وأنا ونحن جميعاً علينا أن نبحث عن النائب الذي يمثِّل إمامنا عجل الله تعالى فرجه حقاً وصدقاً، والذي يتصف بما وصفه إمامنا لنا، فإذا وجدناه إلتزمناه واتّبعناه ما دام على نهج الأئمة الطاهرين عليهم السلام، ونهج الإمام السبط الشهيد، وانتضمنا تحت قيادته مع سائر المؤمنين التابعين له بكل إخلاص، وسرنا معاً في سبيل الغايات التي من أجلها بُعث الرسل عليهم السلام، ومن أجلها كان قيام إمامنا الحسين عليه السلام، لكي نفوز بخير الدنيا والآخرة بفضل الله سبحانه.
إن انتخاب نائب الإمام إنتخاباً صحيحاً وفق المعايير الشرعية هو بداية إنطلاق الأمة في سبيل الإمام الحسين عليه السلام، وهو فريضة على كل مسلم ومسلمة.
العروج إلى سماء الإيمان والتقوى
3- إن الإمام الحسين عليه السلام، كان مثالاً أعلى لكل الصفات الإيمانية، وعلينا أن نتخذه قدوة لنا فيها جميعاً. صحيحٌ إن شهادته عليه السلام كانت القمة في العبودية لله تعالى، وفي المُثُل العليا التي دعا اليها القران الحكيم، إلا أنّ كل حياته سلام الله عليه كانت تجسيداً لقيم الإيمان واليقين والعدل والإحسان والجهاد، وعلينا ـ ونحن نعيش أيام عاشوراء وأجواءها الروحية السامية ـ أن نستحضر حياته الكريمة ـ ونبذل كل الجهد من أجل تمثّل شخصيته، والتحلي بمثل صفاته، لعلنا نكون صادقين حينما نقول له أبداً: "يا ليتني كنت معكم فافوز فوزاً عظيما".
بلى، دعنا ننفتح في أيام العزاء على تيار النور المنبعث من أرض الشهادة كربلاء المقدسة، ونعرِّج معه إلى سماء الإيمان والتقوى، والتحلي بأسمى الأخلاق، ونتقرب إلى ربنا سبحانه زلفى بالمسارعة في الخيرات.
إن هذه الدموع التي تذرفها أعيننا، والقلوب التي تَتَفجَّع لمصائب الامام عليه السلام، والصدور التي تُلطم، وإن سائر الشعائر التي تُقام في هذه المناسبة العظيمة والأليمة، لابد أن تكون كلها معراجاً لأرواحنا إلى حيث ذرى التقوى واليقين، وإلى حيث تزكية النفوس من أدران الهوى والشكوك وحب الشهوات، ولتكون بالتالي وسيلة لتبييض صحائف أعمالنا من كل ذنب وخطيئة.
وبكلمة: دعنا أيها الإخوة الحسينيون نُولَدُ في عزاء الحسين عليه السلام من جديد، ونستأنف حياتنا بعد عاشوراء بحيوية إيمانية بالغة، وبتحمل المسؤولية الإجتماعية بخُلُقٍ فاضل وآداب رفيعة.
وكلمة أخيرة
أيها الاخوة.. هذا البيان قد تضمَّن رؤى وبصائر مستفادة من قيام السبط الشهيد، والمرجو أن تعالج قضايا معاصرة بإذن الله تعالى، ومن المنتظر من العلماء والخطباء، بل ومن سائر القراء الكرام، أن ينشروا ما إقتنعوا بها من هذه البصائر على أوسع نطاق ممكن، قربة الى الله، وخدمة للامة، والله المستعان.
محمد تقي المدرسي
كربلاء المقدسة
28/ذو الحجة/1433هـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
[1]. بحار الأنوار: ج 91، ص 184.
[2]. آل عمران: 110.
[3]. بحار الأنوار: ج 44، ص 329.
[4]. بحار الأنوار: ج 43، ص 261.
[5]. كامل الزيارات: 229.
[6]. بحار الأنوار: ج 74، ص 162.
[7]. اللهوف على قتلى الطفوف: ص 120.
[8]. الأحزاب: 23.
[9]. الأحزاب: 18.
[10]. البقرة: 256.
[11]. الزمر: 17.
بقلم|سماحة آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي (دام ظلّه)
في بيانه بمناسبة محرم الحرام 1434هـ:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد الأنبياء والمرسلين محمد و على آله الطيبين الطاهرين.
السلام على رسول الله، سيد خلق الله، وخاتم النبيين، وعلى آله الهداة الميامين.
السلام على الإمام الحسين، سيّد الشهداء، وعلى أولاده، وعلى أصحابه، وعلى الذين اتبعوا نهجه القويم إلى يوم الدين.
لقد حرَّرت ملحمة الطف العظيمة طاقات الأمة الإسلامية من أغلال الخوف وقيود الشهوات، ومن ثقافة التبرير، ومن كل الأقفال التي أحاطت بالقلوب والإصر الذي أثقل النفوس. ولا تزال ذكرى الطف تحرر الأمة من تلك الأغلال والقيود. وحيث نستقبل ذكرى عاشوراء هذا العام، نجد المسلمين ـ وفي كل بقعة من الأرض ـ قد استضاؤوا ببعض دروس تلك المناسبة العظيمة، فإذا بهم ينطلقون بعنفوان جديد في مواجهة الجبت والطاغوت.
عاشوراء.. شعلة لا تنطفئ
لقد كانت ـ ولا زالت ـ عاشوراء أبي عبد الله الحسين عليه السلام شعلة مُتَّقِدة في النفوس، يهدي بها الله عباده إلى سبل السلام وإلى الصراط المستقيم.
إنها شعلة أبدية لا تنطفئ، لأنها تَتَّقد بدماء زاكية أرخصها ـ ولا يزال يرخصها ـ الصدّيقون من عباد الله في سبيل الله، ولإنقاذ الناس من حيرة الضلالة.
إنها شعلة تمد النفوس بالعزم لكي لا تجبن أمام طغيان الظالمين، وبالإيمان لكي لا تضعف أمام عصف الشهوات.
بلى، هكذا كانت، وهكذا تكون هذه الذكرى إلى يوم يرث الله الأرض ومَنْ عليها. أو لم يقل النبي صلى الله عليه واله عن حفيده الإمام الحسين عليه السلام: "وَإِنَّهُ لَمَكْتُوبٌ عَنْ يَمِينِ عَرْشِ اللَّهِ إنه مِصْبَاحُ هُدًى وَسَفِينَةُ نَجَاة"[1]؟
عاشوراء.. وإصلاح الأمة
لقد صاغ ربنا الأمة الاسلامية، وأخرجها للناس خير أمة، وقال سبحانه: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)[2].
ومِنْ أعظم قيم الأمة التي أصبحت بها خير أمة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكانت نهضة الإمام الحسين عليه السلام، هي المثل الأعظم للقيام بهذه الفريضة، لأنّ الامام الحسين عليه السلام أحيا الشريعة بدمه ودماء أهل بيته وأصحابه.
أو ترى عبر التاريخ من قام بما قام به السبط الشهيد صلوات الله عليه، في خلوص عمله، وفي عظيم عطائه، وفي شديد بلائه، أداءً لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وقد قال عليه السلام وهو يعلن أهداف قيامه المبارك: "وَأَنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَلا بَطِراً وَلا مُفْسِداً وَلا ظَالِماً، وَإِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإصلاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي صلى الله عليه وآله وسلم أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَر"[3].
وهكذا كان الامام الحسين عليه السلام، هو القدوة المثلى في القيام لله، وفي أداء فرائضه، ومن أبرزها إصلاح الأمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالقلب وباللسان وباليد وبالسيف وبالدم وبكل وسيلة ممكنة.
وهكذا كانت حياة الأمة الاسلامية وإستمرارها وصلاحها مرهونة بقيام الامام الحسين عليه السلام، وهذا تأويل كلام جده رسول الله صلى الله عليه واله: "حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْن"[4]، فكانت نهضة الإمام عليه السلام تجسيداً لنهضة جده وكانت رسالة جده صلى الله عليه وآله قائمة بنهضته.
ومن ذا الذي أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، كما فعل سيد الشهداء عليه السلام؟
وهكذا نشهد له بذلك عند زيارة مرقده: "أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَالصَّلاةَ، وَآتَيْتَ الزَّكَاةَ، وَأَمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَيْتَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَبَدْتَ اللَّهَ مُخْلِصاً حَتَّى أَتَاكَ الْيَقِين"[5].
عاشوراء.. وانبعاث الروح في الأمة
إن الأمة الإسلامية التي أخرجها الرب سبحانه للناس، كانت أمة بالغة الحيوية، عظيمة الجهاد، حكيمة، رشيدة، ولذلك فإنها إمتدت على أكبر رقعة من الأرض في فترة قياسية.
ولكنها آلت إلى الضعف بسبب ترسبات الجاهلية الأولى، وبسبب هبوط الروح الرسالية، وتسابق الناس إلى المكاسب الدنيوية الفانية.
وجاء أبو عبد الله الحسين عليه السلام، فبعث فيها الروح، وانطلقت ثورة العزم ضد الطغيان، وثورة الكرامة ضد الخنوع، وثورة الإيمان ضد النفاق، ودوّت صرخة الحق في وجه كل باطل:"هيهات منّا الذّلّة"[6].
وفي كل عصر، وفي كل عام، وفي كل يوم، كلما أوت النفوس الضعيفة إلى كهف الدعة، وارتفعت وتيرة الأعذار وزاد عدد الخانعين، فإذا بالصوت الصادر من مرقد السبط الشهيد يصعقهم ويقول لهم: "إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ دِينٌ، وَكُنْتُمْ لا تَخَافُونَ الْمَعَادَ، فَكُونُوا أَحْرَاراً فِي دُنْيَاكُم"[7].
عاشوراء.. ونسائم الكرامة الحسينية
ويهبّ نسيم الكرامة من مرقده الشريف ويحيى الله به تلك النفوس التي توحَّلت في حب الدنيا وعشق السلطة، والتسابق نحو العمالة للأجنبي وأذنابه، فإذا بالأمة تعود مرة أخرى لرشدها، وتنتفض ضد سلبياتها، وتتحدى أعاصير الفسق والنفاق.
وهكذا كانت في الأمة أبداً ودائماً جبهتان، جبهة الإيمان الخالص، إيمان الكرامة، إيمان الذين قال عنهم ربهم: (مِنَ الْمُؤْمِنينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْديلا)[8].
وجبهة النفاق الظاهر أو المبطّن، والذين قال عنهم الله سبحانه: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلينَ لإخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَليلا)[9].
وكلما هبَّت عليها نسائم الكرامة الحسينية في عاشوراء إنتفض الصادقون، وتاب المزيد من المعوِّقين، أو أُفحِموا بالأدلة الصادقة.
عاشوراء.. ثورة في ضمير الأمة
ومن هنا فإن الأمة الاسلامية لا تزال بخير ما بقيت فيها بقية تتمسك بنهج السبط الشهيد، مقيمة لشعائر عاشوراء، ومتوافدة لزيارة الامام الحسين عليه السلام في كل مناسبة.
ألم تقرأوا فضل زيارته، وفضل البكاء عليه، وفضل إقامة شعائره؟
إن أئمة الهدى عليهم السلام، ملأوا الخافقين روايات حول كل ذلك، وهكذا كانت ذكريات السبط الشهيد ثورة في ضمير الأمة، لا تدعها تنام على سرير المعاذير، وتغفو في سبات الأفكار السلبية وتستسلم لتحديات الزمن.
بلى، وإن نهج الإمام الحسين عليه السلام، يكون أكثر تأثيراً باذن الله تعالى في خلاص الأمة من براثن الكفر والفسق والنفاق، وذلك مع إتباع التوصيات التالية:
نشر المنهج الرسالي
1- في ظل التقدم العلمي في مجال التواصل بين الناس، عبر الشبكة العنكبوتية، والهواتف الذكية، والفضائيات المتزايدة، وغيرها.. أصبحت مسؤولية نشر المنهج الرسالي على عاتق كل فرد من الموالين لأهل البيت عليهم السلام، ذلك لأن نهج الإمام الحسين عليه السلام، يتحدى الكفر والفسق والنفاق بكل أطيافه، كما يتحدى المعوِّقين وأهل المعاذير الذين ينأون بأنفسهم عن مسؤولية الدفاع عن الحق، ويأوون إلى كهف التبريرات التي تسوِّل لهم شياطين الجن والإنس، ويداهنون الظالمين، ويبررون لهم عدوانهم وفسادهم وطغيانهم.
من هنا فإن هذا النهج الإلهي ينتصر بإذن الله عليهم جميعاً بحيوية أبنائه، وجديتهم، وشجاعتهم، وصدق مواقفهم، وبالتالي تضحياتهم السخية.
ألا ترى أنه لولا قيام السبط الشهيد عليه السلام، وما جرى عليه من سفك دمه، وهتك حرمته، وسبي أهله وعياله.. لولا ذلك لما بقيت للدين باقية؟
إن قيامه سلام الله عليه هو الذي أثار الأطايب من أبناء الأمة حتى أرخصوا في سبيل الله أنفسهم، وجاهدوا بكل ما أوتوا حتى نزل عليهم النصر وخسر هنالك المبطلون.
وكذلك كان لكل واحد من الموالين أمنية شائقة يعيشها أبداً أن يتَّبع نهج السبط الشهيد في الدفاع عن الحق، وفي أن تُختم حياته بالشهادة كما السبط الشهيد وأنصاره، وهذه هي ـ بعد التوكل على الله ـ الكهف الحصين للأمة، والقوة الرادعة للظالمين.
من هنا كان فرضاً علينا جميعاً الدفاع عن هذا النهج، والدعوة إليه، و بكل وسائل الإعلام والتواصل المتاحة اليوم.
لا للطاغوت.. نعم للقائد الصالح
2- إنّ تجنّب الطاغوت وعلى كل المستويات واجب شرعي، ومن دونه لا يخلص الإيمان من شوائب الشرك والشك، وقد قال ربنا سبحانه: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فقد استَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لاَ انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَميعٌ عَليمٍ)[10].
وقال الله تعالى: (وَالَّذينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِباد)[11].
وإنما يتم إجتناب الطاغوت بقطع الصلة به، وبالكفر بولايته، وتحدي سلطته، ما استطاع المسلم إلى ذلك سبيلاً، ولا يمكن ذلك إلا بالدخول في حصن ولاية الله، وولاية الرسول والائمة عليه وعليهم السلام، ومَنْ هم على سبيلهم من العلماء والمؤمنين.
إن كل مؤمن موالٍ مسؤول عن ولايته، لأنه في يوم القيامة يُدعى كل أناس بإمامهم. ومن هنا فإننا إخترنا النبي وأهل بيته أئمة لنا وقادة، لكي نُدعى بهم، ونُحشر في زمرتهم إن شاء الله تعالى. أما خاتمهم و قائمهم عجل الله فرجه، فقد أمرنا بإتخاذ الفقهاء وكلاء عنه، والحجج علينا باسمه، وأنت وأنا ونحن جميعاً علينا أن نبحث عن النائب الذي يمثِّل إمامنا عجل الله تعالى فرجه حقاً وصدقاً، والذي يتصف بما وصفه إمامنا لنا، فإذا وجدناه إلتزمناه واتّبعناه ما دام على نهج الأئمة الطاهرين عليهم السلام، ونهج الإمام السبط الشهيد، وانتضمنا تحت قيادته مع سائر المؤمنين التابعين له بكل إخلاص، وسرنا معاً في سبيل الغايات التي من أجلها بُعث الرسل عليهم السلام، ومن أجلها كان قيام إمامنا الحسين عليه السلام، لكي نفوز بخير الدنيا والآخرة بفضل الله سبحانه.
إن انتخاب نائب الإمام إنتخاباً صحيحاً وفق المعايير الشرعية هو بداية إنطلاق الأمة في سبيل الإمام الحسين عليه السلام، وهو فريضة على كل مسلم ومسلمة.
العروج إلى سماء الإيمان والتقوى
3- إن الإمام الحسين عليه السلام، كان مثالاً أعلى لكل الصفات الإيمانية، وعلينا أن نتخذه قدوة لنا فيها جميعاً. صحيحٌ إن شهادته عليه السلام كانت القمة في العبودية لله تعالى، وفي المُثُل العليا التي دعا اليها القران الحكيم، إلا أنّ كل حياته سلام الله عليه كانت تجسيداً لقيم الإيمان واليقين والعدل والإحسان والجهاد، وعلينا ـ ونحن نعيش أيام عاشوراء وأجواءها الروحية السامية ـ أن نستحضر حياته الكريمة ـ ونبذل كل الجهد من أجل تمثّل شخصيته، والتحلي بمثل صفاته، لعلنا نكون صادقين حينما نقول له أبداً: "يا ليتني كنت معكم فافوز فوزاً عظيما".
بلى، دعنا ننفتح في أيام العزاء على تيار النور المنبعث من أرض الشهادة كربلاء المقدسة، ونعرِّج معه إلى سماء الإيمان والتقوى، والتحلي بأسمى الأخلاق، ونتقرب إلى ربنا سبحانه زلفى بالمسارعة في الخيرات.
إن هذه الدموع التي تذرفها أعيننا، والقلوب التي تَتَفجَّع لمصائب الامام عليه السلام، والصدور التي تُلطم، وإن سائر الشعائر التي تُقام في هذه المناسبة العظيمة والأليمة، لابد أن تكون كلها معراجاً لأرواحنا إلى حيث ذرى التقوى واليقين، وإلى حيث تزكية النفوس من أدران الهوى والشكوك وحب الشهوات، ولتكون بالتالي وسيلة لتبييض صحائف أعمالنا من كل ذنب وخطيئة.
وبكلمة: دعنا أيها الإخوة الحسينيون نُولَدُ في عزاء الحسين عليه السلام من جديد، ونستأنف حياتنا بعد عاشوراء بحيوية إيمانية بالغة، وبتحمل المسؤولية الإجتماعية بخُلُقٍ فاضل وآداب رفيعة.
وكلمة أخيرة
أيها الاخوة.. هذا البيان قد تضمَّن رؤى وبصائر مستفادة من قيام السبط الشهيد، والمرجو أن تعالج قضايا معاصرة بإذن الله تعالى، ومن المنتظر من العلماء والخطباء، بل ومن سائر القراء الكرام، أن ينشروا ما إقتنعوا بها من هذه البصائر على أوسع نطاق ممكن، قربة الى الله، وخدمة للامة، والله المستعان.
محمد تقي المدرسي
كربلاء المقدسة
28/ذو الحجة/1433هـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
[1]. بحار الأنوار: ج 91، ص 184.
[2]. آل عمران: 110.
[3]. بحار الأنوار: ج 44، ص 329.
[4]. بحار الأنوار: ج 43، ص 261.
[5]. كامل الزيارات: 229.
[6]. بحار الأنوار: ج 74، ص 162.
[7]. اللهوف على قتلى الطفوف: ص 120.
[8]. الأحزاب: 23.
[9]. الأحزاب: 18.
[10]. البقرة: 256.
[11]. الزمر: 17.