هذا الحديث من الصحاح التي يجب أن يتعمق الفقهاء في دلالتها وأبعادها قال رسول الله(صلى الله عليه واله)من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصا الله ، ومن أطاع علياً فقد أطاعني ، ومن عصا علياً فقد عصاني) !! (1)
ومن ميزات هذا الحديث أن الذهبي الذي هو إمام النقد والتجريح عندهم والذي عمل كل ما استطاع لإسقاط عمدة أحاديث فضائل أمير المؤمنين(عليه السلام)، قد صحح هذا الحديث ووصف أبا ذر الذي ينتهي اليه بأنه: رأس في العلم والزهد والإخلاص والجهاد وصدق اللهجة لعل هذا الكلام يصل الى بعض أصحاب الفكر السنيين ، فعندما نقول يجب أن يتعمق الفقهاء في هذا الحديث ، لا نقصد التعمق بالفقه الابتدائي بل بالفقه النهائي فينبغي أن يعرف هؤلاء حتى لا يقعوا في الغرور بعملهم ألحديثي ، أنهم بلغوا الغاية في رواية الحديث والأسانيد ، والشاهد على ذلك ما فعله محققوهم في قلب المتون من قبيل قلب الحديث المرفوع عن أنيسة في أذان بلال وابن أم مكتوم ، قلب روايتها وفقهها ! وكذلك قلبهم طبقة الإسناد كالذي ارتكبه الرواة الحمقى من قلب مئات الأسانيد على المتون والمتون على الأسانيد ، في البخاري وغيره نعم إنهم قاموا بأعمالهم هذه بكل دقة ! وارتكبوا بكامل ذكائهم أنواعاً من القلب والرفع والتدليس ، وبقية أنواع تحريف السنة الثمانية والعشرين مما لايخفى على الخاصة !لكن الذي تركوه وأعرضوا عنه هو فقه الحديث! وعليهم أن يعترفوا بذلك ومن الواضح أن نسبة فقه الحديث الى عملهم الواسع في روايته نسبة اللب الى القشر ، فأين هم عن فقه السنة ؟!
ماذا فعلوا في فقه هذا الحديث الذي هو باعتراف كبير نقادهم الذهبي صحيح لا ريب فيه ، وأن رسول الله(صلى الله عليه واله)قال: من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصا الله، ومن أطاع علياً فقد أطاعني ومن عصا علياً فقد عصاني! وما هي النتيجة التي أخذوها منه ؟!
هذا الحديث الذي صح عن الصحابي الجليل أبي ذر رضوان الله عليه الذي يقول عنه الذهبي في تذكرة الحفاظ إن النبي وصفه بأنه ليس تحت ظل السماء أصدق لهجة منه فكيف تجاوزوا قوله وأعرضوا عن حديث نبيهم (صلى الله عليه واله)ولم يتفكروا فيه ؟!لا يمكننا في هذه العجالة أن نستوفي فقه هذا الحديث الشريف ، لكنا نعمل بقاعدة الميسور ، ففي هذا القول النبوي الكريم أصل وفرع ، وشجرة وثمرة ، وعلة ومعلول أما البحث في المعلول والنتيجة الظاهرة المترتبة عليه، فأولها عصمة علي بن أبي طالب(عليه السلام) فكيف غفلوا عن هذه الحقيقة وحصروا العصمة برسول الله(صلى الله عليه واله)مع أن قوله هذا نصٌّ في عصمة علي(عليه السلام)؟!
وبرهانه أن قوله: ( من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصا الله ومن أطاع علياً فقد أطاعني، ومن عصا علياً فقد عصاني) يدل على أن إرادة عليٍّ لا يمكن أن تتخلف عن إرادة الله تعالى ، ولا أن تتخلف كراهته عن كراهة الله تعالى ، ولو أمكن أن تتخلف لكان قوله: من أطاعه فقد أطاع الله ، غلطاً ، ولكان قوله: من عصاه فقد عصى الله ، باطلاً ، معاذ الله ! ومادام شق هذه القضية حقاً ، فإنكار عصمة علي باطل !
ولنرجع الى العلة وجذر هذا الحديث ، لنرى أن قائله هو أول عالم الوجود (صلى الله عليه واله)، وكلامه ليس فقط للرواية والتسجيل في الكتب كما يتخيلون ، فالعلم مخزونٌ عند أهله فاقتبسوه في مظانه لقد بدأ النبي(صلى الله عليه واله)عن طريق عقلي ، وأنهى القضية الى إرشاد عقلي ، وهذا شأن مقامه العلمي(صلى الله عليه واله)!
بدأ أولاً بكلمة: من أطاعني، وشرع من إطاعة الله تعالى لا من علي(عليه السلام)وفي ذلك نكتة عميقة ليس هذا مجالها وإن أحداً لاستثنى من الدخول في دائرة قوله (مَن) ، فكل الناس عليهم أن يطيعوا الله تعالى ، ويدخلوا في دائرة (مَن) هذه، وذلك بالدليل العقلي أو ألنقلي، الاستقلالي أو الإرشادي وكل من دخل في هذه الدائرة التي هي طاعة الله تعالى ، يجب عليه أن يدخل بنفس الدليل في طاعة الرسول(صلى الله عليه واله)لأنه لاينطق عن الهوى ! ثم قال(صلى الله عليه واله)بعد ذلك: ومن أطاع علياً فقد أطاعني ومن عصا علياً فقد عصاني فدل على أن كل من دخل في تلك الدائرة فعليه أن يدخل في هذه الدائرة ، فلا يمكن التخلف بين دائرة (مَن) ودائرة (مَن) هناك!
فكيف لم يفكروا في ذلك ؟! إن مسؤولية العالم غير مسؤولية الجاهل !
والمهم هنا أن يفهم الفقيه السني أننا عندما نقول: علي وجه الله تعالى، فإنا لانغالي بل نقولها بالدليل والبرهان ، ونعتمد فيها على رواية السنيين التي لا تقبل الإنكار عند علماء الجرح والتعديل وعلماء اللغة والبيان !
وتوضيح المطلب: أن الأمر أو النهي له مبدأ ومنتهى ، فمنتهاه الإطاعة أو المعصية ، ومبدؤه الإرادة ، وحدُّه الوسط الكراهة فالأمر والنهي معلولان للإرادة لا محالة، فيستحيل إطاعة الله تعالى ومعصيته بدون وجود إرادة وأمر أو نهي ربانيين صادرين عنها ، وقد أراد النبي(صلى الله عليه واله) بقوله: ومن أطاع علياً فقد أطاعني أن يُفهم المسلمين أن إرادة علي إرادة الله تعالى وكراهته كراهة الله تعالى ! إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (سورة ق: 37 ) تأمل في تسلسل قوله(صلى الله عليه واله): من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصا الله ، ومن أطاع علياً فقد أطاعني ومن عصا علياً فقد عصاني، فإنها لمن يفهمها قضية خطيرة تقشعر منها الجلود ، ويضطرب لها الإنسان فيخرس عن الكلام! قضية خطيرة وحق كبير ، لا يمكننا أن نتنازل عنه !
من أطاعني فقد أطاع الله فقد استعمل النبي(صلى الله عليه واله)في حكمه الذي أصدره لفظ (مَن) للتعميم ، وحرف (الفاء) للتفريع ، وحرف (قد) للتحقيق !
ونتيجة ذلك ومعناه: أنه إذا تغير وجه علي غضباً ، فبدليل ارتباط البدن بالروح وفناء إرادة علي(عليه السلام)في إرادة الله تعالى ، وفناء غضبه في غضب الله تعالى ، فإن هذا ليس تغير وجه علي(عليه السلام)، بل هو مرآة لغضب الله تعالى! وإذا تبسمت شفتا علي فهذا ليس تبسم علي(عليه السلام)بل هو مرآة لرضا الله تعالى!
ذلك أن هذه الإرادة فانيةٌ في تلك ، فهي انعكاسٌ لها ، وكراهته فانية في تلك فهي انعكاسٌ لها ، وذلك بقانون انعكاس الروح على البدن !
فعلي(عليه السلام)لا محالة وجه الله تعالى ، ومظهر أمره ونهيه وإرادته !
لا يصح أن تقدموا الروايات الشريفة الواردة في تفاسيرنا في مثل هذا الموضوع ، بشكل بسيط بدون تحليل ، أمام المخالفين السذج الذين لأعلم لهم ، بل ينبغي أن تبينوا جذرها العقلي والنقلي من المصادر فعندما تقولون لهم إن علياً(عليه السلام)يد الله وعين الله ، يتصور هؤلاء العوام أنها غلو !!
إن هؤلاء الذين لم يشموا رائحة العلم والحكمة ولم يفهموا الكتاب والسنة، كيف يفهمون أن يصل إنسانٌ الى أن يكون وجه إرادة الله تعالى ونهيه ، ومظهر سر اسمه الأعظم وغيبه ؟!
إن هذا الظهور لأسم الله تعالى على روح علي(عليه السلام)هو الذي يعطيه مقام قدرة يد الله تعالى ، مقام: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى ! هذا المقام العظيم الذي يجعله يقول: والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدا نية ، ولكن بقوة ربانية ، ونفس بنور بارئها مُضيَّة إن هذا البشر ، هذا الإنسان ، هذا الموجود ، فوق مستوى العقل البشري فها أنتم ترون أنَّا لم نستطع أن نستوفي حديثاً نبوياً واحداً في حقه ، ولا نستوعب ما قاله النبي(صلى الله عليه واله)، في مقامه(عليه السلام) فأيُّ ظلم في العالم كهذا الظلم الذي وقع عليه؟! وكيف يمكن لعاقل أن يغض النظر عن ظلامته ويتحمل أن يؤخر إنسان مثل علي(عليه السلام)، ويقدم عليه أشخاص تعرفون مستواهم ! لله أي إنسان أخروا ، وأي أشخاص قدموهم عليه ؟!
إذا كنت فقيهاً سنياً ، فهل فكرت في هذه القصة التي يرويها ابن حجر في شرحه للبخاري ، قال في فتح الباري:9/323: ( قوله: وقال علي: ألم تعلم أن القلم رفع عن ثلاثة عن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يدرك وعن النائم حتى يستيقظ وصله البغوي في الجعديات عن علي بن الجعد ، عن شعبة، عن الأعمش عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، أن عمر أتي بمجنونة قد زنت وهي حبلى ، فأراد أن يرجمها ! فقال له علي: أما بلغك أن القلم قد وضع عن ثلاثة فذكره ، وتابعه بن نمير، ووكيع وغير واحد عن الأعمش، ورواه جرير بن حازم عن الأعمش فصرح فيه بالرفع أخرجه أبو داود وابن حبان من طريقه ، وأخرجه النسائي من وجهين آخرين عن أبي ظبيان مرفوعاً وموقوفاً، لكن لم يذكر فيهما ابن عباس جعله عن أبي ظبيان عن علي، ورجح الموقوف على المرفوع وأخذ بمقتضى هذا الحديث الجمهور ) ! فالشخص الذي لا يعرف حكم العاقل من حكم المجنون ، ولو لم ينبهه أمير المؤمنين(عليه السلام)في ذلك اليوم لقتل تلك المرأة بدون حق، وقتل جنينها أيضاً ، ولنسبت هذه الجريمة الى الإسلام !!
إنه لا مجال لإنكار هذه الرواية ، إلا بإنكار الفقه السني الذي تسالم عليها ! تُرى ، كيف يقدَّم مثل هذا الشخص على علي(عليه السلام)الذي يقول فيه النبي(صلى الله عليه واله): من أطاع علياً فقد أطاعني ، ومن أطاعني فقد أطاع الله؟! كيف يجوز أن يقدَّم أحدٌ على إنسان طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله، ورأيه حكم الله، وعلمه من علم الله تعالى؟!! على شخصٍ قال فيه النبي(صلى الله عليه واله): أقضاكم علي علي مع القرآن والقرآن مع علي الخ فهل هذه النصوص النبوية الجازمة من مصادرنا حتى ينكروها؟!وهل حديث: أنا مدينة الحكمة وعلي بابها من مصادرنا أو مصادرهم ؟
إن علياً(عليه السلام)قمة العلم في هذه الأمة ، ومعدنه ، والذي عنده علم الكتاب ، والشاهد على الأمة بعد رسول الله(صلى الله عليه واله): قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( سورة الرعد: 43) ، الكتاب الذي وصفه الله تعالى فقال: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَئٍْ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (سورة النحل:89) فهل يجوز أن يؤخر إنسان بهذا المستوى العظيم ، ويقدم عليه من لايعرف حكم الحبلى المجنونة ؟
أم هل يجوز أن يقدم عليه أبو بكر بن أبي قحافة الذي لم يكن يعرف حكم إرث الجدة ، فاعترف أنه لايعرف هل ترث أم لا ، ولايعرف سهمها ؟!
لقد حاول الذهبي أن يغطي على جهل أبي بكر في تذكرة الحفاظ وسير الأعلام ، ويقلب جهله بإرث الجدة الى افتخار ، وأنه كان يسأل عما لايعرفه ! لكنه بذلك كشف مستواه ؟!! (2)
إن الجاهل بأحكام الإسلام الذي يفتي في أمور الدين استناداً الى أمثال المغيرة بن شعبة ، والمغيرة معروف أنه رأس المكر والكذب ، والفاسق الذي عزله عمر بن الخطاب! كيف يكون خليفة النبي(صلى الله عليه واله)ويجلس مجلسه ، ويقدم على علي بن أبي طالب(عليه السلام)، الذي من أطاعه فقد أطاع الله ، والذي هو مع القرآن ومع الحق ، الى آخر الصفات التي قالها فيه النبي(صلى الله عليه واله)؟!!
فهل هذا من العقل ، أو من الكتاب أو السنة ؟! أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( سورة يونس: 35 )
ألا يفكر هؤلاء أنهم مسؤولون يوم القيامة: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ !
ألم تفكروا أن النبي(صلى الله عليه واله)عندما قال: من أطاعه أطاعني، هل كان أبو بكر وعمر داخلين في دائرة الإطاعة هذه ، أم خارجين عنها ؟! إن من يخرج عن دائرة هذه الطاعة فقد خرج عن دائرة طاعة الله تعالى ! ومن دخل في دائرة طاعة الله ، فلا بد أن يدخل في دائرة طاعة علي ، لأن أمره أمر الله ونهيه نهي الله تعالى! وعليه فإن طاعة علي(عليه السلام)بنص صحاحهم فريضة ! وأصل خلافة أبي بكر وعمر بنص صحاحهم باطلة !!
( أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) ؟!
إنها حقائق لا يمكننا الإغماض عنها والسكوت عليها فقد تقع ظلامة من نوعها على مثلي أو مثلك ، بأن يعزل الإنسان عن الحكم ويقصى عن منصب القيادة ويجلس بدله شخص جاهل! فتكون ظلامةً خفيفة أو قابلة للإصلاح ، لكنها في مثل خلافة النبي(صلى الله عليه واله)على مثل علي ثم مصيبة مؤلمة ، وقد وصفها هو(عليه السلام)بأنها أحدُّ من حزِّ الشفار ، وبأن ألمها يذيب البدن ، لأنه يعرف ماذا خسرت الأمة والبشرية بها ! فهو يعرف بما آتاه الله علم وبعد نظر حقيقة ما حدث بعد النبي(صلى الله عليه واله)، وأنهم أضاعوا الثمرة المطلوب نضجها على يده من بعثة جميع الأنبياء(عليه السلام)، ثمرة قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( سورة آل عمران:164 ) أجل ، لم يكن كسر ضلع الصديقة الزهراء(عليه السلام)مصيبةً قاتلة لعلي(عليه السلام)، ولا كان غصب فدك مصيبةً غير محتملة ، لكن الذي كان يحزُّ في قلبه ويؤرقه أنه يرى أن المجلس الذي كان يجلس فيه رسول الله(صلى الله عليه واله)، والمنبر الذي كان يجلس عليه من قال الله له: وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (سورة النساء: 113) يراه يجلس فيه من يقول عن نفسه: كل الناس أفقه من عمر حتى ربات الحجال !!المصيبة التي كانت تحز في قلبه أنه رأى الزهراء(عليه السلام)عندما ذهبت من الدنيا وغسل جنازتها، رآها قد ذاب جسمها من الأذى (حتى صارت كالخيال) !
لقد بقي منها شبه البدن ، وذاب بدنها من اضطهادهم وأذاهم !!
إن الواجب المهم أمران: الأول ، أن تبذروا بذور حب علي(عليه السلام)في القلوب والثاني، أن تبذروا بذور البغض لغاصبي حقه بنفس المقياس والمستوى ، ولا تنقصوا منه ذرةً واحدة ، فإن الأمة إذا تراجعت يوماً عن البراءة مقدار ذرة ، فستبتلى في ذلك اليوم جميعها بلعنة لا يُعلم ما سوف تجره عليها !
ذلك أن كل الجهود التي بذلت من صدر الإسلام الى اليوم ، إنما هي:
أولاً إحقاق الحق ، وثانياً إبطال الباطل
**تفسير: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً ( سورة المائدة :3 ) على مدى قرون ، وعلماء المسلمين يكتبون في تفسير آية إكمال الدين ، وفي صاحب هذه الآية(عليه السلام)، وأحداث ذلك اليوم اليومَ تبدأ الآية بكلمة اليوم محلاةً بالألف واللام ، لتشير إلى أهمية ذلك اليوم وعظمته ، فما هو سر ذلك اليوم ؟
ذلك اليوم الذي روى فيه أبو هريرة عن رسول الله(صلى الله عليه واله)أن صيامه يعدل عند الله عبادة ستين سنة ! (3)
اليوم الذي قال فيه النبي(صلى الله عليه واله)للمسلمين: ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى فقال: من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه ، فنهض عمر بن الخطاب وقال: بخٍ بخٍ لك يا أبا الحسن أصبحت مولايَ ومولى كل مسلم ومسلمة ( النهاية لابن كثير:7 /386 )
إن أهمية ذلك اليوم بأهمية صاحبه ، صاحبه الذي سُئل عنه الخليل بن أحمد فقال: (ماذا أقول في رجل أخفى أعداؤه فضائله حسداً ، وأخفاها محبوه خوفاً ، وظهر من بين ذين وذين ما ملأ الخافقين! )
والذي قال فيه أحمد بن حنبل: (ما جاء في أحد من الصحابة من الفضائل ما جاء في علي بن أبي طالب ) ! (4)
ما الذي حدث في ذلك اليوم؟
حدث أولاً ، أن الله أكمل لنا ديننا
وحدث ثانياً، أنه أتم علينا نعمته وحدث ثالثاً ، أنه رضي لنا الإسلام ديناً !
فما معنى الإكمال والإتمام والرضا؟
إن هذه المفاهيم القرآنية قضايا كبيرة تبين معنى الدين الإلهي وتاريخ تنزله، وفيها بحوث كثيرة ، قد يستغرق الحديث فيها سنة من الزمان ، وإنما نتكلم حولها بكلمات مختصرة !
ولكي نعرف ما هو الدين ، وما هو الإسلام ، الذي رضيه الله لنا ديناً في هذا اليوم ، ينبغي أن ننظر في الآيات التي تحدثت عن الدين والإسلام ، من أول آية إلى آخر آية ينبغي أن نعرف أن الإسلام الذي قال الله تعالى عنه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (سورة آل عمران: 85)هو الإسلام الذي صار الجانب التنفيذي منه ركناً في بنائه ، من يوم جدد إبراهيم(عليه السلام)بناء البيت ودعا ربه كما أمره ، أن يكون نبي الأمة المسلمة خاتمة الأمم ، وأئمتها ، من ذريته: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( سورة البقرة: 127)
فبعد أن أتم إبراهيم بناء قِبْلَةَ الحق للعالم ، طلب من ربه ما وعده به ، فقال إلهي أنا معمار بيتك وهذا ابني العامل معي في بناء بيتك فاجعل أجر بنائنا ما وعدتنا: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( سورة البقرة: 128 )
هذا الإسلام الذي أسس قبلته وأساسه إبراهيم(عليه السلام)، ثم بعث الله به سيد المرسلين من ولد إبراهيم(صلى الله عليه واله)فأشاد صرحه، وبنى أمته، بجهاد وجهود مباركة مقدسة طيلة ثلاثٍ وعشرين سنة، وكان عامل البناء معه بدل إسماعيل: علي بن أبي طالب(عليه السلام)!
هذا الإسلام الذي أنزله الله تعالى، بقي الى أواخر عمر النبي(صلى الله عليه واله)ناقصاً ، وبالذات الى اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، فأعلن الله إكماله !!
يا لله ، ما هو قدر ذلك اليوم ، الذي ظل الإسلام يفتقد كماله حتى وجده؟! هنا ليس موضع الكلام لأمثالي ، بل موضع الإستغفار من الكلام ! فأي قضية قيلت للبشر في هذا اليوم فلم يفهموها ، والى يومك هذا ؟!
أي يوم كنت يا يوم الغدير ، حتى جاء الخطاب الرباني فيك لرسول الله (صلى الله عليه واله)بهذا الحسم غير المعهود في خطابه له: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (سورة المائدة: 67) فنحن نعرف أن خطاب الله تعالى لرسوله (صلى الله عليه واله) أرقُّ خطاب وأحناه: مَاأَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ( سورة طـه: 2 ) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ( سورة الأنبياء: 107 )، بل نراه أقسم بعمر نبيه الحبيب: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ( سورة الحجر: 72 ) ، لكنه في هذا اليوم خاطبه بحسم خاص فقال: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ !
يقول له بذلك إن هذا اليوم مركزي في تبليغ الرسالة ، والعمل الذي ستقوم به ، به يكمل الدين ، وبدونه يبقى ناقصاً وتضيع فائدة جهودك في تبليغه !!
نعم ، إن الرحمة التي تنزلت يوم الغدير أكبر من أن يتعقلها بشر ! والسبب أن الله تعالى إنما خلق هذا العالم ، لأنه أراد أن يوجد موجوداً ويودع فيه جوهرين نادرين هما: العقل والنفس ، ولابد لهذين الجوهرين أن يصلا الى مرحلة الإثمارإن مشروع بعثة الأنبياء(عليه السلام)إنما كان من أجل إيصال جوهر العقل الى درجة الكمال النظري،وجوهر الإرادة الى درجة الكمال العملي،وكانت بعثتهم مقدمات لكي تبلغ هدفها وأوجها ببعثة نبينا(صلى الله عليه واله): لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( سورة آل عمران: 164 ) إن قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللهُ رمزٌ لقوله: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي فبعثة خاتم الأنبياء(صلى الله عليه واله)لا تتم بتعليم الكتاب والحكمة فقط ، بل لابد من يوم الغدير!ذلك أن تعليم الكتاب هو الجانب العلمي وبناء الوعي البشري ، وتعليم الحكمة هو الجانب العملي وبناء الإرادة البشرية ، وتكميل هذين الجانبين يحتاج الى مفسر رباني وحكيم رباني ، يواصل المهمة بعد النبي(صلى الله عليه واله)مفسرٌ رباني ، يستطيع تفسير الكتاب الإلهي الذي قال فيه منزله عز وجل: الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ( سورة ابراهيم: 1 ) ، وقال فيه: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شئ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ( سورة النحل: 89 ) وقال عن الذين يفهمونه ويفسرونه: لايَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ ( سورة الواقعة:79 ) لقد تم تنزيل الكتاب الإلهي لكنه بدون مفسر رباني بعد النبي يبقى ناقصاً ، لأن مفسره المؤهل تأهيلاً ربانياً هو الوحيد الذي يستطيع أن يستخرج من خزائن العلم الإلهي فيه ، كل ما يحتاج اليه العقل البشري إن القرآن الكريم كان وما زال خزائن الله العظيمة ، التي يراها العلماء ولا يستطيعون وصفها ، ويحومون حول كنوزها ولايستطيعون استخراجها ! كان وما زال بكراً على عقولهم، مهاباً في صدورهم ! ومع أنه غني في عطائه لهم ، فإن كل حصيلتهم من خزائنه الدنيا ، أما خزائنه العليا فهي أعلى منالاً من مستواهم ، لايمسها إلا المطهرون ، الذين يملكون الوسائل العليا التي تمكنهم من استخراج ما يحتاجه البشر من القرآن !
هل يستطيع أحدٌ من العلماء في عصرنا أو غير عصرنا ، أن يدعي أنه يمكنه أن يستخرج ك
ومن ميزات هذا الحديث أن الذهبي الذي هو إمام النقد والتجريح عندهم والذي عمل كل ما استطاع لإسقاط عمدة أحاديث فضائل أمير المؤمنين(عليه السلام)، قد صحح هذا الحديث ووصف أبا ذر الذي ينتهي اليه بأنه: رأس في العلم والزهد والإخلاص والجهاد وصدق اللهجة لعل هذا الكلام يصل الى بعض أصحاب الفكر السنيين ، فعندما نقول يجب أن يتعمق الفقهاء في هذا الحديث ، لا نقصد التعمق بالفقه الابتدائي بل بالفقه النهائي فينبغي أن يعرف هؤلاء حتى لا يقعوا في الغرور بعملهم ألحديثي ، أنهم بلغوا الغاية في رواية الحديث والأسانيد ، والشاهد على ذلك ما فعله محققوهم في قلب المتون من قبيل قلب الحديث المرفوع عن أنيسة في أذان بلال وابن أم مكتوم ، قلب روايتها وفقهها ! وكذلك قلبهم طبقة الإسناد كالذي ارتكبه الرواة الحمقى من قلب مئات الأسانيد على المتون والمتون على الأسانيد ، في البخاري وغيره نعم إنهم قاموا بأعمالهم هذه بكل دقة ! وارتكبوا بكامل ذكائهم أنواعاً من القلب والرفع والتدليس ، وبقية أنواع تحريف السنة الثمانية والعشرين مما لايخفى على الخاصة !لكن الذي تركوه وأعرضوا عنه هو فقه الحديث! وعليهم أن يعترفوا بذلك ومن الواضح أن نسبة فقه الحديث الى عملهم الواسع في روايته نسبة اللب الى القشر ، فأين هم عن فقه السنة ؟!
ماذا فعلوا في فقه هذا الحديث الذي هو باعتراف كبير نقادهم الذهبي صحيح لا ريب فيه ، وأن رسول الله(صلى الله عليه واله)قال: من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصا الله، ومن أطاع علياً فقد أطاعني ومن عصا علياً فقد عصاني! وما هي النتيجة التي أخذوها منه ؟!
هذا الحديث الذي صح عن الصحابي الجليل أبي ذر رضوان الله عليه الذي يقول عنه الذهبي في تذكرة الحفاظ إن النبي وصفه بأنه ليس تحت ظل السماء أصدق لهجة منه فكيف تجاوزوا قوله وأعرضوا عن حديث نبيهم (صلى الله عليه واله)ولم يتفكروا فيه ؟!لا يمكننا في هذه العجالة أن نستوفي فقه هذا الحديث الشريف ، لكنا نعمل بقاعدة الميسور ، ففي هذا القول النبوي الكريم أصل وفرع ، وشجرة وثمرة ، وعلة ومعلول أما البحث في المعلول والنتيجة الظاهرة المترتبة عليه، فأولها عصمة علي بن أبي طالب(عليه السلام) فكيف غفلوا عن هذه الحقيقة وحصروا العصمة برسول الله(صلى الله عليه واله)مع أن قوله هذا نصٌّ في عصمة علي(عليه السلام)؟!
وبرهانه أن قوله: ( من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصا الله ومن أطاع علياً فقد أطاعني، ومن عصا علياً فقد عصاني) يدل على أن إرادة عليٍّ لا يمكن أن تتخلف عن إرادة الله تعالى ، ولا أن تتخلف كراهته عن كراهة الله تعالى ، ولو أمكن أن تتخلف لكان قوله: من أطاعه فقد أطاع الله ، غلطاً ، ولكان قوله: من عصاه فقد عصى الله ، باطلاً ، معاذ الله ! ومادام شق هذه القضية حقاً ، فإنكار عصمة علي باطل !
ولنرجع الى العلة وجذر هذا الحديث ، لنرى أن قائله هو أول عالم الوجود (صلى الله عليه واله)، وكلامه ليس فقط للرواية والتسجيل في الكتب كما يتخيلون ، فالعلم مخزونٌ عند أهله فاقتبسوه في مظانه لقد بدأ النبي(صلى الله عليه واله)عن طريق عقلي ، وأنهى القضية الى إرشاد عقلي ، وهذا شأن مقامه العلمي(صلى الله عليه واله)!
بدأ أولاً بكلمة: من أطاعني، وشرع من إطاعة الله تعالى لا من علي(عليه السلام)وفي ذلك نكتة عميقة ليس هذا مجالها وإن أحداً لاستثنى من الدخول في دائرة قوله (مَن) ، فكل الناس عليهم أن يطيعوا الله تعالى ، ويدخلوا في دائرة (مَن) هذه، وذلك بالدليل العقلي أو ألنقلي، الاستقلالي أو الإرشادي وكل من دخل في هذه الدائرة التي هي طاعة الله تعالى ، يجب عليه أن يدخل بنفس الدليل في طاعة الرسول(صلى الله عليه واله)لأنه لاينطق عن الهوى ! ثم قال(صلى الله عليه واله)بعد ذلك: ومن أطاع علياً فقد أطاعني ومن عصا علياً فقد عصاني فدل على أن كل من دخل في تلك الدائرة فعليه أن يدخل في هذه الدائرة ، فلا يمكن التخلف بين دائرة (مَن) ودائرة (مَن) هناك!
فكيف لم يفكروا في ذلك ؟! إن مسؤولية العالم غير مسؤولية الجاهل !
والمهم هنا أن يفهم الفقيه السني أننا عندما نقول: علي وجه الله تعالى، فإنا لانغالي بل نقولها بالدليل والبرهان ، ونعتمد فيها على رواية السنيين التي لا تقبل الإنكار عند علماء الجرح والتعديل وعلماء اللغة والبيان !
وتوضيح المطلب: أن الأمر أو النهي له مبدأ ومنتهى ، فمنتهاه الإطاعة أو المعصية ، ومبدؤه الإرادة ، وحدُّه الوسط الكراهة فالأمر والنهي معلولان للإرادة لا محالة، فيستحيل إطاعة الله تعالى ومعصيته بدون وجود إرادة وأمر أو نهي ربانيين صادرين عنها ، وقد أراد النبي(صلى الله عليه واله) بقوله: ومن أطاع علياً فقد أطاعني أن يُفهم المسلمين أن إرادة علي إرادة الله تعالى وكراهته كراهة الله تعالى ! إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (سورة ق: 37 ) تأمل في تسلسل قوله(صلى الله عليه واله): من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصا الله ، ومن أطاع علياً فقد أطاعني ومن عصا علياً فقد عصاني، فإنها لمن يفهمها قضية خطيرة تقشعر منها الجلود ، ويضطرب لها الإنسان فيخرس عن الكلام! قضية خطيرة وحق كبير ، لا يمكننا أن نتنازل عنه !
من أطاعني فقد أطاع الله فقد استعمل النبي(صلى الله عليه واله)في حكمه الذي أصدره لفظ (مَن) للتعميم ، وحرف (الفاء) للتفريع ، وحرف (قد) للتحقيق !
ونتيجة ذلك ومعناه: أنه إذا تغير وجه علي غضباً ، فبدليل ارتباط البدن بالروح وفناء إرادة علي(عليه السلام)في إرادة الله تعالى ، وفناء غضبه في غضب الله تعالى ، فإن هذا ليس تغير وجه علي(عليه السلام)، بل هو مرآة لغضب الله تعالى! وإذا تبسمت شفتا علي فهذا ليس تبسم علي(عليه السلام)بل هو مرآة لرضا الله تعالى!
ذلك أن هذه الإرادة فانيةٌ في تلك ، فهي انعكاسٌ لها ، وكراهته فانية في تلك فهي انعكاسٌ لها ، وذلك بقانون انعكاس الروح على البدن !
فعلي(عليه السلام)لا محالة وجه الله تعالى ، ومظهر أمره ونهيه وإرادته !
لا يصح أن تقدموا الروايات الشريفة الواردة في تفاسيرنا في مثل هذا الموضوع ، بشكل بسيط بدون تحليل ، أمام المخالفين السذج الذين لأعلم لهم ، بل ينبغي أن تبينوا جذرها العقلي والنقلي من المصادر فعندما تقولون لهم إن علياً(عليه السلام)يد الله وعين الله ، يتصور هؤلاء العوام أنها غلو !!
إن هؤلاء الذين لم يشموا رائحة العلم والحكمة ولم يفهموا الكتاب والسنة، كيف يفهمون أن يصل إنسانٌ الى أن يكون وجه إرادة الله تعالى ونهيه ، ومظهر سر اسمه الأعظم وغيبه ؟!
إن هذا الظهور لأسم الله تعالى على روح علي(عليه السلام)هو الذي يعطيه مقام قدرة يد الله تعالى ، مقام: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى ! هذا المقام العظيم الذي يجعله يقول: والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدا نية ، ولكن بقوة ربانية ، ونفس بنور بارئها مُضيَّة إن هذا البشر ، هذا الإنسان ، هذا الموجود ، فوق مستوى العقل البشري فها أنتم ترون أنَّا لم نستطع أن نستوفي حديثاً نبوياً واحداً في حقه ، ولا نستوعب ما قاله النبي(صلى الله عليه واله)، في مقامه(عليه السلام) فأيُّ ظلم في العالم كهذا الظلم الذي وقع عليه؟! وكيف يمكن لعاقل أن يغض النظر عن ظلامته ويتحمل أن يؤخر إنسان مثل علي(عليه السلام)، ويقدم عليه أشخاص تعرفون مستواهم ! لله أي إنسان أخروا ، وأي أشخاص قدموهم عليه ؟!
إذا كنت فقيهاً سنياً ، فهل فكرت في هذه القصة التي يرويها ابن حجر في شرحه للبخاري ، قال في فتح الباري:9/323: ( قوله: وقال علي: ألم تعلم أن القلم رفع عن ثلاثة عن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يدرك وعن النائم حتى يستيقظ وصله البغوي في الجعديات عن علي بن الجعد ، عن شعبة، عن الأعمش عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، أن عمر أتي بمجنونة قد زنت وهي حبلى ، فأراد أن يرجمها ! فقال له علي: أما بلغك أن القلم قد وضع عن ثلاثة فذكره ، وتابعه بن نمير، ووكيع وغير واحد عن الأعمش، ورواه جرير بن حازم عن الأعمش فصرح فيه بالرفع أخرجه أبو داود وابن حبان من طريقه ، وأخرجه النسائي من وجهين آخرين عن أبي ظبيان مرفوعاً وموقوفاً، لكن لم يذكر فيهما ابن عباس جعله عن أبي ظبيان عن علي، ورجح الموقوف على المرفوع وأخذ بمقتضى هذا الحديث الجمهور ) ! فالشخص الذي لا يعرف حكم العاقل من حكم المجنون ، ولو لم ينبهه أمير المؤمنين(عليه السلام)في ذلك اليوم لقتل تلك المرأة بدون حق، وقتل جنينها أيضاً ، ولنسبت هذه الجريمة الى الإسلام !!
إنه لا مجال لإنكار هذه الرواية ، إلا بإنكار الفقه السني الذي تسالم عليها ! تُرى ، كيف يقدَّم مثل هذا الشخص على علي(عليه السلام)الذي يقول فيه النبي(صلى الله عليه واله): من أطاع علياً فقد أطاعني ، ومن أطاعني فقد أطاع الله؟! كيف يجوز أن يقدَّم أحدٌ على إنسان طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله، ورأيه حكم الله، وعلمه من علم الله تعالى؟!! على شخصٍ قال فيه النبي(صلى الله عليه واله): أقضاكم علي علي مع القرآن والقرآن مع علي الخ فهل هذه النصوص النبوية الجازمة من مصادرنا حتى ينكروها؟!وهل حديث: أنا مدينة الحكمة وعلي بابها من مصادرنا أو مصادرهم ؟
إن علياً(عليه السلام)قمة العلم في هذه الأمة ، ومعدنه ، والذي عنده علم الكتاب ، والشاهد على الأمة بعد رسول الله(صلى الله عليه واله): قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( سورة الرعد: 43) ، الكتاب الذي وصفه الله تعالى فقال: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَئٍْ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (سورة النحل:89) فهل يجوز أن يؤخر إنسان بهذا المستوى العظيم ، ويقدم عليه من لايعرف حكم الحبلى المجنونة ؟
أم هل يجوز أن يقدم عليه أبو بكر بن أبي قحافة الذي لم يكن يعرف حكم إرث الجدة ، فاعترف أنه لايعرف هل ترث أم لا ، ولايعرف سهمها ؟!
لقد حاول الذهبي أن يغطي على جهل أبي بكر في تذكرة الحفاظ وسير الأعلام ، ويقلب جهله بإرث الجدة الى افتخار ، وأنه كان يسأل عما لايعرفه ! لكنه بذلك كشف مستواه ؟!! (2)
إن الجاهل بأحكام الإسلام الذي يفتي في أمور الدين استناداً الى أمثال المغيرة بن شعبة ، والمغيرة معروف أنه رأس المكر والكذب ، والفاسق الذي عزله عمر بن الخطاب! كيف يكون خليفة النبي(صلى الله عليه واله)ويجلس مجلسه ، ويقدم على علي بن أبي طالب(عليه السلام)، الذي من أطاعه فقد أطاع الله ، والذي هو مع القرآن ومع الحق ، الى آخر الصفات التي قالها فيه النبي(صلى الله عليه واله)؟!!
فهل هذا من العقل ، أو من الكتاب أو السنة ؟! أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( سورة يونس: 35 )
ألا يفكر هؤلاء أنهم مسؤولون يوم القيامة: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ !
ألم تفكروا أن النبي(صلى الله عليه واله)عندما قال: من أطاعه أطاعني، هل كان أبو بكر وعمر داخلين في دائرة الإطاعة هذه ، أم خارجين عنها ؟! إن من يخرج عن دائرة هذه الطاعة فقد خرج عن دائرة طاعة الله تعالى ! ومن دخل في دائرة طاعة الله ، فلا بد أن يدخل في دائرة طاعة علي ، لأن أمره أمر الله ونهيه نهي الله تعالى! وعليه فإن طاعة علي(عليه السلام)بنص صحاحهم فريضة ! وأصل خلافة أبي بكر وعمر بنص صحاحهم باطلة !!
( أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) ؟!
إنها حقائق لا يمكننا الإغماض عنها والسكوت عليها فقد تقع ظلامة من نوعها على مثلي أو مثلك ، بأن يعزل الإنسان عن الحكم ويقصى عن منصب القيادة ويجلس بدله شخص جاهل! فتكون ظلامةً خفيفة أو قابلة للإصلاح ، لكنها في مثل خلافة النبي(صلى الله عليه واله)على مثل علي ثم مصيبة مؤلمة ، وقد وصفها هو(عليه السلام)بأنها أحدُّ من حزِّ الشفار ، وبأن ألمها يذيب البدن ، لأنه يعرف ماذا خسرت الأمة والبشرية بها ! فهو يعرف بما آتاه الله علم وبعد نظر حقيقة ما حدث بعد النبي(صلى الله عليه واله)، وأنهم أضاعوا الثمرة المطلوب نضجها على يده من بعثة جميع الأنبياء(عليه السلام)، ثمرة قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( سورة آل عمران:164 ) أجل ، لم يكن كسر ضلع الصديقة الزهراء(عليه السلام)مصيبةً قاتلة لعلي(عليه السلام)، ولا كان غصب فدك مصيبةً غير محتملة ، لكن الذي كان يحزُّ في قلبه ويؤرقه أنه يرى أن المجلس الذي كان يجلس فيه رسول الله(صلى الله عليه واله)، والمنبر الذي كان يجلس عليه من قال الله له: وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (سورة النساء: 113) يراه يجلس فيه من يقول عن نفسه: كل الناس أفقه من عمر حتى ربات الحجال !!المصيبة التي كانت تحز في قلبه أنه رأى الزهراء(عليه السلام)عندما ذهبت من الدنيا وغسل جنازتها، رآها قد ذاب جسمها من الأذى (حتى صارت كالخيال) !
لقد بقي منها شبه البدن ، وذاب بدنها من اضطهادهم وأذاهم !!
إن الواجب المهم أمران: الأول ، أن تبذروا بذور حب علي(عليه السلام)في القلوب والثاني، أن تبذروا بذور البغض لغاصبي حقه بنفس المقياس والمستوى ، ولا تنقصوا منه ذرةً واحدة ، فإن الأمة إذا تراجعت يوماً عن البراءة مقدار ذرة ، فستبتلى في ذلك اليوم جميعها بلعنة لا يُعلم ما سوف تجره عليها !
ذلك أن كل الجهود التي بذلت من صدر الإسلام الى اليوم ، إنما هي:
أولاً إحقاق الحق ، وثانياً إبطال الباطل
**تفسير: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً ( سورة المائدة :3 ) على مدى قرون ، وعلماء المسلمين يكتبون في تفسير آية إكمال الدين ، وفي صاحب هذه الآية(عليه السلام)، وأحداث ذلك اليوم اليومَ تبدأ الآية بكلمة اليوم محلاةً بالألف واللام ، لتشير إلى أهمية ذلك اليوم وعظمته ، فما هو سر ذلك اليوم ؟
ذلك اليوم الذي روى فيه أبو هريرة عن رسول الله(صلى الله عليه واله)أن صيامه يعدل عند الله عبادة ستين سنة ! (3)
اليوم الذي قال فيه النبي(صلى الله عليه واله)للمسلمين: ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى فقال: من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه ، فنهض عمر بن الخطاب وقال: بخٍ بخٍ لك يا أبا الحسن أصبحت مولايَ ومولى كل مسلم ومسلمة ( النهاية لابن كثير:7 /386 )
إن أهمية ذلك اليوم بأهمية صاحبه ، صاحبه الذي سُئل عنه الخليل بن أحمد فقال: (ماذا أقول في رجل أخفى أعداؤه فضائله حسداً ، وأخفاها محبوه خوفاً ، وظهر من بين ذين وذين ما ملأ الخافقين! )
والذي قال فيه أحمد بن حنبل: (ما جاء في أحد من الصحابة من الفضائل ما جاء في علي بن أبي طالب ) ! (4)
ما الذي حدث في ذلك اليوم؟
حدث أولاً ، أن الله أكمل لنا ديننا
وحدث ثانياً، أنه أتم علينا نعمته وحدث ثالثاً ، أنه رضي لنا الإسلام ديناً !
فما معنى الإكمال والإتمام والرضا؟
إن هذه المفاهيم القرآنية قضايا كبيرة تبين معنى الدين الإلهي وتاريخ تنزله، وفيها بحوث كثيرة ، قد يستغرق الحديث فيها سنة من الزمان ، وإنما نتكلم حولها بكلمات مختصرة !
ولكي نعرف ما هو الدين ، وما هو الإسلام ، الذي رضيه الله لنا ديناً في هذا اليوم ، ينبغي أن ننظر في الآيات التي تحدثت عن الدين والإسلام ، من أول آية إلى آخر آية ينبغي أن نعرف أن الإسلام الذي قال الله تعالى عنه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (سورة آل عمران: 85)هو الإسلام الذي صار الجانب التنفيذي منه ركناً في بنائه ، من يوم جدد إبراهيم(عليه السلام)بناء البيت ودعا ربه كما أمره ، أن يكون نبي الأمة المسلمة خاتمة الأمم ، وأئمتها ، من ذريته: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( سورة البقرة: 127)
فبعد أن أتم إبراهيم بناء قِبْلَةَ الحق للعالم ، طلب من ربه ما وعده به ، فقال إلهي أنا معمار بيتك وهذا ابني العامل معي في بناء بيتك فاجعل أجر بنائنا ما وعدتنا: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( سورة البقرة: 128 )
هذا الإسلام الذي أسس قبلته وأساسه إبراهيم(عليه السلام)، ثم بعث الله به سيد المرسلين من ولد إبراهيم(صلى الله عليه واله)فأشاد صرحه، وبنى أمته، بجهاد وجهود مباركة مقدسة طيلة ثلاثٍ وعشرين سنة، وكان عامل البناء معه بدل إسماعيل: علي بن أبي طالب(عليه السلام)!
هذا الإسلام الذي أنزله الله تعالى، بقي الى أواخر عمر النبي(صلى الله عليه واله)ناقصاً ، وبالذات الى اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، فأعلن الله إكماله !!
يا لله ، ما هو قدر ذلك اليوم ، الذي ظل الإسلام يفتقد كماله حتى وجده؟! هنا ليس موضع الكلام لأمثالي ، بل موضع الإستغفار من الكلام ! فأي قضية قيلت للبشر في هذا اليوم فلم يفهموها ، والى يومك هذا ؟!
أي يوم كنت يا يوم الغدير ، حتى جاء الخطاب الرباني فيك لرسول الله (صلى الله عليه واله)بهذا الحسم غير المعهود في خطابه له: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (سورة المائدة: 67) فنحن نعرف أن خطاب الله تعالى لرسوله (صلى الله عليه واله) أرقُّ خطاب وأحناه: مَاأَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ( سورة طـه: 2 ) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ( سورة الأنبياء: 107 )، بل نراه أقسم بعمر نبيه الحبيب: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ( سورة الحجر: 72 ) ، لكنه في هذا اليوم خاطبه بحسم خاص فقال: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ !
يقول له بذلك إن هذا اليوم مركزي في تبليغ الرسالة ، والعمل الذي ستقوم به ، به يكمل الدين ، وبدونه يبقى ناقصاً وتضيع فائدة جهودك في تبليغه !!
نعم ، إن الرحمة التي تنزلت يوم الغدير أكبر من أن يتعقلها بشر ! والسبب أن الله تعالى إنما خلق هذا العالم ، لأنه أراد أن يوجد موجوداً ويودع فيه جوهرين نادرين هما: العقل والنفس ، ولابد لهذين الجوهرين أن يصلا الى مرحلة الإثمارإن مشروع بعثة الأنبياء(عليه السلام)إنما كان من أجل إيصال جوهر العقل الى درجة الكمال النظري،وجوهر الإرادة الى درجة الكمال العملي،وكانت بعثتهم مقدمات لكي تبلغ هدفها وأوجها ببعثة نبينا(صلى الله عليه واله): لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( سورة آل عمران: 164 ) إن قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللهُ رمزٌ لقوله: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي فبعثة خاتم الأنبياء(صلى الله عليه واله)لا تتم بتعليم الكتاب والحكمة فقط ، بل لابد من يوم الغدير!ذلك أن تعليم الكتاب هو الجانب العلمي وبناء الوعي البشري ، وتعليم الحكمة هو الجانب العملي وبناء الإرادة البشرية ، وتكميل هذين الجانبين يحتاج الى مفسر رباني وحكيم رباني ، يواصل المهمة بعد النبي(صلى الله عليه واله)مفسرٌ رباني ، يستطيع تفسير الكتاب الإلهي الذي قال فيه منزله عز وجل: الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ( سورة ابراهيم: 1 ) ، وقال فيه: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شئ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ( سورة النحل: 89 ) وقال عن الذين يفهمونه ويفسرونه: لايَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ ( سورة الواقعة:79 ) لقد تم تنزيل الكتاب الإلهي لكنه بدون مفسر رباني بعد النبي يبقى ناقصاً ، لأن مفسره المؤهل تأهيلاً ربانياً هو الوحيد الذي يستطيع أن يستخرج من خزائن العلم الإلهي فيه ، كل ما يحتاج اليه العقل البشري إن القرآن الكريم كان وما زال خزائن الله العظيمة ، التي يراها العلماء ولا يستطيعون وصفها ، ويحومون حول كنوزها ولايستطيعون استخراجها ! كان وما زال بكراً على عقولهم، مهاباً في صدورهم ! ومع أنه غني في عطائه لهم ، فإن كل حصيلتهم من خزائنه الدنيا ، أما خزائنه العليا فهي أعلى منالاً من مستواهم ، لايمسها إلا المطهرون ، الذين يملكون الوسائل العليا التي تمكنهم من استخراج ما يحتاجه البشر من القرآن !
هل يستطيع أحدٌ من العلماء في عصرنا أو غير عصرنا ، أن يدعي أنه يمكنه أن يستخرج ك