- مفهوم التربية عند الإمام علي (عليه السلام):
لعل من المفيد أن نستهل هذا الموضوع بتبيان المدلول اللغوي لمفهوم التربية. فالتربية في اللغة مأخوذة من ربى ولده، والصبي يربه، رباه أي أحسن القيام عليه حتى أدرك (1).
فالتربية بمدلولها اللغوي، تعني تعهد الطفل بالرعاية والتغذية المادية والمعنوية حتى يشب. ولقد اهتم الفلاسفة والعلماء بهذا المفهوم، وجهدوا في الكشف عن مضامينه العلمية وأوجدوا له عدداً من التفسيرات التي إن اختلفت في شكلها، فهي متفقة في جوهرها، وسنعرض فيما يلي أقوال بعض المفكرين القدامى والمحدثين، لنرى موقع (النهج) منها.
يقول أفلاطون (427-347ق.م):
(التربية هي إعطاء الجسم والروح كل ما يمكن من الجمال، وكل ما يمكن من الكمال) (2). وهذا يعتمد على الناحية الكمية من التربية، وذلك بمزاولة جميع الأنشطة العقلية والبدنية المؤدية لكمال الفرد.
ويقول أرسطو (384-322ق.م):
(الغرض من التربية هو أن يستطيع الفرد عمل كل ما هو مفيد وضروري في الحرب والسلم، وإن يقوم بما هو نبيل وخير من الأعمال ليصل إلى حالة السعادة) (3). وهذا يهتم بالناحية المهنية من التربية لما فيه منفعة الفرد وسعادته في دنياه.
ويقول جولز سيمون، الفيلسوف الفرنسي (1814-1896م):
(التربية هي الطريقة التي بها يكون العقل عقلاً حراً، ويكون القلب قلباً حراً) (4). وهذا يتم بالنواحي الروحية من التربية. ولعل أوثق تعريفين للتربية هما: ما قاله الغزالي (450-505):
(ومعنى التربية، يشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك، ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع، ليحسن نباته ويكمل ريعه) (5).
وما قاله جون ديوي: (إنها عملية صوغ وتكوين لفعالية الأفراد ثم صب لها في قوالب معينة ـ أي تحويلها إلى عمل اجتماعي مقبول لدى الجماعة) (6).
وهناك تعريفات كثيرة لا مجال لذكرها لعدم الحاجة إليها ـ وهي في أكثرها مشابهة لما سبق ـ وما يهمنا هو استعراض ما مر منها ومقابلتها بما صدر عن الإمام (عليه السلام)، من أفكار تربوية تفسر حقيقة مفهوم التربية.
يرى (عليه السلام) أن الإنسان هو غاية الوجود، ومن أجله خلق الله ما خلق إذ بعد أن خلق تعالى الكون ورتبه أحسن ترتيب، ونظمه أجمل تنظيم، وأتم مرافقه، على أكمل وجه، وجمع فيه ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، أخرج إليه الإنسان، وأسكنه فيه على أن يكون خليفته في أرضه، يحيا في كنفها ويعيش من خيراتها، ويمضي في أقواله وأفعاله ونواياه، ومقاصده، وفق أحكام الله وإرادته مطيعاً، مذعناً، شاكراً، إلا أنه خالف أمر الله، وسلك بوحي من نفسه الأمارة بالسوء، فجذبته الدنيا إليها وحجبت عنه الرؤية السليمة فبات أسير أوهامه وشهواته.
إن ضعف الإنسان أمام إغراء المادة والإيمان بأن الشيطان الذي أغواه في الجنة لن يتوانى عن إغوائه مرة أخرى وهو على الأرض، وبالتالي سوف لن يتمكن من ممارسة الخلافة كما أوجبها الله ما دام ضعيف الحجة، مسلوب الإرادة، قليل الإيمان. هذه الأمور أوجبت أخذه بالتربية والتعليم حتى تستقيم نفسه ويقوى على مقاومة الضلالة والفساد. إلا أن هذه التربية، لا تستند فقط إلى مبادئ نظرية لا صلة بها بالواقع، بل تتخذ منها طريقاً ومنهجاً يعضده العلم والعمل والإيمان بهدف منفعة العباد وخيرهم.
وكثيرة هي الخطب والكلمات التي تضمنها (النهج) وهي تدعو إلى طلب العلم وأخذه من أي مصدر كان، كما وتحث على العمل حتى لا تبقى التربية مجرد نظريات لا فائدة منها في عالم الواقع. لذلك فإن الإمام (عليه السلام) يدعم القول بالعمل وهذا هو الحق الذي يشهد به العمران والتقدم والتطور الحاصل في المجتمعات من ذلك (العلم مقرون بالعمل، فمن علم عمل) (7).. إذ لا خير في علم بلا عمل. ولابد للعارف من أن يكون عاملاً حتى لا يكون علمه حجة عليه.
ولقد أدرك الإمام علي (عليه السلام) هذا الأمر وطبقه على سائر مجريات حياته، يبدو ذلك في حديثه عن العلماء الذين يتعلمون، برأيه ـ لغايات ثلاث (8):
ـ للمراء والجدل.
ـ للاستطاعة والحيل.
ـ للفقه والعمل.
- أما الأول (فإنك تراه ممارياً للرجال في أندية المقال، قد تسربل بالتخشع وتخلى من الورع. فدق الله من هذا حيزومه وقطع منه خيشومه).
- وأما الثاني (فإنه يستطيل على أشباهه من أشكاله، ويتواضع للأغنياء، من دونهم، فهو لحلوائهم هاضم، ولدينه حاطم، فأعمى الله من هذا بصره، ومحى من العلماء أثره).
- وأما الثالث (فتراه ذا كآبة وحزن، قام الليل في حندسه، وانحنى في برنسه، ويعمل ويخشى، فشد الله من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه).
فليس المهم بنظر الإمام (عليه السلام) كثرة العلوم النظرية، لأنها لا تغني عن السلوك الحسن والسيرة الخيرة، ولا كثرة العلماء، ما دام البعض منهم قد اتخذ العلم وسيلة للهدم، أو أداة للرياء والنفاق، في حين أن البقية الباقية منهم، ممن آمنوا بربهم وخشعوا له، قد اتخذوه للعمل الحر الشريف. فالتربية التي تعتمد الكمية في أساليبها ليست مقبولة ما دامت لا تستند إلى الكيفية والنوعية. إلا أن هذه النوعية لا فائدة منها إذا لم تقترن بالفاعلية فالعلم لا يراد لذاته، بل لأجل التغيير والنمو في شخصية الفرد والمجتمع كما يقول (عليه السلام): (لا تجعلوا علمكم جهلاً ويقينكم شكاً، إذا علمتم فاعملوا وإذا تيقنتم فأقدموا) (9).
إلا أن العمل قد يجر الويل على المجتمع، إذا لم يستند إلى أساس روحي خلقي وما نراه اليوم دليلاً على ذلك، فالذرة قد تستعمل للبناء وقد تستعمل للفناء والدمار والذي ينحى بها هذا المنحى أو ذاك، هو الإنسان ذاته الذي اكتشفها، لذلك كانت التربية الروحية الخلقية لابدّ منها في صياغة كيان الفرد وتفكيره وخلقه. ولقد جمع الإسلام بين التربية الدينية والدنيوية بقوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (10).
هذه النظرية للتربية التي انفرد بها الإمام علي (عليه السلام) هي أكثر شمولاً وعمقاً من تلك التي أوحت بها التعريفات السالفة الذكر، فبينما نرى أن فلاسفة التربية قد قصروا نشاطها على جانب معين من حياة الفرد (أفلاطون ـ ارسطو ـ جولز سيمون) يتوسع الإمام (عليه السلام) في هذا النشاط ليشمل جميع نواحيه الفكرية والاجتماعية والأخلاقية والدينية والدنيوية كما سنرى فيما بعد وذلك من أجل إيجاد الإنسان الفاضل القريب من الكمال. هذا المضمون نفسه هو الذي أكده كل من (الغزالي) و(جون ديون) ممّا يثبت بأن هذا الكتاب، كان وما يزال في صميم المعرفة التي تحدث عنها الفلاسفة والعلماء في كل عصر وجيل
فالتربية بمدلولها اللغوي، تعني تعهد الطفل بالرعاية والتغذية المادية والمعنوية حتى يشب. ولقد اهتم الفلاسفة والعلماء بهذا المفهوم، وجهدوا في الكشف عن مضامينه العلمية وأوجدوا له عدداً من التفسيرات التي إن اختلفت في شكلها، فهي متفقة في جوهرها، وسنعرض فيما يلي أقوال بعض المفكرين القدامى والمحدثين، لنرى موقع (النهج) منها.
يقول أفلاطون (427-347ق.م):
(التربية هي إعطاء الجسم والروح كل ما يمكن من الجمال، وكل ما يمكن من الكمال) (2). وهذا يعتمد على الناحية الكمية من التربية، وذلك بمزاولة جميع الأنشطة العقلية والبدنية المؤدية لكمال الفرد.
ويقول أرسطو (384-322ق.م):
(الغرض من التربية هو أن يستطيع الفرد عمل كل ما هو مفيد وضروري في الحرب والسلم، وإن يقوم بما هو نبيل وخير من الأعمال ليصل إلى حالة السعادة) (3). وهذا يهتم بالناحية المهنية من التربية لما فيه منفعة الفرد وسعادته في دنياه.
ويقول جولز سيمون، الفيلسوف الفرنسي (1814-1896م):
(التربية هي الطريقة التي بها يكون العقل عقلاً حراً، ويكون القلب قلباً حراً) (4). وهذا يتم بالنواحي الروحية من التربية. ولعل أوثق تعريفين للتربية هما: ما قاله الغزالي (450-505):
(ومعنى التربية، يشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك، ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع، ليحسن نباته ويكمل ريعه) (5).
وما قاله جون ديوي: (إنها عملية صوغ وتكوين لفعالية الأفراد ثم صب لها في قوالب معينة ـ أي تحويلها إلى عمل اجتماعي مقبول لدى الجماعة) (6).
وهناك تعريفات كثيرة لا مجال لذكرها لعدم الحاجة إليها ـ وهي في أكثرها مشابهة لما سبق ـ وما يهمنا هو استعراض ما مر منها ومقابلتها بما صدر عن الإمام (عليه السلام)، من أفكار تربوية تفسر حقيقة مفهوم التربية.
يرى (عليه السلام) أن الإنسان هو غاية الوجود، ومن أجله خلق الله ما خلق إذ بعد أن خلق تعالى الكون ورتبه أحسن ترتيب، ونظمه أجمل تنظيم، وأتم مرافقه، على أكمل وجه، وجمع فيه ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، أخرج إليه الإنسان، وأسكنه فيه على أن يكون خليفته في أرضه، يحيا في كنفها ويعيش من خيراتها، ويمضي في أقواله وأفعاله ونواياه، ومقاصده، وفق أحكام الله وإرادته مطيعاً، مذعناً، شاكراً، إلا أنه خالف أمر الله، وسلك بوحي من نفسه الأمارة بالسوء، فجذبته الدنيا إليها وحجبت عنه الرؤية السليمة فبات أسير أوهامه وشهواته.
إن ضعف الإنسان أمام إغراء المادة والإيمان بأن الشيطان الذي أغواه في الجنة لن يتوانى عن إغوائه مرة أخرى وهو على الأرض، وبالتالي سوف لن يتمكن من ممارسة الخلافة كما أوجبها الله ما دام ضعيف الحجة، مسلوب الإرادة، قليل الإيمان. هذه الأمور أوجبت أخذه بالتربية والتعليم حتى تستقيم نفسه ويقوى على مقاومة الضلالة والفساد. إلا أن هذه التربية، لا تستند فقط إلى مبادئ نظرية لا صلة بها بالواقع، بل تتخذ منها طريقاً ومنهجاً يعضده العلم والعمل والإيمان بهدف منفعة العباد وخيرهم.
وكثيرة هي الخطب والكلمات التي تضمنها (النهج) وهي تدعو إلى طلب العلم وأخذه من أي مصدر كان، كما وتحث على العمل حتى لا تبقى التربية مجرد نظريات لا فائدة منها في عالم الواقع. لذلك فإن الإمام (عليه السلام) يدعم القول بالعمل وهذا هو الحق الذي يشهد به العمران والتقدم والتطور الحاصل في المجتمعات من ذلك (العلم مقرون بالعمل، فمن علم عمل) (7).. إذ لا خير في علم بلا عمل. ولابد للعارف من أن يكون عاملاً حتى لا يكون علمه حجة عليه.
ولقد أدرك الإمام علي (عليه السلام) هذا الأمر وطبقه على سائر مجريات حياته، يبدو ذلك في حديثه عن العلماء الذين يتعلمون، برأيه ـ لغايات ثلاث (8):
ـ للمراء والجدل.
ـ للاستطاعة والحيل.
ـ للفقه والعمل.
- أما الأول (فإنك تراه ممارياً للرجال في أندية المقال، قد تسربل بالتخشع وتخلى من الورع. فدق الله من هذا حيزومه وقطع منه خيشومه).
- وأما الثاني (فإنه يستطيل على أشباهه من أشكاله، ويتواضع للأغنياء، من دونهم، فهو لحلوائهم هاضم، ولدينه حاطم، فأعمى الله من هذا بصره، ومحى من العلماء أثره).
- وأما الثالث (فتراه ذا كآبة وحزن، قام الليل في حندسه، وانحنى في برنسه، ويعمل ويخشى، فشد الله من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه).
فليس المهم بنظر الإمام (عليه السلام) كثرة العلوم النظرية، لأنها لا تغني عن السلوك الحسن والسيرة الخيرة، ولا كثرة العلماء، ما دام البعض منهم قد اتخذ العلم وسيلة للهدم، أو أداة للرياء والنفاق، في حين أن البقية الباقية منهم، ممن آمنوا بربهم وخشعوا له، قد اتخذوه للعمل الحر الشريف. فالتربية التي تعتمد الكمية في أساليبها ليست مقبولة ما دامت لا تستند إلى الكيفية والنوعية. إلا أن هذه النوعية لا فائدة منها إذا لم تقترن بالفاعلية فالعلم لا يراد لذاته، بل لأجل التغيير والنمو في شخصية الفرد والمجتمع كما يقول (عليه السلام): (لا تجعلوا علمكم جهلاً ويقينكم شكاً، إذا علمتم فاعملوا وإذا تيقنتم فأقدموا) (9).
إلا أن العمل قد يجر الويل على المجتمع، إذا لم يستند إلى أساس روحي خلقي وما نراه اليوم دليلاً على ذلك، فالذرة قد تستعمل للبناء وقد تستعمل للفناء والدمار والذي ينحى بها هذا المنحى أو ذاك، هو الإنسان ذاته الذي اكتشفها، لذلك كانت التربية الروحية الخلقية لابدّ منها في صياغة كيان الفرد وتفكيره وخلقه. ولقد جمع الإسلام بين التربية الدينية والدنيوية بقوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (10).
هذه النظرية للتربية التي انفرد بها الإمام علي (عليه السلام) هي أكثر شمولاً وعمقاً من تلك التي أوحت بها التعريفات السالفة الذكر، فبينما نرى أن فلاسفة التربية قد قصروا نشاطها على جانب معين من حياة الفرد (أفلاطون ـ ارسطو ـ جولز سيمون) يتوسع الإمام (عليه السلام) في هذا النشاط ليشمل جميع نواحيه الفكرية والاجتماعية والأخلاقية والدينية والدنيوية كما سنرى فيما بعد وذلك من أجل إيجاد الإنسان الفاضل القريب من الكمال. هذا المضمون نفسه هو الذي أكده كل من (الغزالي) و(جون ديون) ممّا يثبت بأن هذا الكتاب، كان وما يزال في صميم المعرفة التي تحدث عنها الفلاسفة والعلماء في كل عصر وجيل
تعليق