قال(ع)ذات مرة: لقد ظلمتُ عددَ المَدَر والمطر والوبر ووصفه المعصومون (ع)بأنه أول المظلومين! (1)
وهي كلمة يصعب فهمها ، فإن تصور معاني هذا الحد من الظلم الذي وقع على أمير المؤمنين(ع)لايمكن إلا للمتعمقين في غور الحكمة وهو مظلوم من مبغضيه ومن محبيه أيضاً ! فلو دققنا في الأمر لوجدنا أنا ظالمون له أيضاً!
وبذلك يتضح قوله(ع): عدد المدر والمطر والحصى !
يوجد حديث متفق عليه بين الشيعة وأغلب السنة، إذا فهمناه عرفنا مدى مظلومية أمير المؤمنين(ع)، وهو قول النبي(ص): أنا مدينة الحكمة وعلي بابها فمن أراد الحكمة فليأت الباب
وفي لفظ آخر: أنا دار الحكمة وعلي بابها (2)
وفي تعبير الدار نكتة ، وفي تعبير المدينة نكتة أخرى في فهم الحكمة ، فإن فهم الحكمة وتعريفها من المشكلات العلمية، وعندما يتعمق الباحث لمعرفة معناها بالطريقة التحليلية العقلية يصل الى قوله تعالى: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً (سورة الاسراء: 85) فيعرف بذلك حدود الحقيقة التي يمكن أن يفهمها ثم يصل الى قوله تعالى مخاطباً خاتم أنبيائه: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ( سورة النساء: 77 )
فأي دنياً هذه التي يقول الله تعالى إن متاعها قليل؟ إنها الدنيا التي زين الله سماءها بزينة الكواكب، والتي تشمل كل تلك المجرات والشموس والنجوم ، وبعضها أكبر من حجم الأرض بملايين المرات ، والتي لانعرف سعتها طولاً ولا عرضاً ، ولا ابتداءها ولا انتهاءها !
هذه الدنيا بسعتها المذهلة ، وأمدها من الأزل الى الأبد ، قليلة ، ومتاعها قليل!!
ونفس الذي يقول عن متاعها إنه قليل، وعن علم الناس في الدنيا إنه قليل، هو عز وجل يقول: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ ( سورة البقرة: 269 )
فمن يؤتَ الحكمة فهذا كثير مطلقَ الحكمة ، وليس الحكمة المطلقة !
أما متاع الدنيا بقول مطلق ، فهو قليل قليل !
هذه قيمة الحكمة ، إنها بمطلق وجودها كثير، والدنيا بوجودها المطلق قليل ! وبهذا نفهم أن مدينة الحكمة في الحديث النبوي ليست مطلق الحكمة بل هي الحكمة المطلقة جمعت في هذه المدينة !
وبهذايتضح لنا من هو علي ومدى ظلامته(ع)!
لكن وضوح ذلك مخصوص بالفقهاء الكمَّل، وفضلاء البشر الذين يدركون أن عالم المادة من البدو الى الختم محكوم بالقلة ، ومطلق الحكمة محكوم بالكثرة
إن صاحب الحكمة المطلقة هو الشخص الذي لم يبق أمامه نقطة إبهام في الوجود إلا واتضحت ، والذي تبلغ إحاطته العلمية بالوجود مبلغاً يرى فيه كل الأشياء كما هي في الواقع ، فهو من ناحية نظرية عالمٌ عقلاني يضاهي آدم العيني بصورته لا بمادته ! وهو من ناحية عملية إنسانٌ متخلق بأخلاق الله تعالى حتى يكون هو اسم الله الأعظم علماً وعملاً !
هذا هو معنى: أنا مدينة الحكمة، بل لابد لمعرفة معنى الحكمة أن نعرف أيضاً أن كل عالم الوجود إنما هو مقدمة ، وذو المقدمة هو بعثة الأنبياء(ع)
ثم إن بعثة الأنبياء(ع)مقدمة أيضاً ، وذو المقدمة هو بعثة خاتم الأنبياء(ص) ثم إن بعثة خاتم الأنبياء(ص)مقدمة، وذو المقدمة له مبدأٌ واحدٌ ومنتهىً واحد ومبدؤه الحكمة ، ومنتهاه الحكمة ! وبرهان ذلك قوله تعالى: يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( سورة الجمعة: 1 )
فالعزيز الحكيم هو المبدأ ، أما المنتهى فهو تعليمهم الحكمة في ختام قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( سورة الجمعة: 2 )
فمهمة النبي(ص)لاتتم بتلاوته الكتاب الإلهي على الناس، ولا بتزكيتهم ولا بتعليمهم الكتاب ، بل بتعليمهم الحكمة ! فهي التمام ، وبعدها لا كلام !
وبهذا تنفتح نافذة لفهم الحديث المتفق عليه: (أنا مدينة الحكمة وعلي بابها) ترى من هو هذا الإنسان ، وماذا في قلبه ، حتى صار باب مدينة الحكمة ؟!
والآن حيث اتضح معنى الحكمة الى حد ، فإنها تنقسم الى عشرة أجزاء ، ومدينة الحكمة تشمل هذه الأجزاء العشرة ، تسعة أجزاء يختص بها شخص واحد هو علي بن أبي طالب(ع)،بشهادة النبي(ص)، وجزء واحد يشترك فيه الناس ، أي كل البشرية من ابتدائها الى انتهائها وعلي أعلمهم بهذا الجزء! (3)
والآن يستطيع الفقيه المتبحر بالفقه الأكبر أن يفهم معنى:
السلام عليك يا أول مظلوم!
فإن الظلم الذي وقع على علي(ع)، لا يمكن تصوره إلا إذا عرفنا من هو علي ، وأي ظلم وقع على البشرية بظلمه صلوات الله عليه؟!
إن مسألة علم علي وحكمته وظلامته ، مسألة عميقة والرواية فيها كثيرة ، لكن أين الدراية ؟! إني أتحسر، وأتمنى لو أوفق لأعمل لشهر على الأقل في بحث حديث: أنا مدينة الحكمة وعلي بابها، فمن أراد الحكمة فليأت الباب!
وأكتفي هنا بصحيح واحد فقط ، رواه علي بن ابراهيم ، عن أبيه ابراهيم بن هاشم، عن محمد بن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن أبي عبد الله(ع)قال: من عنده علم الكتاب علي بن أبي طالب (4)
أما سند الحديث فهو مضافاً الى اشتماله على بعض أصحاب الإجماع مثل ابن أبي عمير&، ففيه شيوخ الحديث وأساطين الوثاقة والصحة: علي بن ابراهيم ، وأبوه ابراهيم بن هاشم ، وعمر بن أذينة ، رحمهم الله ومن ميزات هذا الحديث الشريف قلة وسائطه ، فهم ثلاثة وسائط من علي بن ابراهيم شيخ القميين الى الإمام الصادق(ع)
عنده علم الكتاب فالعلم هنا مضاف الى الكتاب، الكتاب المكنون الذي: لايَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ (سورة الواقعة:79) والذي قال عنه الله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شئ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين ( سورة النحل:89 )
وكلمة (شئ) مفهوم لا يوجد أعم منه، وهي لفظ مطلق، مُصَدَّرٌ بكل! فلا يخرج عن دائرة هذا التعميم مخلوق من الأزل الى الأبد !
وعلم هذا الكتاب كله ، في صدر علي بن أبي طالب(ع)!
وهنا سؤال: ما هو الفرق بين قوله تعالى: قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( سورة الرعد: 43 )، وقوله عن نبي الله سليمان ووصيه ، عندما طلب سليمان أن يحضروا له عرش بلقيس من اليمن:
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ( سورة النمل:40 )
فسليمان ووصيه(ص)عندهما: عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ و (مِن) هنا تبعيضية ، ومن هذا البعض الذي كان عنده تعلَّم منطق الطير ، وتسخير الجن وتسخير الريح غدوها شهر ورواحها شهر !!
وقد سئل الإمام الصادق(ع)عن نسبة علم من عنده علم من الكتاب الى علم من عنده علم الكتاب فقال: (قدرقطرة من الماء في البحر الأخضر) أي المحيط! فهذا هو الفرق بين علم سليمان ووصيه وبين علم أمير المؤمنين(ع)! ومعناه: انتبهوا واعرفوا علياً وعرفوه للناس هكذا ، ولا تظلموه !
إن مسؤولية كل واحد منكم ثقيلة (5)
وإذا أردتم أن تعرفوا لماذا صار علي(ع)في هذا المقام العظيم ، فاختص بتسعة أجزاء من الحكمة الربانية من دون جميع الناس من الأولين والآخرين، ما عدا سيد المرسلين(ص)، وشارك الناس في الجزء الذي عندهم منها ، فاقرؤوا هذا الحديث عن رسول الله(ص): ما أخلص عبد لله عز وجل أربعين صباحاً إلا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه (6)
ومعنى أخلص لله تعالى أربعين صباحاً: لم يقل شيئاً إلا لله تعالى ، ولم ير شيئاً إلا لله تعالى ، ولم يقف إلا لله تعالى ، ولم يفكر إلا لله تعالى فعند ذلك تجري ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه!
وبهذا نعرف أي إخلاص لله تعالى كان في شخصية علي(ع)، بحيث جرت كل حكمة الوجود دفعة واحدة على قلبه المقدس !!
هكذا كان علي ابن أبي طالب(ع) وقد ذهب من الدنيا ولم يعرفه أحد !
لا يعرف منه أهل الدنيا إلا أنه كبير ، لا أكثر ، أما أهل السماء فيعرفون أنه جليل جليل ، أما ما هي هذه الجلالة ففيها بحث مفصل
أما عظمة علي(ع) فلا يعرفها أهل الأرض ولا أهل السماء ! وشاهدها بيان الإمام المعصوم(ع): كبير في الأرض، جليل في السماء، عظيم عند الله سبحانه وتعالى!
إن عظمة علي يعرفها فقط المليك المقتدر عز وجل ، هناك حيث يكون كل هذا العالم حقيراً أمام شخصيته العظيمة صلوات الله عليه !
اللهم صل وسلم على سيد الشهداء والمظلومين ، وولي الأوصياء ، وإمام الصديقين ، زين المؤمنين ، ويعسوب المسلمين ، أمير المؤمنين ،
عدد ما فيه الذكر ، صلاة دائمة ، بدوام ملكك وسلطانك
وهي كلمة يصعب فهمها ، فإن تصور معاني هذا الحد من الظلم الذي وقع على أمير المؤمنين(ع)لايمكن إلا للمتعمقين في غور الحكمة وهو مظلوم من مبغضيه ومن محبيه أيضاً ! فلو دققنا في الأمر لوجدنا أنا ظالمون له أيضاً!
وبذلك يتضح قوله(ع): عدد المدر والمطر والحصى !
يوجد حديث متفق عليه بين الشيعة وأغلب السنة، إذا فهمناه عرفنا مدى مظلومية أمير المؤمنين(ع)، وهو قول النبي(ص): أنا مدينة الحكمة وعلي بابها فمن أراد الحكمة فليأت الباب
وفي لفظ آخر: أنا دار الحكمة وعلي بابها (2)
وفي تعبير الدار نكتة ، وفي تعبير المدينة نكتة أخرى في فهم الحكمة ، فإن فهم الحكمة وتعريفها من المشكلات العلمية، وعندما يتعمق الباحث لمعرفة معناها بالطريقة التحليلية العقلية يصل الى قوله تعالى: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً (سورة الاسراء: 85) فيعرف بذلك حدود الحقيقة التي يمكن أن يفهمها ثم يصل الى قوله تعالى مخاطباً خاتم أنبيائه: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ( سورة النساء: 77 )
فأي دنياً هذه التي يقول الله تعالى إن متاعها قليل؟ إنها الدنيا التي زين الله سماءها بزينة الكواكب، والتي تشمل كل تلك المجرات والشموس والنجوم ، وبعضها أكبر من حجم الأرض بملايين المرات ، والتي لانعرف سعتها طولاً ولا عرضاً ، ولا ابتداءها ولا انتهاءها !
هذه الدنيا بسعتها المذهلة ، وأمدها من الأزل الى الأبد ، قليلة ، ومتاعها قليل!!
ونفس الذي يقول عن متاعها إنه قليل، وعن علم الناس في الدنيا إنه قليل، هو عز وجل يقول: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ ( سورة البقرة: 269 )
فمن يؤتَ الحكمة فهذا كثير مطلقَ الحكمة ، وليس الحكمة المطلقة !
أما متاع الدنيا بقول مطلق ، فهو قليل قليل !
هذه قيمة الحكمة ، إنها بمطلق وجودها كثير، والدنيا بوجودها المطلق قليل ! وبهذا نفهم أن مدينة الحكمة في الحديث النبوي ليست مطلق الحكمة بل هي الحكمة المطلقة جمعت في هذه المدينة !
وبهذايتضح لنا من هو علي ومدى ظلامته(ع)!
لكن وضوح ذلك مخصوص بالفقهاء الكمَّل، وفضلاء البشر الذين يدركون أن عالم المادة من البدو الى الختم محكوم بالقلة ، ومطلق الحكمة محكوم بالكثرة
إن صاحب الحكمة المطلقة هو الشخص الذي لم يبق أمامه نقطة إبهام في الوجود إلا واتضحت ، والذي تبلغ إحاطته العلمية بالوجود مبلغاً يرى فيه كل الأشياء كما هي في الواقع ، فهو من ناحية نظرية عالمٌ عقلاني يضاهي آدم العيني بصورته لا بمادته ! وهو من ناحية عملية إنسانٌ متخلق بأخلاق الله تعالى حتى يكون هو اسم الله الأعظم علماً وعملاً !
هذا هو معنى: أنا مدينة الحكمة، بل لابد لمعرفة معنى الحكمة أن نعرف أيضاً أن كل عالم الوجود إنما هو مقدمة ، وذو المقدمة هو بعثة الأنبياء(ع)
ثم إن بعثة الأنبياء(ع)مقدمة أيضاً ، وذو المقدمة هو بعثة خاتم الأنبياء(ص) ثم إن بعثة خاتم الأنبياء(ص)مقدمة، وذو المقدمة له مبدأٌ واحدٌ ومنتهىً واحد ومبدؤه الحكمة ، ومنتهاه الحكمة ! وبرهان ذلك قوله تعالى: يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( سورة الجمعة: 1 )
فالعزيز الحكيم هو المبدأ ، أما المنتهى فهو تعليمهم الحكمة في ختام قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( سورة الجمعة: 2 )
فمهمة النبي(ص)لاتتم بتلاوته الكتاب الإلهي على الناس، ولا بتزكيتهم ولا بتعليمهم الكتاب ، بل بتعليمهم الحكمة ! فهي التمام ، وبعدها لا كلام !
وبهذا تنفتح نافذة لفهم الحديث المتفق عليه: (أنا مدينة الحكمة وعلي بابها) ترى من هو هذا الإنسان ، وماذا في قلبه ، حتى صار باب مدينة الحكمة ؟!
والآن حيث اتضح معنى الحكمة الى حد ، فإنها تنقسم الى عشرة أجزاء ، ومدينة الحكمة تشمل هذه الأجزاء العشرة ، تسعة أجزاء يختص بها شخص واحد هو علي بن أبي طالب(ع)،بشهادة النبي(ص)، وجزء واحد يشترك فيه الناس ، أي كل البشرية من ابتدائها الى انتهائها وعلي أعلمهم بهذا الجزء! (3)
والآن يستطيع الفقيه المتبحر بالفقه الأكبر أن يفهم معنى:
السلام عليك يا أول مظلوم!
فإن الظلم الذي وقع على علي(ع)، لا يمكن تصوره إلا إذا عرفنا من هو علي ، وأي ظلم وقع على البشرية بظلمه صلوات الله عليه؟!
إن مسألة علم علي وحكمته وظلامته ، مسألة عميقة والرواية فيها كثيرة ، لكن أين الدراية ؟! إني أتحسر، وأتمنى لو أوفق لأعمل لشهر على الأقل في بحث حديث: أنا مدينة الحكمة وعلي بابها، فمن أراد الحكمة فليأت الباب!
وأكتفي هنا بصحيح واحد فقط ، رواه علي بن ابراهيم ، عن أبيه ابراهيم بن هاشم، عن محمد بن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن أبي عبد الله(ع)قال: من عنده علم الكتاب علي بن أبي طالب (4)
أما سند الحديث فهو مضافاً الى اشتماله على بعض أصحاب الإجماع مثل ابن أبي عمير&، ففيه شيوخ الحديث وأساطين الوثاقة والصحة: علي بن ابراهيم ، وأبوه ابراهيم بن هاشم ، وعمر بن أذينة ، رحمهم الله ومن ميزات هذا الحديث الشريف قلة وسائطه ، فهم ثلاثة وسائط من علي بن ابراهيم شيخ القميين الى الإمام الصادق(ع)
عنده علم الكتاب فالعلم هنا مضاف الى الكتاب، الكتاب المكنون الذي: لايَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ (سورة الواقعة:79) والذي قال عنه الله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شئ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين ( سورة النحل:89 )
وكلمة (شئ) مفهوم لا يوجد أعم منه، وهي لفظ مطلق، مُصَدَّرٌ بكل! فلا يخرج عن دائرة هذا التعميم مخلوق من الأزل الى الأبد !
وعلم هذا الكتاب كله ، في صدر علي بن أبي طالب(ع)!
وهنا سؤال: ما هو الفرق بين قوله تعالى: قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( سورة الرعد: 43 )، وقوله عن نبي الله سليمان ووصيه ، عندما طلب سليمان أن يحضروا له عرش بلقيس من اليمن:
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ( سورة النمل:40 )
فسليمان ووصيه(ص)عندهما: عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ و (مِن) هنا تبعيضية ، ومن هذا البعض الذي كان عنده تعلَّم منطق الطير ، وتسخير الجن وتسخير الريح غدوها شهر ورواحها شهر !!
وقد سئل الإمام الصادق(ع)عن نسبة علم من عنده علم من الكتاب الى علم من عنده علم الكتاب فقال: (قدرقطرة من الماء في البحر الأخضر) أي المحيط! فهذا هو الفرق بين علم سليمان ووصيه وبين علم أمير المؤمنين(ع)! ومعناه: انتبهوا واعرفوا علياً وعرفوه للناس هكذا ، ولا تظلموه !
إن مسؤولية كل واحد منكم ثقيلة (5)
وإذا أردتم أن تعرفوا لماذا صار علي(ع)في هذا المقام العظيم ، فاختص بتسعة أجزاء من الحكمة الربانية من دون جميع الناس من الأولين والآخرين، ما عدا سيد المرسلين(ص)، وشارك الناس في الجزء الذي عندهم منها ، فاقرؤوا هذا الحديث عن رسول الله(ص): ما أخلص عبد لله عز وجل أربعين صباحاً إلا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه (6)
ومعنى أخلص لله تعالى أربعين صباحاً: لم يقل شيئاً إلا لله تعالى ، ولم ير شيئاً إلا لله تعالى ، ولم يقف إلا لله تعالى ، ولم يفكر إلا لله تعالى فعند ذلك تجري ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه!
وبهذا نعرف أي إخلاص لله تعالى كان في شخصية علي(ع)، بحيث جرت كل حكمة الوجود دفعة واحدة على قلبه المقدس !!
هكذا كان علي ابن أبي طالب(ع) وقد ذهب من الدنيا ولم يعرفه أحد !
لا يعرف منه أهل الدنيا إلا أنه كبير ، لا أكثر ، أما أهل السماء فيعرفون أنه جليل جليل ، أما ما هي هذه الجلالة ففيها بحث مفصل
أما عظمة علي(ع) فلا يعرفها أهل الأرض ولا أهل السماء ! وشاهدها بيان الإمام المعصوم(ع): كبير في الأرض، جليل في السماء، عظيم عند الله سبحانه وتعالى!
إن عظمة علي يعرفها فقط المليك المقتدر عز وجل ، هناك حيث يكون كل هذا العالم حقيراً أمام شخصيته العظيمة صلوات الله عليه !
اللهم صل وسلم على سيد الشهداء والمظلومين ، وولي الأوصياء ، وإمام الصديقين ، زين المؤمنين ، ويعسوب المسلمين ، أمير المؤمنين ،
عدد ما فيه الذكر ، صلاة دائمة ، بدوام ملكك وسلطانك