لحيلولة دون كتابة الوصية :ورغم ثقل الحمى وألم المرض خرج النبي (صلى الله عليه وآله) مستنداً على علي (عليه السلام)
والفضل بن العباس ليصلي بالناس وليقطع بذلك الطريق على الوصوليين الذين خطّطوا لمصادرة الخلافة والزعامة التي طمحوا لها من قبل حيث تمرّدوا على أوامر الرسول (صلى الله عليه وآله) بالخروج مع جيش اُسامة بكل بساطة والتفت النبيّ ـ بعد الصلاة ـ
إلى الناس فقال: أيها الناس سُعّرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم،
وإني والله ما تمسكون عليّ بشيء،
إني لم أحلّ إلا ما أحلّ الله،
ولم اُحرّم إلا ما حرّم الله.
فأطلق بقوله هذا تحذيراً آخر أن لا يعصوه وإن لاحت في الأفق النوايا السيئة التي ستجلب الويلات للاُمة حين يتزعّمها جهّالها.
واشتد مرض النبي (صلى الله عليه وآله)
واجتمع الصحابة في داره ولحق بهم من تخلّف عن جيش اُسامة فلامهم النبي (صلى الله عليه وآله)
على تخلّفهم واعتذروا بأعذار واهية.
وحاول النبي (صلى الله عليه وآله)
بطريقة أخرى أن يصون الأمة من التردّي والسقوط
فقال لهم: ايتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده،
فقال عمر ابن الخطاب: إنّ رسول الله قد غلبه الوجع
وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله.
وهكذا وقع التنازع والاختلاف
وقالت النسوة من وراء الحجاب: إئتوا رسول الله
(صلى الله عليه وآله) بحاجته.
فقال عمر: اسكتن فإنكن صويحبات يوسف إذا مرض عصرتنّ أعينكن وإذا صحّ أخذتنّ بعنقه،
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هن خير منكم.
ثم قال (صلى الله عليه وآله): قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع.
وكم كانت الاُمة بحاجة ماسة الى كتاب الرسول
(صلى الله عليه وآله) هذا،
حتى أن إبن عباس كان يأسف كلما يذكر ذلك
ويقول: الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله.
ولم يصرّ نبي الرحمة على كتابة الكتاب بعد اختلافهم عنده خوفاً من تماديهم في الإساءة وإنكارهم لما هو أكبر،
فقد علم (صلى الله عليه وآله) بما في نفوسهم،
وحين راجعوه ثانية بشأن الكتاب
قال (صلى الله عليه وآله): أبعد الذي قلتم؟
!وأوصاهم ثلاث وصايا،
لكن كتب التأريخ لم تذكر سوى اثنتين منها وهما:
اخراج المشركين من جزيرة العرب واجازة الوفد كما كان يجيزهم.
وعلّق السيد محسن الأمين العاملي على ذلك
قائلاً: والمتأمل لا يكاد يشكّ في أن الثالثة سكت عنها المحدّثون عمداً لا نسياناً وأنّ السياسة قد اضطرتهم الى السكوت عنها وتناسيها وأنّها هي طلب الدواة والكتف ليكتبها لهم.
الزهراء (عليها السلام) تزور أباها (صلى الله عليه وآله) :
أقبلت الزهراء (عليها السلام) وهي تجر أذيال الحزن وتتطلع إلى أبيها وهو على وشك الالتحاق بربّه فجلست عنده منكسرة القلب دامعة العين وهي تردد:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمالَ اليتامى عصمة للأرامل
وفي هذه اللحظات فتح النبي (صلى الله عليه وآله) عينيه
وقال بصوت خافت: يا بنية هذا قول عمك أبي طالب لا تقوليه ولكن قولي: (وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم عل أعقابكم،
ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين).
وكأنّ النبي(صلى الله عليه وآله)
كان يريد بذلك أن يهيّىء ابنته فاطمة(عليها السلام)
لما سيجري من أحداث مؤسفة فإن ذلك كان هو الأنسب لتلك من قول أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
ثم إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أومأ إلى حبيبته الزهراء
(عليها السلام) أن تدنو منه ليحدثها فانحنت عليه فسارّها بشيء فبكت ثم سارّها ثانية فضحكت.
وقد أثارت هذه الظاهرة فضول بعض الحاضرين
فسألوها عن سرّ ذلك
فقالت (عليها السلام): ما كنت لاُفشي سرّ رسول الله
(صلى الله عليه وآله).
ولكنّها سئلت بعد وفاة أبيها (صلى الله عليه وآله)
عن ذلك فقالت: أخبرني رسول الله(صلى الله عليه وآله)
أنه قد حضر أجله وأنه يقبض في وجعه هذا،
فبكيت ثم أخبرني أني أول أهله لحوقاً به فضحكت.
اللحظات الأخيرة من عمر النبي (صلى الله عليه وآله) :
وكان علي (عليه السلام) ملازماً للرسول (صلى الله عليه وآله) ملازمة ذي الظل لظلّه حتى آخر لحظات حياته الشريفة وهو يوصيه ويعلّمه ويضع سرّه عنده.
وفي الساعة الأخيرة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
ادعوا لي أخي ـ
وكان(صلى الله عليه وآله) قد بعثه في حاجة فجاءه بعض المسلمين فلم يعبأ بهم الرسول (صلى الله عليه وآله) حتى جاء علي (عليه السلام)
فقال (صلى الله عليه وآله) له: اُدن مني.
فدنا علي (عليه السلام) فاستند إليه فلم يزل مستنداً إليه يكلّمه حتى بدت عليه(صلى الله عليه وآله) علامات الاحتضار.
وتوفّي رسول الله(صلى الله عليه وآله)
وهو في حجر علي(عليه السلام) .
كما قد صرّح بذلك علي (عليه السلام)
نفسه في إحدى خطبه الشهيرة.