أُسـسُ النزاهة
قراءةٌ في وصيةٍ للإمام الحسين
بقلم
سماحة العلامة السيد محمد صادق الخرسان
العراق- النجف الأشرف
1432هـ/2011م
بسم الله الرحمن الرحيم
توطئةالحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الصادق الأمين وآله الهداة المعصومين وبعد:
فإنَّ من أولويات عمل المصلح،هو توفير المناخ الملائم لاستجابة مَنْ يخاطبهم وقبولِهم مشروعَه الإصلاحي،وهذا ما يستدعي تنقية الأجواء من المؤثرات السلبية على تحقيق ذلك؛حيث لا يتم له ما يريده من ترشيد الواقع و تعميق أسس المعروف في المجتمع،لولا بحثه عن المناخ المناسب لذلك العمل،بعدما كان المصلح مدعواً لتأكيد قيم الصلاح والتقوى في نفسه وغيره،وصولاً الى تأصيل النزاهة والأمانة في المؤسسة المجتمعية عامة،وجعلها الرئة التي يتنفس الأفراد من خلالها ما يصلح لديمومة حياتهم وتواصلهم الإنساني فيما بينهم؛وذلك لما للنزاهة الذاتية والأمانة العضوية من تأثير قوي في هيكلة بناء الفرد وجعله منسجماً مع الأخلاق والمُثُل السامية التي تعتبر حجر الأساس لمجتمع يُشرف على تقويمه الأنبياء والحكماء ومَنْ سار على طريقهم،ويعيش فيه الخلق وهم عيال الله كما رُوي عنه[الخلق عيال الله عز وجل فأحبهم إليه أنفعهم لعياله)[1] ،مما يحتِّم مزيد الاعتناء بالتوجيه ،ويُلزم باتباع مناهج تربوية تضمن الاستقامة الفردية، وإلا فيكون الزلل وتكثر المعاناة وتدوم فصولها حتى قد يصعب التخلص من إفرازاتها، وعليه فلابد من وقفة تصحيح بل نهضة تقويم؛لضمان السلامة،بما يوجب الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر،من كل حسب طاقته وفي كل مكان أو زمان حسب ظروفهما الحاكمة،وإلا كان الظلم وقد رُوي عن النبي الأكرم[ أنه قاليا أيها الناس إياكم والظلم فان الظلم ظلمات يوم القيامة )[2].
وأحسب أنَّ في هذا البحث ما يستجلي الحلول من خلال التأمل في بعض ما رُوي عن الإمام الحسينa؛حيث عالج قضية مهمة للغاية،تستدعي تنظيراً لحلها على مستوى المعصومa ؛لما يمثله ع من موقع في النفوس ملزم بالطاعة،مما يرجى معه الاستجابة،أو إقامة الحجة قطعاً للمعاذير،كما وأنهa يمثل النقاء في الرؤية والقوة في الحجة والدليل؛بعدما انتهل من منبع الرسالة الصافي بما يعزز الوثوق بسلامة الاطروحة من كثير مما يشوب برامج اصلاحية أخرى،نتوجس منها خيفة لما يشوبها من شوائب يكون فسادها أكثر من صلاحها،وهذه عقدة المعاناة العامة محلياً وإقليمياً ودولياً؛حيث كانت خارطة طريق الإصلاح ممن يُخطئ في تقديراته و يشتبه في تصوراته،فأنّى له ببرمجة دقيقة بعدما كان مشوش الرؤية ناقص الروية،فكان لابد من الاحتكام الى المعصومa الذي يؤمن منه الخطأ،قال تعالىيا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللهَ وأطيعوا الرسولَ وأولي الأمرِ منكم فإن تنازعتم في شيءٍ فرُدُّوه إلى اللهِ والرسولِ إن كنتم تؤمنون بالله واليومِ الآخِرِ ذلك خيرٌُ وأحسنُ تأويلاً)[3] ،وإن أئمة الهدىb هم أولو الأمر،وقد أُمرنا باطاعتهم،كما أحالنا الرسول الأعظم[عليهم في حديث الثقلين المتواتر،فهم(مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق)[4] ،فعلينا أن نستعدّ للركوب فيها من خلال العمل بما أوصانا به إمامنا الحسينa في هذه الخطبة المباركة؛عسانا ننجو بتمسكنا وعملنا،من شرِّ ما يحيط بنا من أطماع وأهوال،قال تعالى: (واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين)[5] .
وقد انتظم البحث في توطئة وثلاثة محاور وخاتمة:فتكفلت التوطئة بتقديم لمحة حول الموضوع و أهمية معالجته ولاسيما في هذه المرحلة،كما كان المحور الأول لغوياً،وقد تضمن المحور الثاني بيان وصية الإمام الحسينa ومداليلها،بينما استعرض المحور الثالث فقه النزاهة وما يترتب من الأحكام على مخالفتها،وقد جاءت الخاتمة لتُلخص البحث بما يُرجى منه عقد مقارنة بين واقعنا المعاصر وبين أسسنا القويمة؛لمحاولة تلافي الأخطاء وتداركها مهما أمكن؛حتى لا تتجذر في قناعات الأفراد أو في مؤسسات المجتمع وتعيش طفيلية تهدد استقامة البناء ومتانته.
وأخيراً أسأله تعالى مزيدَ التوفيق للقائمين على هذا المهرجان المبارك في العتبتين المقدستين الحسينية والعباسية،وأنْ يعينهم على النهوض بهذه المسئولية المقدسة،في التعريف بفكرنا وقِيمنا؛انتصاراً للحق وترسيخاً للعدل،وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب.
العراق/النجف الأشرف3شعبان المعظم1432هـ/محمد صادق السيد محمد رضا الخرسان
المحور الأول
النزاهة لغوياً وروائياً
النزاهة لغة(البُعد عن السوء))[6]،أو((البُعد من الشر))[7] ؛لأنَّ(( النون والزاي والهاء كلمة تدل على بُعدٍ في مكان وغيره))[8] فيقال(تنزهت عن كذا،أي : رفعت نفسي عنه تكرماً،ورغبة عنه))[9]،و يوصف الانسان بانه (نزيه كريم،إذا كان بعيداً من اللؤم)[10] ،وهو استعمال مجازي؛بعدما كانت المباعدة الحسية عن الشئ هي الموضوع له حقيقة،فكان الاستعمال في المباعدة المعنوية عن الشرِّ و ما يصيبه بسوء مجازاً،ومن ذلك اللؤم كصفة سيئة؛فإنَّ ((اللام والألف والميم أصلان أحدهما الاتفاق والاجتماع والآخر خلق رديء...إن اللئيم الشحيح المهين النفس الدني السنخ))[11] ،وأنَّ((اللئيم:الدنئ الأصل الشحيح النفس))[12] ،الأمر الذي يؤكد التقابل الوصفي بين النزاهة واللؤم،كما تقابل المعروف مع اللؤم؛لكون المعروفكل فعل يُعرف بالعقل أو الشرع حُسنُهُ)[13]،وكان اللؤم من الاخلاق القبيحة الرديئة . النزاهة لغوياً وروائياً
وقد ورد في النصوص المباركة ما يؤكد ذلك الاستعمال،فقد رُوي عن الإمام أمير المؤمنين_ أنه قال: 1 - النزاهة عين الظرف [14] 2- النزاهة من شيم النفوس الطاهرة[15] 3- النزاهة آية العفة [16]. 4- ثمرة الورع النزاهة[17] . 5- من قنعت نفسه أعانته على النزاهة و الكفاف[18] . 6- نزه نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى الرغائب[19] . 7 - نزّه عن كل دنية نفسَك وابذل في المكارم جهدك تخلص من المآثم و تحرز المكارم [20]. 8 - نزه نفسك عن دنس اللذات وتبعات الشهوات[21] . 9- نزه دينك عن الشبهات وصن نفسك عن مواقع الريب الموبقات [22]. 10- ما رُوي عن الإمام الرضا _ أنه قال : من نزه نفسه عن الغناء فإن في الجنة شجرة يأمر الله عز وجل الرياح أن تحركها فيسمع لها صوتا لم يسمع بمثله ومن لم يتنزه عنه لم يسمعه[23] . 11- ما رُوي عن ابن عباس أنه قال :الإيمان نزه فإذا أذنب العبد فارقه[24] .
المحور الثاني
وصيةُ الإمامِ الحسينومداليلُها
رُويَ عن الإمام الحسين أنه قال: وصيةُ الإمامِ الحسينومداليلُها
{يا أيها الناس:
1-نافسوا في المكارم[25] ، 2-وسارعوا في المغانم[26] ، 3-ولا تحتسبوا[27]بمعروفٍ لم تُعجِّلوا
4-واكسبوا الحمدَ بالنُجح[28]،ولا تكتسبوا بالمطلِ[29] ذماً؛ فمهما يكن لأحدٍ عند أحدٍ صنيعةٌ[30] له،رأى أنه لا يقوم بشكرها، فاللهُ له بمكافأته ؛ فإنه أجزل عطاءاً وأعظم أجراً.
5-واعلموا أنَّ حوائجَ الناسِ إليكم من نِعمِ اللهِ عليكم فلا تملّوا النعمَ فتحور[31] نِقَماً.
6-واعلموا أن المعروفَ مًُكْسِبٌ حمداً ومُعقِبٌ أجراً،فلو رأيتم المعروفَ رجلاً لرأيتموه حسناً جميلاً يَسُرُّ الناظرين،ويفوق العالمين، ولو رأيتم اللؤمَ رأيتموه سمجاً قبيحاً مشوهاً،تنفر منه القلوب،وتُغضُ دونه الأبصار.-الى أنْ قال- ،7- ومَنْ أراد اللهَ تبارك وتعالى بالصنيعةِ إلى أخيه كافأه بها في وقت حاجته وصرف عنه من بلاء الدنيا ما هو أكثر منه ،8-ومَنْ نفّسَ كُربةَ[32] مؤمنٍ،فرّجَ اللهُ تعالى عنه كُربَ الدنيا والآخرة ،9-مَنْ أحسن،أحسن اللهُ إليه،واللهُ يحِبُّ المحسنين}[33].
وقد عقّب الإربلي على ذلك بقوله: (قلت هذا الفصل من كلامهa وإن كان دالاً على فصاحته،ومبيناً عن بلاغته،فإنه دالٌ على كرمه وسماحته وجوده وهبته ،مخبرٌ عن شرف أخلاقه وسيرته وحُسن نيته وسريرته،شاهدٌ بعفوه وحلمه وطريقته؛فإنَّ هذا الفصل قد جمع مكارم أخلاق لكل صفة من صفات الخير فيها نصيب،واشتمل على مناقب عجيبة،وما اجتماعها في مثله بعجيب)[34] .
حقاً قد اشتملت هذه المقاطع التسعة من كلامهa على مجموعة أمور مهمة جداً في حياة الفرد،وفي تدوير الزوايا لصالح المجتمع لتُحدث فيه قابلية العمل على التغيير الذي يسهم في رسم صورة واضحة المعالم عن خصائصه،فتعكس مقوماته وتكشف عن عناصر قوته،وعندها يُرجى له الخير والتقدم ومنه الإبداع وفيه الرخاء،لتكون هذه الوصايا التسعة بمثابة لائحة قانونية تُعنى بتنظيم قواعد التعامل بين طبقات المجتمع الواحد على صعيد العلاقات الداخلية الخاصة والعامة،كما تُمهد لإقامة أفضل العلاقات الخارجية مع سائر المجتمعات الأخرى بما تقتضي أصول التعامل الإنساني بين الأمم،أو ما تُلزم به معاهدات السلام بين الشعوب ،أو "برتوكولات" واتفاقيات حُسن الجوار مع الدول المجاورة،فتعبر عن احترام متبادل على أساس المشتركات،ليحل الاستقرار ويعم السلام عالمياً،ويستغنى عن الحروب كوسيلة دفاع،ويُستعاض عن وسائل تأمين الحماية العسكرية والنووية والاقتصادية،بما يحقق الاستقرار والسلام عبر قنوات جديدة،تدعو الى :
1- المباراة في تحقيق ما يشرف به الانسان من المكارم – معنوياً- ،
2-المسارعة في تحقيق ما يفوز به من المغانم-مادياً-،
3-الاعتماد على المنجزات دون الأماني والأحلام ،
4-تحصيل الثناء برفع مستوى الانتاج،والابتعاد عن التسويف،
5 - ترشيد مواقع المسئولية وأنها محاسب عليها،
6- ترسيخ المعروف كقيمة كبرى فهي وسيلة دعاية في الدنيا و رصيد حسنات في الآخرة ،
7- تنشيط العامل المعنوي مؤثرٌ في فلترة المشكلات ،
8 - العمل على حل مشكلة مؤمنٍ،نافعٌ في إزاحة مشكلات شخصية متعددة في الدنيا والآخرة،
9-مبادلة الإحسان بمثله،واللهُ يحِبُّ المحسنين.
و في اعتماد هذه الآلية الجديدة للتعامل مع الآخرين،مكاسب وفوائد تعود بالنفع على الجميع،ليتحسن أداء الفرد بلا رقابة مكتب المفتش العام،و بلا حاجة الى أجهزة المراقبة والتحري،بعدما يتيقن الإنسان أن موقعه الحياتي سواء في المدرسة أم الجامعة أم الجامع أم المصنع أم المزرعة أم المستشفى أم دوائر العمل الأخرى،هو موقع تكليف وليس دائماً للتشريف؛لأنه نعمة من الله تعالى،فلابد له من شكرها،وإلا لتحولت الى مَنْ يشكرها،فتترك فراغاً يستشعر من خلاله جاحدُ النعمة بألم الفراق ؛بعدما أولاه الله تعالى تلك النعمة ولم يتعامل معها بما يليق حتى نفرت منه وهو غير قادر على ردها ، قال الإمام أمير المؤمنين : ( احذروا نفار النعم فما كل شارد بمردود )[35].
وقد بيّنa أنّ المعروف واللؤم من صفات الإنسان فلابد أنْ يُحسن اختيار ما يتصف به؛فيمكنه أن يكون ايجابياً ليكسب تقدير الناس وثناءهم،وهو ما يظهر أحياناً بصورة كتب الشكر وشهادات التقدير و تقديم الحوافز ،كما يكون له عند الله تعالى الأجر والثواب،وهو ما ينفعه يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا*يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا*لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا )[36].
وإنَّ في المقارنة بين المعروف واللؤم وتنظيرِهما برجلين متضادين شكلاً ومضموناً،حرصاً واضحاً منهa على ترسيخ قيم المعروف والترغيب اليه باعتباره أنه : ((كل فعل يُعرف بالعقل أو الشرع حُسنُهُ))[37]،فيستطيع كل أحد أن يكون كالرجل الحسن الجميل الذي يَسُرُّ الناظرين بفعله،ويفوق العالمين بإقدامه،أو يكون كالرجل القبيح المشوه الذي تنفر منه القلوب،وتُغضُ دونه الأبصار،ويتجلى أثر هذا التمثيل باعتباره تحذيراً من التورط في المخالفة،فيعكس لنا جانباً من جوانب الامتنان الإلهي المتمثل بإرشادات المعصومينb استباقاً للحدث وحفظاً من الوقوع في مطباته،على خلاف بعض التشريعات الوضعية التي تمارس التقنين من موقع الحاجة والافتقار وليس من موقع الغنى والترفع،فيترصد مطبقو القانون مواطنيهم ويحصوا عليهم زلاتهم،من دون سابق إنذار،بل قد يكون المطلوب تحصيل واردات المخالفة بما لا يلتئم مع التنبيه والإعذار،بينما نجدهa في هذا المقطع من الوصية مستعملاً لفعل الأمر(اعلموا)؛ليؤكد للمخاطبين أهمية ما سيلقيه،فيؤمّن انتباههم وحُسن اصغائهم ؛وصولاً لتطبيقهم وامتثالهم لما يوصيهم به.
كما أنَّهa استخدم اسلوب التمثيل،لتقريب الصورة وتوضيح الفكرة؛استعداداً للتمازج معها،والإقدام على تطبيقها،فقد استخدم التمثيل برجلين كوسيلة ايضاح نافعة لمختلف المستويات،وبدون حاجة الى تعزيز بالشواهد والصور ،بل من شأنه التشويق الى فعل المعروف،من خلال تنمية الطاقات واستثمارها،وفي مختلف المجالات الحياتية؛ليكثر الانتاج ويعم الاستقرار الاقتصادي الممهد للاستقرار الأمني،والمنتج للاستقرار الاجتماعي،فيتخفف المجتمع من الفوارق الطبقية -ومخلفاتها السلبية في النفوس بما تدفع بالبعض نحو ارتكاب الجرائم أو المخالفات-،ويُرجى عندئذ تحقق أمنيات هذا وطموحات ذلك فتتوازن الكفتان،مما يشيع أجواء الأمل ويبعث على التفاؤل،فتتوافر في المجتمع منابع الخير وتلوح منها بشائر الازدهار في الأفق.
وبهذا يكونa قد رسم صورة واضحة المعالم للشخصية المسلمة، بعيداً عما يلوثها ويخدش نقاءها،كاللؤم باعتباره الـخُُلُق الرديء متمثلاً بالإنسان(الشحيح المهين النفس) [38]،أو(الدنئ الأصل الشحيح النفس )[39] ،وعليه فقد تضمنت دعوتهa هذه الى المعروف استخدام آليتين منفصلتين وبأسلوبين مختلفين، أحدهما بعقد ايجابي عبر ما سبق،و الأسلوب الآخر بعقد سلبي يتمثل في إبراز أن اللؤم منقصة على صاحبه و هوان له يتعجله في الدنيا ،فهو كرجل سمجٍ ((لا ملاحة فيه))[40]،قبيحٍ لا حُسن لديه،مشوهٍ فلا تنفع معه محاولات التجميل،بل تنفر منه القلوب؛لسوء مخبره،كما تُغضُ دونه الأبصار؛لقبح منظره،وبهذا يكونa قد اعتمد وصفاً دقيقاً لمَنْ لا يصنع المعروف ؛تنفيراً له و منه،وتخويفاً منْ سوء عاقبته،وهذا ما يصلح كإسعافات أولية للمصاب بالتقاعس عن صنع المعروف،والتلكؤ في الإنجاز،والمساومة بمال أو غيره،لكي يتحفز الى السعي في إعانة الآخرين وعدم استغلال حاجتهم وعدم توظيف أزماتهم من أجل منافع مؤقتة،فيكونa بهذا قد أشاع ثقافة صنع المعروف وأوجد أجواءً مناسبة لتعميم الإحسان كمفردة ذات قيمة عالية،بما يؤكد مفهوم المعروف وتربية الأجيال على تلقيه والتفاعل معه،كآصرة شديدة التماسك،من دون توقع الشكر والثناء على تلك المواقف؛فإنه لو لم يشكرها له المخلوق فسيشكرها الله تعالى؛فهو أقدر على مكافأته؛فإنه أجزل عطاءاً وأعظم أجراً،ومَنْ أحسن،أحسن اللهُ إليه،واللهُ يحِبُّ المحسنين،و(قال رسول الله[ اصطنع الخير إلى من هو أهله والى من هو غير أهله فإن لم تصب من هو أهله فأنت أهله)[41]؛وبهذا تتخفف الأمة من مشاعر التأفف و الضغينة والآم الماضي،فضلاً عن الحدِّ من ظاهرة الابتزاز وتقاضي العمولات على انجاز المعاملات أو تسهيلها أو أخذ الرشوة في دوائر القضاء والحكم؛لاستشعار الجميع بقدسية العمل،الأمر الذي يسجل القيم الذاتية للأشياء؛فإنَّ لها حسناً وقبحاً ذاتيين ،حتى أنَّ المشترع المقدس قد أكد ذلك ضمن لوائح أوامره ونواهيه،ولم يؤسسها هو؛بعدما كان دوره في هذه الذاتيات كمرشد لقيمها الذاتية من دون أن يُحدث فيها ذلك.
المحور الثالث
فقه النزاهة
إنَّ من المعلوم ترتب عدة من الأحكام الفقهية على موضوعة النزاهة وأضدادها من أنواع المخالفات وأصناف الفساد الذي تعددت مناشؤه وتنوعت أشكاله،ولكنّ سببه واحد،هو ضعف الإرادة وانحسار النزاهة.
ومن الطبيعي أن تكون المخالفة مسببَّة عن ضائقة مالية،أو سوء إدارة،وهو ما يعرِّض صاحبه للتجريم القانوني؛حيث تكون جرائم السرقات أو الجرائم الاقتصادية عبارة عن انحرافات مالية أو إدارية ارتكبت عن طريق كيان تجاري له شخصية قانونية مستقلة من أشخاص طبيعيين يقومون بإدارة أنشطتها،أو من قبل أفراد بالإنابة،فيخالفوا القواعد والأحكام المالية التي تنظم سير العمل الإداري والمالي في المؤسسات.
وقد يكون سبب المخالفة،الفساد السياسي:وهو إساءة استخدام السلطة العامة (الحكومة)من قبل النخب الحاكمة لأهداف غير مشروعة كالرشوة، أو الابتزاز،أو المحسوبية،أو الاختلاس.
كما قد يكون سبب المخالفة متمثلاً باختلال موازين القضاء وانعدام النزاهة في الحاكمين أو العاملين في سلك القضاء،فيتعاطوا الرشوة وتهدر الحقوق وتلغى من أجل تخليص معتدٍ،أو تحصيل لذة .
وهناك أسباب للمخالفة بما تغيب معه النزاهة مثل الفساد الصناعي أو المهني أو العلمي أو الأخلاقي،أو نحوها مما تترتب بموجبها أحياناً:
1- أحكام بالضمان والتعويض حسب المتفق عليه أو ضمن المتعارف بين ذوي التخصص.
2-كما يحكم بثبوت الخيار في حالات أخرى مثل وجود العيب أو الغبن أو تخلّف الشرط أو عدم مطابقة الوصف للمقبوض،أو تبعض الصفقة،أو التأخير –باعتباره نكولاً عن التسليم في المدة المشروطة أو المتعارفة.
3-مضافاً الى الحكم بحرمة الغش بمختلف أشكاله وطرقه،بما في ذلك منح الإجازات المفتوحة أو استحصالها.
4-وأيضاً الحكم بحرمة ما يؤثر بطالةً مقنعة،من خلال المحاباة بإبرام عقود التوظيف لمَنْ لا حاجة لخدماتهم،أو حجب التوظيف عن ذوي الكفاءآت أو الخبرات .
5-وكذلك الحكم بحرمة التخلف عن مقتضى الشرط في العقد الوظيفي بين الموظف والجهة الموظِفة له،بما يوجب التسيّب الإداري.
6-وأيضاً الحكم بحرمة استغلال المال العام للشأن الخاص مهما كان موقع المستغِل وظيفياً.
7-كما يحرم استعمال المال المغصوب مهما كانت دواعيه،سوى حالة الاضطرار مع الحكم عليه بلزوم التخلص من الاستعمال في أسرع وقت ممكن،وبشرط تقليل مساحة الاستعمال.
8-وهكذا يحرم تبديد الوقت المخصص لمزاولة العمل الوظيفي،وصرفه في المخصص له دون غيره،ما لم يتضيق وقت فريضة ونحوها من ضروريات الحياة،وبأقل ما يتأدى الواجب.
9-وأيضاً يحرم دفع الرشوة وتقاضيها والمساعدة على تمريرها.
10-وكذلك يحرم التبرج أو التحرش أو الخروج عن الضوابط العامة.
خاتمة
وفي الختام يؤمل من خلال هذه الوقفة بين يديَّ الإمام الحسينa أن نقتبس من توجيهاته ما يضئ لنا طريقنا الذي ازدحمت فيه العثرات حيث توالت علينا،و أضحى من العسير نفع النصح،أو النهوض بمسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛فقد ساد الفساد الإداري-أحياناً- فلم يرعو المفسد،مما سهل الطريق لفساد مالي تُخشى عواقبه،ولا يُستهان بنتائجه؛ بعدما كاد يستشري في مفاصل المؤسسات الحكومية أو الأهلية،في مختلف الدول والشعوب،وبصيغ متعددة تتلون حسب الطلب حتى لم يقتصر على مكان أو مكين،وبدا بالتسلل الى منظومة الأخلاق وهي من أعرق ما يحتكم اليها الإنسان فنخرها متسبباً في تهلهل نسيج القيم،لتستبدل بمواضعات اجتماعية لا تسد الحاجة،الأمر الذي يُتوجس منه ازدياد المخالفات بأشكالها وانتهاك الحرمات مما يصعب تلافيه،بعد تغلغله في جوانب معنوية ومادية مؤثرة في الإنسان نفسياً وجسمياً،فيستسيغ العيش على آلام الآخرين ،ويتاجر بآمالهم،ويترصد عثراتهم،من دون أن يتفاعل مع حالة إنسانية يشاهدها ،و لا يتحرك في انجاز أمر الا بعد تأمين مقابلٍ مالي،يلبي طمعه،وهذا ما تنعكس آثاره على الجميع بدون استئذان وتترتب تبعاته بلا إشعار،فيتأثر بها النزيه والملتوي ،فتكوي طالبَ الرشوة ودافعَها،والمتحلل من التزاماته والمتقيد بها،ليصيب الفيروس كثيراً من الملفات المهمة التي لا تعوض،فتتلف مقاومات دفاعية جعلها الله تعالى في الإنسان تحميه من الشيطان وتقيه من جنوده،قال تعالىبل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين)[42] ،بينما كان بالإمكان الرجوع الى الثوابت والمبادئ الكفيلة بالاعتدال والتوازن،كمنارات لتعديل المسار؛تفادياً من الوقوع في مزالق الاستغلال والازدواجية والنفاق الاجتماعي وغير ذلك من أعراض الالتواء والخروج عن حد النزاهة،بما يعتبر خروجاً من طريق التقوى،بل يُعدُّ مؤازرة للشيطان وتنفيذاً لمخططه في احتناك بني آدم،وتحسين الانحراف لهم بصورة تحقيق الأماني والتخلص من واقع الفقر والحاجة،وغيرهما من المغريات أو الابتزازات أو التهديدات.و لذلك وجدناهa مهتماً بالتحذير من الانخداع فقارَنَ بين صورتَي المعروف واللئم،ليجعل نُصب أعيننا مآل أولئك فنُحسن الاختيار بوعي للعواقب،ونتخلص من ضغوطات الأنا،ونتأكد من حقيقة قولَهa ومَنْ أحسن،أحسن اللهُ إليه،واللهُ يحِبُّ المحسنين)،فنتحفز للتواصل المنتج في بيوتنا ودوائرنا و مؤسساتنا كافة في قطاعاتها المتنوعة دون استثناء،لنكون بذلك مستجيبين لوصاياهa في المبادرة الى المكارم والمسارعة الى المغانم وتعجيل المعروف واكتساب الثناء بذلك،وعدم التعويل على عوض زائل –مهما بلغ –والاهتمام بتنفيس شدائد المؤمنين،فينفس تعالى عنا شدائد الدنيا والآخرة؛لكون موضوعات هذه الوصايا تتصل بمجموعة من تفاعلاتنا الحياتية الساخنة والمتكررة يومياً،مما يستدعي تحلينا بالنزاهة والأمانة،وتخلينا عن أضدادها من الفساد الإداري أو المالي أو الصناعي أو المهني أو العلمي أو القضائي أو الأخلاقي،أو السياسي، أو سواها مما غطى مساحة واسعة في بلدان العالَم،و يكاد ينحصر سبيل ذلك في الرجوع الى الرشد وامتثال الأحكام الشرعية،والعمل على تطويع المتعنتين وتفهيمهم قانونية التشريع و ما يترتب على المخالفة من لوازم سيئة تفضي الى التجريم والعقاب ،أعاذنا الله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ووفقنا للاهتداء بهدي نبيه الأكرم[ وآله المعصومينb،أنه خير موفق ومعين.
المصادر
- القرآن الكريم
- الصحاح الجوهري
- عيون أخبار الرضاa الشيخ الصدوق
- عيون الحكم والمواعظ الليثي الواسطي
- الكافي الشيخ الكليني
- كتاب العين الخليل الفراهيدي
- كشف الغمة الإربلي
- المجازات النبوية - الشريف الرضي
- مجمع الزوائد - الهيثمي
- مختار الصحاح - محمد بن عبد القادر
- المستدرك - الحاكم النيسابوري
- المسند أحمد بن حنبل
- المعجم الصغير الطبراني
- المعجم الأوسط الطبراني
- المعجم الكبير الطبراني
- المفردات الراغب الأصفهاني
- مقاييس اللغة ابن فارس
- النهاية في غريب الحديث ابن الأثير
- نهج البلاغة الشريف الرضي.
الفهرس
2 توطئة
5 المحور الأول النزاهة لغوياً وروائياً
7 المحور الثاني وصيةُ الإمامِ الحسين ومداليلُها
12 المحور الثالث فقه النزاهة
14 خاتمة
16 المصادر
17 الفهرس
الهوامش
[1] - المجازات النبوية - الشريف الرضي - ص 241 – 242 برقم195 . ونحوه في الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 - ص 164عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : الخلق عيال الله فأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله وأدخل على أهل بيت سرورا،قال الشريف الرضيوهذا القول مجاز ، لان عيال الانسان من يعوله ثقلهم ، ويهمه أمرهم ، والله سبحانه وتعالى لا تئوده الأثقال ، ولا تهمه الأحوال ، ولكنه سبحانه وتعالى لما كان متكفلا بمصالح عباده ، يدر عليهم حلب الأرزاق ، ويلم لهم شعث الأحوال ، ويعود عليهم بمرافق الأبدان ، ومراشد الأديان ، شبهوا من هذه الوجوه بالعيال الذين في ضمان العائل ، وكفاية الكافل ، على طريق الاتساع ، وعلى معارف العادات)،ففي الحديث تشبيه بليغ ، حيث شبه الخلق في احتياجهم إلى الله ، بالعيال الذين يحتاجون إلى من ينفق عليهم ويتولى أمرهم ، وحذف وجه الشبه والأداة .
[2] - مسند احمد - ج 2 - ص 106
[3] - سورة النساء آية 59.
[4] - المستدرك - الحاكم النيسابوري - ج 2 - ص 343 وقال" هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه "، وايضاً في ج 3 - ص 150 – 151، مجمع الزوائد - الهيثمي - ج 9 - ص 168،و الطبراني في : المعجم الصغير - ج 1 - ص 139 – 140و المعجم الأوسط - ج 4 - ص 10،و المعجم الكبير - ج 3 - ص 45 – 46 برقم2637
[5] - سورة البقرة من الآية 223.
[6] -الصحاح للجوهري - ج 6 - ص 2253
[7] - مختار الصحاح - محمد بن عبد القادر - ص 336
[8] - مقاييس اللغة لابن فارس - ج 5 - ص 417
[9] - كتاب العين - الخليل الفراهيدي - ج 4 - ص 15
[10] - مختار الصحاح - محمد بن عبد القادر - ص 336
[11] - مقاييس اللغة - لابن فارس - ج 5 - ص 226
[12] - الصحاح - الجوهري - ج 5 - ص 2025
[13] - المفردات 331.
[14] - عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي26 .
[15] - م ن 28 .
[16] - م ن40 .
[17] - م ن 207 .
[18] - م ن 440 .
[19] - م ن 497.
[20] - م ن 498.
[21] - م ن 499.
[22] - م ن .
[23] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 6 - ص 434 ح19 .
[24] - النهاية في غريب الحديث - ابن الأثير - ج 1 - ص 70.
[25] - نافسوا:تبارَوا فيها وتسابقوا عليها، المكارم:جمع المكرمة:فعل الكرم .
[26] - المغانم:جمع المغنم وهو:ما يُغنم أي ما يفوز به الانسان بلا مشقة.
[27] - لا تحتسبوا:لا تكتفوا.
[28] - الحمد:الثناء،النُجح:الظفر بالحوائج.
[29] - المطل:التمديد،(التسويف)وعدم قضاء الحوائج .
[30] - الصنيعة:ما اصطنعت من خير الى غيرك.
[31] - تحور:ترجع،وتتحول
[32] - الكربة بالضم:الغم الذي يأخذ بالنفس،الصحاح - الجوهري - ج 1 - ص 211.
[33] - كشف الغمة للاربلي ج 2 - ص 239 - 240
[34] - م ن .
[35] - نهج البلاغة ج 4 - ص 54 برقم246 .
[36] - سورة الفرقان الآيات 27-30.
[37] - المفردات 331.
[38] - مقاييس اللغة - لابن فارس - ج 5 - ص 226
[39] - الصحاح - الجوهري - ج 5 - ص 2025
[40] - العين 6/60.
[41] - عيون أخبار الرضا (ع) - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 38 رقم76
[42] - سورة الروم الآية 29 .
ترقبوا قريباً فقه النزاهة لسماحة السيد