بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف
نشأة العباس عليه السلام
ممّا لا شكّ فيه أنّ لنفسيات الآباء ونزعاتهم ، وكمّياتهم من العلم والخطر ، أو الانحطاط والضّعة ، دخلاً تامّاً في نشأة الأولاد وتربيتهم ، إنْ لم نقل إنّ مقتضاهما هو العامل الوحيد في تكيّف نفسيّات النّاشئة بكيفيّاتٍ فاضلة أو رذيلة ، فلا يكاد يرتأي صاحب أيِّ خطّة إلاّ أنْ يكون خَلَفُهُ على خطَّته ، ولا أنّ الخلفَ يتحرّى غير ما وجد عليه سلفه ؛ ولذلك تجد في الغالب مشاكلة بين الجيل الأوّل والثاني في العادات والأهواء ، والمعارف والعلوم ، اللهمّ إلاّ أنْ يسود هناك تطوّرٌ يكبح ذلك الاقتضاء .
وعلى هذا النّاموس يسعنا أنْ نعرف مقدار ما عليه أبو الفضل عليه السّلام من العلم والمعرفة وحُسن التربية ، بنشوئه في البيت العلوي مُنبَثق أنوار العلم ، ومحطّ أسرار اللاهوت ، ومختبأ نواميس الغيب ، فهو بيتُ العلم والعمل ، بيتُ الجهاد والورع ، بيتُ المعرفة والإيمان :
بَيتٌ عَلاَ سَمكَ الضّراحِ رِفعَةً فَـكانَ أعَـلاَ شَـرفَاً وأمَـنعَا
أعـزَّهُ الـلّهُ فَـما تَـهبِطُ فِيْ كَـعبَتهِ الأمـلاكُ إلاّ خَـضعَا
بَـيتٌ مِـن القُدسِ ونَاهيِك بِهِ مَـحطُ أسرِارِ الهُدى ومَوضِعَا
وكَان مأوى المُرتَجي والمُلتَجى فَـما أعـزَّ شَـأنهُ وأرفَعَا
وبسيف صاحب هذا البيت المنيع انجلت غواشي الإلحاد ، وببيانه تقشّعت غيومُ الشُّبَهِ والأوهام .
إذن ، فطبع الحال يدلّنا على أنّ سيّد الأوصياء عليه السّلام لم يبغِ بابنه بدلاً في حُسن التربية الإلهيّة ، ولا أنّ شظية الخلافة يروقه غير اقتصاص أثر أبيه الأقدس ، فلك هاهنا أنْ تُحدّث عن بقيّة أمير المؤمنين عليه السّلام في أيّ ناحية من نواحي الفضيلة ، ولا حرج .
لم تكنْ كُلُّ البصائر في أبي الفضل عليه السّلام اكتسابيّة ، بل كان مُجتبلاً من طينة القداسة التي مزيجُها النّور الإلهي حتّى تكوَّنت في صُلب مَن هو مثال الحقِّ ، ذلك الذي لو كُشف عنه الغطاء ما ازداد يقيناً ، فلم يصل أبو الفضل عليه السّلام إلى عالم الوجود إلاّ وهو معدن الذكاء والفطنة ، واُذنٌ واعيةٌ للمعارف الإلهيّة ، ومادةٌ قابلة لصور الفضائل كُلّها ، فاحتضنه حِجرُ العلم والعمل ، حجرُ اليقين والإيمان ، وعادت أرومته الطيّبة هيكلاً للتوحيد ، يُغذّيه أبوه بالمعرفة ، فتشرق عليه أنوار الملكوت وأسرار اللاهوت ، وتهب عليه نَسماتُ الغيب ، فيستنشق منها الحقائق .
دعاه أبوه عليه السّلام في عهد الصبا وأجلسه في حجره ، وقال له : قُلْ واحد . فقال : واحد . فقال له : قُلْ اثنين . قال : استحي أنْ أقولَ باللّسان الذي قُلتُ واحداً ، اثنان .
وإذا أمعنّا النّظر في هذه الكلمة ـ وهو على عهد نعومةٍ من أظفاره ، في حين أنّ نظراءه في السّنِّ لا يبلغون إلى ما هو دون ذلك الشأو البعيد ـ فلا نجد بُدّاً من البخوع بأنّها من أشعَّة تلك
الإشراقات الإلهيّة ، فما ظنّك إذن حينما يلتقي مع المبادئ الفيّاضة من أبيه سيّد الوصيين عليه السّلام ، وأخويه الإمامين عليهما السّلام سيّدي شباب أهل الجنّة ، فلا يقتني من خزائن معارفهم إلاّ كُلَّ دُرٍّ ثمين ، ودُرّيٍّ لامع ؟!
وغير خفيٍّ ما أراده سيّدنا العبّاس عليه السّلام ، فإنّه أشار إلى أنّ الوحدانيّة لا تليق إلاّ بفاطر السّماوات والأرضين ، ويجلّ مثله المتفرّع من دوح الإمامة أنْ يجري على لسانه النّاطق بالوحدانيّة لباري الأشياء صفة تنزَّه عنها سبحانه وتعالى ، وعنها ينطق كتابه المجيد : لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسَدَتَا.
وممّا زاد في سرور أبيه أمير المؤمنين عليه السّلام أنّ زينب العقيلة كانت حاضرة حينذاك ، وهي صغيرة ، فقالت لأبيها : أتحبّنا ؟ قال : بلى . فقالت : لا يجتمع حُبّان في قلب مؤمن : حبُّ اللّه ، وحبُّ الأولاد ، وإنْ كان ولا بُدّ فالحبّ للّه تعالى والشفقة للأولاد . فأعجبه كلامها وزاد في حُبّه وعطفه عليهما أمّا العلم ، فهو رضيع لبانه ، وناهيك في حِجر أبيه مدرسة يتخرّج منها مثل أبي الفضل عليه السّلام ! وما ظنّك بهذا التلميذ المُصاغ من جوهر الاستعداد ، وذلك الاُستاذ الذي هو عيبة العلم الإلهي ، وعلبة أسرار النّبوّة ، وهو المُقيّض لنشر المعارف الربوبيّة ، وتعلّم الأخلاق الفاضلة ، ونشر أحكام الإسلام ، ودحض الأوهام والوساوس ؟!
وإذا كان الإمام عليه السّلام يُربّي البُعداء الأجانب بتلك التربية الصحيحة المأثورة حتّى استفادوا منه أسرار التكوين ، ووقفوا على غامض ما في النّشأتين ، وكان عندهم بواسطة تلك التربية علم المنايا والبلاي ، كحبيب بن مظاهر وميثمِ التمّار ، ورشيد الهجري وكميل بن زياد ، وأمثالهم ; فهل من المعقول أنْ يذر قرّة عينه ، وفلذة كبده خلوّاً مِن أي علم ؟! أو أنّ قابلية المحلِّ تربى باُولئك الأفراد دون سيّدنا العبّاس عليه السّلام ؟
لا واللّه ، ما كان سيّد الأوصياء عليه السّلام يضنّ بشيء من علومه ، لا سيّما على قطعة فؤاده ، ولا أنّ غيره ممّن انضوى إلى أبيه علم الهداية يشقّ له غباراً في القابلية والاستعداد . فهنالك التقى مبدأٌ فيّاض ، ومحلٌّ قابل للإفاضة ، وقد ارتفعت عامّة الموانع ؛ فذلك برهان على أنّ ( عبّاس اليقين ) من أوعية العلم ، ومن الراسخين فيه .
ثُمَّ هلمّ معي إلى جامعتين للعلوم الإلهيّة ، ملازمتين للجامعة الاُولى في نشر المعارف ، وتقيّضهما لإفاضة التعاليم الحقَّة لكُلِّ تلميذ ، والرُّقي به إلى أوج العظمة في العلم والعمل ، ألا وهما ( كُلّيتا ) السّبطين الحسن والحسين عليهما السّلام . وانظر إلى ملازمته لأخويه بعد أبيه سيّد الأوصياء عليهم السّلام ، ملازمة الظلِّ لذيه ، فهناك يتجلّى لكَ أنّ سماءَ عِلمِهما لم تهطل وبالاً إلاّ وعاد لؤلؤاً رَطباً في نفسه ، ولا أنفقا شيئاً من ذلك الكنز الخالد إلاّ واتّخذه ثروة علميّة لا تنفد .
أضف إلى ذلك ما كان يرويه عن عقيلة بيت الوحي ، زينب الكبرى ، وهي العالمة غير المُعلَّمة بنصّ الإمام زين العابدين عليه السلام وبعد هذا كُلِّه ، فقد حوى أبو الفضل من صفاء النّفس والجبلّة الطيّبة ، والعنصر الزاكي والإخلاص في العمل ، والدّؤوب على العبادة ; ما يفتح له أبواباً من العلم ، ويُوقفه على كنوز المعرفة ، فيتفرّع من كُلِّ أصلٍ فرعٌ ، وتنحلّ عنده المشكلات .
وإذا كان الحديث ينصّ على أنّ مَن أخلص للّه أربعين صباحاً انفجرت ينابيعُ الحكمة من قلبه على لسانه ؛ إذنْ فما ظَنّك بمَن أخلص للّه سبحانه طيلة عُمره ، وهو مُتخلٍّ عن كُلِّ رذيلة ، ومُتحلٍّ بكُلِّ فضيلة ، فهل يبقى إلاّ أنْ تكون ذاته المُقدّسة متجلّية بأنوار العلوم والفضائل ، وإلاّ أنْ يكون علمه تحقّقاً لا تعلّقاً ؟! وبعد ذلك فما أوشك أنْ يكون علمه وجدانيّاً وإنْ برع في البرهنة وتنسيق القياس ، ومن هنا جاء المأثور عن المعصومين عليهم السّلام : إنّ العبّاس بن علي زُقَّ العِلمُ زقّاً.
وهذا من أبدع التشبيه والاستعارة ؛ فإنّ الزقَّ يُستعمل في تغذية الطائر فرخه حين لم يقوَ على الغذاء بنفسه ، وحيث استعمل الإمام عليه السّلام ـ وهو العارف بأساليب الكلام ـ هذه اللفظة هنا ، نعرف أنّ أبا الفضل عليه السّلام كان محلَّ القابليّة لتلقِّي العلوم والمعارف مُنذ كان طفلاً ورضيعاً ، كما هو كذلك بلا ريب .
فلم يكن أبو الفضل بِدْعَاً من أهل هذا البيت الطّاهر الذي حوى العلم المُتدفّق مُنذ الصغر ، كما شهد بذلك أعداؤهم ، ففي الحديث عن الصادق عليه السّلام :
.
قال الصدوق بعد الخبر : معنى ( فُطموا العلم ) : أي قطعوه عن غيرهم وجمعوه لأنفسهم.
وجاء في الأثر ، أنّ يزيد بن معاوية قال في حقّ السّجاد عليه السّلام : إنّه منْ أهلِ بيتٍ زُقُّوا العلم زقّا .1
====
1-الخصائص العبّاسيّة / محمّد إبراهيم الكلباسي النجفي ص 220_223.
ومع السلامة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف
نشأة العباس عليه السلام
ممّا لا شكّ فيه أنّ لنفسيات الآباء ونزعاتهم ، وكمّياتهم من العلم والخطر ، أو الانحطاط والضّعة ، دخلاً تامّاً في نشأة الأولاد وتربيتهم ، إنْ لم نقل إنّ مقتضاهما هو العامل الوحيد في تكيّف نفسيّات النّاشئة بكيفيّاتٍ فاضلة أو رذيلة ، فلا يكاد يرتأي صاحب أيِّ خطّة إلاّ أنْ يكون خَلَفُهُ على خطَّته ، ولا أنّ الخلفَ يتحرّى غير ما وجد عليه سلفه ؛ ولذلك تجد في الغالب مشاكلة بين الجيل الأوّل والثاني في العادات والأهواء ، والمعارف والعلوم ، اللهمّ إلاّ أنْ يسود هناك تطوّرٌ يكبح ذلك الاقتضاء .
وعلى هذا النّاموس يسعنا أنْ نعرف مقدار ما عليه أبو الفضل عليه السّلام من العلم والمعرفة وحُسن التربية ، بنشوئه في البيت العلوي مُنبَثق أنوار العلم ، ومحطّ أسرار اللاهوت ، ومختبأ نواميس الغيب ، فهو بيتُ العلم والعمل ، بيتُ الجهاد والورع ، بيتُ المعرفة والإيمان :
بَيتٌ عَلاَ سَمكَ الضّراحِ رِفعَةً فَـكانَ أعَـلاَ شَـرفَاً وأمَـنعَا
أعـزَّهُ الـلّهُ فَـما تَـهبِطُ فِيْ كَـعبَتهِ الأمـلاكُ إلاّ خَـضعَا
بَـيتٌ مِـن القُدسِ ونَاهيِك بِهِ مَـحطُ أسرِارِ الهُدى ومَوضِعَا
وكَان مأوى المُرتَجي والمُلتَجى فَـما أعـزَّ شَـأنهُ وأرفَعَا
وبسيف صاحب هذا البيت المنيع انجلت غواشي الإلحاد ، وببيانه تقشّعت غيومُ الشُّبَهِ والأوهام .
إذن ، فطبع الحال يدلّنا على أنّ سيّد الأوصياء عليه السّلام لم يبغِ بابنه بدلاً في حُسن التربية الإلهيّة ، ولا أنّ شظية الخلافة يروقه غير اقتصاص أثر أبيه الأقدس ، فلك هاهنا أنْ تُحدّث عن بقيّة أمير المؤمنين عليه السّلام في أيّ ناحية من نواحي الفضيلة ، ولا حرج .
لم تكنْ كُلُّ البصائر في أبي الفضل عليه السّلام اكتسابيّة ، بل كان مُجتبلاً من طينة القداسة التي مزيجُها النّور الإلهي حتّى تكوَّنت في صُلب مَن هو مثال الحقِّ ، ذلك الذي لو كُشف عنه الغطاء ما ازداد يقيناً ، فلم يصل أبو الفضل عليه السّلام إلى عالم الوجود إلاّ وهو معدن الذكاء والفطنة ، واُذنٌ واعيةٌ للمعارف الإلهيّة ، ومادةٌ قابلة لصور الفضائل كُلّها ، فاحتضنه حِجرُ العلم والعمل ، حجرُ اليقين والإيمان ، وعادت أرومته الطيّبة هيكلاً للتوحيد ، يُغذّيه أبوه بالمعرفة ، فتشرق عليه أنوار الملكوت وأسرار اللاهوت ، وتهب عليه نَسماتُ الغيب ، فيستنشق منها الحقائق .
دعاه أبوه عليه السّلام في عهد الصبا وأجلسه في حجره ، وقال له : قُلْ واحد . فقال : واحد . فقال له : قُلْ اثنين . قال : استحي أنْ أقولَ باللّسان الذي قُلتُ واحداً ، اثنان .
وإذا أمعنّا النّظر في هذه الكلمة ـ وهو على عهد نعومةٍ من أظفاره ، في حين أنّ نظراءه في السّنِّ لا يبلغون إلى ما هو دون ذلك الشأو البعيد ـ فلا نجد بُدّاً من البخوع بأنّها من أشعَّة تلك
الإشراقات الإلهيّة ، فما ظنّك إذن حينما يلتقي مع المبادئ الفيّاضة من أبيه سيّد الوصيين عليه السّلام ، وأخويه الإمامين عليهما السّلام سيّدي شباب أهل الجنّة ، فلا يقتني من خزائن معارفهم إلاّ كُلَّ دُرٍّ ثمين ، ودُرّيٍّ لامع ؟!
وغير خفيٍّ ما أراده سيّدنا العبّاس عليه السّلام ، فإنّه أشار إلى أنّ الوحدانيّة لا تليق إلاّ بفاطر السّماوات والأرضين ، ويجلّ مثله المتفرّع من دوح الإمامة أنْ يجري على لسانه النّاطق بالوحدانيّة لباري الأشياء صفة تنزَّه عنها سبحانه وتعالى ، وعنها ينطق كتابه المجيد : لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسَدَتَا.
وممّا زاد في سرور أبيه أمير المؤمنين عليه السّلام أنّ زينب العقيلة كانت حاضرة حينذاك ، وهي صغيرة ، فقالت لأبيها : أتحبّنا ؟ قال : بلى . فقالت : لا يجتمع حُبّان في قلب مؤمن : حبُّ اللّه ، وحبُّ الأولاد ، وإنْ كان ولا بُدّ فالحبّ للّه تعالى والشفقة للأولاد . فأعجبه كلامها وزاد في حُبّه وعطفه عليهما أمّا العلم ، فهو رضيع لبانه ، وناهيك في حِجر أبيه مدرسة يتخرّج منها مثل أبي الفضل عليه السّلام ! وما ظنّك بهذا التلميذ المُصاغ من جوهر الاستعداد ، وذلك الاُستاذ الذي هو عيبة العلم الإلهي ، وعلبة أسرار النّبوّة ، وهو المُقيّض لنشر المعارف الربوبيّة ، وتعلّم الأخلاق الفاضلة ، ونشر أحكام الإسلام ، ودحض الأوهام والوساوس ؟!
وإذا كان الإمام عليه السّلام يُربّي البُعداء الأجانب بتلك التربية الصحيحة المأثورة حتّى استفادوا منه أسرار التكوين ، ووقفوا على غامض ما في النّشأتين ، وكان عندهم بواسطة تلك التربية علم المنايا والبلاي ، كحبيب بن مظاهر وميثمِ التمّار ، ورشيد الهجري وكميل بن زياد ، وأمثالهم ; فهل من المعقول أنْ يذر قرّة عينه ، وفلذة كبده خلوّاً مِن أي علم ؟! أو أنّ قابلية المحلِّ تربى باُولئك الأفراد دون سيّدنا العبّاس عليه السّلام ؟
لا واللّه ، ما كان سيّد الأوصياء عليه السّلام يضنّ بشيء من علومه ، لا سيّما على قطعة فؤاده ، ولا أنّ غيره ممّن انضوى إلى أبيه علم الهداية يشقّ له غباراً في القابلية والاستعداد . فهنالك التقى مبدأٌ فيّاض ، ومحلٌّ قابل للإفاضة ، وقد ارتفعت عامّة الموانع ؛ فذلك برهان على أنّ ( عبّاس اليقين ) من أوعية العلم ، ومن الراسخين فيه .
ثُمَّ هلمّ معي إلى جامعتين للعلوم الإلهيّة ، ملازمتين للجامعة الاُولى في نشر المعارف ، وتقيّضهما لإفاضة التعاليم الحقَّة لكُلِّ تلميذ ، والرُّقي به إلى أوج العظمة في العلم والعمل ، ألا وهما ( كُلّيتا ) السّبطين الحسن والحسين عليهما السّلام . وانظر إلى ملازمته لأخويه بعد أبيه سيّد الأوصياء عليهم السّلام ، ملازمة الظلِّ لذيه ، فهناك يتجلّى لكَ أنّ سماءَ عِلمِهما لم تهطل وبالاً إلاّ وعاد لؤلؤاً رَطباً في نفسه ، ولا أنفقا شيئاً من ذلك الكنز الخالد إلاّ واتّخذه ثروة علميّة لا تنفد .
أضف إلى ذلك ما كان يرويه عن عقيلة بيت الوحي ، زينب الكبرى ، وهي العالمة غير المُعلَّمة بنصّ الإمام زين العابدين عليه السلام وبعد هذا كُلِّه ، فقد حوى أبو الفضل من صفاء النّفس والجبلّة الطيّبة ، والعنصر الزاكي والإخلاص في العمل ، والدّؤوب على العبادة ; ما يفتح له أبواباً من العلم ، ويُوقفه على كنوز المعرفة ، فيتفرّع من كُلِّ أصلٍ فرعٌ ، وتنحلّ عنده المشكلات .
وإذا كان الحديث ينصّ على أنّ مَن أخلص للّه أربعين صباحاً انفجرت ينابيعُ الحكمة من قلبه على لسانه ؛ إذنْ فما ظَنّك بمَن أخلص للّه سبحانه طيلة عُمره ، وهو مُتخلٍّ عن كُلِّ رذيلة ، ومُتحلٍّ بكُلِّ فضيلة ، فهل يبقى إلاّ أنْ تكون ذاته المُقدّسة متجلّية بأنوار العلوم والفضائل ، وإلاّ أنْ يكون علمه تحقّقاً لا تعلّقاً ؟! وبعد ذلك فما أوشك أنْ يكون علمه وجدانيّاً وإنْ برع في البرهنة وتنسيق القياس ، ومن هنا جاء المأثور عن المعصومين عليهم السّلام : إنّ العبّاس بن علي زُقَّ العِلمُ زقّاً.
وهذا من أبدع التشبيه والاستعارة ؛ فإنّ الزقَّ يُستعمل في تغذية الطائر فرخه حين لم يقوَ على الغذاء بنفسه ، وحيث استعمل الإمام عليه السّلام ـ وهو العارف بأساليب الكلام ـ هذه اللفظة هنا ، نعرف أنّ أبا الفضل عليه السّلام كان محلَّ القابليّة لتلقِّي العلوم والمعارف مُنذ كان طفلاً ورضيعاً ، كما هو كذلك بلا ريب .
فلم يكن أبو الفضل بِدْعَاً من أهل هذا البيت الطّاهر الذي حوى العلم المُتدفّق مُنذ الصغر ، كما شهد بذلك أعداؤهم ، ففي الحديث عن الصادق عليه السّلام :
.
قال الصدوق بعد الخبر : معنى ( فُطموا العلم ) : أي قطعوه عن غيرهم وجمعوه لأنفسهم.
وجاء في الأثر ، أنّ يزيد بن معاوية قال في حقّ السّجاد عليه السّلام : إنّه منْ أهلِ بيتٍ زُقُّوا العلم زقّا .1
====
1-الخصائص العبّاسيّة / محمّد إبراهيم الكلباسي النجفي ص 220_223.
ومع السلامة.
تعليق