بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد، وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.
قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ * وَاتَّقُوا اللَّهَ *إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾(1).
صدق الله مولانا العلي العظيم
خفض الصوت في محضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم
من الآداب التي يجب على المكلَّف أن يرعاها في محضر الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يجوز لمكلفٍ أن يرفع صوته على صوت رسول الله (ص) في محضره الشريف، ويلزمه أن يكون صوته خفيضاً في محضر رسول الله (ص).
رفع الصوت مخالف للآداب
هذا الأدب القرآني الذي أشارت إليه الآية المباركة ينبغي أن يكون مُطّرداً في تمام الأحوال، أي أنه ينبغي لكلِّ مؤمنٍ متأدِّبٍ بآداب الإسلام ألا يكون صوته مرتفعاً أثناء المحادثة والمخاطبة، فإن ذلك خلاف الأدب القرآني، وخلاف الأدب النبوي الشريف.
نعم، ينتقل هذا الأدب من مستوى الرجحان إلى مستوى اللزوم والوجوب عندما يكون الإنسان في محضر الرسول الكريم (ص).
في مطلق الأحوال، ومع كلِّ الناس، ينبغي أن لا يكون صوتُ المتكلم مرتفعاً، سواءً في حال الخطاب أو في حال المحادثة والمحاورة؛ لذلك جاء القرآن الكريم ليؤكِّد على هذا الأدب القرآني، وجاءت الروايات الشريفة لتؤكد على هذا الأدب القرآني في مطلق الأحوال.
خفض الصوت أدبٌ قرآنيّ ونبويّ
ففي وصية لقمان (ع) لابنه كما ورد في القرآن الكريم: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾(2)، اقصد في مشيك: بمعنى ليكن مشيك معتدلاً، فلا هو مشي السلحفاة ولا هو بنحو العدو أو قريباً منه، فالمشي يجب أن يكون بسكينةٍ ووقار. والوصية الأخرى هي قوله: ﴿وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ﴾: يعني ليكن صوتك حين المحادثة والمخاطبة والمحاورة خفيضاً. فإن ذلك من سمات المؤمن المتزن الوقور .
الصوت الرفيع مبغوض
ويقول الرسول الكريم (ص) كما روي عنه: "إنَّ الله يُحبُّ الصوت الخفيض، ويبغض الصوت الرفيع"(3). فالغرض من الكلام هو إيصال المراد إلى المخاطب وذلك يتحقق بصوتٍ يسمعه الطرف المخاطب، فحين يلتزم المتكلم بالصوت المعتدل يكون قد توصل لغرضه وبلغ مراده وفي ذات الوقت يكون قد تحفَّظ على وقاره وسمته، ولم يؤذِ الآخرين بصوته.
أميتوا الأصوات
البعض يتوهَّم أن رفع الصوت يساهم في إثبات الحُجَّة، ويكون أبلغ في الوصول إلى الغرض، والحال أنَّ الأمر قد لا يكون كذلك، وغالباً لا يكون كذلك، فقد يُساهم رفع الصوت في أن لا يعي الطرف المخاطَب لقولك أو أن لا يستجيب لدعواك؛ لأنَّه إما أن يتأذى من صوتك لارتفاعه، أو يتوهَّم أن ارتفاع صوتك كان منشؤه استصغاره والإستخفاف به، فلا يعتني بقولك ولا يقبله؛ ولعله لذلك قال أمير المؤمنين (ع): "أميتوا الأصوات، فإنَّه أطرد للفشل"(4) إذا كنت تُريد أن تصل إلى غرضك ومرامك فلماذا هذه الجلبة؟! ولماذا تتوسل بالصوت الرفيع؟! إنَّ الصوت الرفيع قد يُوقعك في الفشل، أي أنَّه قد لا يتحقَّق مُرادك وغرضك من هذا الكلام الذي جئت به.
ويقول الإمام (ع) –كما روي عنه-: "إنَّ الله يكره من الرجال الرفيعَ الصوت، ويحبُّ الخفيضَ الصوت"(5): ثمَّة رجال يُحبهم الله، وآخرون لا يحبهم. من اعتاد رفع الصوت في حديثه وفي مخاطبته للآخرين فهذا (غير محبوب): وهو تعبير عن مرجوحية رفع الصوت. ومن اعتاد خفض صوته فهو (محبوب): وهذا تعبير عن رجحان خفض الصوت أثناء المحادثة.
خفض الصوت من حُسن التديُّن
ويقول (ع) –كما روي عنه-: (خمس خصال هي من علامات المؤمن، وعلامات حُسن التديُّن)، فرق بين إنسان متدين، وآخر يكون تدينه متميزاً بالحُسْن؛ فالواجد لخمس صفات يكون تديُّنه متميزاً بالحُسْن، فما هي؟ أولها خفض الصوت.. (خفض الصوت، وغضّ البصر)، غض البصر عن شيئين: عن المحارم، كامرأة أجنبية، وعورة مؤمن تغضّ طرفك وبصرك عن أن تلحظها.. (وغض البصر عن ما لا يعنيك) لماذا تلاحق الناس بنظرك وببصرك؟! أين ذهب، ومن أين جاء! هذا مخالف لمقتضى الأدب النبويّ الشريف، فليس عليك، بل وليس لك أن تُلاحق الناس بنظرك، وتبحث عن خصوصياتهم، ولماذا لبسوا، وما هو لباسهم، وكيف يأكلون! هناك أُناس قد اعتادوا النظر حتى على المائدة إلى هذا كيف يأكل، وذاك كيف يأكل، وهذا كيف يضحك، وهذا كيف يجلس! هذا خلاف الأدب النبوي، ففي أثناء الطعام لا ينبغي أن تنظر إلى أخيك كيف يأكل، ولا ينبغي أن تنظر إلى أخيك كيف يمشي، وهل أنَّ مِشيته سليمة من كلِّ خلل، أو أنَّ فيها بعض الخلل! وكيف يتكلم، وما هو لباسه، وهيئته، وقيافته، صحيحة أو غير صحيحة! أو تنظر إليه -وهو أسوأ أنواع النظر- وتلاحقه فيما يفعل، أي ماذا يصنع، ومن أين جاء، وإلى أين سيذهب! كل ذلك منافٍ لمقتضى الأدب النبوي.. (خفض الصوت، وغض البصر، ومشي القصد): يعني المشي لا بالسريع كما هي مِشية بعض البهائم -أجلكم الله-، ولا هو مشي بطيء، إلى حد أن الذي يمشي معك قد يُصاب بالسأم والضجر من مشيك.
مورد وجوب خفض الصوت
قلنا إنَّ خفض الصوت هو من الآداب القرآنية، ومن الآداب النبويَّة مع كلِّ أحد، ولكنَّها مع رسول الله (ص) ترقى إلى مستوى اللزوم؛ فمن رفع صوته في محضر الرسول (ص) فقد ارتكب معصية كما هو في صريح الآية المباركة، لأنها قد نهت عن رفع الصوت، وأفادت أنَّ رفع الصوت قد يُوجب حَبْط العمل.
رفع الصوت في محضر الرسول (ص) على نحوين:
فقد يرفع الإنسان صوته في محضر الرسول (ص) استخفافاً برسول الله (ص)، واستهانةً بمقامه وذلك لعدم الإيمان بمقامه الشريف، فذلك من شُعب الكفر بالله -عزّ وجلّ .
وقد لا ينشأ كما هو الغالب رفع الصوت عن الإستخفاف وعدم الرعاية لمقام الرسول الكريم (ص)، وإنما ينشأ عن الغفلة عمَّا ينبغي التأدُّب به في محضر الرسول الكريم (ص)، وذلك من سوء الأدب.
وكلاهما مرجوح، ويُوجب حبط العمل.
رفع الصوت وحبط العمل
وحبط العمل هنا كناية عن أنَّ رفع الصوت في محضر الرسول الكريم (ص) معصية، حبط العمل تارةً يكون لأجل الكفر، فالكفر يُحبِط العمل بلا إشكال، فيكون مصداقاً لقوله تعالى:﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾(6)، يعني ان الذي عملتموه من الصالحات تجدونه يوم القيامة كأنه هباءً منثوراً، فلا وجود له في صحيفة أعمالكم وحسناتكم.
وقد يكون الحبط بمعنى عدم ترتب الثواب على الأعمال الصالحة ، فكثير من الأعمال الصالحة وإن كانت مقتضية للثواب ولكنها ليست علة تامة لترتب الثواب بل إن ترتب الثواب على فعلها مشروط بشرط، فما لم يتحقق فإنَّ الثواب لا يترتب، فكأن عدم الإلتزام بالشرط قد أحبط ثواب تلك الطاعة. ورفع الصوت في محضر الرسول (ص) يكون من هذا القبيل ، أي أن عدمه بمثابة الشرط لترتب الثواب على الطاعات فمن رفع صوته في محضر الرسول (ص) فإنَّه لا يتحصل على ثواب الطاعات التي عملها.
حكم رفع الصوت عند قبر النبي (ص) وفي مسجده
ثم إنَّ هنا بحث يذكره الفقهاء والمفسِّرون، وهو أنَّ رفع الصوت عند الرسول (ص) بعد وفاته هل هو مُحرَّم؟ بعد أن اتفقوا على أنَّه محرم في حياة الرسول (ص) ، أي ان رفع الصوت عند قبر رسول الله (ص) وفي مسجده الشريف هل هو محرم أو أنه يجوز لأن الرسول(ص) ليس في عالم الوجود المشهود؟
المعروف بين الفقهاء من الفريقين، وبين المفسرين والمحدثين، أنَّ رفع الصوت مُحرَّم في محضر الرسول حياً وميتاً، فكما لا يجوز للمؤمن أن يرفع صوته في محضر الرسول (ص) وهو حي، كذلك لا يجوز له أن يرفع صوته في عند قبر الرسول (ص)، فالحكم بالحرمة ثابت في حياته ومماته على حدٍّ سواء .
حرمة النبي (ص) بعد مماته كحرمته في حياته
بل ان كل الشؤونات المتصلة بكيفية التعامل مع النبي (ص) والتي كانت لازمة في حال حياته، هي لازمة له بعد وفاته.
فبعد رحيل الرسول (ص) وانتقاله إلى الملأ الأعلى، اختلفوا في من يصلي على النبي يعني من يؤمّ الناس فقال الإمام علي (ع) إن رسول الله هو إمام حياً وميتاً، لذلك لا يصح لأحدٌ التصدي لإمامة الناس في الصلاة عليه. وفعلاً لم يُصلِّ عليه أحدٌ إماماً. وأول من صلى على جثمان الرسول (ص) الطاهر هو علي بن ابي طالب وحده مضافا الى ملائكة الله نزلوا أفواجاً أفواجاً، يصلِّون على جثمانه الشريف، ثم وصلى عليه أهل بيت رسول الله (ص) وقرابته، و بعد ذلك وقف علي (ع) عند باب الحجرة التي فيها جثمان الرسول (ص) وأبى أن يصلي عليه أحدٌ إماماً، وقال: ليدخل عليه عشَرة عشَرة، فيصلون فيخرجون فيدخل غيرهم. وهكذا استمر الحال حتى صلَّى عليه جميع المسلمين عشَرة عشَرة؛ وذلك لأن رسول الله (ص) كما أفاد علي ابن أبي طالب (ع) إمامنا حياً وميتاً، فكل شؤونات الرسول التي كانت في حياته يجب رعايتها بعد وفاته، فلا يجوز رفع الصوت في محضره وعند قبره الشريف .
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور حفظه الله
المصادر:
1- سورة الحجرات/1-2.
2- سورة لقمان/19.
3- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 2 ص 63.
4- ميزان الحكمة -محمد الريشهري- ج 2 ص 1680.
5- كنز العمال -المتقي الهندي- ج 3 ص 569.
6- سورة الفرقان/23.
م/ن
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد، وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.
قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ * وَاتَّقُوا اللَّهَ *إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾(1).
صدق الله مولانا العلي العظيم
خفض الصوت في محضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم
من الآداب التي يجب على المكلَّف أن يرعاها في محضر الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يجوز لمكلفٍ أن يرفع صوته على صوت رسول الله (ص) في محضره الشريف، ويلزمه أن يكون صوته خفيضاً في محضر رسول الله (ص).
رفع الصوت مخالف للآداب
هذا الأدب القرآني الذي أشارت إليه الآية المباركة ينبغي أن يكون مُطّرداً في تمام الأحوال، أي أنه ينبغي لكلِّ مؤمنٍ متأدِّبٍ بآداب الإسلام ألا يكون صوته مرتفعاً أثناء المحادثة والمخاطبة، فإن ذلك خلاف الأدب القرآني، وخلاف الأدب النبوي الشريف.
نعم، ينتقل هذا الأدب من مستوى الرجحان إلى مستوى اللزوم والوجوب عندما يكون الإنسان في محضر الرسول الكريم (ص).
في مطلق الأحوال، ومع كلِّ الناس، ينبغي أن لا يكون صوتُ المتكلم مرتفعاً، سواءً في حال الخطاب أو في حال المحادثة والمحاورة؛ لذلك جاء القرآن الكريم ليؤكِّد على هذا الأدب القرآني، وجاءت الروايات الشريفة لتؤكد على هذا الأدب القرآني في مطلق الأحوال.
خفض الصوت أدبٌ قرآنيّ ونبويّ
ففي وصية لقمان (ع) لابنه كما ورد في القرآن الكريم: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾(2)، اقصد في مشيك: بمعنى ليكن مشيك معتدلاً، فلا هو مشي السلحفاة ولا هو بنحو العدو أو قريباً منه، فالمشي يجب أن يكون بسكينةٍ ووقار. والوصية الأخرى هي قوله: ﴿وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ﴾: يعني ليكن صوتك حين المحادثة والمخاطبة والمحاورة خفيضاً. فإن ذلك من سمات المؤمن المتزن الوقور .
الصوت الرفيع مبغوض
ويقول الرسول الكريم (ص) كما روي عنه: "إنَّ الله يُحبُّ الصوت الخفيض، ويبغض الصوت الرفيع"(3). فالغرض من الكلام هو إيصال المراد إلى المخاطب وذلك يتحقق بصوتٍ يسمعه الطرف المخاطب، فحين يلتزم المتكلم بالصوت المعتدل يكون قد توصل لغرضه وبلغ مراده وفي ذات الوقت يكون قد تحفَّظ على وقاره وسمته، ولم يؤذِ الآخرين بصوته.
أميتوا الأصوات
البعض يتوهَّم أن رفع الصوت يساهم في إثبات الحُجَّة، ويكون أبلغ في الوصول إلى الغرض، والحال أنَّ الأمر قد لا يكون كذلك، وغالباً لا يكون كذلك، فقد يُساهم رفع الصوت في أن لا يعي الطرف المخاطَب لقولك أو أن لا يستجيب لدعواك؛ لأنَّه إما أن يتأذى من صوتك لارتفاعه، أو يتوهَّم أن ارتفاع صوتك كان منشؤه استصغاره والإستخفاف به، فلا يعتني بقولك ولا يقبله؛ ولعله لذلك قال أمير المؤمنين (ع): "أميتوا الأصوات، فإنَّه أطرد للفشل"(4) إذا كنت تُريد أن تصل إلى غرضك ومرامك فلماذا هذه الجلبة؟! ولماذا تتوسل بالصوت الرفيع؟! إنَّ الصوت الرفيع قد يُوقعك في الفشل، أي أنَّه قد لا يتحقَّق مُرادك وغرضك من هذا الكلام الذي جئت به.
ويقول الإمام (ع) –كما روي عنه-: "إنَّ الله يكره من الرجال الرفيعَ الصوت، ويحبُّ الخفيضَ الصوت"(5): ثمَّة رجال يُحبهم الله، وآخرون لا يحبهم. من اعتاد رفع الصوت في حديثه وفي مخاطبته للآخرين فهذا (غير محبوب): وهو تعبير عن مرجوحية رفع الصوت. ومن اعتاد خفض صوته فهو (محبوب): وهذا تعبير عن رجحان خفض الصوت أثناء المحادثة.
خفض الصوت من حُسن التديُّن
ويقول (ع) –كما روي عنه-: (خمس خصال هي من علامات المؤمن، وعلامات حُسن التديُّن)، فرق بين إنسان متدين، وآخر يكون تدينه متميزاً بالحُسْن؛ فالواجد لخمس صفات يكون تديُّنه متميزاً بالحُسْن، فما هي؟ أولها خفض الصوت.. (خفض الصوت، وغضّ البصر)، غض البصر عن شيئين: عن المحارم، كامرأة أجنبية، وعورة مؤمن تغضّ طرفك وبصرك عن أن تلحظها.. (وغض البصر عن ما لا يعنيك) لماذا تلاحق الناس بنظرك وببصرك؟! أين ذهب، ومن أين جاء! هذا مخالف لمقتضى الأدب النبويّ الشريف، فليس عليك، بل وليس لك أن تُلاحق الناس بنظرك، وتبحث عن خصوصياتهم، ولماذا لبسوا، وما هو لباسهم، وكيف يأكلون! هناك أُناس قد اعتادوا النظر حتى على المائدة إلى هذا كيف يأكل، وذاك كيف يأكل، وهذا كيف يضحك، وهذا كيف يجلس! هذا خلاف الأدب النبوي، ففي أثناء الطعام لا ينبغي أن تنظر إلى أخيك كيف يأكل، ولا ينبغي أن تنظر إلى أخيك كيف يمشي، وهل أنَّ مِشيته سليمة من كلِّ خلل، أو أنَّ فيها بعض الخلل! وكيف يتكلم، وما هو لباسه، وهيئته، وقيافته، صحيحة أو غير صحيحة! أو تنظر إليه -وهو أسوأ أنواع النظر- وتلاحقه فيما يفعل، أي ماذا يصنع، ومن أين جاء، وإلى أين سيذهب! كل ذلك منافٍ لمقتضى الأدب النبوي.. (خفض الصوت، وغض البصر، ومشي القصد): يعني المشي لا بالسريع كما هي مِشية بعض البهائم -أجلكم الله-، ولا هو مشي بطيء، إلى حد أن الذي يمشي معك قد يُصاب بالسأم والضجر من مشيك.
مورد وجوب خفض الصوت
قلنا إنَّ خفض الصوت هو من الآداب القرآنية، ومن الآداب النبويَّة مع كلِّ أحد، ولكنَّها مع رسول الله (ص) ترقى إلى مستوى اللزوم؛ فمن رفع صوته في محضر الرسول (ص) فقد ارتكب معصية كما هو في صريح الآية المباركة، لأنها قد نهت عن رفع الصوت، وأفادت أنَّ رفع الصوت قد يُوجب حَبْط العمل.
رفع الصوت في محضر الرسول (ص) على نحوين:
فقد يرفع الإنسان صوته في محضر الرسول (ص) استخفافاً برسول الله (ص)، واستهانةً بمقامه وذلك لعدم الإيمان بمقامه الشريف، فذلك من شُعب الكفر بالله -عزّ وجلّ .
وقد لا ينشأ كما هو الغالب رفع الصوت عن الإستخفاف وعدم الرعاية لمقام الرسول الكريم (ص)، وإنما ينشأ عن الغفلة عمَّا ينبغي التأدُّب به في محضر الرسول الكريم (ص)، وذلك من سوء الأدب.
وكلاهما مرجوح، ويُوجب حبط العمل.
رفع الصوت وحبط العمل
وحبط العمل هنا كناية عن أنَّ رفع الصوت في محضر الرسول الكريم (ص) معصية، حبط العمل تارةً يكون لأجل الكفر، فالكفر يُحبِط العمل بلا إشكال، فيكون مصداقاً لقوله تعالى:﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾(6)، يعني ان الذي عملتموه من الصالحات تجدونه يوم القيامة كأنه هباءً منثوراً، فلا وجود له في صحيفة أعمالكم وحسناتكم.
وقد يكون الحبط بمعنى عدم ترتب الثواب على الأعمال الصالحة ، فكثير من الأعمال الصالحة وإن كانت مقتضية للثواب ولكنها ليست علة تامة لترتب الثواب بل إن ترتب الثواب على فعلها مشروط بشرط، فما لم يتحقق فإنَّ الثواب لا يترتب، فكأن عدم الإلتزام بالشرط قد أحبط ثواب تلك الطاعة. ورفع الصوت في محضر الرسول (ص) يكون من هذا القبيل ، أي أن عدمه بمثابة الشرط لترتب الثواب على الطاعات فمن رفع صوته في محضر الرسول (ص) فإنَّه لا يتحصل على ثواب الطاعات التي عملها.
حكم رفع الصوت عند قبر النبي (ص) وفي مسجده
ثم إنَّ هنا بحث يذكره الفقهاء والمفسِّرون، وهو أنَّ رفع الصوت عند الرسول (ص) بعد وفاته هل هو مُحرَّم؟ بعد أن اتفقوا على أنَّه محرم في حياة الرسول (ص) ، أي ان رفع الصوت عند قبر رسول الله (ص) وفي مسجده الشريف هل هو محرم أو أنه يجوز لأن الرسول(ص) ليس في عالم الوجود المشهود؟
المعروف بين الفقهاء من الفريقين، وبين المفسرين والمحدثين، أنَّ رفع الصوت مُحرَّم في محضر الرسول حياً وميتاً، فكما لا يجوز للمؤمن أن يرفع صوته في محضر الرسول (ص) وهو حي، كذلك لا يجوز له أن يرفع صوته في عند قبر الرسول (ص)، فالحكم بالحرمة ثابت في حياته ومماته على حدٍّ سواء .
حرمة النبي (ص) بعد مماته كحرمته في حياته
بل ان كل الشؤونات المتصلة بكيفية التعامل مع النبي (ص) والتي كانت لازمة في حال حياته، هي لازمة له بعد وفاته.
فبعد رحيل الرسول (ص) وانتقاله إلى الملأ الأعلى، اختلفوا في من يصلي على النبي يعني من يؤمّ الناس فقال الإمام علي (ع) إن رسول الله هو إمام حياً وميتاً، لذلك لا يصح لأحدٌ التصدي لإمامة الناس في الصلاة عليه. وفعلاً لم يُصلِّ عليه أحدٌ إماماً. وأول من صلى على جثمان الرسول (ص) الطاهر هو علي بن ابي طالب وحده مضافا الى ملائكة الله نزلوا أفواجاً أفواجاً، يصلِّون على جثمانه الشريف، ثم وصلى عليه أهل بيت رسول الله (ص) وقرابته، و بعد ذلك وقف علي (ع) عند باب الحجرة التي فيها جثمان الرسول (ص) وأبى أن يصلي عليه أحدٌ إماماً، وقال: ليدخل عليه عشَرة عشَرة، فيصلون فيخرجون فيدخل غيرهم. وهكذا استمر الحال حتى صلَّى عليه جميع المسلمين عشَرة عشَرة؛ وذلك لأن رسول الله (ص) كما أفاد علي ابن أبي طالب (ع) إمامنا حياً وميتاً، فكل شؤونات الرسول التي كانت في حياته يجب رعايتها بعد وفاته، فلا يجوز رفع الصوت في محضره وعند قبره الشريف .
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور حفظه الله
المصادر:
1- سورة الحجرات/1-2.
2- سورة لقمان/19.
3- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 2 ص 63.
4- ميزان الحكمة -محمد الريشهري- ج 2 ص 1680.
5- كنز العمال -المتقي الهندي- ج 3 ص 569.
6- سورة الفرقان/23.
م/ن
تعليق