عندما نستذكر هذا الإمام العظيم، فإنَّنا نجد هناك خصوصيّة في حياته لم تكن لأيِّ إمامٍ من أئمة أهل البيت(ع) الذين يلتقون جميعاً في أنَّهم عاشوا الاضطهاد في حياتهم من قِبَل الخلفاء الذين كانوا يضيّقون على حركة الأمّة الإسلاميّة، وهذه الخصوصيّة تنحصر في تضييق السلطة العباسيّة على حركته بشكل فوق العادة، وانتقاله من سجن إلى سجن، وهذا ما سنتعرّض له في مطاوي البحث إن شاء الله..
عاش الإمام الكاظم(ع) في عهد هارون الرشيد الذي امتدّت سلطته إلى أبعد مدىً من مواقع البلاد الإسلاميّة، وكان هذا الرجل معروفاً بسلطته الظالمة التي كان يتجاوز بها حدود الله، وكان معروفاً أيضاً بابتذاله ولهوه فيما كان يعيشه من أجواء اللهو والفسوق التي لا تناسب إنساناً مسلماً، فكيف يمكن أن تتناسب مع شخص يجلس في مركز خلافة المسلمين؟
وكان هارون الرشيد يعرف القيمة التي اختزنتها قلوب المسلمين في محبته، ويعرف مدى امتداداته الشعبيّة، وكان يعرف أيضاً أنَّ الناس كانت تحمل إليه الأموال مما هو واجبٌ عليها من الحقوق الشرعيّة.. وبهذا أدرك أنَّ الكثيرين من الناس كانوا يعتقدون بأنَّه الإمام الشرعيّ الذي يجب على الأمة أن تمتثل أوامره ونواهيه وطاعته، كان يعرف ذلك كلَّه من خلال رصده لحركة الإمام(ع).. وقد كان يشعر بأنَّ الناس إنما تنجذب إليه كحاكم من خلال سلطته وقهره وقوّته، بينما كان يرى أنَّ الأمة تنجذب إلى الإمام الكاظم(ع) بقلوبها وعقولها وإيمانها، لما كان يمثّله من الخطِّ المستقيم الذي يريد الله سبحانه وتعالى للناس أن يهتدوا إليه وينطلقوا فيه في كلِّ حياتهم.
فَدَك.. وشرعيّة الإمامة
ومما ملأ قلب هارون الرشيد حقداً على الكاظم(ع) وأبدى بسببه ـ من جملة أسباب كثيرة ـ قلقه من حركة الإمام الكاظم(ع)، هو عندما أراد الرشيد إعادة فدك للكاظم(ع) وكان له مما لم يرغب فيه.. فمما ينقله التاريخ أنَّ الرشيد استدعى يوماً الإمام الكاظم(ع) وأخبره برغبته بإعادة فدك إليه ـ وفدك هي الأرض التي أُخذت من فاطمة الزهراء(ع) بعد وفاة رسول الله(ص) ـ ولكنَّ الإمام(ع) لم يقبل بردِّها إلا بحدودها.. "فقال الرشيد: ما حدودها؟ فقال(ع): "إنْ حدّدتُها لم تردّها"، (هو يعرف أنَّ فَدَك مجرّد قطعة أرض موجودة في المنطقة المحيطة بالمدينة، مهما كثرت أو قلّت مساحتها، فإنَّها مجرّد أرض بسيطة)، فأصرَّ هارون عليه أن يبيّنها له قائلاً: بحقِّ جدِّك إلاَّ فعلت.
ولم يجد الإمام بُدّاً من إجابته، فقال له: "أما الحدّ الأول، فعدن ـ فلما سمع الرشيد ذلك تغيّر وجهُه، واستمرّ الإمام(ع) في بيانه ـ والحدُّ الثاني: سمرقند ـ فاربد وجه الطاغية ـ والحدُّ الثالث إفريقيا ـ فاسودّ وجهه ـ والحدُّ الرابع سيف البحر مما يلي الخزر وأرمينيا. قال هارون: لم يبقَ لنا شيء. فقال(ع): قد علمت أنَّك لا تردُّها"(31).
ففدك برأي الإمام الكاظم(ع) لا تمثّل قطعة أرض، بل هي برأيه تمثّل ولاية أمور المسلمين، وبذلك فإنَّها تمثّل شرعية الإمامة وشرعية الحكومة الإسلامية في خطِّ أهل البيت(ع)، باعتبار أنّهم أولو الأمر الذين يجب على الناس طاعتهم لا طاعة العباسيين.. ونفهم من كلمة الكاظم(ع) في هذا المجال، أنَّ الزهراء(ع) عندما طالبت بفدك، فلأنَّها كانت تمثّل عنوان المطالبة بحقِّ عليٍّ(ع) في الولاية، ولم تكن تمثّل بالنسبة إليها أرضاً في المسألة الجغرافية فحسب.
ولذلك، فإنَّ حدود فَدَك في ما نفهمها هي حدود الدولة الإسلاميّة في كلِّ امتداداتها وسعتها.. وفي هذا المجال، يُقال بأنَّ هارون الرشيد قد عزم على قتل الإمام الكاظم(ع).
الإمامة في صلابة الموقف
وينقل لنا التاريخ أنَّ الرشيد عندما زار مدينة رسول الله(ص)، "توجَّه لزيارة النبيِّ(ص) ومعه الناس، فتقدّم إلى قبر رسول الله(ص) وقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يابن العم ـ وكأنَّه يريد أن يفهم كل مَن حوله بأنَّه يملك الخلافة على أساس قرابته من رسول الله(ص)، فتقدّم أبو الحسن الكاظم(ع) إلى القبر فقال: "السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبتاه"، وتغيّر وجه الرشيد وتبيّن الغيظ فيه"(32).
وكأنَّه(ع) يريد أن يقول إذا كنت تتحدّث عن قرابتك للرسول(ص) على أساس أنَّه ابن عمِّك، لأنَّك ابن العباس، عم رسول الله(ص)، فهو(ع) أبو فاطمة الزهراء(ع)، والرشيد عندما تغيّر وجهه، فباعتبار أنَّ الكاظم(ع) لم يترك له مجالاً ليأخذ عنفوانه وزهوه على هذا الأساس.
ويسأله هارون الرشيد: "لِمَ جوّزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول الله(ص) ويقولون لكم: يا بَني رسول الله، وأنتم بنو عليّ، وإنَّما يُنْسَبُ المرء إلى أبيه وفاطمة إنَّما هي وعاء، والنبيّ جدُّكم من قِبَل أمّكم؟ فقال(ع): لو أنَّ النبيّ(ص) نُشر ـ عاد إلى الحياة من جديد ـ فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيب؟ فقال: سبحان الله ولِمَ لا أُجيبه؟ بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك. فقال(ع): لكنَّه(ص) لا يخطب إليَّ ولا أزوّجه. فقال: ولِمَ؟ قال(ع): لأنَّه ولدني ولم يَلِدْك"(33). وجاء في وفيات الأعيان أنَّ الإمام(ع) أراد أن يدعم قوله ببرهان آخر، فقال لهارون: "هل كان يجوز له أن يدخل على حرمك وهُنَّ مكشّفات؟ فقال هارون: لا، قال(ع): له أن يدخل على حرمي"(34).
لم يكن الإمام(ع) يريد أن يركّز على مسألة الخلافة والإمامة من موقع القرابة كما كان العباسيّون يفعلون عندما كانوا يقدّمون أنفسهم للناس على أنّهم أبناء عمِّ الرسول(ص)، لأنَّ الأئمة(ع) ينطلقون في مسألة الإمامة من خلال النصّ الإلهيّ الذي يحدّد ذلك ويجعلهم أولياء الأمر بعد رسول الله(ص).. فكان الإمام(ع) يريد أن يسقط هذا العنفوان والاستكبار لهارون الرشيد..
ومن هنا قرّر الرشيد حبس الإمام(ع) بعد أن عرف تأثيره في المجتمع الإسلاميّ، ورأى أنَّ هذا التأثير يمكن أن يمتدَّ ويقوى ويتعمّق بالمستوى الذي قد يجعل للإمام(ع) امتداداً أكبر، فيهدّد حكمه بعد ذلك، ولذلك يُقال: بأنَّ هارون وقف أمام قبر رسول الله(ص) معتذراً منه(ص) بأنَّه يريد حبس الكاظم(ع) "لأني قد خشيت أن يلقي بين أمتك حرباً يسفك فيها دماءَهم"(35)..
هذا منطق كلِّ الطغاة الذين يتحدّثون عن أيّة قوة معارضة بأنَّها تفرّق بين النّاس، وتهدّد أمنهم، وما إلى ذلك من الكلمات..
ويصدر هارون أمراً بإلقاء القبض عليه، حيث يسيّره إلى البصرة، وبعد ذلك إلى بغداد، ثم يُوضع(ع) في سجن السندي بن شاهك الذي كان رجلاً فظّاً غليظاً، ويُقال إنَّه لم يكن مسلماً، فضيّق عليه ووضعه في "طامورة" لا يُعرف فيها الليل من النهار، ودسَّ إليه السُّمَّ في طعامه فاستُشهد(ع) في سجنه"(36).
وعلى الرغم من أنَّ الإمام(ع) لم يكن يعترف بشرعية خلافة الرشيد، إلاَّ أنَّه كان يلتقيه ويحاوره ويناظره، وكان الرشيد لا يملك إلا أن يعظّمه، وهذا ما أشار إليه المأمون ابن الرشيد، الذي قيل له: من أين تعلّمت التشيّع؟ ـ وكانت هذه الكلمة تُطلق على الذين يحبُّون أهلَ البيت(ع) ويعظّمونهم ـ فقال ـ كما رُويَ عنه ـ: لقد تعلّمته من أبي هارون الرشيد، وذكر ما لقيه الإمام الكاظم(ع) من تعظيم عند استقبال هارون الرشيد له، ما أدّى إلى اعتراض المأمون على أبيه لجهله بالإمام، فقال له: إنَّ النّاس لو عرفوا من فضل هذا وأهل بيته ما نعرفه لما تركونا في مواقعنا. فقال له المأمون: لِمَ لم تتنازل عن موقعك إذا كنت تعرف من فضله ما تقول؟ فقال له: "إنَّ المُلْكَ عقيم، ولو نازعتني عليه لأخذتُ الذي فيه عيناك"(37).
عندما نستذكر هذا الإمام العظيم، فإنَّنا نجد هناك خصوصيّة في حياته لم تكن لأيِّ إمامٍ من أئمة أهل البيت(ع) الذين يلتقون جميعاً في أنَّهم عاشوا الاضطهاد في حياتهم من قِبَل الخلفاء الذين كانوا يضيّقون على حركة الأمّة الإسلاميّة، وهذه الخصوصيّة تنحصر في تضييق السلطة العباسيّة على حركته بشكل فوق العادة، وانتقاله من سجن إلى سجن، وهذا ما سنتعرّض له في مطاوي البحث إن شاء الله..
عاش الإمام الكاظم(ع) في عهد هارون الرشيد الذي امتدّت سلطته إلى أبعد مدىً من مواقع البلاد الإسلاميّة، وكان هذا الرجل معروفاً بسلطته الظالمة التي كان يتجاوز بها حدود الله، وكان معروفاً أيضاً بابتذاله ولهوه فيما كان يعيشه من أجواء اللهو والفسوق التي لا تناسب إنساناً مسلماً، فكيف يمكن أن تتناسب مع شخص يجلس في مركز خلافة المسلمين؟
وكان هارون الرشيد يعرف القيمة التي اختزنتها قلوب المسلمين في محبته، ويعرف مدى امتداداته الشعبيّة، وكان يعرف أيضاً أنَّ الناس كانت تحمل إليه الأموال مما هو واجبٌ عليها من الحقوق الشرعيّة.. وبهذا أدرك أنَّ الكثيرين من الناس كانوا يعتقدون بأنَّه الإمام الشرعيّ الذي يجب على الأمة أن تمتثل أوامره ونواهيه وطاعته، كان يعرف ذلك كلَّه من خلال رصده لحركة الإمام(ع).. وقد كان يشعر بأنَّ الناس إنما تنجذب إليه كحاكم من خلال سلطته وقهره وقوّته، بينما كان يرى أنَّ الأمة تنجذب إلى الإمام الكاظم(ع) بقلوبها وعقولها وإيمانها، لما كان يمثّله من الخطِّ المستقيم الذي يريد الله سبحانه وتعالى للناس أن يهتدوا إليه وينطلقوا فيه في كلِّ حياتهم.
فَدَك.. وشرعيّة الإمامة
ومما ملأ قلب هارون الرشيد حقداً على الكاظم(ع) وأبدى بسببه ـ من جملة أسباب كثيرة ـ قلقه من حركة الإمام الكاظم(ع)، هو عندما أراد الرشيد إعادة فدك للكاظم(ع) وكان له مما لم يرغب فيه.. فمما ينقله التاريخ أنَّ الرشيد استدعى يوماً الإمام الكاظم(ع) وأخبره برغبته بإعادة فدك إليه ـ وفدك هي الأرض التي أُخذت من فاطمة الزهراء(ع) بعد وفاة رسول الله(ص) ـ ولكنَّ الإمام(ع) لم يقبل بردِّها إلا بحدودها.. "فقال الرشيد: ما حدودها؟ فقال(ع): "إنْ حدّدتُها لم تردّها"، (هو يعرف أنَّ فَدَك مجرّد قطعة أرض موجودة في المنطقة المحيطة بالمدينة، مهما كثرت أو قلّت مساحتها، فإنَّها مجرّد أرض بسيطة)، فأصرَّ هارون عليه أن يبيّنها له قائلاً: بحقِّ جدِّك إلاَّ فعلت.
ولم يجد الإمام بُدّاً من إجابته، فقال له: "أما الحدّ الأول، فعدن ـ فلما سمع الرشيد ذلك تغيّر وجهُه، واستمرّ الإمام(ع) في بيانه ـ والحدُّ الثاني: سمرقند ـ فاربد وجه الطاغية ـ والحدُّ الثالث إفريقيا ـ فاسودّ وجهه ـ والحدُّ الرابع سيف البحر مما يلي الخزر وأرمينيا. قال هارون: لم يبقَ لنا شيء. فقال(ع): قد علمت أنَّك لا تردُّها"(31).
ففدك برأي الإمام الكاظم(ع) لا تمثّل قطعة أرض، بل هي برأيه تمثّل ولاية أمور المسلمين، وبذلك فإنَّها تمثّل شرعية الإمامة وشرعية الحكومة الإسلامية في خطِّ أهل البيت(ع)، باعتبار أنّهم أولو الأمر الذين يجب على الناس طاعتهم لا طاعة العباسيين.. ونفهم من كلمة الكاظم(ع) في هذا المجال، أنَّ الزهراء(ع) عندما طالبت بفدك، فلأنَّها كانت تمثّل عنوان المطالبة بحقِّ عليٍّ(ع) في الولاية، ولم تكن تمثّل بالنسبة إليها أرضاً في المسألة الجغرافية فحسب.
ولذلك، فإنَّ حدود فَدَك في ما نفهمها هي حدود الدولة الإسلاميّة في كلِّ امتداداتها وسعتها.. وفي هذا المجال، يُقال بأنَّ هارون الرشيد قد عزم على قتل الإمام الكاظم(ع).
الإمامة في صلابة الموقف
وينقل لنا التاريخ أنَّ الرشيد عندما زار مدينة رسول الله(ص)، "توجَّه لزيارة النبيِّ(ص) ومعه الناس، فتقدّم إلى قبر رسول الله(ص) وقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يابن العم ـ وكأنَّه يريد أن يفهم كل مَن حوله بأنَّه يملك الخلافة على أساس قرابته من رسول الله(ص)، فتقدّم أبو الحسن الكاظم(ع) إلى القبر فقال: "السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبتاه"، وتغيّر وجه الرشيد وتبيّن الغيظ فيه"(32).
وكأنَّه(ع) يريد أن يقول إذا كنت تتحدّث عن قرابتك للرسول(ص) على أساس أنَّه ابن عمِّك، لأنَّك ابن العباس، عم رسول الله(ص)، فهو(ع) أبو فاطمة الزهراء(ع)، والرشيد عندما تغيّر وجهه، فباعتبار أنَّ الكاظم(ع) لم يترك له مجالاً ليأخذ عنفوانه وزهوه على هذا الأساس.
ويسأله هارون الرشيد: "لِمَ جوّزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول الله(ص) ويقولون لكم: يا بَني رسول الله، وأنتم بنو عليّ، وإنَّما يُنْسَبُ المرء إلى أبيه وفاطمة إنَّما هي وعاء، والنبيّ جدُّكم من قِبَل أمّكم؟ فقال(ع): لو أنَّ النبيّ(ص) نُشر ـ عاد إلى الحياة من جديد ـ فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيب؟ فقال: سبحان الله ولِمَ لا أُجيبه؟ بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك. فقال(ع): لكنَّه(ص) لا يخطب إليَّ ولا أزوّجه. فقال: ولِمَ؟ قال(ع): لأنَّه ولدني ولم يَلِدْك"(33). وجاء في وفيات الأعيان أنَّ الإمام(ع) أراد أن يدعم قوله ببرهان آخر، فقال لهارون: "هل كان يجوز له أن يدخل على حرمك وهُنَّ مكشّفات؟ فقال هارون: لا، قال(ع): له أن يدخل على حرمي"(34).
لم يكن الإمام(ع) يريد أن يركّز على مسألة الخلافة والإمامة من موقع القرابة كما كان العباسيّون يفعلون عندما كانوا يقدّمون أنفسهم للناس على أنّهم أبناء عمِّ الرسول(ص)، لأنَّ الأئمة(ع) ينطلقون في مسألة الإمامة من خلال النصّ الإلهيّ الذي يحدّد ذلك ويجعلهم أولياء الأمر بعد رسول الله(ص).. فكان الإمام(ع) يريد أن يسقط هذا العنفوان والاستكبار لهارون الرشيد..
ومن هنا قرّر الرشيد حبس الإمام(ع) بعد أن عرف تأثيره في المجتمع الإسلاميّ، ورأى أنَّ هذا التأثير يمكن أن يمتدَّ ويقوى ويتعمّق بالمستوى الذي قد يجعل للإمام(ع) امتداداً أكبر، فيهدّد حكمه بعد ذلك، ولذلك يُقال: بأنَّ هارون وقف أمام قبر رسول الله(ص) معتذراً منه(ص) بأنَّه يريد حبس الكاظم(ع) "لأني قد خشيت أن يلقي بين أمتك حرباً يسفك فيها دماءَهم"(35)..
هذا منطق كلِّ الطغاة الذين يتحدّثون عن أيّة قوة معارضة بأنَّها تفرّق بين النّاس، وتهدّد أمنهم، وما إلى ذلك من الكلمات..
ويصدر هارون أمراً بإلقاء القبض عليه، حيث يسيّره إلى البصرة، وبعد ذلك إلى بغداد، ثم يُوضع(ع) في سجن السندي بن شاهك الذي كان رجلاً فظّاً غليظاً، ويُقال إنَّه لم يكن مسلماً، فضيّق عليه ووضعه في "طامورة" لا يُعرف فيها الليل من النهار، ودسَّ إليه السُّمَّ في طعامه فاستُشهد(ع) في سجنه"(36).
وعلى الرغم من أنَّ الإمام(ع) لم يكن يعترف بشرعية خلافة الرشيد، إلاَّ أنَّه كان يلتقيه ويحاوره ويناظره، وكان الرشيد لا يملك إلا أن يعظّمه، وهذا ما أشار إليه المأمون ابن الرشيد، الذي قيل له: من أين تعلّمت التشيّع؟ ـ وكانت هذه الكلمة تُطلق على الذين يحبُّون أهلَ البيت(ع) ويعظّمونهم ـ فقال ـ كما رُويَ عنه ـ: لقد تعلّمته من أبي هارون الرشيد، وذكر ما لقيه الإمام الكاظم(ع) من تعظيم عند استقبال هارون الرشيد له، ما أدّى إلى اعتراض المأمون على أبيه لجهله بالإمام، فقال له: إنَّ النّاس لو عرفوا من فضل هذا وأهل بيته ما نعرفه لما تركونا في مواقعنا. فقال له المأمون: لِمَ لم تتنازل عن موقعك إذا كنت تعرف من فضله ما تقول؟ فقال له: "إنَّ المُلْكَ عقيم، ولو نازعتني عليه لأخذتُ الذي فيه عيناك"(37).
تعليق