ربّما يعزي نجاح النظريّة القرآنية في تحليلها ومعالجتها الاجتماعية المعاصرة كنظريات (الانتقال الانحرافي)، و(القصر الاجتماعي)، و(الضبط الاجتماعي)، و(الإلصاق الاجتماعي) وهذه الأسباب هي:
الأوّل: العدالة الاجتماعية والاقتصادية التي جاء بها الإسلام وحاول تطبيقها على الأفراد.
الثاني: العقوبة الصارمة ضدّ المنحرفين كالقصاص والديّة والتعزير.
الثالث: المساواة التامّة بين جميع الأفراد أمام القضاء والشريعة في قضايا العقوبة والتأديب والتعويض.
الرابع: المشاركة الجماعية في دفع ثمن الجريمة والانحراف كإلزام عاقلة المنحرف دفع ديّة القتيل عن طريق الخطá ودفع دية القتيل الذي لا يعرف قاتله من بيت المال.
فعلى الصعيد الأوّل، نادى الإسلام بالعدالة الاجتماعية واعتبرها الأساس في بناء المجتمع السليم الأساس الاقتصادي أو السياسي، كالغضب والسرقة والاعتداء على حقوق الآخرين.
وعلى الصعيد الثاني، فإنّ ديناً متكاملاً كالإسلام لابدّ وأن يطرح للإنسانيّة المعذّبة نظاماً يعالج فيه مختلف زوايا الانحراف، ويحلل من خلاله، بكلّ دقة دوافع الجريمة في المجتمع الإنساني، ويشرّع على ضوء ذلك أحكاماً صارمة لقلع منشأ الانحراف من جذوره الثابتة في عمق النفس البشريّة لأنّ الخالق عزّوجلّ أدرى بالنفس الإنسانية التي صممها وأنشأها (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا / فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس: 7 ـ 8).
فمن أجل مكافحة الجريمة وتعويض الضحيّة، صنّف النظام الإسلامي العقوبات إلى قسمين هما: العقوبات الأدبية والعقوبات الماديّة.
فالعقوبات الأدبيّة تشمل جانبين:
الأوّل: الحدود، وهي العقوبات المقدّرة في الكتاب والسنّة، بمعنى أنّ الشارع لم يسمح للقاضي الشرعي في التصرّف في أمر تقديرها، كالقصاص في جرائم القتل والقطع والجرح، كما أشار قوله تعالى إلى ذلك: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ) (البقرة: 179) وعقوبات الزنا، واللواط، والسحاق، والقيادة، والقذف، والسرقة، والسكر، والارتداد، وقطع الطريق.
الثاني: التعزيرات، وهي العقوبات التي فوّض أمر تقديرها وتحديدها لنظر الحاكم الشرعي، فيعاقب عليها بما يراه مناسباً، كعقوبة التزوير والغيبة ونحوها.
والعقوبات المادية، وهي الديّات، أو المال الواجب دفعه بسبب الجناية على النفس أو ما دونها (وَمَا كَانَ لِمُۆْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُۆْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُۆْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّۆْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ) (النساء: 92) وتشمل جانبين أيضاً، وهما:
أوّلاً: الديات المقدرة على لسان الشارع، كديّة النفس والأعضاء.
ثانياً: الديات التي فوّض أمر تقديرها إلى الحكومة، أو الخبراء الموثوق بهم.
وبالإجمال، فإنّ الإسلام صنّفَ الانحراف إلى أربعة أصناف، وهي:
1 ـ جرائم الاعتداء على النفس البشريّة وما دونها وفيها القصاص أو الدية مع الشروط.
2 ـ جرائم ضد الملكية وفيها القطع، والمقاصّة، ووجوب رد المغصوب.
3 ـ الجرائم الخلقيّة، وفيها الرجم والقتل والجلد.
4 ـ جرائم ضد النظام الاجتماعي، كالمحاربة والاحتكار ونحوها وفيها التعزير أو الغرامة. وواجب في الديّات غير المقدّرة شرعاً الأرش أو الحكومة.
وهذه الأحكام الشرعيّة هدفها الردع أكثر من الانتقام، حتّى أنّ القصاص الذي يبدو ظاهراً، قضيّة انتقاميّة يۆدّي في الواقع دوراً أساسياً في ردع الانحراف وتأديب المنحرفين، فإنزال الأذى المماثل بالجاني أمضى تأثيراً من عقوبة السجن، التي آمن بها النظام القضائي الغربي. والسارق الذي تۆدّبه الشريعة الإسلامية بقطع يده يعتبر أكثر إنتاجاً من السارق الذي يقبع في سجون الأنظمة الرأسمالية سنوات معطلاً طاقته الإنتاجية ومستهلكاً موارد النظام الاجتماعي. وما أن يخرج إلى أجواء الحريّة مرّة أخرى حتّى يرتكب انحرافاً مماثلاً لذلك الذي أدخله السجن أوّل مرّة.
وعلى الصعيد الثالث، فإنّ الإسلام نادى بالمساواة بين الأفراد في العقوبة والتعويض. فالسارق مع توفّر الشروط يقطع حتّى لو كان يشغل أعلى وظيفة سياسية في الدولة، لإطلاق الآية الكريمة(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا) (المائدة: 38)، وعدم تخصيصه بفئة معيّنة من السرّاق مثلاً. والزاني مع توفر الشروط يقام عيه الحد كائناً من كان. ولا يستثنى أحد لسبب طبقي أو وراثي من إقامة الحدود الشرعيّة. وهنا يكمن الفرق بين النظامين التشريعي الإسلامي؟ القضائي الغربي الرأسمالي. ففي حين يفلت مجرمو الطبقة الرأسمالية من قبضة العقاب، باعتبار أنّ العقاب المعنوي لأفراد الطبقة العليا أشدّ إيلاماً من العقاب المبدئي، يصون التشريعُ الإسلامي النظام القضائي من عبث الأصابع البشريّة التي يدفعها الهوى والطموح الشخصي. وبعد أربعة عشر قرناً من الزمان، لم يستطع مقنن واحد، أيّاً كان مذهبه، من تغيير حكم القرآن في قطع السارق أو قتل القاتل المتعمّد أو جلد الزانية والزاني.
ولا شك أنّ الأفراد جميعاً بمختلف الوانهم وهيئاتهم متساوون أمام الشارع، فالأسود والأبيض والأصغر سواسية كالمشط في مثولهم أمام الحاكم الشرعي وإنزال العقاب بهم، أو تبرئتهم.(إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90)، (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات: 9). بل إنّ الشارع يعاقب من يميّز على أساس اللون، أو يتعدّى حدود القصاص، ويلزمهم بدفع مقدار التعدّي.
ولابد أن نذكر هنا، أنّ النظرية الإسلامية قد ميّزت الانحراف بأنواعه وطرقه المتعددة، واعترت فيه الأسباب الموجبة. فأخذت الاضطراب العقلي، وعدم البلوغ مثلاً، بعين الاعتبار في إنشاء الحكم على القاتل. وميّزت بين قتل العمد، وقتل الخطá والقتل الشبيه بالخطأ وأفردت لكل واحد منهما حكماً خاصّاً. وأعطت الشريعة للأحداث والصبيان فرصة لعلاج انحرافهم بدل إنزال العقاب بهم.
وعلى الصعيد الرابع، فإنّ الإسلام شجّع المشاركة الجماعيّة في دفع الانحراف بطرق عديدة منها:
أوّلاً: إنّ وليّ الأمر مسۆول شرعاً عن دفع الدية إذا ارتكب من يتولاه انحرافاً يستوجب دفع تلك الغرامة.
ثانياً: إنّ العلاقة الأسرية التي أكد عليها الإسلام تساهم من خلال التعاون والتآزر على إصلاح الفرد المنحرف في الأسرة.
ثالثاً: العاقلة، وهم العصبة من قرابة الأب كالأخوة والأعمام وأولادهم، التي تتحمّل دية القتل الخطá ودية الجناية على الأطراف ونحوها.
والمدار في كلّ ذلك أنّ الفرد في المجتمع الإسلامي لا يعيش منعزلاً عن الرابطة الاجتماعية، فالأفراد ملزمون بالتعاون فيما بينهم لدرء الانحراف الاجتماعي. لأنّ ذلك الانحراف إذا لم يكلّفهم نفساً بشريّة أو أذى يعتد به فإنّه يكلّفهم أموالاً تفرض عليهم في باب العاقلة. وهم بذلك ملزمون أخلاقيّاً، بإرشاد وإصلاح ذويهم ودرء خطر الانحراف فيهم.
المصدر:الانحراف الاجتماعي ومعالجته على ضوء النظريّة القرآنيّة
الأوّل: العدالة الاجتماعية والاقتصادية التي جاء بها الإسلام وحاول تطبيقها على الأفراد.
الثاني: العقوبة الصارمة ضدّ المنحرفين كالقصاص والديّة والتعزير.
الثالث: المساواة التامّة بين جميع الأفراد أمام القضاء والشريعة في قضايا العقوبة والتأديب والتعويض.
الرابع: المشاركة الجماعية في دفع ثمن الجريمة والانحراف كإلزام عاقلة المنحرف دفع ديّة القتيل عن طريق الخطá ودفع دية القتيل الذي لا يعرف قاتله من بيت المال.
فعلى الصعيد الأوّل، نادى الإسلام بالعدالة الاجتماعية واعتبرها الأساس في بناء المجتمع السليم الأساس الاقتصادي أو السياسي، كالغضب والسرقة والاعتداء على حقوق الآخرين.
وعلى الصعيد الثاني، فإنّ ديناً متكاملاً كالإسلام لابدّ وأن يطرح للإنسانيّة المعذّبة نظاماً يعالج فيه مختلف زوايا الانحراف، ويحلل من خلاله، بكلّ دقة دوافع الجريمة في المجتمع الإنساني، ويشرّع على ضوء ذلك أحكاماً صارمة لقلع منشأ الانحراف من جذوره الثابتة في عمق النفس البشريّة لأنّ الخالق عزّوجلّ أدرى بالنفس الإنسانية التي صممها وأنشأها (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا / فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس: 7 ـ 8).
فمن أجل مكافحة الجريمة وتعويض الضحيّة، صنّف النظام الإسلامي العقوبات إلى قسمين هما: العقوبات الأدبية والعقوبات الماديّة.
فالعقوبات الأدبيّة تشمل جانبين:
الأوّل: الحدود، وهي العقوبات المقدّرة في الكتاب والسنّة، بمعنى أنّ الشارع لم يسمح للقاضي الشرعي في التصرّف في أمر تقديرها، كالقصاص في جرائم القتل والقطع والجرح، كما أشار قوله تعالى إلى ذلك: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ) (البقرة: 179) وعقوبات الزنا، واللواط، والسحاق، والقيادة، والقذف، والسرقة، والسكر، والارتداد، وقطع الطريق.
الثاني: التعزيرات، وهي العقوبات التي فوّض أمر تقديرها وتحديدها لنظر الحاكم الشرعي، فيعاقب عليها بما يراه مناسباً، كعقوبة التزوير والغيبة ونحوها.
والعقوبات المادية، وهي الديّات، أو المال الواجب دفعه بسبب الجناية على النفس أو ما دونها (وَمَا كَانَ لِمُۆْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُۆْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُۆْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّۆْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ) (النساء: 92) وتشمل جانبين أيضاً، وهما:
أوّلاً: الديات المقدرة على لسان الشارع، كديّة النفس والأعضاء.
ثانياً: الديات التي فوّض أمر تقديرها إلى الحكومة، أو الخبراء الموثوق بهم.
وبالإجمال، فإنّ الإسلام صنّفَ الانحراف إلى أربعة أصناف، وهي:
1 ـ جرائم الاعتداء على النفس البشريّة وما دونها وفيها القصاص أو الدية مع الشروط.
2 ـ جرائم ضد الملكية وفيها القطع، والمقاصّة، ووجوب رد المغصوب.
3 ـ الجرائم الخلقيّة، وفيها الرجم والقتل والجلد.
4 ـ جرائم ضد النظام الاجتماعي، كالمحاربة والاحتكار ونحوها وفيها التعزير أو الغرامة. وواجب في الديّات غير المقدّرة شرعاً الأرش أو الحكومة.
وهذه الأحكام الشرعيّة هدفها الردع أكثر من الانتقام، حتّى أنّ القصاص الذي يبدو ظاهراً، قضيّة انتقاميّة يۆدّي في الواقع دوراً أساسياً في ردع الانحراف وتأديب المنحرفين، فإنزال الأذى المماثل بالجاني أمضى تأثيراً من عقوبة السجن، التي آمن بها النظام القضائي الغربي. والسارق الذي تۆدّبه الشريعة الإسلامية بقطع يده يعتبر أكثر إنتاجاً من السارق الذي يقبع في سجون الأنظمة الرأسمالية سنوات معطلاً طاقته الإنتاجية ومستهلكاً موارد النظام الاجتماعي. وما أن يخرج إلى أجواء الحريّة مرّة أخرى حتّى يرتكب انحرافاً مماثلاً لذلك الذي أدخله السجن أوّل مرّة.
وعلى الصعيد الثالث، فإنّ الإسلام نادى بالمساواة بين الأفراد في العقوبة والتعويض. فالسارق مع توفّر الشروط يقطع حتّى لو كان يشغل أعلى وظيفة سياسية في الدولة، لإطلاق الآية الكريمة(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا) (المائدة: 38)، وعدم تخصيصه بفئة معيّنة من السرّاق مثلاً. والزاني مع توفر الشروط يقام عيه الحد كائناً من كان. ولا يستثنى أحد لسبب طبقي أو وراثي من إقامة الحدود الشرعيّة. وهنا يكمن الفرق بين النظامين التشريعي الإسلامي؟ القضائي الغربي الرأسمالي. ففي حين يفلت مجرمو الطبقة الرأسمالية من قبضة العقاب، باعتبار أنّ العقاب المعنوي لأفراد الطبقة العليا أشدّ إيلاماً من العقاب المبدئي، يصون التشريعُ الإسلامي النظام القضائي من عبث الأصابع البشريّة التي يدفعها الهوى والطموح الشخصي. وبعد أربعة عشر قرناً من الزمان، لم يستطع مقنن واحد، أيّاً كان مذهبه، من تغيير حكم القرآن في قطع السارق أو قتل القاتل المتعمّد أو جلد الزانية والزاني.
ولا شك أنّ الأفراد جميعاً بمختلف الوانهم وهيئاتهم متساوون أمام الشارع، فالأسود والأبيض والأصغر سواسية كالمشط في مثولهم أمام الحاكم الشرعي وإنزال العقاب بهم، أو تبرئتهم.(إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90)، (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات: 9). بل إنّ الشارع يعاقب من يميّز على أساس اللون، أو يتعدّى حدود القصاص، ويلزمهم بدفع مقدار التعدّي.
ولابد أن نذكر هنا، أنّ النظرية الإسلامية قد ميّزت الانحراف بأنواعه وطرقه المتعددة، واعترت فيه الأسباب الموجبة. فأخذت الاضطراب العقلي، وعدم البلوغ مثلاً، بعين الاعتبار في إنشاء الحكم على القاتل. وميّزت بين قتل العمد، وقتل الخطá والقتل الشبيه بالخطأ وأفردت لكل واحد منهما حكماً خاصّاً. وأعطت الشريعة للأحداث والصبيان فرصة لعلاج انحرافهم بدل إنزال العقاب بهم.
وعلى الصعيد الرابع، فإنّ الإسلام شجّع المشاركة الجماعيّة في دفع الانحراف بطرق عديدة منها:
أوّلاً: إنّ وليّ الأمر مسۆول شرعاً عن دفع الدية إذا ارتكب من يتولاه انحرافاً يستوجب دفع تلك الغرامة.
ثانياً: إنّ العلاقة الأسرية التي أكد عليها الإسلام تساهم من خلال التعاون والتآزر على إصلاح الفرد المنحرف في الأسرة.
ثالثاً: العاقلة، وهم العصبة من قرابة الأب كالأخوة والأعمام وأولادهم، التي تتحمّل دية القتل الخطá ودية الجناية على الأطراف ونحوها.
والمدار في كلّ ذلك أنّ الفرد في المجتمع الإسلامي لا يعيش منعزلاً عن الرابطة الاجتماعية، فالأفراد ملزمون بالتعاون فيما بينهم لدرء الانحراف الاجتماعي. لأنّ ذلك الانحراف إذا لم يكلّفهم نفساً بشريّة أو أذى يعتد به فإنّه يكلّفهم أموالاً تفرض عليهم في باب العاقلة. وهم بذلك ملزمون أخلاقيّاً، بإرشاد وإصلاح ذويهم ودرء خطر الانحراف فيهم.
المصدر:الانحراف الاجتماعي ومعالجته على ضوء النظريّة القرآنيّة
تعليق