أدب الجوارح-اللسان((آداب إسلامية))إن للنفس الإنسانية في جهاد النفس مقامان، مقام الظاهر ومقام الباطن، والجهاد في كلا المقامين مختلف عن الآخر ولتوضيح ذلك لا بد أن نتعرف ولو إجمالا على معنى هذين المقامين وما يتميز كل منهما عن الآخر.
المقام الأول "الباطن"
وهو المقام الذي ينبغي التنبه له جيدا وهو الذي أشار له الإمام الخميني قدس سره في "الأربعون حديثاً" بقوله: "اعلم أن للنفس الإنسانية مملكة ومقاماً آخر، وهي مملكتها الباطنية ونشأتها الملكوتية، وفيها تكون جنود النفس أكثر وأهم مما في مملكة الظاهر، والصراع والنزاع فيها بين الجنود الرحمانية والشيطانية أعظم والغلبة والانتصار فيها أشد وأهم، بل وإن كل ما في مملكة الظاهر قد تنزَّل من هناك وتظهر في عالم المُلك، وإذا تغلب أي من الجند الرحماني أو الشيطاني في تلك المملكة، يتغلب أيضا في هذه المملكة. وجهاد النفس في هذا المقام مهم للغاية عند المشايخ العظام من أهل السلوك والأخلاق، بل ويمكن اعتبار هذا المقام منبع جميع السعادات والتعاسات، والدرجات والدركات"1.
لأن ظاهر الإنسان يمكن إصلاحه بالتوبة والندم عن سوء العمل، إلا أن الباطن وسوء السريرة قد يصل بالإنسان إلى مرحلة تجعله غير قابل لنزول الرحمة الإلهية عليه من قبيل الشفاعة أو الصفح الإلهي، فيصبح مصداق الآية الشريفة: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(البقرة:81).
المقام الثاني "الظاهر"
يقول الإمام الخميني قدس سره عن هذا المقام في كتابه الأربعون حديثاً ما ملخصه:اعلم أن مقام النفس الأول ومنزلها الأدنى والأسفل، هو منزل الملك والظاهر وعالمهما، فتكون ساحة معركة النفس وجهادها نفس هذا الجسد، وجنودها هي قواه الظاهرية السبعة وهي: "الأذن والعين واللسان والبطن والفرج واليد والرجل". وتكون جميع هذه القوى تحت تصرف النفس في مقام الوهم، فإذا تحكَّم الوهم على تلك القوى سواء بذاته مستقلاً أو بتدخل الشيطان، جعلها أي تلك القوى جنوداً للشيطان، وبذلك يجعل هذه المملكة تحت سلطان الشيطان، وتنهزم عندها جنود الرحمن والعقل، وتتوارى وتخرج من نشأة الملك (أي المادة) وعالم الإنسان وتهاجر عنه، وتصبح هذه المملكة خاصة بالشيطان.
وأما إذا خضع الوهم لحكم العقل والشرع، وكانت حركاته وسكناته مقيدة بنظام العقل والشرع، فقد أصبحت هذه المملكة مملكة روحانية وعقلانية، ولم يجد الشيطان وجنوده محط قدم لهم فيها".
إذاً، يكون جهاد النفس في هذا المقام عبارة عن انتصار الإنسان على قواه الظاهرية، وجعلها مؤتمرة بأمر الخالق، وعبارة عن تطهير المملكة من دنس وجود قوى الشيطان وجنوده.
وبناء على هذا فعلى المؤمن السالك إلى الله تعالى في هذا المقام أي مقام الظاهر أن يلتفت بكل ما أوتي من حكمة ودراية للأحكام الإلهية التي تتعلق بقواه التي أودعها الله تعالى فيه، وهذا ما يسمى بأدب الجوارح وسيأتي الحديث عنه.
أدب الجوارح
إن وظيفة المرء في هذا المقام تكون بحمل الظاهر على التأدب بأدب الشريعة من التنزيه لهذه الجوارح عما يخالف الأوامر الإلهية، وتحليتها بالخصال الحسنة والمحمودة وسنتطرق في هذا المقال إلى الجارحة الأولى وما ينبغي أن تنزه عنه وتحلى به وهو اللسان.
اللسان
إن اللسان وهو القطعة اللحمية الصغيرة الحجم سبب رئيسي في دخول جل أهل النار إليها وكذا جل أهل الجنة إليها، لأن اللسان وإن كان صغير الحجم إلا أنه كما قال بعض الحكماء صغير الحجم كبير الجرم، وعن الإمام الباقر عليه السلام: "إن هذا اللسان مفتاح كل خير وشر، فينبغي للمؤمن أن يختم على لسانه كما يختم على ذهبه وفضته"2.
اللسان طريق إلى الله
إن اللِّسان من النعم العظيمة التي منَّ الله تعالى بها على الإنسان، قال عز وجل: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْن﴾(البلد:8-9)، وفي الحديث عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام أنه سئل عن الكلام والسكوت أيهما أفضل؟ فقال: "لكل واحد منهما آفات فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت، قيل: وكيف ذاك يا بن رسول الله؟
فقال: لأن الله عز وجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، إنما بعثهم بالكلام، ولا استحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت، ولا وقيت النار بالسكوت، ولا تجنب سخط الله بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام، ما كنت لأعدل القمر بالشمس، إنك لتصف فضل السكوت بالكلام، ولست تصف فضل الكلام بالسكوت3.
ومن وصية الإمام علي عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية:"وما خلق الله عز وجل شيئاً أحسن من الكلام ولا أقبح منه، بالكلام ابيضت الوجوه، وبالكلام اسودت الوجوه، واعلم أن الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به فإذا تكلمت به صرت في وثاقه، فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك، فإن اللسان كلب عقور فإن أنت خليته عقر، ورب كلمة سلبت نعمة..."4.
خطر اللسان في الروايات
وفي المقابل حذرت الكثير من الروايات إلى الخطر الكبير الذي يسببه اللسان لصاحبه إذا لم يجعله مطواعاً لعقله، ففي الرواية عن الإمام علي: "زلة اللسان أشد هلاك"5 وفي رواية أخرى عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: "إن أكثر خطايا ابن ادم في لسانه"6، ولذا نرى الكثير من الروايات التي تحبذ الصمت حين لا يكون هناك أي داع للكلام، فكما أن الكلام في مورده جميل ومطلوب فإن الصمت في مورده جميل ومطلوب أيضاً، بل دعت إليه الروايات الكثيرة منها:
ما ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: "أمسك لسانك، فإنها صدقة تصدق بها على نفسك"7.
وعن الإمام علي: "احبس لسانك قبل أن يُطيلَ حبسك ويردي نفسك، فلا شيء أولى بطول سجن من لسان يعدل عن الصواب ويتسرع إلى الجواب"8.
وفي رواية أخرى عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: "لا يعرف عبد حقيقة الإيمان حتى يخزن من لسانه"9.
الميزان
بعد أن عرفنا مخاطر اللسان ومنافعه، لا بد وأن نبحث عن الضابطة التي تحدد لنا كيفية التحكم بهذا اللسان وليس لنا في ذلك إلا أن نرجع لأئمة الهدى ومصابيح الدجى الذين أناروا لنا الدروب المظلمة، ودلونا على الحيل التي ينتهجها الشيطان بغية إزالتنا عن الصراط المستقيم، وقد أشار أهل البيت عليهم السلام في هذا المضمار إلى أمرين أساسين:
1- أن يأتمر اللسان بأوامر العقل الذي جعله الله تعالى نبيا باطنيا في الإنسان فحينما يحكم الإنسان العقل في هذه الجارحة يكف بذاك أذاها ويمنعها من رداها فعن الإمام علي: "اللسان معيار أرجحه العقل وأطاشه الجهل"10.
2- أن يتأدب اللسان بما أمر الله تعالى به الإنسان من الأوامر وينتهي عما نهاه الله تعالى من المحرمات ولا أفضل من قول الإمام السجاد عليه السلام في رسالة الحقوق: "حقُّ اللسان إكرامه عن الخنا، وتعويده الخير، وترك الفضول التي لا فائدة لها، والبر بالناس، وحسن القول فيهم"11.
الأمور التي ينبغي تنزيه اللسان عنها
نزه لسانك عن الغيبة
الغيبة هي ذكر عيوب الإنسان في غيبته للإنتقاص منه. وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله في خطبة حجة الوداع: "أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، إن الله حرم الغيبة كما حرم المال والدم"12.
إن تأكيد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله على حرمة الغيبة في حجة الوداع التي تضمنت أهم التعاليم الأخلاقية، يدلل بشكل كبير على مدى خطورتها على الأخلاق الإنسانية، ولو تأملنا ما جاء من الأحاديث الشريفة التي تتحدث عنها لعلمنا مدى خطر هذه السيئة الكبيرة ومن هذه الروايات ما ورد عن أمير المؤمنين: "الغيبة آية المنافق"13، وعنه عليه السلام أيضاً: "الغيبة شر الإفك"14، وعنه عليه السلام أيضاً: "من أقبح اللؤم غيبة الأخيار"15.
وتكون الغيبة أخطر حينما تحمل فتنة بين المؤمنين، وكما في الرواية الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام: قال رجل لعلي بن الحسين عليه السلام: إن فلانا ينسبك إلى أنك ضال مبتدع، فقال له علي بن الحسين عليه السلام: "ما رعيت حق مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أديت حقي حيث أبلغتني عن أخي ما لست أعلمه!... إياك والغيبة فإنها إدام كلاب النار، واعلم أن من أكثر من ذكر عيوب الناس شهد عليه الإكثار أنه إنما يطلبها بقدر ما فيه"16.
نزه لسانك عن الكذب
الكذب من أسوأ الذنوب التي يمكن للعبد أن يرتكبها، والكذاب يفقد ثقة الناس به لأن العلاقات الاجتماعية السليمة التي يبتغيها الناس هي العلاقات القائمة على الصدق، وقد كثرت الآيات والروايات التي تحذر من الكذب مبينة مبغوضيته عند الله تعالى، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾(النحل:105)، وهذا ما أكدته الرواية عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: "إياكم والكذب، فإن الكذب مجانب للإيمان"17.
وفي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "أعظم الخطايا اللسان الكذوب"18.
وعنه صلى الله عليه وآله: "إذا كذب العبد تباعد الملك عنه ميلا من نتن ما جاء به"19.
وعن الإمام علي عليه السلام: "الكذب شين الأخلاق"20.
الاستخفاف بالكذب
هناك نماذج من الكذب قد يستخف بها الإنسان ويعتبرها غير سيئة وقد يعطيها تسميات لتخفيفها كاسم كذبة بيضاء أو كذبة أول نيسان... وقد أكد الإسلام على رفض ذلك وعدم استسهال الكذب بجميع مسمياته، وفي رواية عن عبد الله بن عامر قال: دعتني أمي يوما ورسول الله صلى الله عليه وآله قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعال أعطك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله: ما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمراً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله: "أما إنك لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كذبة"21.
حتى إن الروايات الشريفة أكدت على أن يكون الإنسان حريصاً فيما ينقل من الكلام الذي يسمعه من الآخرين فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: "حسبك من الكذب أن تحدث بكل ما سمعت"22، وفي رواية أخرى عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله لما سألته أسماء بنت يزيد: إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه: لا أشتهيه، يعد ذلك كذباً؟ قال صلى الله عليه وآله: "إن الكذب يكتب كذباً حتى تكتب الكذيبة كذيبة"23.
آثار الكذب
إن للكذب آثارا على الإنسان المسلم منها
1- الحرمان من الهداية: فإن الكذب يحرمه من نعمة الهداية كما أشار القرآن الكريم لذلك، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾(الزمر:3)، ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾(غافر:28).
2- ينبت النفاق: يقول الله تعالى: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ﴾(التوبة:77).
3- المهانة في الدنيا والآخرة: فعن الإمام علي عليه السلام: "ثمرة الكذب المهانة في الدنيا والعذاب في الآخرة"24، وأما سبب العذاب في الآخرة فلأن الكذاب سيظهر كذبه أمام الملأ، وسيجر إلى جهنم كما وعده الله تعالى، وأما المهانة في الدنيا لأن الكذب يذهب بهيبة الإنسان وبهائه، لأن الكاذب منبوذ بين الناس ويشيرون إليه بالأصابع لعدم ثقتهم به، وعن الإمام علي عليه السلام: "من عرف بالكذب قلت الثقة به، من تجنب الكذب صدقت أقواله"25.
4- قلة التوفيق من الله تعالى لأداء السنن: ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إن الرجل ليكذب الكذبة فيحرم بها صلاة الليل"26.
5- نقصان الرزق: فعن رسول الله صلى الله عليه وآله: "الكذب ينقص الرزق"27، وعن الإمام علي عليه السلام: "اعتياد الكذب يورث الفقر"28.
نزه لسانك عن الفحش في القول
من العادات القبيحة التي لا ينبغي أن تكون في الإنسان المؤمن الفحش وبذاءة اللسان، والفحش هو أن يستعمل الإنسان الألفاظ القبيحة من السب والشتم وغيرها من المقالات السيئة، وقد ذم الله تعالى هذا الصنف من الناس في كتابه العزيز حيث قال: ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيم﴾(القلم:13)، ومعنى الآية الشريفة كما روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: "هو الفاحش اللئيم"29.
وقد وصفت الروايات الشريفة الإنسان الفاحش بأوصاف كثيرة منها:
أ- أنه مبغوض لدى الله تعالى ففي الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: "إن الله يبغض الفاحش المتفحش"30
ب- السفيه، ففي الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "أسفه السفهاء المتبجح بفحش الكلام"31.
ج- من أهل النار، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "من خاف الناس لسانه فهو في النار"32.
د- من شر الناس، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله عليه السلام: "إن من شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه"33.
إلى أوصاف أخرى تدلل على مدى قبح هذه الصفة نسأل الله تعالى أن ينزهنا عن النقائص والعيوب إنه نعم الموفق والمعين.
11-08-2009 عدد القراءات 2625
المقام الأول "الباطن"
وهو المقام الذي ينبغي التنبه له جيدا وهو الذي أشار له الإمام الخميني قدس سره في "الأربعون حديثاً" بقوله: "اعلم أن للنفس الإنسانية مملكة ومقاماً آخر، وهي مملكتها الباطنية ونشأتها الملكوتية، وفيها تكون جنود النفس أكثر وأهم مما في مملكة الظاهر، والصراع والنزاع فيها بين الجنود الرحمانية والشيطانية أعظم والغلبة والانتصار فيها أشد وأهم، بل وإن كل ما في مملكة الظاهر قد تنزَّل من هناك وتظهر في عالم المُلك، وإذا تغلب أي من الجند الرحماني أو الشيطاني في تلك المملكة، يتغلب أيضا في هذه المملكة. وجهاد النفس في هذا المقام مهم للغاية عند المشايخ العظام من أهل السلوك والأخلاق، بل ويمكن اعتبار هذا المقام منبع جميع السعادات والتعاسات، والدرجات والدركات"1.
لأن ظاهر الإنسان يمكن إصلاحه بالتوبة والندم عن سوء العمل، إلا أن الباطن وسوء السريرة قد يصل بالإنسان إلى مرحلة تجعله غير قابل لنزول الرحمة الإلهية عليه من قبيل الشفاعة أو الصفح الإلهي، فيصبح مصداق الآية الشريفة: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(البقرة:81).
المقام الثاني "الظاهر"
يقول الإمام الخميني قدس سره عن هذا المقام في كتابه الأربعون حديثاً ما ملخصه:اعلم أن مقام النفس الأول ومنزلها الأدنى والأسفل، هو منزل الملك والظاهر وعالمهما، فتكون ساحة معركة النفس وجهادها نفس هذا الجسد، وجنودها هي قواه الظاهرية السبعة وهي: "الأذن والعين واللسان والبطن والفرج واليد والرجل". وتكون جميع هذه القوى تحت تصرف النفس في مقام الوهم، فإذا تحكَّم الوهم على تلك القوى سواء بذاته مستقلاً أو بتدخل الشيطان، جعلها أي تلك القوى جنوداً للشيطان، وبذلك يجعل هذه المملكة تحت سلطان الشيطان، وتنهزم عندها جنود الرحمن والعقل، وتتوارى وتخرج من نشأة الملك (أي المادة) وعالم الإنسان وتهاجر عنه، وتصبح هذه المملكة خاصة بالشيطان.
وأما إذا خضع الوهم لحكم العقل والشرع، وكانت حركاته وسكناته مقيدة بنظام العقل والشرع، فقد أصبحت هذه المملكة مملكة روحانية وعقلانية، ولم يجد الشيطان وجنوده محط قدم لهم فيها".
إذاً، يكون جهاد النفس في هذا المقام عبارة عن انتصار الإنسان على قواه الظاهرية، وجعلها مؤتمرة بأمر الخالق، وعبارة عن تطهير المملكة من دنس وجود قوى الشيطان وجنوده.
وبناء على هذا فعلى المؤمن السالك إلى الله تعالى في هذا المقام أي مقام الظاهر أن يلتفت بكل ما أوتي من حكمة ودراية للأحكام الإلهية التي تتعلق بقواه التي أودعها الله تعالى فيه، وهذا ما يسمى بأدب الجوارح وسيأتي الحديث عنه.
أدب الجوارح
إن وظيفة المرء في هذا المقام تكون بحمل الظاهر على التأدب بأدب الشريعة من التنزيه لهذه الجوارح عما يخالف الأوامر الإلهية، وتحليتها بالخصال الحسنة والمحمودة وسنتطرق في هذا المقال إلى الجارحة الأولى وما ينبغي أن تنزه عنه وتحلى به وهو اللسان.
اللسان
إن اللسان وهو القطعة اللحمية الصغيرة الحجم سبب رئيسي في دخول جل أهل النار إليها وكذا جل أهل الجنة إليها، لأن اللسان وإن كان صغير الحجم إلا أنه كما قال بعض الحكماء صغير الحجم كبير الجرم، وعن الإمام الباقر عليه السلام: "إن هذا اللسان مفتاح كل خير وشر، فينبغي للمؤمن أن يختم على لسانه كما يختم على ذهبه وفضته"2.
اللسان طريق إلى الله
إن اللِّسان من النعم العظيمة التي منَّ الله تعالى بها على الإنسان، قال عز وجل: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْن﴾(البلد:8-9)، وفي الحديث عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام أنه سئل عن الكلام والسكوت أيهما أفضل؟ فقال: "لكل واحد منهما آفات فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت، قيل: وكيف ذاك يا بن رسول الله؟
فقال: لأن الله عز وجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، إنما بعثهم بالكلام، ولا استحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت، ولا وقيت النار بالسكوت، ولا تجنب سخط الله بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام، ما كنت لأعدل القمر بالشمس، إنك لتصف فضل السكوت بالكلام، ولست تصف فضل الكلام بالسكوت3.
ومن وصية الإمام علي عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية:"وما خلق الله عز وجل شيئاً أحسن من الكلام ولا أقبح منه، بالكلام ابيضت الوجوه، وبالكلام اسودت الوجوه، واعلم أن الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به فإذا تكلمت به صرت في وثاقه، فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك، فإن اللسان كلب عقور فإن أنت خليته عقر، ورب كلمة سلبت نعمة..."4.
خطر اللسان في الروايات
وفي المقابل حذرت الكثير من الروايات إلى الخطر الكبير الذي يسببه اللسان لصاحبه إذا لم يجعله مطواعاً لعقله، ففي الرواية عن الإمام علي: "زلة اللسان أشد هلاك"5 وفي رواية أخرى عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: "إن أكثر خطايا ابن ادم في لسانه"6، ولذا نرى الكثير من الروايات التي تحبذ الصمت حين لا يكون هناك أي داع للكلام، فكما أن الكلام في مورده جميل ومطلوب فإن الصمت في مورده جميل ومطلوب أيضاً، بل دعت إليه الروايات الكثيرة منها:
ما ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: "أمسك لسانك، فإنها صدقة تصدق بها على نفسك"7.
وعن الإمام علي: "احبس لسانك قبل أن يُطيلَ حبسك ويردي نفسك، فلا شيء أولى بطول سجن من لسان يعدل عن الصواب ويتسرع إلى الجواب"8.
وفي رواية أخرى عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: "لا يعرف عبد حقيقة الإيمان حتى يخزن من لسانه"9.
الميزان
بعد أن عرفنا مخاطر اللسان ومنافعه، لا بد وأن نبحث عن الضابطة التي تحدد لنا كيفية التحكم بهذا اللسان وليس لنا في ذلك إلا أن نرجع لأئمة الهدى ومصابيح الدجى الذين أناروا لنا الدروب المظلمة، ودلونا على الحيل التي ينتهجها الشيطان بغية إزالتنا عن الصراط المستقيم، وقد أشار أهل البيت عليهم السلام في هذا المضمار إلى أمرين أساسين:
1- أن يأتمر اللسان بأوامر العقل الذي جعله الله تعالى نبيا باطنيا في الإنسان فحينما يحكم الإنسان العقل في هذه الجارحة يكف بذاك أذاها ويمنعها من رداها فعن الإمام علي: "اللسان معيار أرجحه العقل وأطاشه الجهل"10.
2- أن يتأدب اللسان بما أمر الله تعالى به الإنسان من الأوامر وينتهي عما نهاه الله تعالى من المحرمات ولا أفضل من قول الإمام السجاد عليه السلام في رسالة الحقوق: "حقُّ اللسان إكرامه عن الخنا، وتعويده الخير، وترك الفضول التي لا فائدة لها، والبر بالناس، وحسن القول فيهم"11.
الأمور التي ينبغي تنزيه اللسان عنها
نزه لسانك عن الغيبة
الغيبة هي ذكر عيوب الإنسان في غيبته للإنتقاص منه. وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله في خطبة حجة الوداع: "أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، إن الله حرم الغيبة كما حرم المال والدم"12.
إن تأكيد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله على حرمة الغيبة في حجة الوداع التي تضمنت أهم التعاليم الأخلاقية، يدلل بشكل كبير على مدى خطورتها على الأخلاق الإنسانية، ولو تأملنا ما جاء من الأحاديث الشريفة التي تتحدث عنها لعلمنا مدى خطر هذه السيئة الكبيرة ومن هذه الروايات ما ورد عن أمير المؤمنين: "الغيبة آية المنافق"13، وعنه عليه السلام أيضاً: "الغيبة شر الإفك"14، وعنه عليه السلام أيضاً: "من أقبح اللؤم غيبة الأخيار"15.
وتكون الغيبة أخطر حينما تحمل فتنة بين المؤمنين، وكما في الرواية الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام: قال رجل لعلي بن الحسين عليه السلام: إن فلانا ينسبك إلى أنك ضال مبتدع، فقال له علي بن الحسين عليه السلام: "ما رعيت حق مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أديت حقي حيث أبلغتني عن أخي ما لست أعلمه!... إياك والغيبة فإنها إدام كلاب النار، واعلم أن من أكثر من ذكر عيوب الناس شهد عليه الإكثار أنه إنما يطلبها بقدر ما فيه"16.
نزه لسانك عن الكذب
الكذب من أسوأ الذنوب التي يمكن للعبد أن يرتكبها، والكذاب يفقد ثقة الناس به لأن العلاقات الاجتماعية السليمة التي يبتغيها الناس هي العلاقات القائمة على الصدق، وقد كثرت الآيات والروايات التي تحذر من الكذب مبينة مبغوضيته عند الله تعالى، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾(النحل:105)، وهذا ما أكدته الرواية عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: "إياكم والكذب، فإن الكذب مجانب للإيمان"17.
وفي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "أعظم الخطايا اللسان الكذوب"18.
وعنه صلى الله عليه وآله: "إذا كذب العبد تباعد الملك عنه ميلا من نتن ما جاء به"19.
وعن الإمام علي عليه السلام: "الكذب شين الأخلاق"20.
الاستخفاف بالكذب
هناك نماذج من الكذب قد يستخف بها الإنسان ويعتبرها غير سيئة وقد يعطيها تسميات لتخفيفها كاسم كذبة بيضاء أو كذبة أول نيسان... وقد أكد الإسلام على رفض ذلك وعدم استسهال الكذب بجميع مسمياته، وفي رواية عن عبد الله بن عامر قال: دعتني أمي يوما ورسول الله صلى الله عليه وآله قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعال أعطك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله: ما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمراً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله: "أما إنك لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كذبة"21.
حتى إن الروايات الشريفة أكدت على أن يكون الإنسان حريصاً فيما ينقل من الكلام الذي يسمعه من الآخرين فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: "حسبك من الكذب أن تحدث بكل ما سمعت"22، وفي رواية أخرى عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله لما سألته أسماء بنت يزيد: إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه: لا أشتهيه، يعد ذلك كذباً؟ قال صلى الله عليه وآله: "إن الكذب يكتب كذباً حتى تكتب الكذيبة كذيبة"23.
آثار الكذب
إن للكذب آثارا على الإنسان المسلم منها
1- الحرمان من الهداية: فإن الكذب يحرمه من نعمة الهداية كما أشار القرآن الكريم لذلك، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾(الزمر:3)، ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾(غافر:28).
2- ينبت النفاق: يقول الله تعالى: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ﴾(التوبة:77).
3- المهانة في الدنيا والآخرة: فعن الإمام علي عليه السلام: "ثمرة الكذب المهانة في الدنيا والعذاب في الآخرة"24، وأما سبب العذاب في الآخرة فلأن الكذاب سيظهر كذبه أمام الملأ، وسيجر إلى جهنم كما وعده الله تعالى، وأما المهانة في الدنيا لأن الكذب يذهب بهيبة الإنسان وبهائه، لأن الكاذب منبوذ بين الناس ويشيرون إليه بالأصابع لعدم ثقتهم به، وعن الإمام علي عليه السلام: "من عرف بالكذب قلت الثقة به، من تجنب الكذب صدقت أقواله"25.
4- قلة التوفيق من الله تعالى لأداء السنن: ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إن الرجل ليكذب الكذبة فيحرم بها صلاة الليل"26.
5- نقصان الرزق: فعن رسول الله صلى الله عليه وآله: "الكذب ينقص الرزق"27، وعن الإمام علي عليه السلام: "اعتياد الكذب يورث الفقر"28.
نزه لسانك عن الفحش في القول
من العادات القبيحة التي لا ينبغي أن تكون في الإنسان المؤمن الفحش وبذاءة اللسان، والفحش هو أن يستعمل الإنسان الألفاظ القبيحة من السب والشتم وغيرها من المقالات السيئة، وقد ذم الله تعالى هذا الصنف من الناس في كتابه العزيز حيث قال: ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيم﴾(القلم:13)، ومعنى الآية الشريفة كما روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: "هو الفاحش اللئيم"29.
وقد وصفت الروايات الشريفة الإنسان الفاحش بأوصاف كثيرة منها:
أ- أنه مبغوض لدى الله تعالى ففي الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: "إن الله يبغض الفاحش المتفحش"30
ب- السفيه، ففي الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "أسفه السفهاء المتبجح بفحش الكلام"31.
ج- من أهل النار، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "من خاف الناس لسانه فهو في النار"32.
د- من شر الناس، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله عليه السلام: "إن من شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه"33.
إلى أوصاف أخرى تدلل على مدى قبح هذه الصفة نسأل الله تعالى أن ينزهنا عن النقائص والعيوب إنه نعم الموفق والمعين.
11-08-2009 عدد القراءات 2625