الشفاعة
تُعتبر شفاعة الشافعين يوم القيامة بإذن الله تعالى إحدى العقائد الاِسلاميّة المُسَلَّمة الضروريّة.
إنّ الشفاعةَ تشملُ أُولئك الذين لم يقطعوا صِلتهم بالله، وبالدين بصورةٍ كاملة، فصاروا صالحين لشمولِ الرحمةِ الاِلَهيّةِ لهم بواسطة شفاعةِ الشافعين، رغم تورُّطِهم في بعض المعاصي والذنوب.
والاِعتقادُ بالشَفاعة مأخوذٌ من القرآن الكريم والسُّنة ونشير إلى بعض تلك النصوص فيما يأتي:
أ- الشَفاعة في القرآن
إنَّ الآياتِ القرآنيّة تحكي عن أصل وجودِ الشفاعة يومَ القيامة، وتصرّح بأصل وجودِ الشفاعة وأنّها تقع بإذنِ اللهِ تعالى.
ويقول:﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَن ارْتَضَى﴾(الاَنبياء:28).
فمَنْ هُم الشُفَعاء؟
يُستَفادُ من بعض الآيات أنّ الملائكة من الشُفعاء يومَ القيامة كما يقولُ: ﴿وَكَم مِن مَّلَكٍ في السَّماواتِ لاَ تُغْنِي شَفاعتُهُم شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشاءُ وَيَرْضى﴾(النجم:26).
ويذهبُ المفسِّرون في تفسير قولِهِ تعالى: ﴿عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً﴾(الاِسراء:79), إلى أنّ المقصود مِنَ "المقام المحمود" هو مقامُ الشّفاعة الثابتُ للنبيّ الاَكرم صلى الله عليه واله وسلم.
ب- الشَفاعة في الروايات
لقد تحدّثت روايات كثيرة ورَدَت في كتبِ الحديث عن الشفاعة مضافاً إلى القُرآنِ الكريم. ونشيرُ إلى بعضِ هذه الاَحاديث:
1- يقولُ النبيُّ الاَكرمُ: "إنَّما شَفاعَتي لاََهلِ الكَبائِر مِن أُمَّتِي"1.
والظاهر أنّ عِلّة اختصاص الشفاعة بمرتكبي الكبائر من الذنوب وشمولها لهم خاصة، هو: أنّ اللهَ وَعَد في القرآنِ بصراحة بأن يغفرَ للناسِ السيئات الصغيرة إذا ما هم اجتنبوا الكبائرَ2. فبقيّة الذنوب ما عدا الكبائر تشمُلُها المغفرة، في الدنيا ومع المغفرة لا موضوع للشفاعة.
2- "أُعْطِيْتُ خَمْساً... وأُعطِيتُ الشَفاعَة، فَادّخَرْتُها لاَُمَّتي فهيَ لِمَن لا يُشْرك بِاللهِ"3.
وعلى من أراد التعرّف على غيره من شفعاء يوم القيامة كالاَئِمة المعصومين، والعلماء، وكذا المشفوع لهُمْ، أن يُراجِعَ كتبَ العقائد، والكلام، والحديث.
كما أنّه لابُدّ أن نَعلَمَ بأنّ الاِعتقاد بالشَفاعة، مثل الاِعتقاد بقبُول التوبة، يجب أن لا يوجبَ تجرُّؤَ الاَشخاص على ارتكاب الذنوب، بل يجب أن يُعَدَّ هذا الاَمر "نافذةَ أمَل" تعيدُ الاِنسانَ إلى الطريقِ الصحيحِ، لكونه يرجو العفو، فلا يكونُ كالآيسين الّذين لا يفكّرون في العودة إلى الصِراط المستقيم قط.
ومِن هذا يتضح أنّ الاَثر البارز للشفاعة هو مغفرة ذنوب بعض العُصاة والمذنبين ولا ينحصر أثَرُها في رفع درجة المؤمنين كما ذهبَ إلى ذلك بعض الفِرقُ الاِسلامية (كالمعتزلة)4.
طلب الشفاعة في الدنيا
إنّ الاعتقادَ بأصلِ الشَفاعة في يَوم القيامة (في إطار الاِذن الاِلَهيّ) كما أسلَفنا من العقائِد الاِسلاميّة الضرورية ولم يخدش فيها أحدٌ.
يبقى أنْ نرى هل يجوز أن نطلب الشفاعةَ في هذه الدنيا من الشافعين المأذون لهم في الشفاعة يوم الحساب، كالنبيّ الاَكرم صلى الله عليه واله وسلم أم لا؟
وبعبارةٍ أُخرى، هل يصحُ أن يقول الاِنسانُ: يا رسولَ الله يا وجيهاً عند الله إشفع لي عند الله؟
الجواب هو: أنّ هذا الموضوعَ كان محلَّ اتفاقٍ وإجماعٍ بين جميع المسلمين إلى القرن الثامن، ولم ينكرْه إلاّ أشخاصٌ معدودُون من منتصف القرنِ الثامن، حيث خالَفوا طلبَ الشفاعة من الشفعاء المأذون لهم، ولَم يجوّزوه في حين أنّ الآيات القرآنيّة والاَحاديث النبويّة المعتبرة، وسيرة المسلمين المستمرة تشهَدُ جميعُها بجوازه، وذلك لاَنَّ الشَفاعة هو دُعاؤهم للاَشخاص ومن الواضح أن طلبَ الدعاء من المؤمن العاديّ فضلاً عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أمرٌ جائز ومستحسَن، بلا ريب.
ولقد رَوى ابنُ عباس عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ما يُستفاد منه بوضوحٍ بأنّ شفاعة المؤمن هو دعاؤه في حق الآخرين فقد قال صلى الله عليه واله وسلم: "ما مِن رَجُلٍ مُسْلِم يَموتُ فَيَقومُ على جَنازَتِهِ أربَعون رَجُلاً لا يُشركُونَ بالله شيئاً إلاّ شفَّعهُم اللهُ فِيه"5.
ومِنَ البديهيّ والواضح أنّ شفاعة أربعين مؤمن عند الصلاة على الميّت ليس سوى دعاؤهم لذلك الميت.
ولو تَصَفَّحْنا التاريخَ الاِسلاميَّ لوَجَدنا أنّ الصَحابة كانوا يطلبون الشفاعة من النبي صلى الله عليه واله وسلم.
فها هو الترمذيّ يروي عن أنَس بن مالك أنّه قال: سألتُ النبيَّ أنْ يَشْفَعَ لي يومَ القِيامة فقال: أنا فاعل.
قلتُ: فأَينَ أطلبُك؟
فقالَ: عَلى الصّرِاطِ6.
ومع الاَخذ بِنَظَر الاِعتبار أن حقيقة الاِستشفاع ليست سوى طلب الدعاءِ من الشَفيع، يمكنُ الاِشارةُ إلى نماذج مِن هذا الاَمر في القرآن الكريم نفسِه:
1- طلبَ أبناءُ يعقوب من أبيهِم أن يستغفرَ لهم، وقد وَعَدَهم بذلك ووفى بوعده، يقول تعالى: ﴿قَالُواْ يا أبانا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ * قَال سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾(يوسف:97ـ 98).
2- يَقولُ القرآنُ الكريمُ: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً﴾(النساء:64).
3- يقولُ في شأن المنافقين: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْاْ رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِروُنَ﴾(المنافقون:5).
فإذا كانَ الاِعراضُ عن طَلَب الاِستغفار من النَبيّ الذي يَتّحدِ في حقيقته مع الاِستشفاع علامةَ النِفاق، والاِستكبار، فإنّ الاِتيان بهذا الطَلَب وممارسته يُعدّ بلاشكّ علامةُ الاِيمانِ.
وحيثُ إنّ مقصودَنا هنا هو إثبات جواز طلب الشفاعة، ومشروعيّتهِ، لذلك لا يَضرُّ موتُ الشفيعِ في هذه الآيات بالمقصود، حتى لو فُرض أنّ هذه الآيات وَرَدَت في شأنِ الاَحياء من الشُفَعاءِ لا الاَموات، لاَن طَلَبَ الشَفاعة مِنَ الاَحياء إذا لم يكن شركاً فإنّ من الطبيعي أن لا يكونَ طلبُها من الاَموات كذلك شركاً لاَنّ حياة الشَفيع وموته ليس ملاكاً للتوحيد والشرك أبداً، والاَمرُ الوحيدُ الذي هو ضروريٌ ومطلوبٌ عندَ الاِستشفاعِ بالاَرواح المقدَّسة هو قدرتُها على سماع نداءاتنا، وهو أمرٌ قد أثبتْناه في مبحث التوسُّل حيث أثبتنا هناك7 وجود مثل هذا الاِرتباط.
وهنا لابدّ أن نلتفتَ إلى نقطةٍ هامّة وهي أن استشفاعَ المؤمنين والموَحّدين من الاَنبياء والاَولياء الاِلَهيّين يختلفُ اختلافاً جَوهرياً عن استشفاع الوثنيّين من أصنامهم وأوثانهم.
فالفريقُ الاَوّل يطلبُ الشَّفاعةَ من أولياءِ الله، وهو مذعِنٌ بحقيقتين أساسيّتين:
1- إنَّ مقامَ الشفاعة مقامٌ خاصٌّ بالله، وحقٌ محضٌ له سبحانه كما قال:﴿قُل للهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً﴾(الزمر:44).
أي قل: إنّ أمر الشَفاعة كلَّه بِيَدِ اللهِ ولا يحقّ لاَحدٍ أن يشفَعَ مِن دون إذنِهِ ولن تكونَ شفاعةٌ مؤثرةً بغيره.
2- إنّ الشُّفعاء الذين يَستشفِعُ بهم الموحِّدون عبادٌ صالحون مخلصُون لله سبحانه يستجيب الله دعاءَهم لِمكانَتِهِم عندهَ وَلِقُربِ مَنزِلَتهِم منه سبحانه.
وبهذين الشرطين يفترقُ الموحِّدُون عن الوثنييّن في مسألة الاستشفاع افتراقاً أساسياً.
أوّلاً: انّ المشركين لا يرون لنفوذ شفاعتهم وتأثيرها أيَّ قيد أو شرط، وكأنّ اللهَ فَوَّضَ أمرَ الشَفاعة إلى تلك الاَصنام العَمياء الصَمّاء. في حين أنّ الموحّدين يعتبرون الشفاعة كلّها حقاً مختصاً بالله، تبعاً لما جاء في القرآن الكريم، ويُقيِّدون قبولَ شفاعة الشافعين وتأثيرها بإذن الله ورضاه وإجازته.
ثانياً: إنّ مشركي عصر الرسالة كانوا يَعتبرون أوثانهم وأصنامَهم ومعبوداتهم المختلفة أرباباً وآلهةً، وكانوا يظنّونَ سفهاً أنّ لِهذهِ الموجودات الميّتة، والجمادات سَهْماً في الرّبوبيّة، والاَُلُوهيّة، بينما لا يرى الموحّدون، الاَنبياءَ والاَئمةَ إلاّ عباداً صالحين، وهم يردّدُون في صلواتهم وتحياتهم دائماً عبارة: "عَبْدُه ورسوله" و"عباد الله الصالحين".
فانظرْ إلى الفرق الشاسِعِ، والتفاوت الواسِع بين الرؤيتين والمنطِقَين.
بِناءً على هذا فإنّ الاستدلالَ بالآيات التي تَنفي وتندّدُ باستشفاعِ المشركين من الاَصنام، على نَفي أصل طلب الشفاعة في الاِسلام، إستدلالٌ مرفُوضٌ وباطلٌ وهو من باب القياس مع الفارق.
التوبة
إنّ انفتاح بابِ التوبةِ في وجهِ العُصاة والمُذنبين والدعوة إليها من التَعاليمِ الاِسلاميّة بل مِن مقرّرات جميعِ الشرائع السَّماويّة.
فعندما يندَمُ الاِنسانُ المذنبُ من عَمَلِهِ القبيحِ نَدَماً حقيقيّاً ويملاَُ التوجّهُ إلى الله، والتضرُّع إليه فضاءَ رُوحه، فيقرّر من صميمِ قَلبه أن لا يرتكبَ ما ارتكبَ ثانيةً، قَبِل اللهُ الرحيمُ أوبتَه وتَوبته، بشروطٍ مَذكورةٍ في كتُبُ العقيدة والتفسير. يقول القرآنُ الكريمُ في هذا الصَدَد:﴿وَتُوبُواْ إِلَى اللهِ جَمِيعاً أيّها الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(النور:31).
إنّ الّذين لا يَعرفونَ الآثار التربويّة الاِيجابيّة للتوبة يتصوَّرُون أنّ فتح هذين البابين (بابِ الشفاعة وباب التوبة) في وجه العُصاة والمذنبين يشجّعهم بشكلٍ مّا على المعصية، في حين يغفل هؤلاء عن أنّ كثيراً من النّاس متورّطونَ في بعض المعاصي، وقلّما يوجَد من لم يرتكبْ ذَنباً في حياته طوال عمره.
وعلى هذا الاَساس، إذا لم يكن بابُ التوبة مفتوحاً في وَجه هؤلاء لقالَ الذين يريدون أن يغيّروا مسيرهم ويقضوا بقيَّةَ أيّام حياتِهِمْ في الطُّهْر والنَقاء مع أنفسهم: إننَّا سنَلقى "على كلّ حالٍ" جزاءَ ذُنوبنا، وندخل جهنّم فلِمَ لا نستجيبُ لِرَغباتنا؟ ولمَ لا نحقّق شهواتِنا فيما تبقّى من عُمُرنا ما دام هذا هو مصيرُنا، وهو مصيرٌ لا يَتَغيَّر قطّ ولا مفرّ منه أبداً؟.
وهكذا نكونُ بإغلاقنا بابَ التَّوبة قد فَتَحْنا في وجه النّاس بابَ اليأس والقنوط، ومَهَّدْنا للَمزيد من المعصية وللتمادي في ارتكاب القبائِح والذنوب.
إنَّ الآثار الاِيجابيّة لاَصل التوبة تتّضحُ أكثر فأكثر عندما نعلم بأن الاِسلام يقيِّد قبولَ التوبة بشروطٍ خاصّةٍ ذكرَها بتفصيل أئمةُ الدّين، والمحقّقون من علماءِ الاِسلام.
إنَّ القرآن الكريم يتحدّث عن التوبة بصراحةٍ تامةٍ إذ يقول:﴿كَتَبَ رَبُّكُم عَلى نَفسهِ الرَّحمةَ أنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بجهالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(الاَنعام:54).
ثم إنّه قد ذُكرَ الاَشخاصُ الذين لا تُقبَلُ توبتهم عندَ الله سبحانه في كُتب الفِقه، والتفسير، والعقيدة فمنَ شاء راجَعَها.
الاِنسان ينال جزاء أعماله:
يَشهدُ العقلُ والنقلُ بأنّ كلَّ إنسانٍ يَرى جزاءَ عملِهِ، إنْ خيراً فخيرٌ، وإن شرّاً فشرّ.
يقول القرآنُ في هذا الصَّدد: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّةٍ خيْراً يَرَهُ﴾(الزلزلة:7).
ويقول أيضاً: ﴿وأنَّ سَعْيَهُ سَوفَ يُرى * ثُمَّ يُجزاهُ الجزاءَ الاَوفى﴾(النجم:40-41).
ويُستفاد من الآيات السابقة أنَّ أعمالَ الاِنسان القبيحة، لا تُزيل أعمالهُ الصالحة ولا تقضي عليها، ولكن يجب أنْ نعلم في نفس الوقت أنّ الذين يرتكبون بعضَ الذنوب الخاصّة كالكُفر والشرك، أو يَسلكون سبيلَ الاِرتداد سيُصابون بالحَبط، أيْ أنّ أعمالَهم الصّالِحة تُحبط وتهلَكَ، ويَلقون في الآخرة عَذاباً أبديّاً كما يَقول سبحانه:﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافرٌ فَأُوْلَئكَ حَبِطتْ أَعْمالُهُمْ في الدُّنْيا وَالآخِرةِ وَأُوْلئكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فيهَا خالدونَ﴾(البقرة:217).
ونظراً إلى ما قلناه فإنّ كلَّ إنسانٍ مؤمنٍ سيَرى ثوابَ أعماله الصّالِحَة في الآخرة خيراً كانت أو شراً، إلاّ إذا ارتدّ، أو كَفَرَ، أو أشرَكَ، فإنّ ذلك سيأتي على أعماله الصالِحَة ويقضي عليها كما دَلّ على ذلكَ الكتابُ والسُنّةُ.
وفي الختام لابُدَّ من التذكير بالنقطة التالية وهي: أَنّ اللهَ سبحانه وتعالى وإنْ وَعَدَ المؤمِنين بالثواب على أعمالِهم الصالِحة، وفي المقابل أوعد على الاَعمال السيئة، ولكن "الوعدَ" و "الوَعيد" هذين يختلف أحدُهما عن الآخر في نظر العقل لاَنّ العَملَ بالوعد أصلٌ عقليٌ، والتخلّفَ عنه قبيح، لاَنّ في التخلّف عنه تضييعاً لِحقّ الآخرين، وإن كانَ هذا الحقُ مما أوجبَهُ الواعدُ، نفسُه على نفسه، وهذا بخلاف الوعيد فهو حق للمُوعِد وله الصفح عن حقه والاِعراض عنه ولهذا لا مانعَ مِن أن تستر بعضُ الاَعمالِ الصالِحة الحسنة قباحةَ بعض الاَعمال السيئة وهو ما يُسمّى بالتكفير7.
وقد صَرَّحَ القرآنُ الكريمُ بكونِ بعضِ الاَعمال الصّالحة الحَسَنة مكفّرةً للاَعمال السَّيئة، وأحَد هذه الاَعمال هو اجتناب الشخص للذنوب الكبيرة:﴿إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائرَ ما تُنْهَونَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنكُمْ سَيِئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً﴾(النساء:31).
وكذا يكونُ لاَعمالٍ أُخرى مثل التوبة8، وصدقة السر9وغير ذلكَ مِثل هذا الاَثر.
الخلود في الجحيم خاصّ بالكفّار
إنّ الخُلودَ في عذاب جهنّم خاصّ بِالكفّار، وأمّا المؤمنون العُصاة الذين أشرقت أرواحهم بنورِ التوحيد، فطريقُ المغفرة والخروج من النار غير مسدودة عليهم كما يقولُ اللهُ تعالى:﴿إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمنَ يَشَاءُ وَمَن يُشْرِك بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً﴾(النساء:48).
إنّ الآيةَ المذكورةَ الّتي تخبرُ بِصراحة عَن إمكان المغفرة والعفو عن جميع الذنوب (ما عدا الشرك) ناظرة من دون شَكٍّ إلى أُولئك الّذين ماتُوا من دون توبة، لاَنّ جميعَ الذنوب والمعاصي حتى الشرك يشملُها العفوُ والغفرانُ إذا تابَ عنها الاِنسانُ.
وحيث إنّ هذه الآية فَرَّقت بين المشرك وغير المشرك، وَجَب أن نقول: إنّها تحكي عن إمكان مغفرةِ من ماتوا من دونِ توبة.
ومن الواضح أنّ مثلَ هذا الاِنسان إذا كان مشركاً لم يغفرِ اللهُ له، وأمّا إذا لم يكنْ مُشركاً فيمكنهُ أن يأمَل في عَفو اللهِ ويَطمع في غفرانه ولكن لا بشكلٍ قَطعيّ وحتميّ، إنما يحظى بالعفو والغفران من تعلَّقت الاِرادةُ والمشيئةُ الاِلَهيّةُ بمغفرته.
فإنّ قَيْد "لِمنْ يَشاءُ" في الآية تضعُ العُصاة والمُذنبين بين حالَتي "الخَوْف" و"الرَّجاءِ" وتحثهم على التوقّي من الخطر وهو التوبة قبلَ الموت.
ولهذا فإنّ الوَعدَ المذكور يدفع بالاِنسان على طريق التربية المستقيم، بإبعاده عن منزلَق "اليَأس" و"التجرّي".
تُعتبر شفاعة الشافعين يوم القيامة بإذن الله تعالى إحدى العقائد الاِسلاميّة المُسَلَّمة الضروريّة.
إنّ الشفاعةَ تشملُ أُولئك الذين لم يقطعوا صِلتهم بالله، وبالدين بصورةٍ كاملة، فصاروا صالحين لشمولِ الرحمةِ الاِلَهيّةِ لهم بواسطة شفاعةِ الشافعين، رغم تورُّطِهم في بعض المعاصي والذنوب.
والاِعتقادُ بالشَفاعة مأخوذٌ من القرآن الكريم والسُّنة ونشير إلى بعض تلك النصوص فيما يأتي:
أ- الشَفاعة في القرآن
إنَّ الآياتِ القرآنيّة تحكي عن أصل وجودِ الشفاعة يومَ القيامة، وتصرّح بأصل وجودِ الشفاعة وأنّها تقع بإذنِ اللهِ تعالى.
ويقول:﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَن ارْتَضَى﴾(الاَنبياء:28).
فمَنْ هُم الشُفَعاء؟
يُستَفادُ من بعض الآيات أنّ الملائكة من الشُفعاء يومَ القيامة كما يقولُ: ﴿وَكَم مِن مَّلَكٍ في السَّماواتِ لاَ تُغْنِي شَفاعتُهُم شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشاءُ وَيَرْضى﴾(النجم:26).
ويذهبُ المفسِّرون في تفسير قولِهِ تعالى: ﴿عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً﴾(الاِسراء:79), إلى أنّ المقصود مِنَ "المقام المحمود" هو مقامُ الشّفاعة الثابتُ للنبيّ الاَكرم صلى الله عليه واله وسلم.
ب- الشَفاعة في الروايات
لقد تحدّثت روايات كثيرة ورَدَت في كتبِ الحديث عن الشفاعة مضافاً إلى القُرآنِ الكريم. ونشيرُ إلى بعضِ هذه الاَحاديث:
1- يقولُ النبيُّ الاَكرمُ: "إنَّما شَفاعَتي لاََهلِ الكَبائِر مِن أُمَّتِي"1.
والظاهر أنّ عِلّة اختصاص الشفاعة بمرتكبي الكبائر من الذنوب وشمولها لهم خاصة، هو: أنّ اللهَ وَعَد في القرآنِ بصراحة بأن يغفرَ للناسِ السيئات الصغيرة إذا ما هم اجتنبوا الكبائرَ2. فبقيّة الذنوب ما عدا الكبائر تشمُلُها المغفرة، في الدنيا ومع المغفرة لا موضوع للشفاعة.
2- "أُعْطِيْتُ خَمْساً... وأُعطِيتُ الشَفاعَة، فَادّخَرْتُها لاَُمَّتي فهيَ لِمَن لا يُشْرك بِاللهِ"3.
وعلى من أراد التعرّف على غيره من شفعاء يوم القيامة كالاَئِمة المعصومين، والعلماء، وكذا المشفوع لهُمْ، أن يُراجِعَ كتبَ العقائد، والكلام، والحديث.
كما أنّه لابُدّ أن نَعلَمَ بأنّ الاِعتقاد بالشَفاعة، مثل الاِعتقاد بقبُول التوبة، يجب أن لا يوجبَ تجرُّؤَ الاَشخاص على ارتكاب الذنوب، بل يجب أن يُعَدَّ هذا الاَمر "نافذةَ أمَل" تعيدُ الاِنسانَ إلى الطريقِ الصحيحِ، لكونه يرجو العفو، فلا يكونُ كالآيسين الّذين لا يفكّرون في العودة إلى الصِراط المستقيم قط.
ومِن هذا يتضح أنّ الاَثر البارز للشفاعة هو مغفرة ذنوب بعض العُصاة والمذنبين ولا ينحصر أثَرُها في رفع درجة المؤمنين كما ذهبَ إلى ذلك بعض الفِرقُ الاِسلامية (كالمعتزلة)4.
طلب الشفاعة في الدنيا
إنّ الاعتقادَ بأصلِ الشَفاعة في يَوم القيامة (في إطار الاِذن الاِلَهيّ) كما أسلَفنا من العقائِد الاِسلاميّة الضرورية ولم يخدش فيها أحدٌ.
يبقى أنْ نرى هل يجوز أن نطلب الشفاعةَ في هذه الدنيا من الشافعين المأذون لهم في الشفاعة يوم الحساب، كالنبيّ الاَكرم صلى الله عليه واله وسلم أم لا؟
وبعبارةٍ أُخرى، هل يصحُ أن يقول الاِنسانُ: يا رسولَ الله يا وجيهاً عند الله إشفع لي عند الله؟
الجواب هو: أنّ هذا الموضوعَ كان محلَّ اتفاقٍ وإجماعٍ بين جميع المسلمين إلى القرن الثامن، ولم ينكرْه إلاّ أشخاصٌ معدودُون من منتصف القرنِ الثامن، حيث خالَفوا طلبَ الشفاعة من الشفعاء المأذون لهم، ولَم يجوّزوه في حين أنّ الآيات القرآنيّة والاَحاديث النبويّة المعتبرة، وسيرة المسلمين المستمرة تشهَدُ جميعُها بجوازه، وذلك لاَنَّ الشَفاعة هو دُعاؤهم للاَشخاص ومن الواضح أن طلبَ الدعاء من المؤمن العاديّ فضلاً عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أمرٌ جائز ومستحسَن، بلا ريب.
ولقد رَوى ابنُ عباس عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ما يُستفاد منه بوضوحٍ بأنّ شفاعة المؤمن هو دعاؤه في حق الآخرين فقد قال صلى الله عليه واله وسلم: "ما مِن رَجُلٍ مُسْلِم يَموتُ فَيَقومُ على جَنازَتِهِ أربَعون رَجُلاً لا يُشركُونَ بالله شيئاً إلاّ شفَّعهُم اللهُ فِيه"5.
ومِنَ البديهيّ والواضح أنّ شفاعة أربعين مؤمن عند الصلاة على الميّت ليس سوى دعاؤهم لذلك الميت.
ولو تَصَفَّحْنا التاريخَ الاِسلاميَّ لوَجَدنا أنّ الصَحابة كانوا يطلبون الشفاعة من النبي صلى الله عليه واله وسلم.
فها هو الترمذيّ يروي عن أنَس بن مالك أنّه قال: سألتُ النبيَّ أنْ يَشْفَعَ لي يومَ القِيامة فقال: أنا فاعل.
قلتُ: فأَينَ أطلبُك؟
فقالَ: عَلى الصّرِاطِ6.
ومع الاَخذ بِنَظَر الاِعتبار أن حقيقة الاِستشفاع ليست سوى طلب الدعاءِ من الشَفيع، يمكنُ الاِشارةُ إلى نماذج مِن هذا الاَمر في القرآن الكريم نفسِه:
1- طلبَ أبناءُ يعقوب من أبيهِم أن يستغفرَ لهم، وقد وَعَدَهم بذلك ووفى بوعده، يقول تعالى: ﴿قَالُواْ يا أبانا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ * قَال سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾(يوسف:97ـ 98).
2- يَقولُ القرآنُ الكريمُ: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً﴾(النساء:64).
3- يقولُ في شأن المنافقين: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْاْ رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِروُنَ﴾(المنافقون:5).
فإذا كانَ الاِعراضُ عن طَلَب الاِستغفار من النَبيّ الذي يَتّحدِ في حقيقته مع الاِستشفاع علامةَ النِفاق، والاِستكبار، فإنّ الاِتيان بهذا الطَلَب وممارسته يُعدّ بلاشكّ علامةُ الاِيمانِ.
وحيثُ إنّ مقصودَنا هنا هو إثبات جواز طلب الشفاعة، ومشروعيّتهِ، لذلك لا يَضرُّ موتُ الشفيعِ في هذه الآيات بالمقصود، حتى لو فُرض أنّ هذه الآيات وَرَدَت في شأنِ الاَحياء من الشُفَعاءِ لا الاَموات، لاَن طَلَبَ الشَفاعة مِنَ الاَحياء إذا لم يكن شركاً فإنّ من الطبيعي أن لا يكونَ طلبُها من الاَموات كذلك شركاً لاَنّ حياة الشَفيع وموته ليس ملاكاً للتوحيد والشرك أبداً، والاَمرُ الوحيدُ الذي هو ضروريٌ ومطلوبٌ عندَ الاِستشفاعِ بالاَرواح المقدَّسة هو قدرتُها على سماع نداءاتنا، وهو أمرٌ قد أثبتْناه في مبحث التوسُّل حيث أثبتنا هناك7 وجود مثل هذا الاِرتباط.
وهنا لابدّ أن نلتفتَ إلى نقطةٍ هامّة وهي أن استشفاعَ المؤمنين والموَحّدين من الاَنبياء والاَولياء الاِلَهيّين يختلفُ اختلافاً جَوهرياً عن استشفاع الوثنيّين من أصنامهم وأوثانهم.
فالفريقُ الاَوّل يطلبُ الشَّفاعةَ من أولياءِ الله، وهو مذعِنٌ بحقيقتين أساسيّتين:
1- إنَّ مقامَ الشفاعة مقامٌ خاصٌّ بالله، وحقٌ محضٌ له سبحانه كما قال:﴿قُل للهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً﴾(الزمر:44).
أي قل: إنّ أمر الشَفاعة كلَّه بِيَدِ اللهِ ولا يحقّ لاَحدٍ أن يشفَعَ مِن دون إذنِهِ ولن تكونَ شفاعةٌ مؤثرةً بغيره.
2- إنّ الشُّفعاء الذين يَستشفِعُ بهم الموحِّدون عبادٌ صالحون مخلصُون لله سبحانه يستجيب الله دعاءَهم لِمكانَتِهِم عندهَ وَلِقُربِ مَنزِلَتهِم منه سبحانه.
وبهذين الشرطين يفترقُ الموحِّدُون عن الوثنييّن في مسألة الاستشفاع افتراقاً أساسياً.
أوّلاً: انّ المشركين لا يرون لنفوذ شفاعتهم وتأثيرها أيَّ قيد أو شرط، وكأنّ اللهَ فَوَّضَ أمرَ الشَفاعة إلى تلك الاَصنام العَمياء الصَمّاء. في حين أنّ الموحّدين يعتبرون الشفاعة كلّها حقاً مختصاً بالله، تبعاً لما جاء في القرآن الكريم، ويُقيِّدون قبولَ شفاعة الشافعين وتأثيرها بإذن الله ورضاه وإجازته.
ثانياً: إنّ مشركي عصر الرسالة كانوا يَعتبرون أوثانهم وأصنامَهم ومعبوداتهم المختلفة أرباباً وآلهةً، وكانوا يظنّونَ سفهاً أنّ لِهذهِ الموجودات الميّتة، والجمادات سَهْماً في الرّبوبيّة، والاَُلُوهيّة، بينما لا يرى الموحّدون، الاَنبياءَ والاَئمةَ إلاّ عباداً صالحين، وهم يردّدُون في صلواتهم وتحياتهم دائماً عبارة: "عَبْدُه ورسوله" و"عباد الله الصالحين".
فانظرْ إلى الفرق الشاسِعِ، والتفاوت الواسِع بين الرؤيتين والمنطِقَين.
بِناءً على هذا فإنّ الاستدلالَ بالآيات التي تَنفي وتندّدُ باستشفاعِ المشركين من الاَصنام، على نَفي أصل طلب الشفاعة في الاِسلام، إستدلالٌ مرفُوضٌ وباطلٌ وهو من باب القياس مع الفارق.
التوبة
إنّ انفتاح بابِ التوبةِ في وجهِ العُصاة والمُذنبين والدعوة إليها من التَعاليمِ الاِسلاميّة بل مِن مقرّرات جميعِ الشرائع السَّماويّة.
فعندما يندَمُ الاِنسانُ المذنبُ من عَمَلِهِ القبيحِ نَدَماً حقيقيّاً ويملاَُ التوجّهُ إلى الله، والتضرُّع إليه فضاءَ رُوحه، فيقرّر من صميمِ قَلبه أن لا يرتكبَ ما ارتكبَ ثانيةً، قَبِل اللهُ الرحيمُ أوبتَه وتَوبته، بشروطٍ مَذكورةٍ في كتُبُ العقيدة والتفسير. يقول القرآنُ الكريمُ في هذا الصَدَد:﴿وَتُوبُواْ إِلَى اللهِ جَمِيعاً أيّها الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(النور:31).
إنّ الّذين لا يَعرفونَ الآثار التربويّة الاِيجابيّة للتوبة يتصوَّرُون أنّ فتح هذين البابين (بابِ الشفاعة وباب التوبة) في وجه العُصاة والمذنبين يشجّعهم بشكلٍ مّا على المعصية، في حين يغفل هؤلاء عن أنّ كثيراً من النّاس متورّطونَ في بعض المعاصي، وقلّما يوجَد من لم يرتكبْ ذَنباً في حياته طوال عمره.
وعلى هذا الاَساس، إذا لم يكن بابُ التوبة مفتوحاً في وَجه هؤلاء لقالَ الذين يريدون أن يغيّروا مسيرهم ويقضوا بقيَّةَ أيّام حياتِهِمْ في الطُّهْر والنَقاء مع أنفسهم: إننَّا سنَلقى "على كلّ حالٍ" جزاءَ ذُنوبنا، وندخل جهنّم فلِمَ لا نستجيبُ لِرَغباتنا؟ ولمَ لا نحقّق شهواتِنا فيما تبقّى من عُمُرنا ما دام هذا هو مصيرُنا، وهو مصيرٌ لا يَتَغيَّر قطّ ولا مفرّ منه أبداً؟.
وهكذا نكونُ بإغلاقنا بابَ التَّوبة قد فَتَحْنا في وجه النّاس بابَ اليأس والقنوط، ومَهَّدْنا للَمزيد من المعصية وللتمادي في ارتكاب القبائِح والذنوب.
إنَّ الآثار الاِيجابيّة لاَصل التوبة تتّضحُ أكثر فأكثر عندما نعلم بأن الاِسلام يقيِّد قبولَ التوبة بشروطٍ خاصّةٍ ذكرَها بتفصيل أئمةُ الدّين، والمحقّقون من علماءِ الاِسلام.
إنَّ القرآن الكريم يتحدّث عن التوبة بصراحةٍ تامةٍ إذ يقول:﴿كَتَبَ رَبُّكُم عَلى نَفسهِ الرَّحمةَ أنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بجهالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(الاَنعام:54).
ثم إنّه قد ذُكرَ الاَشخاصُ الذين لا تُقبَلُ توبتهم عندَ الله سبحانه في كُتب الفِقه، والتفسير، والعقيدة فمنَ شاء راجَعَها.
الاِنسان ينال جزاء أعماله:
يَشهدُ العقلُ والنقلُ بأنّ كلَّ إنسانٍ يَرى جزاءَ عملِهِ، إنْ خيراً فخيرٌ، وإن شرّاً فشرّ.
يقول القرآنُ في هذا الصَّدد: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّةٍ خيْراً يَرَهُ﴾(الزلزلة:7).
ويقول أيضاً: ﴿وأنَّ سَعْيَهُ سَوفَ يُرى * ثُمَّ يُجزاهُ الجزاءَ الاَوفى﴾(النجم:40-41).
ويُستفاد من الآيات السابقة أنَّ أعمالَ الاِنسان القبيحة، لا تُزيل أعمالهُ الصالحة ولا تقضي عليها، ولكن يجب أنْ نعلم في نفس الوقت أنّ الذين يرتكبون بعضَ الذنوب الخاصّة كالكُفر والشرك، أو يَسلكون سبيلَ الاِرتداد سيُصابون بالحَبط، أيْ أنّ أعمالَهم الصّالِحة تُحبط وتهلَكَ، ويَلقون في الآخرة عَذاباً أبديّاً كما يَقول سبحانه:﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافرٌ فَأُوْلَئكَ حَبِطتْ أَعْمالُهُمْ في الدُّنْيا وَالآخِرةِ وَأُوْلئكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فيهَا خالدونَ﴾(البقرة:217).
ونظراً إلى ما قلناه فإنّ كلَّ إنسانٍ مؤمنٍ سيَرى ثوابَ أعماله الصّالِحَة في الآخرة خيراً كانت أو شراً، إلاّ إذا ارتدّ، أو كَفَرَ، أو أشرَكَ، فإنّ ذلك سيأتي على أعماله الصالِحَة ويقضي عليها كما دَلّ على ذلكَ الكتابُ والسُنّةُ.
وفي الختام لابُدَّ من التذكير بالنقطة التالية وهي: أَنّ اللهَ سبحانه وتعالى وإنْ وَعَدَ المؤمِنين بالثواب على أعمالِهم الصالِحة، وفي المقابل أوعد على الاَعمال السيئة، ولكن "الوعدَ" و "الوَعيد" هذين يختلف أحدُهما عن الآخر في نظر العقل لاَنّ العَملَ بالوعد أصلٌ عقليٌ، والتخلّفَ عنه قبيح، لاَنّ في التخلّف عنه تضييعاً لِحقّ الآخرين، وإن كانَ هذا الحقُ مما أوجبَهُ الواعدُ، نفسُه على نفسه، وهذا بخلاف الوعيد فهو حق للمُوعِد وله الصفح عن حقه والاِعراض عنه ولهذا لا مانعَ مِن أن تستر بعضُ الاَعمالِ الصالِحة الحسنة قباحةَ بعض الاَعمال السيئة وهو ما يُسمّى بالتكفير7.
وقد صَرَّحَ القرآنُ الكريمُ بكونِ بعضِ الاَعمال الصّالحة الحَسَنة مكفّرةً للاَعمال السَّيئة، وأحَد هذه الاَعمال هو اجتناب الشخص للذنوب الكبيرة:﴿إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائرَ ما تُنْهَونَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنكُمْ سَيِئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً﴾(النساء:31).
وكذا يكونُ لاَعمالٍ أُخرى مثل التوبة8، وصدقة السر9وغير ذلكَ مِثل هذا الاَثر.
الخلود في الجحيم خاصّ بالكفّار
إنّ الخُلودَ في عذاب جهنّم خاصّ بِالكفّار، وأمّا المؤمنون العُصاة الذين أشرقت أرواحهم بنورِ التوحيد، فطريقُ المغفرة والخروج من النار غير مسدودة عليهم كما يقولُ اللهُ تعالى:﴿إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمنَ يَشَاءُ وَمَن يُشْرِك بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً﴾(النساء:48).
إنّ الآيةَ المذكورةَ الّتي تخبرُ بِصراحة عَن إمكان المغفرة والعفو عن جميع الذنوب (ما عدا الشرك) ناظرة من دون شَكٍّ إلى أُولئك الّذين ماتُوا من دون توبة، لاَنّ جميعَ الذنوب والمعاصي حتى الشرك يشملُها العفوُ والغفرانُ إذا تابَ عنها الاِنسانُ.
وحيث إنّ هذه الآية فَرَّقت بين المشرك وغير المشرك، وَجَب أن نقول: إنّها تحكي عن إمكان مغفرةِ من ماتوا من دونِ توبة.
ومن الواضح أنّ مثلَ هذا الاِنسان إذا كان مشركاً لم يغفرِ اللهُ له، وأمّا إذا لم يكنْ مُشركاً فيمكنهُ أن يأمَل في عَفو اللهِ ويَطمع في غفرانه ولكن لا بشكلٍ قَطعيّ وحتميّ، إنما يحظى بالعفو والغفران من تعلَّقت الاِرادةُ والمشيئةُ الاِلَهيّةُ بمغفرته.
فإنّ قَيْد "لِمنْ يَشاءُ" في الآية تضعُ العُصاة والمُذنبين بين حالَتي "الخَوْف" و"الرَّجاءِ" وتحثهم على التوقّي من الخطر وهو التوبة قبلَ الموت.
ولهذا فإنّ الوَعدَ المذكور يدفع بالاِنسان على طريق التربية المستقيم، بإبعاده عن منزلَق "اليَأس" و"التجرّي".
تعليق