رواية (مرافئ الحب السبعة) لعلي القاسمي..قراءة في العتبات ..البشير النظيفي
1
دفعا لأي التباس أقول : إن قراءتي هاته بعيدة عن أن تصنف ضمن نطاق درس أكاديمي ما ، إذ هي لاتعدو أن تكون قراءة عاشق لأقسام الرواية الثلاث ، التي تشكل في سردها الشعري الأخاذ ذكريات متفرقة عن طفولة شخصية " سليم " ـ بطل الرواية ـ وصباه وعلاقته بأسرته ، وبداية ولوجه لعالم المعرفة الذي يتوق إليه .. ثم هجرته لإتمام تعليمه الجامعي ، وارتباطه بحب ينتهي بالفقدان ، إلى آخر الأحداث التي حكاها الدكتور علي القاسمي بأرقام تؤشر على الترابط بين أقسامها الثلاث .
وانطلاقا من الأهمية التي تؤهلها السيميائية السردية للغلاف باعتباره إحدى مكونات النص ، نجد في أعلاه أن اسم مبدع الرواية كتب بلون أسود، المرتبط كما هو معلوم بالحداد والتشاؤم ..الخ . وتحته على مسافة قليلة منه تم تدوين اسم الرواية بلون أحمر، وبخط مضغوط واضح يجذب بصر القارئ إليه ، وفي وسط الغلاف حبل متين بلون أحمر أيضا ، على شكل عقد كتب داخل جوهرته القلبية جنس الكتاب [ رواية ] . ويحتمل أن يكون تركيز الأستاذ علي القاسمي على تجنيس إنتاجه الإبداعي ذاك ، يوحي بأن تملصه من ربطه بالسيرة الذاتية ، قد يومئ به إلى التقنيات السردية التي سينهجها في روايته ، وكذلك جعل المتلقي على بينة من نقطة الجذب هاته . والتعليل السابق لا يمنع من القول بأن الكاتب سيقدم لنا سيرته الذاتية في قالب روائي بديع يتداخل فيه الواقع بالخيال .
بعد هذه الإشارة ، نعود مرة أخرى إلى غلاف الرواية ، لنلاحظ أن طرفا الحبل المائل قليلا من جهة شرق الغلاف وغربه ..لم تظهر معهما اليدان الماسكتان به . إذاً ، لماذا تمَّ إخفاء اليديْن ؟ وما علاقة اليدين بحبل الموت ؟ وكذلك بغياب التحديد ؟
تلك بعض الأسئلة التي يمكن أن تتبادر إلى ذهن الماسك بالرواية. وفي محاولة مني لربط الظاهر بالباطن ، أرى أن الماسكين به جهة الشرق هم الحكام المستبدون ، وفي الغرب أعوانهم وأذنابهم المنتشرون في كل مكان .. إذ من المعلوم أن الديكتاتورية تخفي استبدادها بشعارات رنانة لها وقع خاص وسط رعيتها ، كما تتخفى هي وأذنابها عن الأنظار لأنها تعي ما تفعل ، مما جعل عقدة الحبل تبدو في ظاهرها حاملة قلب كيوبيد ، وفي باطنها عقدة حبل المشنقة ..
أما لفظة " مرافئ " في عنوان الرواية قد لا تكشف ـ في نظري ـ عن مدلولها إلا بعد قراءة وتدبر لهذا العمل الإبداعي المتميز ككل ، وذلك قصد استشراف أجوائها الزمانية والمكانية التي يوحي بها حجم الرواية ذات الغلاف الجميل ، الذي يحيل بألوانه الزاهية إلى الأجواء الفسيحة التي تدور فيها أحداثها، سواء تعلق الأمر ببعض عادات وتقاليد الحضارة العربية الإسلامية في العراق والمغرب وغيرهما من البلاد التي حدثنا فيها الراوي عن نظام تعليمها الجامعي ، وبيئتها الثقافية ، والتحولات الفكرية والسياسية التي لها علاقة بقضية فلسطين .. إلى آخر ما بقي من الأحداث المسرودة في الرواية .
أما عنوان الكتاب فالملاحظ أن كلمة " الحب " فيه ، المضافة إلى المرافئ توحي لنا بالإبهام ، خاصة ونحن نعلم أن الإضافة صنو في استكمال بعض جوانب المعنى ، وتحديده وتأكيده .. فالكلمة في وضعها ذاك تشير إلى معانيها العديدة المتمثلة في : حب الوطن ، حب الإنسان لأخيه الإنسان ، حب الأبوين ، حب المرأة ، الأهل والأحباب ..الخ . كما أن تمييز العدد سبعة مثقل بالتاريخ والرمز والتأويل والتقديس. فإلى جانب دلالته على أيام الأسبوع ، فإن له دلالات أخرى يتجلى بعضها في سجود الإنسان أثناء صلاته ، وفي شعار الإخلاص والوحدانية لديننا الإسلامي الحنيف ، وللمبشر به ، وحامل رسالته ، وأعني بذلك شهادة الوحدانية والإخلاص المؤلفة من سبع كلمات هي : [ لا إله إلا الله محمد رسول الله ] ، إضافة إلى الآيات القرآنية ، التي منها قوله تعالى في سورة البقرة } ..فسواهن سبع سماوات ..[ ، وكذلك قوله جلت قدرته في سورة الملك } ..الذي خلق سبع سماوات طباقا ..[ .
هذا إضافة إلى ما أورده الدكتور علي القاسمي عن ظاهرة التقديس التي مني بها العدد سبعة منذ حضارة سومر حين يقول :
" هذه هي السنة السابعة من عمر غربتي . نعم سبع سنين وأنا أحمل على عاتقي الواهي عبء غربتي الذي هدَّ حيلي ، أما آن الأوان لألقي هذا الحمل الثقيل من منكبي ؟ يراودني أمل سومري في أنني سأستريح في السنة السابعة ، كما كان السومريون الذين ابتكروا تقسيم الزمن والحساب ، يستريحون من العمل في اليوم السابع ، كم خلق إلههم الكون في سبعة أيام واستراح بعدها . سبعة، هذا الرقم المقدس لدى السومريين، ألا يستطيع أن يثبت قدسيته عندي ويعيدني إلى وطني ؟ فالنجوم التي قدّسها السومريون سبعة ، تماما كما ذهب العرب بعدهم إلى أن الثريا في السماء تتألَّف من الأخوات السبع ، وحتى الجفاف في زمن يوسف لم يدم أكثر من سبع سنوات ، جاء بعده الخصب والنماء ، ترى هل ينتهي جفاف روحي بعد هذه السنوات السبع من الغربة ؟ فقد أتت بقرات الغربة العجاف السبع على بقية الفرح في حشاشتي ، يا إلهي : أصلي صلاة الاستسقاء لعلَّ سحابة مرت في أعالي وطني ، تتصدَّق علي هنا ، من سماء المستحيل بقطرات تحمل مذاق الفرات وطعم الوطن . أنظر إليَّ يا ربي ، فأنا مثل سالك الصوفية المتقرب إليك ، مررت بجميع المقامات السبع ، وأنا في المقام السابع ، ألا تسبغ عليَّ شيئا من الرضا وتعيدني إلى وطني ، كما أعدت يوسف إلى أهله بعد السنة السابعة..." ص 216 ـ 217
الفقرة السابقة من هذه الرواية المتميزة ، مزدانة بالعديد من الإحالات المعرفية ذات المشارب المختلفة، والأحداث المتباينة التي تكشف مشاعر وأحاسيس شخصياتها المنبثة بين ثناياها عن افتتان مبدعها بالمعرفة، وعشقه لها، واحتفائه بها عبر عوالمه الفكرية والإبداعية، هادفا من وراء ذلك مشاركة القارئ في الكشف عن إشاراته المعرفية التي تضمَّنت الفقرة السابقة بعضا منها ، حسب ما يلي :
أولا : ـ من بين اللوامع والتلميحات التي ازدان بها النص السالف إشارته إلى السنوات العجاف التي صاحبت زمن ظهور شخصية سيدنا يوسف عليه السلام ، إذ من المعلوم أن السورة الخاصة به تضمنت فترات حياته من أولها إلى آخرها ، وهي بذلك تعتبر القصة الوحيدة الكاملة في القرآن الكريم ، التي قال عنها جلت قدرته مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم } نحن نقص عليك أحسن القصص [. يرى بعض المفسرين أن وصفها بفعل التفضيل يِؤول إلى ما احتوته من عبر ونكت وفوائد تصلح للدين والدنيا ، إضافة إلى ما اشتملت عليه من سير الحكام والعلماء ، ومكر بعض النساء ، والصبر على أذى الأعداء ، والتجاوز عنهم بعد اللقاء ، وغيرها من وقائع وأحداث قصة يوسف ، التي تبدأ برؤياه وتنتهي بتأويلها.. ولعل نهجها هذا النهج في الحكي أهَّلها لتكون القصة الوحيدة التي لم تقص حلقاتها في سور أخرى شأن قصص لوط وشعيب وغيرهما من الأنبياء والرسل عليهم السلام.
وإشارة الدكتور القاسمي لبعض معالم هذه القصة يبرزها قوله : "... وحتى الجفاف في زمن يوسف لم يدم أكثر من سبع سنوات ، جاء بعده الخصب والنماء .."
ثانيا : ـ في تضرع الراوي إلى الله عز وجل يقول مناديا : " يا إلهي أصلي صلاة الاستسقاء ..إلى قوله: تحمل مذاق الفرات وطعم الوطن "، نقول إن دعاءه لله سبحانه ، الذي أمرنا بهذه الصلاة عند القحط ليسقينا من غيثه ، تتناص وقولة الخليفة العباسي هارون الرشيد مخاطبا السحب التي عبرت سماء عاصمته دون أن تمطر بقوله : [ أمطري حيث شئت فإن خراجك سيأتيني ] ، والراوي أيضا يتمنى أن تمطره السحب في غربته بقطرات مضمخة " بمذاق الفرات وطعم الوطن " باعتبارها رحمة من الله سبحانه ، الذي تقرَّب إليه بجميع المقامات ، إلى أن استقر مقامه بالمقام السابع الذي هو مقام الرضا ..والمقام لدى الصوفية أخذوه من الآيات القرآنية التي ورد فيها بمعنى الموضع والمنزلة ، كقوله تعالى في صورة الصافات ـ آية 164 }وما منا إلا له مقام معلوم [ ، وكذلك قوله في سورة الإسراء ـ آية 79 } عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ وغيرهما من الآيات القرآنية التي ورد فيها لفظ " مقام "
والمقصود بالمقامات السبع التي هي منازل روحية يمر بها المتعبِّد الزاهد ، الراغب في التقرب من ربه سبحانه ، والصابر في التدرج الروحي فيها ، الذي يعرج به من شريف إلى أشرف ، ومن سام إلى أسمى، باعتبارها مقامات مكتسبة ، يتصف صاحبها بالصبر ، والاجتهاد في الطاعة ، ومواصلة التسامي قصد تحقيق العبودية لله سبحانه .. هذه المقامات لدى الصوفية تتجلّى حسب ما أورده عنها أبو نصر الطوسي [ت 378 ه ] في كتابه " اللمع في تاريخ التصوف الإسلامي " ص 40 ـ وما بعدها ، في: التوبة ، الورع ، الزهد ، الفقر وصفة الفقراء ، الصبر ، التوكل ، الرضا : الذي هو المقام السامي العالي والشريف الذي يوجد فيه الراوي ، قال تعالى : } ورضوان من الله أكبر [ التوبة ـ 72 ـ ..ذلك لأن رضا الله سبحانه على عباده " أكبر وأقدم من رضاهم عنه " ، ولوجود الراوي في هذا المقام تمنّى من الله عز وجل أن يسبغ عليه رحمته ، ويخفّف عنه المكاره والشدائد التي ألمّت به ، ويعيده إلى وطنه كما أعاد يوسف عليه السلام بعد سنوات السجن السبع إلى أهله ..
بعد إشارتي الموجزة للجانب المرجعي في الفقرة السابقة التي استطاع المفكّر والمبدع علي القاسمي بقدرة فنية دقيقة ، وتقنية مدهشة ، وحرفية عالية ..أن يمزج فيها بين الجانب السردي والجانب الثقافي ، حيث استكان كل منهما للآخر في هذا العمل الإبداعي الباذخ .
وفيما يتعلق ب " المرافئ السبعة "التي اتخذها عنوانا لروايته المصوغة بطريقة فنية بديعة تتجلى في تعابير شاعرية ثرة ذات إحساس حي ، وعاطفة صادقة إلى غيرها من أساليب التشويق التي أتاحت لي إبراز دلالتها فيما أحسبه قد يزيح سدول مجاهلها، وهي كالتالي :
1 : ـ عبر مناجاة داخلية للراوي يشبّه فيها لأثيرة حنينه لها بالملاح التائه يقول : "صار حنيني إليك، يا أثيرة ، ملاحا تائها يبحث عن مرافئ عينيك " ص 27 ـ أي عن إنارة منبعثة منهما تبعث في نفسه الأمن والأمان ..
2 : ـ الدار مرفأ الطفولة ، دلالته ما جاء في ص 35 ـ من الرواية التي تقول : " فسلام عليك أيتها الدار يا مرفأ الطفولة " فوجوده بها منذ صغره يشعره بالأمن والأمان ، والسكينة والاطمئنان أيضا
3 : ـ أما المرفأ الآخر الذي نعته بالعدم ، فيتجلى في قوله : " وهكذا ترحل أمه من شاطئ الحياة ، إلى مرفأ العدم ، عبر بحر الظلمات ذي الاتجاه الوحيد " ص 156
4 : ـ المرفأ باعتباره مرشدا للسفن والبواخر إلى ميناء النجاة لترسو فيه ، يبرزه لنا ـ في نظري ـ قول الراوي : " كانت أمي نقطة الضوء البعيدة التي تزن خطواتي في طريق العودة المظلم إلى وطني " ص 165 ـ نلاحظ أن الراوي حذف المرفأ ، وكنى عليه بخصائصه .
5 ،6 ،7 ـ وإذا أضفنا المرافئ الباقية لإتمام عدد سبعة إلى النسوة الثلاث اللواتي وشمن حياته ، نكون قد حصلنا على العدد المطلوب في عنوان الرواية ..يقول الراوي في ص 58 : " ستمضي حياتي موشومة بثلاث نسوة : امرأة أراد تني وأردتها ، ولكن القدر لم يردنا معا ، وامرأة أرادتني ولم أردها فكسرت قلبها، وظل ضميري مصلوبا على خيبة أملها ، وامرأة أردتها ولكنها لفظتني ، ولم أستطع نسيانها .."
بعد الذي سبق في إثبات صحة ما قصدته ، أنتقل بالقارئ الكريم إلى الصفحة الأولى من صفحات الرواية ، التي يبرز لنا السارد فيها الإطار النفسي للراوي عبر مناجاة داخلية ، ركز حديثه فيها على أبعاد الحب الروحية الملتهبة في كيانه ، انطلاقا من مسارب الشوق العابقة بشذى الوُد والمحبة ، والإخلاص ، والصفاء حين يقول :
" لو كنت أنت طرقت الباب ، لرممت حطام نفسي ، ولملمت روحي المبعثرة ، ورسمت على شفتي بسمة ، وخلعت المصاريع ، وقلعت العتبات ، وأوسعت لك المداخل والممرات ، وفرشت لك أهداب العين والجفن .
ـ لو كنا أنت طرقت الباب ، لنثرت تحت رجليك الفل والريحان ، وغسلت قدميك بحليب القبر وعسل الملكات ودموعي ، ونشفتها بالآهات وزهر الياسمين وشقائق النعمان ، وعطرتها بالعود والمسك والزعفران .
ـ لوكنت أنت طرقت الباب ، لأوقدت لك الأصابع شمعا ، وأنرت دربك إلى سويداءالقلب ودثرتك فيه ، وأشعلت لك مهجتي بخورا ، وانشغلت بك انشغال الصوفي بعبور المسالك واختراق الحجب ، إلى شواطئ أفقك الخفي البهي .
ـ لكن طيفك ، يا أثيرة ، هو الذي أطل علي في غير الأوان ، ليسخر من محاولاتي البائسة للنسيان ، ويريق شرايين الذكرى في فضاء حجرتي ، ويؤثث سريري بالحمى وأوجاع الذكريات " ص 7 ـ
فقرات النص أعلاه التي أتت جمله متلاحقة عبر وحدات نحوية وصفية ، تتضمّن معادلا موضوعيا لأشواق الراوي الذي حنَّ إلى رؤية معشوقته ، التي ناجى طيفها بكلمات تنساب نبراتها الحائرة لتترجم أشواقه وتجعل قارئها يستشعر في نفسه الأسى والحزن عليه ، عبر كل صورة نقش فيها مشاعره ، ونثرها أمامنا بلغة شعرية صادقة مليئة بالعطف والحنان ، إضافة إلى سماحة حركاتها الفعلية ، وتوثب الحياة المتوقعة بين ثناياها ..ولسان حاله يردد [ لك يا منازل في القلوب منازل ] نعم ، فللمحبوبين في قلوب المعجبين بهن منازل تفوق في أثرها عليهم منازل الأهل والأحباب ، كيف لا، وهو الذي تمثل في طيفها الذي زاره "مرسول حبه " فنثر بين يديه مشاعر نفسه المثقلة بغيوم الهموم ، التي خلفها آلام جفائها له، ولكونه وجد في طيفها الذي زاره ـ رغم أنه لا يعقل ـ ودا وصفاء ، استأنس به ، واعتبره وليا شفيعا لحبه الطاهر ، فأخذ يلقي على مسمعه عبارات الحب التي صاغها على أحسن ما يكون التصوير للعواطف الجياشة بين جوانحه ، والمتوهجة في فؤاده ..
وذلك ما نلاحظه في الفقرة الأخيرة من النص المثبت سلفا ، فالراوي يسعى عبر ندائه لها ب [ يا أثيرة ] تذكيرها به ، وبحبه العميق لها ، اعترافا منه أن الهوى لايمكن أن يموت في النفس ، مما جعله دائم الحنين إلى اليوم الذي تطرق فيه بابه ، فتبعد بفعلها ذاك شكوكه ومخاوفه على حبهما المتقد في قلبه ، متمنيا في وجدانياته تلك ، لو أنها حلت بطلعتها الجميلة فتطرق بابه بدل طيفها .. حتى لايكون حاله شبيها بحال من قال فيهم الشاعر الذي اعتبر بأن لفظ الهوى والهوان من أصل لغوي واحد ، ما يلي :
نون الهوان من الهوى مسروقة فإذا هويت ، فقد لقيت هوانا
إن الفقرات السابقة المتماسكة الخيوط التي نسجها الراوي من فؤاده ، يريد أن يكشف بها لحبيبته عن حبه وتعلقه بها ، عبر صوته الجريح ذاك ، الذي يبين فيه لهفته وحنينه ، وعطشه المحموم إليها عبر تجليات زفّها بين يدي طيفها ، وقلبه مفعم بمواكب الأحلام التي اتخذ لها بفعل الشرط وجوابه الحدث المتحرك ، الذي نمَّ تكراره عن حيرته ، فبسط لها عبره خواطره المتعددة حين قال : " لو كنت أنت طرقت الباب .. "
وعن " لو " بشكل مختصر أقول : بأن آراء النحاة ، فيما يتعلق بتفسير واضح لمعنى " لو " صح لديهم أنها حرف يدل على امتناع الثاني لامتناع الأول ، ثم أضافوا لحدها ذاك ، أنها قد تكون للتمني أيضا .. وعلى هذا فهي في مناجاة الراوي السالفة تحتمل الوجهين معا : الامتناع والتمني .
وعن " اللام " المتصلة بجواب الشرط ، فقد اعتبرها النحاة لام تأخير وقوع الجواب عن الشرط .. وعلى ذلك فإن دلالتها تفيد " التسويف "
بعد الذي حاولته في أن أستجلي بعض صور الحب والهيام فيما سبق ، أنتقل إلى جانب آخر قد يثير انتباه قارئ الرواية الممتعة بتعابيرها البديعة ، وصورها الشائقة والمؤثرة ..وأعني بذلك حنين الراوي لوطنه بعد ما فجرت الغربة براكين الحزن في نفسه التي لايستطيع لها ردا ، ليتذكر المنزل الذي أمضى فيه ذكريات طفولته الجميلة فيقول :
" رأيت بوضوح منزلنا في الدرب القديم ، والحقول تمتد أمامه حتى النهر ، وكلب الحراسة يقعى في الباب ، ويهز ذيله وقد رآني ، وإذا بباب الدار ينفتح في وجهي ، فأرى كل مكوناته : جدرانه وأبوابه ، وزجاج شبابيكه ، ثم رأيت أمي جالسة هناك على فناء الدار تحت ظل النخلة ، وبجانبها أبي ، وحولهما إخوتي الصغار ، مجتمعين على سفرة الفطور " ص 82 .
إن الحكي الذاتي الذي بنيت عليه الفقرة السابقة ، باعتباره إحدى الضمائر المتصلة بخط الرواية .. قد يبرر لي القول بأنها تتراوح بين السيرة الذاتية والرواية .
بعد هذه الإشارة الوجيزة ، التي أتمنى أن لاتكون مخلة بما قصدت ، أرى بأن الفقرة أعلاه تقوم بسرد بعض المشاهد التي تعاقبت على ذهن الراوي الذي يتذكّر لحظاتٍ من حياته الماضية ، حين كان يشارك أسرته الجلوس في فناء الدار لتناول وجبة الفطور كجزء افتقده مضطرا ..هذا الفقد يتجلى في فترة الطفولة التي عاشها في قريته ، بألعابها وأسمارها ، برائحة الحقول العطرة الممتدة أمامها ، والمنبعثة أيضا من حفيف سعف نخلها ..كما ذكّره ـــ أي الفقد ـــ بالأم الطيبة التي شملته بالحب الدافئ ، والعناية الفائقة ، والشعور بالحماية والاطمئنان ، وكذلك بالتفاني في إرضاء حاجاته الأولية ..أما الأب الذي بجانبها ذي التوجيهات السديدة ، والدروس المفيدة ، ونزهات الصيد الممتعة ..الخ ، إن كل ذلك وغيره شكل ثقافته ، وهذَّب طباعه ، وأنار مسيرة حياته الأولى ..
وعطفا على ما سبق أقول : بأن حبه لمسقط رأسه ما هو إلاجزء من مكونات حبه لبلاده " وحبه ليس إلا جزءا من حبه لأرض وطنه " ..وعلى هذا فالمفردات التي عبر فيها الراوي عن حنينه ، تعرب لنا عن وجده الراسخ فيها [ داره ـ قريته ـ وطنه ] كجزء أثرى تجربة طفولته التي أصبحت بالنسبة إليه كالوشم في ظاهر اليد ، ولسان حاله يردد :
بلد صحبت به الشبيبة والصبا ولبست ثوب العيش وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته وعليه أغصان الشباب تميد
د. علي القاسمي
تعليق