بحوثٌ في أصل العدل الإلهيِّ
==================
مفهومُ العدلِ ومَسائله العَقديَّة
================
القسم الأول في (حُسن الأشياء وقُبحها عند العقل العملي الإنساني )
================================
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله المعصومين
إنَّ أصل العدل الإلهيِّ هو ثاني أصلٌ ديني في العقيدة الإسلامية بعد أصل التوحيد الإلهي
(والمرادُ به هو تنزيه الباري تعالى عن فعل القبيح والإخلال بالواجب)
:شرح الباب الحادي عشر:العلامة المقداد السيوري(826)هجري:ص68:
وقد إختزلَ الإمام علي:عليه السلام: مفهوم العدل الإلهي في كلمة وجيزة الألفاظ دقيقة وكبيرة المعنى وهي (العدل أن لاتتهمه):نهج البلاغة:ج4:ص108:
بمعنى أنَّ إعتقادكَ بعدل الله تعالى هو أن لاتتهمه في أفعاله بظنِّكَ عدم الحكمة فيها أو بما لايليق به من نسبة القبح والظلم المنفيين عنه سبحانه
والعدلُ في حقيقته يُمثِّل شأناً وجودياً واقعيا في توحيد الله تعالى وهو حقيقةٌ من حقايق الذات الإلهيَّة المُقدَّسة .
ومن الواضح أنَّ أصل العدل هو من مُدركات العقل العملي عند الإنسان
ذلك العقل الذي يُعبّرُ عنه عند علماء الأديان والعقيدة بالحسن والقبح
ويُعبّرُ عنه عند الفلاسفة بالخير والشر
وعند علماء الأخلاق بالفضيلة والرذيلة.
والمراد من العقل العملي هوالمُدرِكُ لما ينبغي فعله وإيقاعه أو تركه وما لاينبغي فعله .
والعدلٌ هو واحدٌ من جملة مايدركه العقل العملي عند الإنسان السوي
من حيث أنَّ (العدل) أمر حسن وينبغي فعله ويستحق فاعله المدح عليه عقلاً
بخلاف الظلم فهو أمر قبيح عقلا فينبغي تركه ويستحق فاعله الذم عليه عقلاً
وقد أكّدَ العلامة الحلي (726هجري)
: وذكر أنَّ العقل الإنساني العملي هو قاضٍ وحاكم بأنَّ من الأفعال ماهو حسن كرد الوديعة والإحسان والصدق النافع وبعضها ماهو قبيح كالظلم والكذب الضار .
ولهذا حَكمَ بحسن الأشياء وقبحها وكونها من مُدركات العقل العملي حتى من نفيَّ الشرايع وأنكرها كالملاحدة وحكماء الهند: :شرح الباب الحادي عشر:العلامة السيوري:ص68:بتصرف مني:
وقد تبنَّتْ فرقة الإمامية الإثني عشرية ومعها فرقة المعتزلة (العدليَّة)
مقولة العدل الإلهيِّ وأصالته العقلانية إدراكياً.
وحكمتْ بأنَّ العقل الإنساني العملي قاضٍ وحاكم بذلك وبصورة مستقلة عن الشرع
فالحسن حسنٌ في نفسه والقبيح قبيحٌ في نفسه سواء حكمَ به الشرع ببيان صفة القبح فيه أولم يحكم
وبيَّنوا البنيوية العقلانية والمَدركية لذلك المبنى القويم
وهو أننا نعلم بالبداهة والضرورة والتي لاتحتاج إلى كسب ونظر وحتى تفكر بل بمجرد تصور مفاهيم معينة نعلم بها فنحكم بحسنها بدواً كحسن العدل وقبح الظلم وحسن إنقاذ الهلكى وقبح الكذب .
وهذه البداهة التصورية للمفاهيم والقدرة على تحديد حسنها وقبحها هي أمرٌ مركوزٌ في جبلَّة الإنسان الأوليَّة
ومع وجدانية وأوليَّة وإدراكيَّة العقل العملي الإنساني لحسن الأشياء وقبحها
إلاَّ أنَّ فرقة الأشاعرة قد جمَّدتْ فعاليَّة ودراكيَّة العقل الإنساني في تعاطيه مع المفاهيم وتصورها والحكم عليها
وتعبَّدتْ بتعبد الشرع وزعمتْ أنَّ الحسن من الأشياء ماحسنه الشرع والقبيح منها ماقبَّحه الشرع .
والأشاعرة هم فرقة إسلامية سنيَّة المذهب تنتسب إلى المتكلم أبي الحسن الأشعري (260-324 هجري قمري)
ولها مقولات غريبة في بنيتها العقدية كمقولة الجبر وجواز الرؤية والجسمنة وغيرها كثير.
ولكن ما تبنته الأشاعرة من تبعية حسن وقبح الأشياء للشرع هو تبني مردودٌ عقلاً
وقد أقامتْ مدرسة الإمامية الحقة الأدلة العقلية المتينة على بطلان ما تبنته الأشاعرة .ومنها
:1:
أنه لو كان مَدركُ حسن الأشياء وقبحها هو الشرع لاغير لَزِمَ أن لايتحققا :أي الحسن والقبح للأشياء من دون حكم الشرع في ذلك
فدعوى عدم تحقق الحسن والقبح للأشياء إدراكاً من لدن العقل العملي الإنساني من دون حكم الشرع هي باطلة أصلاً
بدليل تحقق التحسين والتقبيح للأشياء عقلاً في الخارج
والواقع البشري الموضوعي وبمعزل عن الشرع
حتى عند من لايؤمنون بالشرايع كالملاحدة وحكماء الهند قديماً
وهؤلاء قد إعتقدوا بحسن بعض الأفعال وقبح بعضها من غير توقف في ذلك على حكم ورأي الشرع والدين.
وبذلك يثبت الحق في ما قالته مدرسة الشيعة الإمامية الحقة .
وهو أنَّ الحسن والقبح للأشياء هو من مدركات العقل الإنساني عمليا.ولاتوقف فيه على حكم الشرع .
:2:
أنه لو أبطلنا قدرة العقل العملي على إدراك حسن وقبح الأشياء وبصورة مستقلة عن الشرع
لبطلَ وإنتفى التحسين والتقبيح الشرعي للأشياء
ذلك أنَّ بإنتفاء الحسن والقبح العقليين ينتفي الوثوق بحسن ما يخبرنا الشارع بحسنه وقبح ما يخبرنا بقبحه
فلا إنتفاء للتحسين والتقبيح العقليين عمليا.كون العقل وظيفةً يدرك ويتعقّل ماهو حسن وماهو قبيح سواء حكم به الشرع أو لم يحكم .
وقد ذكر علماء الكلام شاهداً على ذلك
وقالوا لو أنَّ الشرع لم يحكم بقبح الكذب والعقل أيضاً لم يحكم بقبح الكذب بناءً على مبنى الأشاعرة.
ولو أنَّ الشرع أيضا لم يحكم بقبح كذب نفسه (كمشرِّع)
فإذا إنتفى قبح الكذب منه (من الشرع) إنتفى الوثوق بحسن ما يخبرنا بحسنه وقبح ما يخبرنا بقبحه .
وقد بيّنَ العلامة الحلي (رحمه الله تعالى)
هذا الوجه بما نصه
(أنّ الحسن والقبح لوثبتا شرعاً لم يثبتا لاشرعاً ولاعقلا
وعدم ثبوتهما لاشرعا ولاعقلا باطل
ذلك أنا لو لم نعلم حسن الأشياء وقبحها عقلا لم نحكم بقبح الكذب
فجاز وقوعه حتى من الله تعالى وحاشاه عن ذلك
فإذا أُخبَرنا في شيء أنه قبيح لم نجزم بقبحه عقلا
وإذا أخبرنا في شيء أنه حسن لم نجزم بحسنه لتجويز الكذب على الله تعالى عن ذلك علواً كبيرا .
ولجوزنا أن يأمرنا بالقبيح وأن ينهانا عن الحسن لإنتفاء حكمته تعالى على هذا التقدير):كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد: العلامة الحلي:ص186:
فإذا ينتج من ذلك أنَّ التحسين والتقبيح للأشياء هو من مُدركات العقل العملي الإنساني
لا من جملة ما يتوقف حكمه على رأي الشرع توصيفا وبياناً كما ذهبتْ إليه الأشاعرة .
والسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته
مرتضى علي الحلي : النجف الأشرف :
==================
مفهومُ العدلِ ومَسائله العَقديَّة
================
القسم الأول في (حُسن الأشياء وقُبحها عند العقل العملي الإنساني )
================================
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله المعصومين
إنَّ أصل العدل الإلهيِّ هو ثاني أصلٌ ديني في العقيدة الإسلامية بعد أصل التوحيد الإلهي
(والمرادُ به هو تنزيه الباري تعالى عن فعل القبيح والإخلال بالواجب)
:شرح الباب الحادي عشر:العلامة المقداد السيوري(826)هجري:ص68:
وقد إختزلَ الإمام علي:عليه السلام: مفهوم العدل الإلهي في كلمة وجيزة الألفاظ دقيقة وكبيرة المعنى وهي (العدل أن لاتتهمه):نهج البلاغة:ج4:ص108:
بمعنى أنَّ إعتقادكَ بعدل الله تعالى هو أن لاتتهمه في أفعاله بظنِّكَ عدم الحكمة فيها أو بما لايليق به من نسبة القبح والظلم المنفيين عنه سبحانه
والعدلُ في حقيقته يُمثِّل شأناً وجودياً واقعيا في توحيد الله تعالى وهو حقيقةٌ من حقايق الذات الإلهيَّة المُقدَّسة .
ومن الواضح أنَّ أصل العدل هو من مُدركات العقل العملي عند الإنسان
ذلك العقل الذي يُعبّرُ عنه عند علماء الأديان والعقيدة بالحسن والقبح
ويُعبّرُ عنه عند الفلاسفة بالخير والشر
وعند علماء الأخلاق بالفضيلة والرذيلة.
والمراد من العقل العملي هوالمُدرِكُ لما ينبغي فعله وإيقاعه أو تركه وما لاينبغي فعله .
والعدلٌ هو واحدٌ من جملة مايدركه العقل العملي عند الإنسان السوي
من حيث أنَّ (العدل) أمر حسن وينبغي فعله ويستحق فاعله المدح عليه عقلاً
بخلاف الظلم فهو أمر قبيح عقلا فينبغي تركه ويستحق فاعله الذم عليه عقلاً
وقد أكّدَ العلامة الحلي (726هجري)
: وذكر أنَّ العقل الإنساني العملي هو قاضٍ وحاكم بأنَّ من الأفعال ماهو حسن كرد الوديعة والإحسان والصدق النافع وبعضها ماهو قبيح كالظلم والكذب الضار .
ولهذا حَكمَ بحسن الأشياء وقبحها وكونها من مُدركات العقل العملي حتى من نفيَّ الشرايع وأنكرها كالملاحدة وحكماء الهند: :شرح الباب الحادي عشر:العلامة السيوري:ص68:بتصرف مني:
وقد تبنَّتْ فرقة الإمامية الإثني عشرية ومعها فرقة المعتزلة (العدليَّة)
مقولة العدل الإلهيِّ وأصالته العقلانية إدراكياً.
وحكمتْ بأنَّ العقل الإنساني العملي قاضٍ وحاكم بذلك وبصورة مستقلة عن الشرع
فالحسن حسنٌ في نفسه والقبيح قبيحٌ في نفسه سواء حكمَ به الشرع ببيان صفة القبح فيه أولم يحكم
وبيَّنوا البنيوية العقلانية والمَدركية لذلك المبنى القويم
وهو أننا نعلم بالبداهة والضرورة والتي لاتحتاج إلى كسب ونظر وحتى تفكر بل بمجرد تصور مفاهيم معينة نعلم بها فنحكم بحسنها بدواً كحسن العدل وقبح الظلم وحسن إنقاذ الهلكى وقبح الكذب .
وهذه البداهة التصورية للمفاهيم والقدرة على تحديد حسنها وقبحها هي أمرٌ مركوزٌ في جبلَّة الإنسان الأوليَّة
ومع وجدانية وأوليَّة وإدراكيَّة العقل العملي الإنساني لحسن الأشياء وقبحها
إلاَّ أنَّ فرقة الأشاعرة قد جمَّدتْ فعاليَّة ودراكيَّة العقل الإنساني في تعاطيه مع المفاهيم وتصورها والحكم عليها
وتعبَّدتْ بتعبد الشرع وزعمتْ أنَّ الحسن من الأشياء ماحسنه الشرع والقبيح منها ماقبَّحه الشرع .
والأشاعرة هم فرقة إسلامية سنيَّة المذهب تنتسب إلى المتكلم أبي الحسن الأشعري (260-324 هجري قمري)
ولها مقولات غريبة في بنيتها العقدية كمقولة الجبر وجواز الرؤية والجسمنة وغيرها كثير.
ولكن ما تبنته الأشاعرة من تبعية حسن وقبح الأشياء للشرع هو تبني مردودٌ عقلاً
وقد أقامتْ مدرسة الإمامية الحقة الأدلة العقلية المتينة على بطلان ما تبنته الأشاعرة .ومنها
:1:
أنه لو كان مَدركُ حسن الأشياء وقبحها هو الشرع لاغير لَزِمَ أن لايتحققا :أي الحسن والقبح للأشياء من دون حكم الشرع في ذلك
فدعوى عدم تحقق الحسن والقبح للأشياء إدراكاً من لدن العقل العملي الإنساني من دون حكم الشرع هي باطلة أصلاً
بدليل تحقق التحسين والتقبيح للأشياء عقلاً في الخارج
والواقع البشري الموضوعي وبمعزل عن الشرع
حتى عند من لايؤمنون بالشرايع كالملاحدة وحكماء الهند قديماً
وهؤلاء قد إعتقدوا بحسن بعض الأفعال وقبح بعضها من غير توقف في ذلك على حكم ورأي الشرع والدين.
وبذلك يثبت الحق في ما قالته مدرسة الشيعة الإمامية الحقة .
وهو أنَّ الحسن والقبح للأشياء هو من مدركات العقل الإنساني عمليا.ولاتوقف فيه على حكم الشرع .
:2:
أنه لو أبطلنا قدرة العقل العملي على إدراك حسن وقبح الأشياء وبصورة مستقلة عن الشرع
لبطلَ وإنتفى التحسين والتقبيح الشرعي للأشياء
ذلك أنَّ بإنتفاء الحسن والقبح العقليين ينتفي الوثوق بحسن ما يخبرنا الشارع بحسنه وقبح ما يخبرنا بقبحه
فلا إنتفاء للتحسين والتقبيح العقليين عمليا.كون العقل وظيفةً يدرك ويتعقّل ماهو حسن وماهو قبيح سواء حكم به الشرع أو لم يحكم .
وقد ذكر علماء الكلام شاهداً على ذلك
وقالوا لو أنَّ الشرع لم يحكم بقبح الكذب والعقل أيضاً لم يحكم بقبح الكذب بناءً على مبنى الأشاعرة.
ولو أنَّ الشرع أيضا لم يحكم بقبح كذب نفسه (كمشرِّع)
فإذا إنتفى قبح الكذب منه (من الشرع) إنتفى الوثوق بحسن ما يخبرنا بحسنه وقبح ما يخبرنا بقبحه .
وقد بيّنَ العلامة الحلي (رحمه الله تعالى)
هذا الوجه بما نصه
(أنّ الحسن والقبح لوثبتا شرعاً لم يثبتا لاشرعاً ولاعقلا
وعدم ثبوتهما لاشرعا ولاعقلا باطل
ذلك أنا لو لم نعلم حسن الأشياء وقبحها عقلا لم نحكم بقبح الكذب
فجاز وقوعه حتى من الله تعالى وحاشاه عن ذلك
فإذا أُخبَرنا في شيء أنه قبيح لم نجزم بقبحه عقلا
وإذا أخبرنا في شيء أنه حسن لم نجزم بحسنه لتجويز الكذب على الله تعالى عن ذلك علواً كبيرا .
ولجوزنا أن يأمرنا بالقبيح وأن ينهانا عن الحسن لإنتفاء حكمته تعالى على هذا التقدير):كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد: العلامة الحلي:ص186:
فإذا ينتج من ذلك أنَّ التحسين والتقبيح للأشياء هو من مُدركات العقل العملي الإنساني
لا من جملة ما يتوقف حكمه على رأي الشرع توصيفا وبياناً كما ذهبتْ إليه الأشاعرة .
والسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته
مرتضى علي الحلي : النجف الأشرف :
تعليق