الإنغلاقُ والإنفتاحُ في الثقافة والنسبيَّة المَنطقيَّة
=========================
مُسْتَطَرٌ الثقافةِ في القرآن : السطرُ الرابع
======== ===============
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله المعصومين
إنَّ مفهومي الإنغلاق والإنفتاحِ هما من جملة المفاهيم التي عرضها القرآن الكريم منذُ اللحظات الأولى لنزوله الشريف .
وما كان ليذرَ المسلمين والمؤمنين على ماهم عليه
حتى قال اللهُ تعالى
{مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }آل عمران179
دون أن يُبيِّن لهم الموقف والخيار بصدد ما يحملهُ الآخر من مفاهيم وقيم وسلوكات وأفكار وثقافات وتمظهرات إجتماعية متنوعة قد تختلف نسبيا أو كليّا
مع ما يحمله القرآن الكريم من رؤية ثقافية كليَّة عن المجتمع الإنساني ونظامه ومفاهيمه وقيمه وظواهره.
فالإنغلاق في التعاطي الثقافي مع الآخر
هو أمر طبيعي ومعقول تفرضه نسبيّة التباين مع الآخر في مفاهيمه وقيمه ونظمه الحياتية .
وإنَّ من الطبيعي أن ينغلق أو ينقبض الإنسانُ عن كل ما لا يألفه عرفاً ولم يعهده تعاهداً تشريعيا أو تعاهداً أخلاقيا .
ولكن هذا الإنغلاق المشروع لا يحول دون الإنفتاح على الآخر طبقاً لما تفرضه نسبيَّة التساوي
والتماثل مع ما عند الآخر مطلقا .
ولو بنسبة العموم والخصوص من وجه بحسب تعبير المناطقة .
سواء أكان الإنفتاح بنحو الإقرار أو القبول أو الأخذ بثقافة الآخر .
بمعنى أنَّ الآخر الثقافي والغيري لاشكَّ أنه يملك وبحسب بشريته طباعاً وسلوكاً وقيماً ومعارفاً وعلوما وأفكاراً وغيرها .
قد تتساوى في قيمتها مع ما يحمله نظيره الإنساني كليّا
أو قد تقع تحت نسبة التماثل المُعاكس بنحو الجزئية المُنحَفِظة للطرفين
أي أنَّ الآخر الثقافي والغيري قد يتماثل ويتشابه معنا في مفاهيمه وقيمه وأنظمته في بعض ما يحمل
ويختلف معنا في بعضٍ آخر.
والإنفتاحُ ممكن أن يقع في هذا البعض الذي يحمله الآخر وهو يُماثلُ ما عندنا تماماً .
وأما البعض المُباين بيننا وبينهم فيقعُ فيه الإنغلاق
قطعاً لما للحاكميَّة التشريعية الدينية من رأي و أثر في ذلك
وهناك ثمة نقطة مهمة في ثقافة الإنغلاق والإنفتاح
وهي أنَّ المجتمع الإنساني هو أصلاً قائمٌ على نظام التدافع والإنجذاب والتنازع والتعاون والإحتياج .
وهذا النظام هو الذي يفرض نوع الإنغلاق والإنفتاح طبقا لحدوده الشرعية والمنطقية .
وبالتالي تنحفظُ قيمة التعاطي مع الآخر بإعمال ثقافة الإنغلاق والإنفتاح بنسبيّتها المنطقية والشرعية
ولو لاحظنا القرآن الكريم بدقة لوجدناه قد أخذ بنسبيّة التعاطي في صورة التساوي والعموم والخصوص من وجه منطقيا.
قال تعالى
{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }الممتحنة8
{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }المائدة5
وهذه الآية الشريفة من سورة المائدة5
تُجيز وتحل للمسلمين والمؤمنين أن يتعاطوا مع الآخر الغيري دينا وثقافة
على مستوى قبول طعامهم والمعني به هنا سائر ما ينتجه من الحبوب كالقمح وغيره
لا أنها تعني حليَّة ما لايقبل التذكية كلحم الخنازير أو ما يُذبح على غير الطريقة الإسلامية
وتجيز هذه الآية أيضاً التزوج بالكتابيات من المؤمنات العفيفات والشريفات
وتحذر من التعاطي اللا مشروع مع الآخر
كإقامة العلاقة السرية والخدنية وممارسة الجنس بصورة غير مقبولة شرعا .
ومن ثمَّ أنَّ القرآن الكريم قد دعا الآخر إلى الإنفتاح أيضاً على غيره الثقافي وبنسبيّة وشرعيّة المشتركات الجامعة للطرفين
قال تعالى
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }آل عمران64
وقد حذّرّ القرآن الكريم من نسبيّة التباين الكلي في التعاطي مع الآخر
قال تعالى
{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }الممتحنة9
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ }الممتحنة1
{ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً }الكهف28
وتوجد أيضاً ثمة نصوص قرآنية قد جمعتْ بين ثقافة الإنغلاق والإنفتاح مع الآخر تأسيساً وإرشاداً
منها
قوله تعالى
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ }المائدة82
وهذه الآية الشريفة قد بيّنتْ مصاديق الآخر الغيري ديناً وثقافة
وأرشدتْ إلى التعاطي معه بحذر وحياطة كما هو الحال مع اليهود وعللتْ ذلك بكونهم يُظهرون العداء للإسلام دوما
بينما أرشدت الآية الشريفة وبمرونة ووسطية وإعتدال
إلى إمكان التعاطي مع النصارى وخاصة الملتزمين منهم والمُظهرين المودةَ للإسلام والذين يقبلون التقارب ولا يستكبرون .
إذاً إنَّ مفهومي الإنغلاق والإنفتاح في التعاطي الثقافي مع الآخر
هما قد لُوحِظا تشريعيا في القرآن الكريم وفقَ مقاييس المصلحة والمفسدة المُنحفظة في الأحكام الشرعية .
والمُستظهرُ من حد التعاطي الثقافي مع الآخر
هو نسبيّة التساوي والعموم والخصوص من وجه
ولكن يبقى ثمة تساؤل مهم وهو
أنَّ نظام العولمة والحداثة والحداثوية والرقمنة وتنميطاتها المُعاصرة
بدأ يخترق حاجز المُغلق وفتحَ كل شيء على مصارعه
وهمّشَ الزمان والمكان وقرّب بين بني الإنسان .
فكيف يمكن منهجة التعاطي الثقافي مع هذا الإختراق الهائل والخطير ؟
الجواب
=====
لنعلمَ أولاً أنَّ مع هذا الكم الهائل والسريع لنتاج الحداثة والحضارة المعاصرة
وما فتحه العلم وبتقنياته الجديدة والتي أصبحت تحت متناول اليد
يبقى الإنسانُ مُختاراً ومُستقلاً في خياراته رغم محاولة العولمة لتمنيط الإنسان المعاصر بنمط واحد ثفافيا وحياتيا .
ومع إنحفاظ الإختيار عند الإنسان يبقى الأمر بيده إنغلاقاً أو إنفتاحا
ومن وراءه التشريع الديني في منزعه الإسلامي والذي عنده من القدرة على إخضاع المتغيِّر للثابت
مما يمكِّنه من تجهيز الحكم له فقهيا
هذا وهناك ثمة مساحة كبيرة قد حسب حسابها الشارع الإسلامي في ما يتعلق بالإنسان من تكاليف أو أحكام
وهي المُباحات والتي ترك الشرعُ فيها الخيار للإنسان المُكلّف
فليس للشارع في قبالها أي خصوصية في الترك أو الفعل في حد التساوي .
مما ينتج سعةً وأفقاً أكبر في التعاطي مع ما هو مُباح في وقته وأعني المعاصرة في يومنا هذا
وبهذا يكون الشارع قد أسس لأصالة الإباحة عقلا في الأشياء التي يُشكُ في حكمها الواقعي
وبشرط عدم ورود ما ينافي هذا الأصل العقلي من قبل الشارع الإسلامي .
ولايخفى علينا أنَّ الشارع الإسلامي قد أمضى السلوك العقلائي المُرتكز على نكات صحيحة ونوعية ممكن إمضائها شرعاً
إن لم نقل بحجية السيرة العقلائية ذاتيا كالقطع .
مما يُسهل أيضا نسبيّة التعاطي الثقافي مع كل ما يُطرح في ألوانه المعاصرة .
ليتفق في النهاية مع رأي الشريعة ظاهراً وعملياً
وهناك ثمة تخريجات عقلية وشرعية ومنطقية لشرعنة ورسمنة التعاطي الثقافي مع المُنتَج الحداثي
نتركها إختصارا
والسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته
مرتضى علي الحلي : النجف الأشرف :
=========================
مُسْتَطَرٌ الثقافةِ في القرآن : السطرُ الرابع
======== ===============
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله المعصومين
إنَّ مفهومي الإنغلاق والإنفتاحِ هما من جملة المفاهيم التي عرضها القرآن الكريم منذُ اللحظات الأولى لنزوله الشريف .
وما كان ليذرَ المسلمين والمؤمنين على ماهم عليه
حتى قال اللهُ تعالى
{مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }آل عمران179
دون أن يُبيِّن لهم الموقف والخيار بصدد ما يحملهُ الآخر من مفاهيم وقيم وسلوكات وأفكار وثقافات وتمظهرات إجتماعية متنوعة قد تختلف نسبيا أو كليّا
مع ما يحمله القرآن الكريم من رؤية ثقافية كليَّة عن المجتمع الإنساني ونظامه ومفاهيمه وقيمه وظواهره.
فالإنغلاق في التعاطي الثقافي مع الآخر
هو أمر طبيعي ومعقول تفرضه نسبيّة التباين مع الآخر في مفاهيمه وقيمه ونظمه الحياتية .
وإنَّ من الطبيعي أن ينغلق أو ينقبض الإنسانُ عن كل ما لا يألفه عرفاً ولم يعهده تعاهداً تشريعيا أو تعاهداً أخلاقيا .
ولكن هذا الإنغلاق المشروع لا يحول دون الإنفتاح على الآخر طبقاً لما تفرضه نسبيَّة التساوي
والتماثل مع ما عند الآخر مطلقا .
ولو بنسبة العموم والخصوص من وجه بحسب تعبير المناطقة .
سواء أكان الإنفتاح بنحو الإقرار أو القبول أو الأخذ بثقافة الآخر .
بمعنى أنَّ الآخر الثقافي والغيري لاشكَّ أنه يملك وبحسب بشريته طباعاً وسلوكاً وقيماً ومعارفاً وعلوما وأفكاراً وغيرها .
قد تتساوى في قيمتها مع ما يحمله نظيره الإنساني كليّا
أو قد تقع تحت نسبة التماثل المُعاكس بنحو الجزئية المُنحَفِظة للطرفين
أي أنَّ الآخر الثقافي والغيري قد يتماثل ويتشابه معنا في مفاهيمه وقيمه وأنظمته في بعض ما يحمل
ويختلف معنا في بعضٍ آخر.
والإنفتاحُ ممكن أن يقع في هذا البعض الذي يحمله الآخر وهو يُماثلُ ما عندنا تماماً .
وأما البعض المُباين بيننا وبينهم فيقعُ فيه الإنغلاق
قطعاً لما للحاكميَّة التشريعية الدينية من رأي و أثر في ذلك
وهناك ثمة نقطة مهمة في ثقافة الإنغلاق والإنفتاح
وهي أنَّ المجتمع الإنساني هو أصلاً قائمٌ على نظام التدافع والإنجذاب والتنازع والتعاون والإحتياج .
وهذا النظام هو الذي يفرض نوع الإنغلاق والإنفتاح طبقا لحدوده الشرعية والمنطقية .
وبالتالي تنحفظُ قيمة التعاطي مع الآخر بإعمال ثقافة الإنغلاق والإنفتاح بنسبيّتها المنطقية والشرعية
ولو لاحظنا القرآن الكريم بدقة لوجدناه قد أخذ بنسبيّة التعاطي في صورة التساوي والعموم والخصوص من وجه منطقيا.
قال تعالى
{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }الممتحنة8
{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }المائدة5
وهذه الآية الشريفة من سورة المائدة5
تُجيز وتحل للمسلمين والمؤمنين أن يتعاطوا مع الآخر الغيري دينا وثقافة
على مستوى قبول طعامهم والمعني به هنا سائر ما ينتجه من الحبوب كالقمح وغيره
لا أنها تعني حليَّة ما لايقبل التذكية كلحم الخنازير أو ما يُذبح على غير الطريقة الإسلامية
وتجيز هذه الآية أيضاً التزوج بالكتابيات من المؤمنات العفيفات والشريفات
وتحذر من التعاطي اللا مشروع مع الآخر
كإقامة العلاقة السرية والخدنية وممارسة الجنس بصورة غير مقبولة شرعا .
ومن ثمَّ أنَّ القرآن الكريم قد دعا الآخر إلى الإنفتاح أيضاً على غيره الثقافي وبنسبيّة وشرعيّة المشتركات الجامعة للطرفين
قال تعالى
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }آل عمران64
وقد حذّرّ القرآن الكريم من نسبيّة التباين الكلي في التعاطي مع الآخر
قال تعالى
{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }الممتحنة9
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ }الممتحنة1
{ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً }الكهف28
وتوجد أيضاً ثمة نصوص قرآنية قد جمعتْ بين ثقافة الإنغلاق والإنفتاح مع الآخر تأسيساً وإرشاداً
منها
قوله تعالى
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ }المائدة82
وهذه الآية الشريفة قد بيّنتْ مصاديق الآخر الغيري ديناً وثقافة
وأرشدتْ إلى التعاطي معه بحذر وحياطة كما هو الحال مع اليهود وعللتْ ذلك بكونهم يُظهرون العداء للإسلام دوما
بينما أرشدت الآية الشريفة وبمرونة ووسطية وإعتدال
إلى إمكان التعاطي مع النصارى وخاصة الملتزمين منهم والمُظهرين المودةَ للإسلام والذين يقبلون التقارب ولا يستكبرون .
إذاً إنَّ مفهومي الإنغلاق والإنفتاح في التعاطي الثقافي مع الآخر
هما قد لُوحِظا تشريعيا في القرآن الكريم وفقَ مقاييس المصلحة والمفسدة المُنحفظة في الأحكام الشرعية .
والمُستظهرُ من حد التعاطي الثقافي مع الآخر
هو نسبيّة التساوي والعموم والخصوص من وجه
ولكن يبقى ثمة تساؤل مهم وهو
أنَّ نظام العولمة والحداثة والحداثوية والرقمنة وتنميطاتها المُعاصرة
بدأ يخترق حاجز المُغلق وفتحَ كل شيء على مصارعه
وهمّشَ الزمان والمكان وقرّب بين بني الإنسان .
فكيف يمكن منهجة التعاطي الثقافي مع هذا الإختراق الهائل والخطير ؟
الجواب
=====
لنعلمَ أولاً أنَّ مع هذا الكم الهائل والسريع لنتاج الحداثة والحضارة المعاصرة
وما فتحه العلم وبتقنياته الجديدة والتي أصبحت تحت متناول اليد
يبقى الإنسانُ مُختاراً ومُستقلاً في خياراته رغم محاولة العولمة لتمنيط الإنسان المعاصر بنمط واحد ثفافيا وحياتيا .
ومع إنحفاظ الإختيار عند الإنسان يبقى الأمر بيده إنغلاقاً أو إنفتاحا
ومن وراءه التشريع الديني في منزعه الإسلامي والذي عنده من القدرة على إخضاع المتغيِّر للثابت
مما يمكِّنه من تجهيز الحكم له فقهيا
هذا وهناك ثمة مساحة كبيرة قد حسب حسابها الشارع الإسلامي في ما يتعلق بالإنسان من تكاليف أو أحكام
وهي المُباحات والتي ترك الشرعُ فيها الخيار للإنسان المُكلّف
فليس للشارع في قبالها أي خصوصية في الترك أو الفعل في حد التساوي .
مما ينتج سعةً وأفقاً أكبر في التعاطي مع ما هو مُباح في وقته وأعني المعاصرة في يومنا هذا
وبهذا يكون الشارع قد أسس لأصالة الإباحة عقلا في الأشياء التي يُشكُ في حكمها الواقعي
وبشرط عدم ورود ما ينافي هذا الأصل العقلي من قبل الشارع الإسلامي .
ولايخفى علينا أنَّ الشارع الإسلامي قد أمضى السلوك العقلائي المُرتكز على نكات صحيحة ونوعية ممكن إمضائها شرعاً
إن لم نقل بحجية السيرة العقلائية ذاتيا كالقطع .
مما يُسهل أيضا نسبيّة التعاطي الثقافي مع كل ما يُطرح في ألوانه المعاصرة .
ليتفق في النهاية مع رأي الشريعة ظاهراً وعملياً
وهناك ثمة تخريجات عقلية وشرعية ومنطقية لشرعنة ورسمنة التعاطي الثقافي مع المُنتَج الحداثي
نتركها إختصارا
والسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته
مرتضى علي الحلي : النجف الأشرف :
تعليق