الحَظْرُ وإشكاليَّة الإباحة في الحَراكِ الثقافي المُعاصِر
================== ========
مُسْتَطَرٌ الثقافةِ في القرآن : السطرُ السادس
======================
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله المعصومين
إنَّ من المفاهيم التي كثُرَ فيها الجدل الثقافي في وقتنا المُعاصر
هما مفهومي الحَظر والإباحة خاصة بعد ما ظهرت على أرض الواقع ثمةَ أنماط ثقافية
آيديولوجية وسياسية ومنها الليبرالية الحديثة .
والتي دعتْ إلى الإباحة و التحرر من مفهومي الحظر والمُقدّس ثقافيا.
لتصطدم بصخرة الدين والأخلاق المَحوطة بحدود الحظر والمنع المعيَّن .
ومفهوم الحَظر هو خلاف الإباحة وهو يعني المنع من أشياء محددة .
وفي الرؤية الدينية يعني المُحرّم من الأشياء شرعيا
وأما مفهوم الإباحة فهو خلاف الحظر ويعني رفع اليد عن كل محظور وإستباحته والتجاهر به وإظهاره عند الليبراليين .
وأما معناها في المفهوم الديني فهو قريبٌ من تحليل المحرمات والممنوعات الدينية .
وإنما ظهرَ مفهوم الحظر في الرؤية الدينية أو ما يُردافه من المُحرمات
لا من أجل كبح حق الفرد الإنساني في إشباع حاجاته ورغباته البشرية على مستوى ممارسة الجنس أو الطعام والشراب أو أي معاملة أو سلوك آخر.
وإنما جاء ذلك المنع والحظر الديني للسلوك المخصوص
إقراراً للحق الخاص والعام للفرد وضماناً لعدم التعدي عليه في حال عدم رغبته بالإباحة
أوإيمانه بالحظر.
وحفظاً للنظام المدني والإجتماعي العام وضبطاً لمساراته في الأمن والأمان .
بخلاف نمط الليبرالية التنويرية والثقافية الحديثة والتي تعمل على منح الفرد حريات مطلقة على مستوى الفكر والسلوك ولاتأبه بالممنوع الديني أو حتى الأخلاقي أبدا
لذا ظهرتْ عندهم الإباحيَّة الجنسية والمشاعية والمثليَّة والسحاق ووو.......والعياذ بالله تعالى
حتى أنهم قننوا هذه الحريات الإباحية في دساتيرهم رسميا ووظفوا لها مؤسسات وفضائيات خاصة تشتغل على إباحة المحظور وهتكه .
ولا أُريد أن أتحدث بلغة الأرقام بقدر ما أهدف إلى التحليل المفاهيمي والموضوعي
للجدل القائم بين الحظر والإباحة في حراكه الثقافي المُعاصِر .
من المعلوم أنَّ العقل العملي الإنساني والنوعي هو يُدرك تماماً مفهوم الحظر والإباحة وآثارهما وشؤوناتهما
ويقدر على إعمال خياره في ذلك فضلاً عن بيان الحكم وآثاره.
فلا أحد يستطيع أن ينكر أنَّ الإغتصاب الجنسي هو نوع ظلم عملي للآخر.
حتى أنَّ نظام الليبرالية الحديثة هو نفسه قد جعل الإغتصاب الجنسي جريمة يُعاقبُ عليها القانون الوضعي .
ولكن مع رسمنة الإباحة المشاعية وثقافة خرق حريم المحظور فالأمر يختلف عندهم مفهوميا
هم يُفسرون الإباحيَّة وممارسة الحريات بالحقوق الخاصة بالأفراد حصراً.
وفي الواقع هذا الفهم الثقافي لمفهوم الحق الخاص
هو فهم مغلوط بل هو الظلم والتعدي بعينه
وفي حال مارس الشاب عندهم حريته الخاصة على مستوى سلوكه الجنسي الإباحي
فهو في الواقع يكون قد تعدى على غيره وإن كان الآخر يقبل الإباحة تطبيقاً.
لأنَّ للآخر من أول الجعل الطبيعي والتكويني حقوقاً لايحق لأي أحد إختراقها بالمعنى الديني أو القانوني
ذلك لما في إسقاط الحق وقبول الإباحة وإختراق المحظور
من إيجاد للمفسدة النوعية والإجتماعية والأخلاقية والدينية في نظام التعايش البشري .
نعم إنَّ الحق مفهوما وتطبيقا ممكن أن يقبل الإسقاط الإجرائي في حدود مساحة المُباح الديني والوضعي الصحيح عقلائيا
كما هو الحال في إمكان إسقاط الزوجة لحقوقها الخاصة أو منحها لزوجها الشرعي .
أو إسقاط أي فردٍ لحقوقه ضمن المباح الشرعي
إذ إنَّ ثقافة ممارسة الحق الخاص هي مشروطة بعدم التعدي والتجاوز على حق الآخر وشؤوناته الطبيعية .
من هنا تكون ثقافة الإباحة الجنسية
هي ثقافة عدوانية غاصبة ومتعدية على الآخرين
فضلاً عن كونها تمثل هتكاً أخلاقيا للأعراض وسمات الشرف والعفة .
وواضح أنَّ ثقافة الإباحيّة الجنسية في المنظومة الليبرالية الحديثة
هي تعني رفع الحظر عن ممارسة الجنس أوعن مفهوم الزنى بالمعني الأخلاقي والديني.
لتبيحه مُطلقا برضا الآخر أو بكراهته
في وقتٍ يرى النظام الديني والأخلاقي أنَّ الإباحية الجنسية هي أمرٌ مُستقبح عقلاً ومُستبشع فعلاً
حتى سماه بالفاحشة ليعطي مفاداً دلالياً وأخلاقيا قيِّماً
بأنَّ الفحش من الأفعال هو ما جاوزَ الحقّ وقدره بل هو العدوان بعينه
ولو لاحظنا القرآن الكريم لوجدناه سبق الكل في روعة مقاييسه الدينية والأخلاقية والحقوقية والقيميَّة
وليسم ِ الإباحية الجنسية
ب ( الزنى أو اللواط والمثلية و........) حاشاكم بالفاحشة والسوء
قال تعالى
{وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ }العنكبوت28
إنظر في دقة التعبير القرآني الرائع
((مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ ))
بمعنى أنَّ الإشتهاء الجنسي لنفس النوع البشري كما حصل في قوم لوط هو سلوكٌ دخيلٌ وأجنبي عن الفطرة وطبيعة الإجتماع الإنساني .
بخلاف ما يذهب إليه الليبراليون الجدد وهو أنَّ للفرد حق إعمال لذاته الجنسية وإشباعها من أي جهة كانت ليمسخون بذلك الفهم الشاذ كرامة وقدر هذا الإنسان القويم
{وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ }النمل54
{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ }الأعراف81
وهنا يصف القرآن الكريم إرتكاب الفاحشة بالتجاوز والتعدي والإسراف على حد المحظور الديني والأخلاقي .
{أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ }النمل55
وهنا أيضاً يسم القرآن ذلك الفحش الفعلي بالجهل بخطره وأثره وتهتكه ومفسدته .
{وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً }الإسراء32
{ َّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ }النساء25
{وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً }النساء15
ويظهر من هذه الآية أنها خاصة بفاحشة السحاق
حتى أنَّ القرآن الكريم قد سمَّ قذف الآخر بالزنى فاحشة
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }النور19
والمُلفِتُ للنظر الدقيق والعميق أنَّ القرآن الكريم قد قنن قوانين التعاطي مع ظاهرة الإباحة الجنسية على مستوى الظهور والخفاء
ومنع من الإقتراب من ذلك حتى لو شاعت الفاحشة والإباحية الجنسية وأُستُسهلتْ تطبيقا وخرقا.
كما هو اليوم في نظام العولمة والحداثة والتقنيات المتطورة
والتي أباحت المحظور الديني والأخلاقي قهراً
لابل حتى لو تخفّت وتبطنت في المجتمع
قال تعالى
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ }
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقَِّ }الأعراف33
{وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ }الأنعام120
وعلى رأس تلك الفواحش الزنى واللواط والمساحقة وكل الرذائل السلوكية المحرمة دينيا .
إنَّ الإنسان المُنصف والمبدئي إذا ما بحث عن الحق نفسه فسيعرفه حتماً
لما مشهور من أنَّ معرفة مفهوم الحق تتجلى بمعرفة نفس الحق لا بدعاته أو حملته
ومفهوم الحق بكل ألوانه الثقافية والفكرية والنفسية والسلوكية والحياتية عامة
هو قانونٌ مُنحفظ لصاحبه في النظام الديني والأخلاقي
وقد ورد ذكره في القرآن الكريم بكثرة وبعدد 176مرة.
قال تعالى
{فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ }يونس32
{ُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ }الأعراف43
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً }النساء170
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ }يونس108
{وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً }الكهف29
وإذا ما وجدَ دينٌ يُقدِّس الحقوق في مفهومها وتطبيقها فهو دين الإسلام العزيز
وكشاهد على محل البحث وخطورة ثقافة إختراق الحق الخاص والعام وإباحته
أنَّ الشرع الإسلامي في مسألة الإباحة الجنسية وممارستها سنَّ أحكاماً رادعة ومنتجة فرديا ومُجتمعيا
ففي صورة تحقق عنوان الزنى بين فردين تترتب أحكام خاصة عليهم
كإقامة الحد والجلد والعقوبة ويصل الحكم إلى حد القتل في بعض الصور
كما في الزنى بذات البعل(الزوج) واللواط
ومنع الشرع أبن الزنا من الأرث
وحرمه من التصدي لأمورٍ إشترطَ فيها طهارة المولد وغيرها من الأحكام الخاصة
إذاً على أساس ما تقدّم ينبغي فهم ثقافة ممارسة الحق بصورة صحيحة أخلاقياً وعقلائياً ودينيا
بحيث لايستوجب ذلك الإعمال للحق وتطبيقة أي مفسدة شخصية أو نوعية تمس نظام الفطرة والطبيعة والتعايش البشري.
وما يُشاع من التجاهر بثقافة الإباحة للأشياء المحظورة
هو في الواقع تعدي وظلم للآخرين في حقوقهم المُنحفظة لهم تكوينيا.
فليس من حق الفرد إباحة جسده كما يشتغل على ذلك الليبراليون والشاذون جنسياً
كون الإنسان فعلاً لايملك حق الإضرار بنفسه وجسده .
لذا مُنِعَ الإنتحار وقتل النفس شرعاً وقانوناً
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مرتضى علي الحلي : النجف الأشرف
تعليق