إبستيمولوجيا الثقافة وشروطها الضرورية
=======================
مُستطرُ الثقافةِ في القرآن :السطرُ السابع
=====================
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله المعصومين
إنَّ لكل نسقٍ وجودي أو معرفي مُكونات يتكون منها على مستوى ماهيته ومفهومه
لكي تُلحظ حقيقة هذا التكون في الوجود الخارجي بآثار ومُعطيات واقعية.
ومن هذه الأنساق الوجودية والمعرفية هي الثقافة الإنسانية
والتي يجب أن تتوفر على إبستيمولوجيا
( Epistemology) وبالعربي (نظرية المعرفة) الخاصة بها .
وإبستيمولوجيا الثقافة :
تُعنى بنظرية تكون الثقافة ومعرفيتها وطبيعتها وموضوعها وغايتها .
والإبستيمولوجيا هي شرطُ ضروري لإظهار الثقافة بلونها القويم تكوناً وعطاءً.
وإنَّ من أهم ما تشترطه الإبستيمولوجيا في نظرية المعرفة الثقافية
هي شروط محورية متعددة رئيسة وثانوية
والذي يهمنا في محل البحث هو الشروط الإبستيمولوجية الرئيسة والمحورية والفاعلة في تكون الثقافة الإنسانية السليمة وصيرورتها ونتيجها .
وهي
:1: الشرط الأول
========
: اللغة :
ونعني بها عندنا اللغة العربية
ذلك كون التكوين الصحيح للثقافة ومقتضى الإبستيمولوجيا يتطلب معرفة اللغة العربية والتي هي أداة الإفهام والتفهيم .
وواضحٌ أنَّ أهميّة اللغة العربية بالنسبة للإنسان المسلم والمؤمن
إنما تأتتْ من كونها لغة القرآن الكريم والذي يُعتبر الأصل المعرفي الأول في منظومة الثقافة الإسلامية .
والقرآن الكريم قد أشار ضمناً إلى هذا الشرط المعرفي الإبستيمولوجي في سورة الرحمن
قال تعالى
الرَّحْمَنُ{1} عَلَّمَ الْقُرْآنَ{2} خَلَقَ الْإِنسَانَ{3} عَلَّمَهُ الْبَيَانَ{4}
وهنا نسجلُُّ الملحظ الواعي والدقيق والعميق في صياغة هذا النص القرآني الشريف
وهو أنَّ من نعم اللهِ تعالى الرحمن على مُطلق الإنسان بأن منحه أصلاً معرفيا قويما
ألا وهو القرآن الكريم وعلّمه إياه من خلال الوحي الإلهي لنبيه محمد: صلى اللهُ عليه وآله وسلّم :
ليرشده بهذا المعنى إلى القدر الكبير والعظيم لهذا الأصل المعرفي الأول (القرآن الكريم)
وليضعه في ضرورة أن يعِ أنَّ إقتران الخلق بالعلم يجب أن لاينفك أبدا
لما للعلم من فاعليّة في حفظ حياة الإنسان وتطويرها وتحقيق وإشباع الحاجات .
قال القرآن الكريم
خَلَقَ الْإِنسَانَ{3} عَلَّمَهُ الْبَيَانَ{4}
وهذا هو الشرط المعرفي الإبستيمولوجي الرئيس في تكوين الثقافة الإنسانية
فقوله تعالى
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ{4}
يحكي عن أنَّ اللهَ تعالى قد منح الإنسان في وجوده القدرة والتي تتمثل في اللغة ليفصح ويعرب عما في ذاته وعقله وفكره وقصده
وليصوغ بها ثقافته بصورة منتجة وقويمة
وهذه الآية الشريفة تعطي ظهوراً أوليا
بأنَّ الإنسان بلغته ممكن له أن يتبين الأشياء من داخله
أو يتبيّنها من الخارج من خلال النظر في الوجود والواقع والنصوص وخاصة القرآن الكريم
وهذا التعالق الإبستيمولوجي بين النص القرآني واللغة الذي أفصح عنه القرآن الكريم
يرسم لنا منهج معرفة القرآن الكريم وذلك من خلال معرفة لغته وهي العربية الفصحى
والتي تُسهم بقدر كبير وفاعل في تكوين ثقافة الإنسان المؤمن .
ومعلومٌ أنَّ بُنيَّة اللغة العربية تتشكل من ألفاظ مُستعملة طبقَ السليقة العربية آنذاك
ولها معانٍ وفيها إشتراك وترادف وحقيقة ومجاز وكناية وتصريح وفيها الكثير.
وتتوسم اللغة العربية في عليائها المعرفية
بالفصاحة والبلاغة والقدرة على إيصال المطلوب إلى المتلقي .
من هنا يتوجب على الإنسان المسلم والمثقف أن يدرك بُنيوية اللغة العربية وخاصة في بصمتها القرآنية الشريفة .
لما توفرتْ عليه لغة القرآن الكريم من حقايق ومجازات وكنايات ومحكمات ومتشابهات وغيرها كثير.
حتى برز المجاز ( وهو إستعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة ما)
فيها مَعلماً كبيراً في صياغة النص القرآني
مما يفتح لنا آفاق من المعرفة والثقافة والعلوم والأداب والمرادات الهادفة المؤسسة منها والمَحكيّة.
كما قال الشوكاني في حديثه المتصل بكثرة وقوع المجاز في القرآن الكريم
( وقوعاً كثيراً بحيث لايخفى إلاّ على من لايفرِّق بين الحقيقة والمجاز)
:إرشاد الفحول : الشوكاني:ص23:
إنَّ إستعمال القرآن الكريم لمَعلم المجاز العربي في بنية اللغة
يُسهم وبقوة في تكوين وتنضيج العلاقة المعرفية والمحورية الإبستيمولوجية بين اللغة المجازية
والعقل الإنساني .
وهذا الإسلوب القرآني القويم هو الراسم لأنساق الدلالات المنتجة والمتعددة والإنزياحية والإستيعابية .
فالعقل هو الذي يُفكك شفرة العلقة بين المعنى الحقيقي للألفاظ والإستعمال المجازي فيها .
لهذا قرر علماء البيان العربي أنَّ
( الفصاحة تُدرَك بالعقل لا السمع )
:دلائل الإعجاز: الجرجاني:ص311.
والفصاحة هي الإبانة والظهور والإجادة في صياغة اللغة الثقافية
بصورة تخلو من مخالفة النسق السماعي أو القياسي لأصل اللغة العربية
إذاً على أساس شرطية اللغة في أبستيمولوجيا المعرفة الثقافية
يتبيّن أنَّ الإنسان المؤمن والمُثقف لابد له من أن يجذِّر لغته العربية الفصحى في صياغة ثقافته الصحيحة
والتي تنهل من مَعين القرآن الكريم ورويه الحكيم.
ولابد له من تمتين العلاقة بين لغته وعقله وتنميطها ثقافياً
كي يتمكن من تجاوز المعوقات والتضادات بين اللغة والعقل خاصة في تكوين العقيدة الدينية .
ولايخفى على اللبيب من أنَّ القرآن الكريم كما ذكرنا
قد زودَ الإنسان بتقنية لغوية هائلة كماً ونوعاً وهي اللغة العربية الأصل.
لتكون له بياناً يكشف عن مكنوناته ويستكشف بها خفايا النصوص ودلالاتها الإجتيازية .
:2: الشرط الثاني
=========
العِلم :
===
وهذا الشرط قد إقترن بنزول الوحي الإلهي بدواً وتاسيساً
قال تعالى
في سورة العلق
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{1}
خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ{2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ{3}
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ{4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{5}
العلمُ هو ذلك النسق الوجودي والحياتي الذي لاتجد مؤمنا أو مُلحداً إلاّ وآمن به كونه السبيل الكاشف عن المطلوب والمجهول في حَراك الكسب والتعلم .
ومالم يتوفر العلمُ عند الإنسان لن تتكون عنده الثقافة الكاملة والفاعلة أبداً .
لما للعلم من تأثيرٍ أساسي في قراءة الوجود الواقعي والنصوص والآثار والمعلومات .
لذا قرن اللهُ تعالى القراءة بالعلم .
وجعل سبحانه العلم أس العقل وجذره الماهوي
في معرفة صانع الوجود ووقائع الخلق وآثاره
قال تعالى
{شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }آل عمران18
{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ }العنكبوت43
وبالعلم تُكتشف دقائق الأمور وأغراضها بل بالعلم تُصنع الحياة الصالحة والهادفة
قال تعالى
{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }سبأ6
وقد أدرك الإنسان المُعاصر تماماً قيمة العلم بكل أنواعه المعنوية والمادية
وما وفّر له من إستثمارٍ للوقت والجهد والكلفة
والسرعة والإنجاز والتحصيل والكسب والنمو الثقافي والمعرفي الدفعي والتدريجي .
وهذا الإدراك يجب أن يجعله على بصيرة من تكوين ثقافته ومسارها وغايتها
ليمكنه ذلك من إنجاح مهمته على الأرض وتحقيق أهدافه الدينية والدنيوية .
قال تعالى
{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }المجادلة11
:3:الشرط الثالث:
الفَهم :
===
وهو روح وجوهر العلم الحق وقيمته المنتجة والرئيسة
الفَهمُ هو ذلك السنخ من التعقل للأشياء ومعرفتها بظاهرها وخافيها
فهناك علم بلا فهم وهذا لايجدي نفعاً في تكون الثقافة وصيرورتها
إذ الفهم هو مقياس العلم الحق من غيره
والإنسان بحكم وجوده قد سُوِّرَ بأسوار الوجود العام والخاص والواقع وبأسوار النصوص الدينية والنصوص المعرفية .
مما يتطلب ذلك كله منه أن ينوجد عنده فهماً مكينا لما يتعاطى معه مطلقا من وجود أو نص أو أثر.
والقرآن الكريم قد أرشد إلى ذلك المعنى وحكى واقعيَّة الفهم وقيمته الضافية على العلم
قال تعالى
{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً }الأنبياء79
بمعنى أنَّ من العلم ما إقترن معه الفهم
ومن العلم ما أمكن أن لايقترن به الفهم
ولاشك في أنَّ القرآن الكريم إنما يقصد في إستعماله مصطلح الفهم إثارة الوعي والقدرات الكامنة عند أهل العلم والمعرفة
بإعتبار أنَّ الفهم السليم وتصوراته الصحيحة عن الوجود والواقع والنص والأثر
يمكّن الإنسان من الوصول وبسرعة إلى مقاصد وحكمة الوجود نفسه
فضلاً عن مقاصد النص الديني التي تَبين بإعمال الفهم القويم لتحلَّ وتعالج كلَّ إشكاليات الواقع المُعاش وبدقة .
قال تعالى
{وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ }الأنعام98
{ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ }الأنعام65
وفقه الأشياء هو فَهمُها على الأصل
:4:الشرط الرابع:
الحكمة :
===
وهي فن معرفة الوجود بأسره والنظر في أحواله وآثاره وأغرضه وقصدياته والتي تستلزم سلوكاً عمليا صالحا .
وتكاد تكون الحكمة هي المعرفة الفضلى والراقية في سلوك العلم والفهم والدراية في حراك الكسب والتحصيل والتلقي مطلقا .
لذا قال الله تعالى عنها
{يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }البقرة269
وحتى في حَراك التغيير الثقافي قد أخذت الحكمة الرتبة الأولى في فن الإصلاح والدعوة والتثاقف .
قال تعالى
{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125
و الحكمة التي يجب توافرها في إبستيمولوجية المعرفة الثقافية
هي لاتعدو عن كونها فعلاً ذهنياً وثقافياً يتقوم بالتعقل للغاية من كل ما حولنا مطلقا .
بما فيها النصوص الدينية والآثار العلمية
ذلك كون الحكمة هي مَن ترفع من قيمة الوجود والنص والأثر من جانب الله تعالى
ومن جانب الإنسان الطالب لها كسبا
قال تعالى
{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ }النمل6
إذاً على أساس توفر الشروط الضرورية في إبستيمولوجية المعرفة الثقافية
يمكن أن نُجهز المجتمع الإنساني بجيلٍ مثقف وفطن وعضوي وفاعل ومتحرك وواعي يُسهم بصورة كبيرة في بناء النوع الصالح بشريا .
مما يجعل حَراك الحياة عامة مستقيماً وعادلاً ومُحقا
والسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته
مرتضى علي الحلي : النجف الأشرف :
=======================
مُستطرُ الثقافةِ في القرآن :السطرُ السابع
=====================
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله المعصومين
إنَّ لكل نسقٍ وجودي أو معرفي مُكونات يتكون منها على مستوى ماهيته ومفهومه
لكي تُلحظ حقيقة هذا التكون في الوجود الخارجي بآثار ومُعطيات واقعية.
ومن هذه الأنساق الوجودية والمعرفية هي الثقافة الإنسانية
والتي يجب أن تتوفر على إبستيمولوجيا
( Epistemology) وبالعربي (نظرية المعرفة) الخاصة بها .
وإبستيمولوجيا الثقافة :
تُعنى بنظرية تكون الثقافة ومعرفيتها وطبيعتها وموضوعها وغايتها .
والإبستيمولوجيا هي شرطُ ضروري لإظهار الثقافة بلونها القويم تكوناً وعطاءً.
وإنَّ من أهم ما تشترطه الإبستيمولوجيا في نظرية المعرفة الثقافية
هي شروط محورية متعددة رئيسة وثانوية
والذي يهمنا في محل البحث هو الشروط الإبستيمولوجية الرئيسة والمحورية والفاعلة في تكون الثقافة الإنسانية السليمة وصيرورتها ونتيجها .
وهي
:1: الشرط الأول
========
: اللغة :
ونعني بها عندنا اللغة العربية
ذلك كون التكوين الصحيح للثقافة ومقتضى الإبستيمولوجيا يتطلب معرفة اللغة العربية والتي هي أداة الإفهام والتفهيم .
وواضحٌ أنَّ أهميّة اللغة العربية بالنسبة للإنسان المسلم والمؤمن
إنما تأتتْ من كونها لغة القرآن الكريم والذي يُعتبر الأصل المعرفي الأول في منظومة الثقافة الإسلامية .
والقرآن الكريم قد أشار ضمناً إلى هذا الشرط المعرفي الإبستيمولوجي في سورة الرحمن
قال تعالى
الرَّحْمَنُ{1} عَلَّمَ الْقُرْآنَ{2} خَلَقَ الْإِنسَانَ{3} عَلَّمَهُ الْبَيَانَ{4}
وهنا نسجلُُّ الملحظ الواعي والدقيق والعميق في صياغة هذا النص القرآني الشريف
وهو أنَّ من نعم اللهِ تعالى الرحمن على مُطلق الإنسان بأن منحه أصلاً معرفيا قويما
ألا وهو القرآن الكريم وعلّمه إياه من خلال الوحي الإلهي لنبيه محمد: صلى اللهُ عليه وآله وسلّم :
ليرشده بهذا المعنى إلى القدر الكبير والعظيم لهذا الأصل المعرفي الأول (القرآن الكريم)
وليضعه في ضرورة أن يعِ أنَّ إقتران الخلق بالعلم يجب أن لاينفك أبدا
لما للعلم من فاعليّة في حفظ حياة الإنسان وتطويرها وتحقيق وإشباع الحاجات .
قال القرآن الكريم
خَلَقَ الْإِنسَانَ{3} عَلَّمَهُ الْبَيَانَ{4}
وهذا هو الشرط المعرفي الإبستيمولوجي الرئيس في تكوين الثقافة الإنسانية
فقوله تعالى
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ{4}
يحكي عن أنَّ اللهَ تعالى قد منح الإنسان في وجوده القدرة والتي تتمثل في اللغة ليفصح ويعرب عما في ذاته وعقله وفكره وقصده
وليصوغ بها ثقافته بصورة منتجة وقويمة
وهذه الآية الشريفة تعطي ظهوراً أوليا
بأنَّ الإنسان بلغته ممكن له أن يتبين الأشياء من داخله
أو يتبيّنها من الخارج من خلال النظر في الوجود والواقع والنصوص وخاصة القرآن الكريم
وهذا التعالق الإبستيمولوجي بين النص القرآني واللغة الذي أفصح عنه القرآن الكريم
يرسم لنا منهج معرفة القرآن الكريم وذلك من خلال معرفة لغته وهي العربية الفصحى
والتي تُسهم بقدر كبير وفاعل في تكوين ثقافة الإنسان المؤمن .
ومعلومٌ أنَّ بُنيَّة اللغة العربية تتشكل من ألفاظ مُستعملة طبقَ السليقة العربية آنذاك
ولها معانٍ وفيها إشتراك وترادف وحقيقة ومجاز وكناية وتصريح وفيها الكثير.
وتتوسم اللغة العربية في عليائها المعرفية
بالفصاحة والبلاغة والقدرة على إيصال المطلوب إلى المتلقي .
من هنا يتوجب على الإنسان المسلم والمثقف أن يدرك بُنيوية اللغة العربية وخاصة في بصمتها القرآنية الشريفة .
لما توفرتْ عليه لغة القرآن الكريم من حقايق ومجازات وكنايات ومحكمات ومتشابهات وغيرها كثير.
حتى برز المجاز ( وهو إستعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة ما)
فيها مَعلماً كبيراً في صياغة النص القرآني
مما يفتح لنا آفاق من المعرفة والثقافة والعلوم والأداب والمرادات الهادفة المؤسسة منها والمَحكيّة.
كما قال الشوكاني في حديثه المتصل بكثرة وقوع المجاز في القرآن الكريم
( وقوعاً كثيراً بحيث لايخفى إلاّ على من لايفرِّق بين الحقيقة والمجاز)
:إرشاد الفحول : الشوكاني:ص23:
إنَّ إستعمال القرآن الكريم لمَعلم المجاز العربي في بنية اللغة
يُسهم وبقوة في تكوين وتنضيج العلاقة المعرفية والمحورية الإبستيمولوجية بين اللغة المجازية
والعقل الإنساني .
وهذا الإسلوب القرآني القويم هو الراسم لأنساق الدلالات المنتجة والمتعددة والإنزياحية والإستيعابية .
فالعقل هو الذي يُفكك شفرة العلقة بين المعنى الحقيقي للألفاظ والإستعمال المجازي فيها .
لهذا قرر علماء البيان العربي أنَّ
( الفصاحة تُدرَك بالعقل لا السمع )
:دلائل الإعجاز: الجرجاني:ص311.
والفصاحة هي الإبانة والظهور والإجادة في صياغة اللغة الثقافية
بصورة تخلو من مخالفة النسق السماعي أو القياسي لأصل اللغة العربية
إذاً على أساس شرطية اللغة في أبستيمولوجيا المعرفة الثقافية
يتبيّن أنَّ الإنسان المؤمن والمُثقف لابد له من أن يجذِّر لغته العربية الفصحى في صياغة ثقافته الصحيحة
والتي تنهل من مَعين القرآن الكريم ورويه الحكيم.
ولابد له من تمتين العلاقة بين لغته وعقله وتنميطها ثقافياً
كي يتمكن من تجاوز المعوقات والتضادات بين اللغة والعقل خاصة في تكوين العقيدة الدينية .
ولايخفى على اللبيب من أنَّ القرآن الكريم كما ذكرنا
قد زودَ الإنسان بتقنية لغوية هائلة كماً ونوعاً وهي اللغة العربية الأصل.
لتكون له بياناً يكشف عن مكنوناته ويستكشف بها خفايا النصوص ودلالاتها الإجتيازية .
:2: الشرط الثاني
=========
العِلم :
===
وهذا الشرط قد إقترن بنزول الوحي الإلهي بدواً وتاسيساً
قال تعالى
في سورة العلق
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{1}
خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ{2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ{3}
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ{4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{5}
العلمُ هو ذلك النسق الوجودي والحياتي الذي لاتجد مؤمنا أو مُلحداً إلاّ وآمن به كونه السبيل الكاشف عن المطلوب والمجهول في حَراك الكسب والتعلم .
ومالم يتوفر العلمُ عند الإنسان لن تتكون عنده الثقافة الكاملة والفاعلة أبداً .
لما للعلم من تأثيرٍ أساسي في قراءة الوجود الواقعي والنصوص والآثار والمعلومات .
لذا قرن اللهُ تعالى القراءة بالعلم .
وجعل سبحانه العلم أس العقل وجذره الماهوي
في معرفة صانع الوجود ووقائع الخلق وآثاره
قال تعالى
{شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }آل عمران18
{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ }العنكبوت43
وبالعلم تُكتشف دقائق الأمور وأغراضها بل بالعلم تُصنع الحياة الصالحة والهادفة
قال تعالى
{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }سبأ6
وقد أدرك الإنسان المُعاصر تماماً قيمة العلم بكل أنواعه المعنوية والمادية
وما وفّر له من إستثمارٍ للوقت والجهد والكلفة
والسرعة والإنجاز والتحصيل والكسب والنمو الثقافي والمعرفي الدفعي والتدريجي .
وهذا الإدراك يجب أن يجعله على بصيرة من تكوين ثقافته ومسارها وغايتها
ليمكنه ذلك من إنجاح مهمته على الأرض وتحقيق أهدافه الدينية والدنيوية .
قال تعالى
{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }المجادلة11
:3:الشرط الثالث:
الفَهم :
===
وهو روح وجوهر العلم الحق وقيمته المنتجة والرئيسة
الفَهمُ هو ذلك السنخ من التعقل للأشياء ومعرفتها بظاهرها وخافيها
فهناك علم بلا فهم وهذا لايجدي نفعاً في تكون الثقافة وصيرورتها
إذ الفهم هو مقياس العلم الحق من غيره
والإنسان بحكم وجوده قد سُوِّرَ بأسوار الوجود العام والخاص والواقع وبأسوار النصوص الدينية والنصوص المعرفية .
مما يتطلب ذلك كله منه أن ينوجد عنده فهماً مكينا لما يتعاطى معه مطلقا من وجود أو نص أو أثر.
والقرآن الكريم قد أرشد إلى ذلك المعنى وحكى واقعيَّة الفهم وقيمته الضافية على العلم
قال تعالى
{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً }الأنبياء79
بمعنى أنَّ من العلم ما إقترن معه الفهم
ومن العلم ما أمكن أن لايقترن به الفهم
ولاشك في أنَّ القرآن الكريم إنما يقصد في إستعماله مصطلح الفهم إثارة الوعي والقدرات الكامنة عند أهل العلم والمعرفة
بإعتبار أنَّ الفهم السليم وتصوراته الصحيحة عن الوجود والواقع والنص والأثر
يمكّن الإنسان من الوصول وبسرعة إلى مقاصد وحكمة الوجود نفسه
فضلاً عن مقاصد النص الديني التي تَبين بإعمال الفهم القويم لتحلَّ وتعالج كلَّ إشكاليات الواقع المُعاش وبدقة .
قال تعالى
{وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ }الأنعام98
{ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ }الأنعام65
وفقه الأشياء هو فَهمُها على الأصل
:4:الشرط الرابع:
الحكمة :
===
وهي فن معرفة الوجود بأسره والنظر في أحواله وآثاره وأغرضه وقصدياته والتي تستلزم سلوكاً عمليا صالحا .
وتكاد تكون الحكمة هي المعرفة الفضلى والراقية في سلوك العلم والفهم والدراية في حراك الكسب والتحصيل والتلقي مطلقا .
لذا قال الله تعالى عنها
{يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }البقرة269
وحتى في حَراك التغيير الثقافي قد أخذت الحكمة الرتبة الأولى في فن الإصلاح والدعوة والتثاقف .
قال تعالى
{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125
و الحكمة التي يجب توافرها في إبستيمولوجية المعرفة الثقافية
هي لاتعدو عن كونها فعلاً ذهنياً وثقافياً يتقوم بالتعقل للغاية من كل ما حولنا مطلقا .
بما فيها النصوص الدينية والآثار العلمية
ذلك كون الحكمة هي مَن ترفع من قيمة الوجود والنص والأثر من جانب الله تعالى
ومن جانب الإنسان الطالب لها كسبا
قال تعالى
{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ }النمل6
إذاً على أساس توفر الشروط الضرورية في إبستيمولوجية المعرفة الثقافية
يمكن أن نُجهز المجتمع الإنساني بجيلٍ مثقف وفطن وعضوي وفاعل ومتحرك وواعي يُسهم بصورة كبيرة في بناء النوع الصالح بشريا .
مما يجعل حَراك الحياة عامة مستقيماً وعادلاً ومُحقا
والسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته
مرتضى علي الحلي : النجف الأشرف :
تعليق