شقّ الصبح سكون الليل كعادته كلّ يوم ليجد وضّاحة تستعدّ لمغادرة بيتها من اجل لقمة العيش..ارتدت ملابسها البالية وحملت عكّازها القديم وخرجت تشقّ هدوء الشارع الذي تسكنه..
كانت امراة ضعيفة الجسم كبيرة السن مات زوجها و اولادها ليتركوها تجابه العالم القاسي وحدها..بيتها يقع بين البيوت الكبيرة الجميلة ..تعيش وسط مجتمع من الاغنياء لا يابهون بها و لا يكترثون لحالها منذ زمن بعيد..
رغم كبرها الا ان وضّاحة اختارت ان تعمل بدلا من ان تمدّ يدها..عملت خادمة في بيت احد الاغنياء..لم يكن احد يرحمها ؛تشقى طول النهار وتعود لبيتها وفي يدها ما يسد رمقها ؛تدخل لبيتها ترتمي على فراش خشن متهلهل و تبدا في تقسيم تلك اللقمة القليلة مع احبابها الذين لم يتنكّروا لها يوما..تتقاسمها مع قطط الحيّ.
فلقد كانت القطط تتجمّع كلّما حلّ المساء امام كوخ وضّاحة و تبدا بالمواء و كانها تطلب منها الخروج اليهم..عوّدتهم ان تحمل لهم بعض ما يجود به الاغنياء عليها..تطعمهم ؛تسقيهم ؛تحنو عليهم حنان الام على اولادها..و كيف لا تفعل و هم كلّ ما لديها في هذا العالم الجاحد.
لم تملّ وضّاحة يوما من مواء القطط المستمرّ ؛ بل كانت تسعد به ايما سعادة .تقضي معظم ليلها بينهم..ثم تعود الى كوخها البارد لتنام قليلا علّها تجد الراحة التي فقدتها..
و كان اغنياء المنطقة يلاحظون هذا الارتباط الوثيق بينها وبين القطط فيسخرون منها و يستهزؤون بها ؛ ويتمنون رحيلها من ذلك الشارع الذي كانت تشوّه جماله هي و قططها..
و جاء مساء يوم من الايام و تجمّعت القطط كالعادة تطالب القلب الطيّب بالخروج..استمرت تموء و تموء و لكن دون جدوى.بدات تقفز هنا و هناك علّها ترى وضّاحة من نافذة الكوخ المكسّرة و لكن لا امل..جنّ جنون القطط حتى استيقظ اغنياء المنطقة و خرجوا ليتفقدوا الامر..
رسمت الغرابة و الاستعجاب على وجوههم لكثرة ما راوا من جموع القطط المزدحمة حول الكوخ تموء بالم و...حاولوا طردها من المكان و لكنها لم تابه بهم ؛ يجرون وراءها بالحصى فتبتعد قليلا و تعود الى الكوخ غير آبهة بهم..تنتظر وضّاحة التي اختفت عنهم..
عاد الناس الى بيوتهم بعدما باءت محاولاتهم بطرد القطط بالفشل..
و اصبح الصبح من جديد و القطط ترفض مغادرة الحيّ.تحرس باب الكوخ متناوبة مع بعضها البعض ؛منتظرة بامل ان تاتي من كانت رحيمة بهم..و الناس لا يفهمون تصرّف هذه الحيوانات المتشرّدة..و بداوا يتساءلون..يا ترى اين وضّاحة ؟
انتبه الناس لوجود هذه المراة بينهم بعدما نبذوها..و حاروا في وفاء القطط لها وتعجّبوا من بقاءها مسمّرة امام الكوخ..
و مرّت الايّام ؛و تسلّلت رائحة غريبة من بيت وضّاحة ملات الشارع باكمله.وتجمّع الناس يبحثون عن مصدر هذه الرائحة حتى وصلوا الى الكوخ ..كانت القطط في مكانها..و لكنها هذه المرة لم تكن تموء كعادتها..كانت صامتة ؛حزينة ؛و كانها علمت ما يجري..
اقتحم الناس البيت ليجدوا وضّاحة جثة هامدة فيه ؛و ذهلوا لمنظرها و احسّ من يملك قلبا منهم بالاسى عليها و على موتها وحيدة لا يرافقها الا قططها..
تقدّم بعضهم و قرر دفن وضّاحة في ذلك المساء..
و خرج موكب الجنازة لا يتبعه الا عدد قليل من الناس او يكاد لا يكون..و في الطريق بدات القطط تتجمّع و تسير وراء الموكب و هي تصدر صوتا غريبا كانها تنادي على بعضها البعض..و في ثواني امتلا الشارع بمئات من القطط المتشرذة ؛لقد كانت وفيّة لصديقتها و رفضت ان تدفن بهذه الطريقة ..
و كلما مر الموكب على جماعة الا و اتبعته من شدّة الفضول الذي يتملّكها لما هذه القطط ؟ ماذا تفعل ؟ ما السر يا ترى ؟
وصل الموكب الى المقبرة و لكنه كان مهيبا يغصّ بجموع الناس الآتية من كل صوب..و بجموع القطط التي جاءت لتودّع وضّاحة لآخر مرّة..كانت جنازة عظيمة ..
عاد الناس ادراجهم بين متاسّف و مستفسر و مذهول ..و القطط لا زالت في المقبرة ترفض المغادرة..تبكي يدا حنونا لم تعد في الوجود لتهتمّ بهم..
انها قصة من قصص كثيرة تحدث في العالم..ربما تكون وهميّة و لكن كتبتها صاحبة القصةكما تخيّلتها..
تحذثنا عن الوفاء الذي ضاع من البشر و لكنه محفوظ في قلوب الحيوانات..
يا ترى اذا متنا يوما هل نجد من يرثينا او يتذكرنا ؟
تعليق