بسم الله الرحمن الرحيم
يطرح البعض سؤالًا عن المبرر الشرعيّ والأهداف الدينيّة وراء تكرار العزاء وإقامة المأتم على سيّد الشهداء عليه السلام وعلى بضعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم كلّ عام مع تطاول المدّة بنحو دائم وندبة راتبة، والحال أنّ الندبة والرثاء على السبط الشهيد عليه السلام قد ثبت أنّه سنّة إلهيّة تكوينيّة وقرآنيّة إضافة لكونها سنّة نبويّة؛ وقد أوضحت الكثير من الكتب والمراجع التاريخيّة والدراسات عدداً من هذه الوجوه ..
والقرآن قد تضمّن الرثاء والندبة على خريطة وقائمة المظلومين طوال سلسلة أجيال البشريّة، وقد استعرض القرآن الكريم ظلاماتهم بدءاً من هابيل إلى بقيّة أدوار الأنبياء والرسل وروّاد الصلاح والعدالة، والجماعات المُصلِحة المقاوِمة للفساد والظلم، كأصحاب الأخدود وقوافل الشهداء عبر تاريخ البشريّة، وحتّى الأطفال المجنيّ عليهم نتيجة سنن جاهليّة كالموؤدة، بل قد رثى وندب القرآن ناقة صالح لمكانتها .. ولم يقتصر القرآن على الرثاء والندبة لمن وقعت عليهم الظلامات، بل أخذ في التنديد بالظالم وبالعتاة الظَلمة؛ وتوعّدهم بالعذاب والنقمة والبطش، كما سنجده في جملة من الموارد الآتية التي نتعرّض لها في السور القرآنيّة، وهي:
الاولى: قصّة أصحاب الأخدود
، ففي سورة البروج تستهلّ السورة بالقَسَم الإلهيّ أربع مرات «وَالسَّماءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ* وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ* وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ» وهذا الإبتداء بمثابة توثيق للواقعة والحادثة التي يريد الإخبار عنها، وفي هذا منهجا ودرساً قرآنيّاً يحثّ على توثيق الحادثة أولًا، ثمّ الخوض في تفاصيلها ورسم أحداثها، ثمّ تذكر السورة الخبر الذي وقع القَسَم الإلهيّ على وقوعه بابتداء لفظة «قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ»، وهو أسلوب رثاء وندبة وعزاء، نظير قول الراثي «قُتل الحسين عطشاناً» .. كما أنّ توصيفهم بأصحاب الأخدود بيان لكيفيّة القتل التي جَرت عليهم، فتواصل السورة تصوير مسرح الحدث إستثارة للعواطف وتهييجها بوصف الأخدود «النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ»، وهو بيان لشدّة سُعرة النّار التي أُجّجت لإحراقهم، وهو ترسيم لبشاعة الجناية وفظاعتها ..
ثم يتابع القرآن الكريم «إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ» وهو بيان لقطة أخرى من مسرح عمليات الحادثة التي أوقعها الظالمون على المؤمنين من إرعابهم وتهديدهم بإجلاسهم على شفير الأخدود المتأجّج أوّلًا لأجل ممارسة الضغط عليهم للتخلّي عن مبادئهم التي يتمسكون بها؛ وفيه بيان لشدّة صلابة المؤمنين مع هذا الإرعاب المتوجّه عليهم، ثمّ تتابع السورة «وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ» وهذا بيان يجسّد فوران الشفقة الإلهيّة على الظُلامة والتلهّف على ما يُفعل بالمؤمنين ..
ثمّ تتلو السورة «وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» لتبيّن براءة المؤمنين لتركيز شدّة الظلامة .. ومن جهة أخرى تبيّن شدّة صلابة المؤمنين وصمودهم وعلوّ مبدئهم، ثمّ يبدأ الباري تعالى بتهديد الظالمين والتنديد بهم من موقع المالك للسموات والأرض والشاهد المراقب لكلّ الأمور، ثمّ يقول تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ* .... إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ* إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ* وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ» فيسطّر تعالى قاعدة وسنّة إلهيّة عامّة وهي الوقوف بصف المظلومين والمواجهة قبال الظالمين، وهو بذلك يربّي المسلمين والمؤمنين عَبر القرآن الكريم؛ يربّيهم على التضامن مع المظلومين والنفرة والتنديد بالظالمين عبر التاريخ، ويُعلّمهم أن لا يتخاذلوا باللامبالاة؛ ولا يتقاعسوا بذريعة أنّ هذه الأحداث والوقائع غابرة في التاريخ .. بل يحثّ على التضامن والوقوف في صفّ كلّ مظلوم من أول تاريخ البشريّة إلى آخرها، والتنديد بكلّ طاغوت وظالم، وهذا الجوّ القرآنيّ نراه لا يكتفي من المسلم والقارئ للسورة بالتعاطف وإثارة الأحاسيس تجاه المظلوم، بل يستحثّهما على النفور من الظالم والتنديد به وإن كان زمانه قد مضى في غابر التاريخ، كلّ ذلك لتطهير الإنسان من الذوبان في مسيرة الظالمين، وانجذاباً له مع مبادئ المظلومين .. فنرى السورة تضمّ إلى إقامة الندبة والرثاء على أصحاب الأخدود والتنديد بقاتليهم، تضم إلى ذلك «هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ* فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ* بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ* وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُحِيطٌ» فتُذكّر قارئ السورة بمسيرة بقيّة ظلامات الظالمين من عصابة جنود فرعون وثمود الذين جَنوا على الأنبياء والصالحين ..
فالسورة ابتدأت بالقَسم على تأكيد وقوع الفادحة وتحسّر في ندبتهم ورثائهم وإظهار العزاء عليهم، وبيان لعظم التنكيل بالمؤمنين وبراءة المؤمنين عن الجرم، ثمّ تَوعُّد على الإنتقام بتصوير ملي بالعبارات المتحركة بُغية إثارة العواطف والأحاسيس الجياشة.
يتبع ...........
تعليق