ارتباط الإنسان بمعتقداته ومقدساته غائر في قدم التاريخ، ومنذ هبوطه الأول على وجه الأرض للتكليف والإبتلاء، احتاج الى عبادة الخالق المطلق جل وعلا، الذي وهب الكون ديناميكية الحياة وفق أنظمة وقوانين مرتبة ودقيقة، وجاءت تلك العبادة نتيجة حاجته وافتقاره الى معين وناصر، فهو بحاجة الى السداد والتوفيق والعناية الإلهية على قضاء حاجاته، وتيسير حياته، فتعلم طقوسه العبادية على سجيته وفطرته الأولى: (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) فاتخذ له أماكن خاصة للعبادة، يعتني بها ويزيدها على مر السنين والأعوام عمارة ونضارة، فهي السبيل الى صفائه ونقائه الروحي وسموه الأخلاقي، فكان الإهتمام بدور العبادة أمرا مسلما يقوم به الإنسان كنشاط مستفيض يؤديه عن طيب خاطر، وهو بكامل عقله ويقينه، ولا فرق في المسألة بين ان تكون هذه الدور العبادية هي مساجد لله تعالى يعبد فيها، ولا يشرك في عبادته احد طرفة عين، وبين أن يدفن فيها ولي من أولياء الله عز وجل، أو عبد من عباده الصالحين، فالأمر سواء على مستوى الغاية التي تؤول اليها هذه الأمكنة المقدسة، وهي القرب والإرتباط الإلهي، وأداء فرائض الشريعة السمحاء: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالآصالِ) ومن الأجدر التنويه إلى أن وجود المقام والمرقد أو آثار من نبي أو وصي أو عبد صالح يضفي على دور العبادة عبرة وموعظة وتجليات قدسية، يكتسبها الإنسان المؤمن، ويزداد ارتباطا بربه وخالقه، بعد اتباع السيرة العطرة لهؤلاء المطهرين الذين شرفهم الله سبحانه في الدنيا، وضمن لهم جنات الفردوس نزلا من رب العالمين في الآخرة، فالله عز وجل قد أقر عمارة المساجد، والمواظبة على تقديم الخدمات الإنسانية فيها للعابدين الرابضين في تلك الحياض المترعة بالشفاء والشفاعة، إتماما لنعمة الدين، وضرورة من ضروريات خلق الإنسان، ولا يفت في عضد المسألة ما تدّعيه أبواق الملاحدة والمنافقين، بأنه لا تجوز العبادة في أماكن القبور!! كيف ذاك والأرض كلها مقابر لبني البشر على مر التاريخ، وإلى هذا المعنى أشار الإمام امير المؤمنين عليه السلام: (تَطَئُونَ فِي هَامِهِمْ وتَسْتَنْبِتُونَ فِي أَجْسَادِهِمْ) وصدح الشاعر ابو العلاء المعري بهذه الحقيقة:
صاح هذه قبورنا تملأ الأرض *** فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض *** إلا من هذه الأجسـاد
رب لحد قد صار لحدا مرارا *** ضاحكا من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفين *** في طويل الأزمان والآباد
سر إن اسطعت في الهواء رويدا *** لا اختيالا على رفات العباد
صاح هذه قبورنا تملأ الأرض *** فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض *** إلا من هذه الأجسـاد
رب لحد قد صار لحدا مرارا *** ضاحكا من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفين *** في طويل الأزمان والآباد
سر إن اسطعت في الهواء رويدا *** لا اختيالا على رفات العباد
تعليق