معنى الأعلم
قبل البحث عن شرطيَّة الأعلميّة في مرجع التقليد لا بدّ من تحديد معنى الأعلميّة الذي رغم كونه لم يرد في آية ولا رواية، إلّا أنّه ظهر بشكل قويّ في أبحاث الفقهاء المتأخّرين نتيجة التعمّق والتوسَّع الحاصلَيْن في عِلْمَيِ الأصول والفقه1 لذا فإنّ معنى الأعلميّة لم ينحصر عند الفقهاء في دائرة واحدة، بل كانت عندهم نظريّتان في تحديدها.
النظريّة الأولى (الأعلميّة الخاصّة)
وهي التي سادت في الكتب الفقهيّة التي عُرِّف الأعلم فيها بأنّه "الأعرف بالقواعد والأشدّ مهارة من غيره في تطبيقها على صغرياتها"2.
ولتوضيح هذا المعنى نعرض مثالاً تقريبيّاً في علم تطبيقيّ هو الطبّ، فمن هو الأعلم بين الأطبّاء؟
هل هو:
المحيط بالنظريّات الطبيّة، قديمها وحديثها، أكثر من غيره؟
أم المطلّع على تفاصيل الأمراض اطّلاعاً يزيد على الآخرين؟
أم الأعرف بأسماء الأدوية؟
أم الأعلم بالنظريّات الطبيّة وتفاصيل الأمراض، والأعرف بتطبيق تلك النظريّات على أفرادها في الخارج؟
لا شكّ أنّ الأعلم بين الأطبّاء هو الأخير.
وكذلك الحال في الأعلم بين المجتهدين، فهو بالإضافة إلى إحاطته بالقواعد المقرَّرة، لا بدّ أن يكون أشدَّ مهارة من غيره في تطبيق هذه القواعد على ما يسمّى بالصغريات بأن يتمتّع بأحسن سليقة في هذا التطبيق.
فقد يحيط العالم بالقواعد الأصوليّة بشكل كبير، ولكن حينما يريد أن يطبّقها على صغرى وردته في صلاة من كان عمله في السفر مثلاً، فإنّه قد لا يكون في هذا التطبيق، ذا مهارة تفوق غيره، فهذا رغم إحاطته بالقواعد، ليس هو الأعلم بين الفقهاء.
لذا كان الأعلم هو "الأعرف بالقواعد والأشدّ مهارة من غيره في تطبيقها على صغرياتها".
النظريّة الثانية (الأعلميّة بالمجموع)
وهذه النظريّة في تحديد معنى الأعلم، تستبطن المعنى السابق، في النظرية الأولى إلّا أنّها تمتاز منها بإضاءة قام بها بعض الفقهاء مشدّداً على أنّ الأعلميّة لا تكون بدونها. في حين طرح بعض الفقهاء إضافة إلى المعنى السابق للأعلميّة وجعلها أساساً في أهليّة الفقيه للتقليد. وها هنا نذكر الإضاءة والإضافة.
اضاءة على مفهوم الأعلميّة
قام آية الله السيّد محمود الهاشمي بطرح بعض المعارف التي اعتبر أنّ لها تأثيراً كبيراً في أعلميّة المجتهد، في اجتهاده الفقهيّ في المسائل التي يريد أن يستنبطها، وهي ما يلي:
فهم روح الإسلام الذي يحصل إثر الإحاطة الدقيقة بالآيات القرآنيّة والضروريّات الدينيّة، والمسلّمات الإسلاميّة، والأوّليّات الفقهيّة، والإلمام الكامل بما نفّذه النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الأطهار عليهم السلام ويتأكّد هذا في معرفة حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي بن أبي طالب عليه السلام حيث كانا مبسوطَيِ اليد ومسؤولَيْن عن الحكومة حتى نعرف كيفيّة تطبيق الأحكام الإسلاميّة وتنفيذها.
فهم الثقافة والأمور الفكريّة والحقوقيّة المعاصرة إلى حدٍّ ما، مثل مسائل "البنك"، ومسائل الاقتصاد الإسلاميّ، ومسائل القضاء في الإسلام، فإنّ عدم الإلمام بهذه الأمور قد يوجب الوهن الكبير في الاستنباط واستظهار الفقيه في مثل تلك المسائل.
الوقوف على المعارف الصادرة عن أهل البيت المعصومين الأطهار عليه السلام في المسائل الكلاميّة والمسائل الأخلاقيّة، والمعارف الأخرى الموجودة في الروايات والمنتشرة في الكتب غير الفقهيّة فإنّ هذا مؤثّر جدّاً في استظهار النصوص والاسـتفادة منها ومعرفة الأدلَّة.
واعتبر السيّد الهاشمي أنّه لا بدّ من ملاحظة هذه الأمور ثمّ صياغة تعريف دقيق جدّاً للأعلميّة في ضوئها3.
إضافةٌ إلى شروط المرجعيّة
ما تقدّم من شروط المرجعيّة كان هو المتعارف ذكره في رسائل الفقهاء. إلّا أنّه بعد التطوّرات الميدانيّة التي حصلت في العالم المعاصر، ممّا يجعلها تلقي بثقلها على مرجعيّة التقليد لتزيد من مسؤوليتها في دائرة ولايتها، بدأ جملة من الفقهاء الكبار بالحديث عن شرط آخر، في مرجع التقليد، يشكّل أساساً في أهليّته للمرجعيّة.
ولعلّ أوّل من طرح هذا الشرط في رسالته العمليّة هو الشهيد السعيد آية الله العظمى السيّد محمّد باقر الصدر معبِّراً عنه بالكفاءة الواقعيّة. قال في "الفتاوى الواضحة": "المجتهد المطلق إذا توافر فيه سائر الشروط الشرعيّة في مرجع التقليد... جاز للمكلّف أن يقلِّده.. وكانت له الولاية الشرعيّة العامّة في شؤون المسلمين شريطة أن يكون كفؤاً لذلك من الناحية الدينيّة والواقعيّة معاً"4.
وقد بيَّن السيّد الهاشمي خلفيَّة شرط الشهيد الصدر هذا بقوله: "إنّ المرجع لا يكون من قبيل الرجوع إلى الطبيب، إنّ الطبيب قد لا يكون مسلماً، ولكن نرجع إليه، لأنّنا نريد أن نستفيد من خبرته وطبابته، وإن المرجعيّة والرجوع إلى المقلَّد في الحقيقة أمر مهمّ جدّاً، إنها نوع من الولاية أو على الأقلّ قيادة حقوقيّة فقهيّة وتمثّل القوّة المقنّنة بأسرها، لأنّ الناس يأخذون كلّ قوانين حياتهم من بدايتها إلى نهايتها من المرجع"5.
ثم عرض السيّد الهاشمي شرط الشهيد الصدر مؤكّداً عليه، لا سيَّما أنّ مرجعيّة الفقيه تمثّل نوعاً من القيادة للمجتمع "لأنَّ الذين يقلِّدونه، شاء أم أبى، يتابعونه في نظراتهم وأسماعهم ويلاحقونه بقلوبهم، ماذا يقول مرجعهم ومقلَّدهم؟ وماذا يفتي؟ حتى يقلّدوه ويتابعوه في حياتهم الخاصّة والعامّة. ولأجل هذا لا بدّ أن تتوفَّر في مرجع التقليد شرائط خاصّة أخرى جامعها اللّياقة والكفاءة في قيادة مقلِّديه"6.
أعلم لكنَّه ليس المرجع
ومن لطيف ما نقل في شرط اللّياقة والكفاءة في مرجع التقليد قصّة حصلت مع المرحوم آية الله العظمى الشيخ حسين الحلِّي الذي كان يرى فيه الكثير من العلماء أنّه أعلم المجتهدين في عصره، مع أنّ المتصدّي للمرجعيّة في عصره كان المرجع الكبير السيّد محسن الحكيم، إذ يُنقل أنّ أحدهم سأل الشيخ الحلِّي: لماذا لم تتصدَّ للمرجعيّة مع أنّك أعلم من السيّد الحكيم؟ فإذا بالجواب المفاجىء من هذا العالم الجليل بما مفاده:"أنّ السيّد الحكيم نجح في تربية أبنائه" ولعلّه يشير بكلامه هذا إلى أنّ من شروط المرجعيّة حسن الإدارة لها واللّياقة في ذلك، وهذا ما كان يتمتّع به المرحوم السيّد الحكيم بشكل واضح.
وشرط اللّياقة هذا لم يقف عند طرح عنوانه في كتاب الشهيد الصدر، بل جاء صاحب الخبرة الطويلة في مرجعيّة التقليد والذي استطاع أن ينقل الرسالة العلميّة ليجعلها رسالة عمليّة بحقّ في قضايا الفرد والمجتمع والدولة، وهو الإمام الخمينيّ قدس سره الذي أكّد في نداء الخامس عشر من رجب 1409هــ والذي وجَّهه إلى الحوزات العلميّة والعلماء، على جملة من الخصوصيّات في مرجع التقليد فقال: "وعلى المجتهد أن يلمَّ بقضايا عصره، ولا يمكن للشعب وللشباب وحتى للعوامّ أن يقبلوا من مرجعهم ومجتهدهم أن يقول: إنّني لا أبدي رأياً في القضايا السياسيّة".
ومن خصوصيّات المجتهد الجامع معرفة أساليب التعامل مع حيل وتحريفات الثقافة الحاكمة على العالم، وامتلاك البصيرة والنظرة الاقتصاديّة، والاطّلاع على كيفيّة التعامل مع الاقتصاد الحاكم على العالم، ومعرفة السياسات، وحتى السياسيّين ومعادلاتهم الموضوعة، وإدراك المركزيّة ونقاط القوّة والضعف في القطبين الرأسماليّ والشيوعيّ والذي هو في الحقيقة إدراك لحقيقة الاستراتيجيّة الحاكمة على العالم. ويجب أن يكون لدى المجتهد المهارة والذكاء والفراسة لهداية مجتمع إسلاميّ كبير، بل وحتى غير إسلاميّ، يُضاف إلى ذلك كله الأخلاقُ والتقوى، والزهد التي هي من شأن المجتهد، أن يكون في الواقع مديراً ومدبِّراً7.
وعلى ضوء هذه الإضافة في شروط المرجعيّة وتلك الاضاءة في معنى الأعلميّة نتج تعبير جديد في بيِّنات الأعلميّة هو "الأعلميّة بالمجموع".
خلاصة الأقوال في شروط المرجع
يمكن تلخيص ما سبق ذكره من وجهة النظر حول الشروط المعتبرة في مرجع التقليد بالتالي:
الاتجاه الأوّل: اعتبر الشروط التقليديّة الواردة في الرسائل العمليّة والتي مرَّ ذكرها، من دون إضافة شيء، وبدون إضاءة جديدة، على معنى الأعلميّة بل اقتصر على المعنى التقليدي لها الذي سمّيناه سابقاً:"الأعلميّة الخاصّة".
الاتجاه الثاني: فيه إضاءة على معنى الأعلميّة بإضافة بعض المعارف لتحقّقها، وإضافة شرط اللّياقة والكفاءة في مرجع التقليد ليصِحَّ تقليده.
وبعد أن عرفنا معنى الأعلميّة نعود إلى السؤال السابق: هل الأعلميّة شرط في مرجع التقليد؟ وهنا لا بدّ من التفصيل بين المجتهد وغيره.
الأعلميّة ووظيفة المجتهد
أمَّا المجتهد فالجواب يحدِّده هو على حسب ما يستظهره من الأدلّة الشرعيّة.
مع العلم أنّ شرط الأعلميّة في المرجع هو المعروف بين المجتهدين، بل عن ظاهر السيّد المرتضى في كتاب الذريعة أنّه من المسلَّمات عند الشيعة. وعن المحقّق الثاني دعوى الإجماع عليه، نعم نسب إلى بعض العلماء المتأخّرين عن الشهيد الثاني عدم وجوب تقليد الأعلم8.
الشيخ الأنصاري وتقليد الأعلم
ومن لطيف ما ورد في قضية أعلميّة المرجع، ما ورد في قصّة المرجع الكبير الشيخ مرتضى الأنصاري الذي أقرَّ بأعلميّته ودعا الشيعة إلى تقليده، مرجعُ الشيعة الكبير وعالمُهم الفذّ الشيخ محمّد حسن النجفي (صاحب كتاب الجواهر) قُبيل وفاته. إلّا أنّ الشيخ الأنصاري، بعد وفاة صاحب الجواهر، رفض أن يتسلَّم زمام المرجعيّة مفيداً أنّ أحد العلماء من زملائه، ويدعى المازندراني، كان أعلم منه أثناء دراستهما في كربلاء. وفعلاً تجمَّد وضع مرجعيّة التقليد بإصرارٍ من الشيخ الأنصاري حتّى تمّت مراسلة الشيخ المازندراني الذي أفاد أنّه كان وقتها أعلم من الشيخ الأنصاري، إلّا أنّه أقرَّ أنّ زميله الكبير، بعد إكمال دراساته وأبحاثه في الحوزة العلميّة أصبح أعلم منه، ودعا الناس إلى تقليد الشيخ الأنصاري ليصبح المرجع العامّ لشيعة أهل البيت عليهم السلام9.
الأعلميّة ووظيفة غير المجتهد
اتضح ممّا مرَّ أنّ المجتهد يجيب عن السؤال حول وجوب تقليد الأعلم بحسب ما يستظهره من الأدلّة. أمّا غير المجتهد فإنّ مسلكه في تحديد وجوب تقليد الأعلم يختلف.
ولتوضيح ذلك نطرح سؤالاً له فروع ثلاثة:
هل يصِحّ لغير المجتهد، ليحدّد وظيفته في وجوب تقليد الأعلم، أن يعتمد على:
أ- القرآن الكريم
ب- الأحاديث الشريفة
ج- أحد مراجع التقليد؟
والجواب:
أ- إنّ غير المجتهد لا يصِحّ منه أن يرجع إلى القرآن ليستنطق آياته، لأنّ لذلك أدوات علميّة لا يمتلكها ليصـل إلـى النتيجـة التي تبرّىء ذمّته. وكمثال على ذلك: لا يصِحّ من غير المجتهد أن يتمسّك بقولـه تعـالى:﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾10، ويبني على أنّه لا يشترط تقليد الأعلم طالما أنّ الآية ليس فيها تحديد خاصّ، وذلك لأنّ هناك جملة من المقدِّمات لا بدّ من أن يكون لديه أجوبة عنها منها:
ما المراد بأهل الذّكْر؟ هل هم العلماء بشكل عامّ؟ أم علماء أهل الكتاب؟ أم هم خصوص أهل بيت العصمة عليهم السلام؟
هل الآية واردة في خصوص المسائل العقائديّة؟ أم تشمل الفروع الفقهيّة؟
على فرض أنّ المراد من أهل الذكر هم العلماء، فهل عَدَمُ تحديد مواصفات أهل الذكر يفيد الإطلاق أم لا؟
هل يوجد روايات معتبرة تتعلّق بهذه الآية لتحدِّد وجهتها الصحيحة وقد تقيِّدها بقيود خاصّة؟
إذاً لا يصِحّ للإنسان العاديّ العاميّ غير المجتهد أن يعتمد على آيات القرآن الكريم ليحدّد مسلكه في وجوب تقليد الأعلم أو عدمه.
ب- وكذلك لا يصِحّ لغير المجتهد أن يرجع إلى الروايات الواردة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام كأن يرجع إلى ما ورد عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام "من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلِّدوه"11 ليتمسك بإطلاقها، وذلك لأنّه لا يستطيع التعــرُّف علـى مـدى اعتـبار هـذه الرواية ليثق بصدورهـا عن المعصـوم عليهم السلام. إضافـة إلـى أنّ للاسـتفادة من دلالتها مقدّمات علميّة لم يطّلع عليها ليصل إلى نتيجة مبرّئة للذِّمّة.
ج- وأيضاً لا يصِحّ لغير المجتهد أن يعتمد على رأي مرجع ليس هو الأعلم، ليحدِّد على أساسه مسلكه في تقليد الأعلم، فلو كان هذا المرجع يقول بعدم وجوب تقليد الأعلم، فكيف يصِحّ من غير المجتهد الاعتماد على رأيه طالما هو لم يحرز كونه الأعلم؟ فلعلّ الواقع هو وجوب تقليد الأعلم، وهذا يؤدّي إلى عدم جواز تقليد من يقول بعدم وجوب تقليد الأعلم طالما هو ليس بأعلم.
غير المجتهد والاتجاه الصحيح
وبناء على ما مضى، كيف يُحدِّد غير المجتهد تكليفه في مسألة وجوب تقليد المرجع الأعلم؟
والجواب:
إنّ المكلَّف كما توجّه لمعرفة وجوب التقليد بواساطة عقله ونظرته إلى المجتمع العقلائيّ، فإنّه في تحديد وجوب تقليد الأعلم لا بدّ، من أن يرجع إلى العقل والعقلائيّة أيضاً، فإنّهمـا السـبيل للوصـول إلـى النتيجة التي تبرّىء ذمَّته أمام الله من التكاليف التي وجّهها إليه، وحينها يعلم المكلَّف أنّ "عقله يستقلّ بلزوم الرجوع إلى الأعلم عند العلم بالمخالفة بينه وبين غير الأعلم في الفتوى"12، وما ذلك إلّا لأنّ غير المجتهد، بعد أن تأكَّد من أنَّه مكلَّف بالقيام بتكاليف شرّعها الله تعالى في رسالته الخالدة فإنّه يعلم أنّه لا بدّ من السعي لإبراء ذمّته من هذه التكاليف وللاستفادة منها في مساره الكماليّ الذي يريده الله تعالى له.
وقد توصّل هذا المكلَّف (غير المجتهد) إلى أنّ الوسيلة الأيسر لبراءة ذمّته هي التقليد، ولكنّه الآن يواجه سؤالاً: هل يقلِّد الأعلم بين المجتهدين؟ أو يقلِّد غير الأعلم منهم؟
وقبل الدخول في الجواب نلفت إلى أنّه قد يظنّ البعض أنّ له الحريَّة الشرعيّة في تقليد الأعلم أو غير الأعلم، فيصِحّ منه اختيار تقليد أيّهما شاء، لكنّ هذا البعض سيتخلّى عن هذه القناعة حينما يواجه دليلين واضحين يقودانه نحو تقليد الأعلم، ألا وهما:
الدليل الأوّل (تقليد الأعلم ضمانة النجاة)
فإنّ من يواجه السؤال السابق، حول وجوب تقليد الأعلم أم لا، يجد أمامه جواباً مبدئيّاً يقول له: لو قلَّدت الأعلم فأنت حينها تتيقَّن من براءة ذمّتك، أمّا لو قلَّدت غيره فأنت قد تبقى في حالة عدم اليقين ببراءة الذمَّة، وذلك لأنّ تكليفك إمّا وجوب تقليد الأعلم على نحو التعيين والانحصار، وإمّا أنّه يجوز لك تقليده وتقليد غيره على نحو التخيير. وعقل الإنسان غير المجتهد، بعد مواجهة هذا الجواب المبدئيّ، يوجّهه بالتأكيد نحو تقليد الأعلم.
وإلـى هـذا أشـار الولـيّ المرجـع الإمـام الخامنئي دام ظله حينما سئل عن دليله في احتياطه في الوجـــوب في تقليد الأعلـم فقـــال: "وأمّا الدليل عليه فهو... حكم العقل لدوران الأمر حينئذٍ بين التعيين والتخيير"13.
وفلسفة توجُّه عقل الإنسان في هذا المورد نحو تقليد الأعلم تَكْمُن في خلفيّةٍ تُشكِّلُ أساساً في حركة الإنسان في هذه الحياة، وعنوان هذه الخلفيّة هو التالي "إنّ ما يحرِّك الإنسان هو قوّة المحتمل لا قوّة الاحتمال".
ولتوضيح هذه القاعدة نطرح هذا المثال:
لو أنّ رجلاً كان يسير على درّاجة في الشارع، فاحتمل بنسبة 70بالمئة، أثناء مسيره، أنّ قطعة ماليّة متدنيّة القيمة - ولنفترض أنّها خمسون ليرة لبنانيّة - قد وقعت منه فإنّنا نجد أنّ هذا الرجل لا يتوقّف بل يتابع مسيره، مع أنّ الاحتمال هو 70بالمئة، لكنّ المحتمَل هو 50 ليرة لبنانيّة. بينما لو أنّ هذا الرجل احتمل أثناء مسيره بنسبة 5 بالمئة، وقوع مليون ليرة لبنانيّة منه فإنّنا نجده يتوقّف بلا تردّد مع أن احتمال الوقوع هو 5 بالمئة، لكن المحتمَل هو مليون ليرة.
وتفسير هذا أنّ المحرِّك للإنسان ليس قوّة الاحتمال، فاحتمال بنسبة 70بالمئة لم يحرِّكه، لكن احتمال 5 بالمئة حرَّكه. فالمحرِّك له هو قوّة المحتمل، إذ إنّ الذي حركه هو المليون ليرة، بينما لم تحركه الخمسون ليرة.
وعليه نفهم ما معنى كون المحرِّك للإنسان هو قوّة المحتمَل لا قوّة الاحتمال.
وفي مسألتنا المطروحة وهي: هل يجب تقليد الأعلم؟ أم يجوز تقليد غيره؟ فإنّ هذه الخلفيّة الفكريّة الكامنة في الإنسان والتي تشكّل أساساً في حركته تقول له: بغضّ النظر عن نسبة الاحتمال في وجوب تقليد الأعلم أو عدم وجوبه، فإنّ أمامك محتمَلاً قويّاً تواجهه، ألا وهو نعيم الآخرة أو عذابها، فحينما تقلِّد الأعلم تُحرز النجاة، أمّا حينما تقلِّد غير الأعلم فاحتمال عدم براءة الذمّة والمطالبة الإلهيّة وارد بغض النظر عن نسبته المئويّة، لذا فقوّة المحتمل هذه تحرِّك الإنسان وتوجّهه لتقليد الأعلم.
الدليل الثاني (تقليد الأعلم خيار العقلاء)
فإضافةً إلى الدليل السابق على تقليد الأعلم، فإنّ المتسائل عن وجوب تقليد الأعلم أم لا، يُلاحظ في حياة العقلاء وسيرهم الاجتماعيّ ما يرشده نحو تحديد الجواب. فالعقلاء حينما يواجهون مشكلة تحتاج إلى حلّ من أحدهم، ويكون أصحاب الحلّ متعدّدين ومختلفين في كفاءاتهم وبينهم من هو معروف بأكفئيّته وأعلميّته، فإنّهم يتوجّهون إليه بلا تردد. وكمثال على ذلك، لو أصيب إنسان بمشكلة مرضيّة في قلبه، واحتاج إلى عمليّة جراحيّة لقلبه، فإنّه حينما يجد عشرة أطباء في جراحة القلب، يستطيع أن يجري العمليّة الجراحيّة عند أيّ منهم، في الوقت الذي يريده، ومن دون تفاوت في أجرة العمل. لكنّه إذا علم أن واحداً منهم هو أعلمهم وأكفأهم وأكثرهم خبرة، فإنّه من دون تردّد يتوجّه نحو هذا الطبيب الأعلم دون غيره. وهكذا الحال في سائر شؤون العقلاء وأمورهم، فإنّهم، حينما يعرفون الأعلم بين أصحاب الاختصاص، يتوجّهون نحوه دون غيره.
وهذا البناء العقلائيّ والسيرة القائمة بينهم يعتبره الفقهاء دليلاً يتمسّكون به لاثبات الأحكام الشرعيّة، وذلك بضمّ أمر آخر إليها هو إمضاء المعصوم لها الذي يفهم من عدم تدخّله لرفض هذه السيرة، فلو كان المعصوم لا يرضى بسير العقلاء وتوجههم نحو الأعلم مثلاً لتدخّل مبيّناً الصواب، ولكنّه لم يتدخّل، فنعلم إمضاءه لهذا البناء العقلائي ورضاه عنه. وإلى دلالة بناء العقلاء وسيرتهم على وجوب تقليد الأعلم يرشد الإمام الخامنئي دام ظله حينما سئل عن دليله على الاحتياط في الوجوب في تقليد الأعلم بقوله: "وأمّا الدليل عليه فهو بناء العقلاء"14.
تعليق