الامام جعفر الصادق ( عليه السلام ) ..
منظر العلوم الحديثة
الامام جعفر بن محمد الصادق ( عليهما السلام ) بحر طامٍ عمّ
جوده وبدرٍ سام أشرق وجوده ،
أمام شمس المعارف الكبرى وأستاذ الأئمة وقائد جميع الأمة ،
الذي لم يُرَ إلا صائماً أو قائماً أو قارئاً للقرآن .
نسب أزهر في التاريخ فحول الصحاري الى أزاهير ،
وبحر بعيد قعره ، زخّار موجه ،
يفيض عطاءً دون توقّف ،
حتى شهد بفضله القاصي والداني مسحت شمس هُداه دياجير
الجهل وأضاءت تعاليمه كل حنايا الروح والعقل .
منهله عذب لرواده ، ومنتج لقصاده ؛
يزدحم أهل الفضل في رحابه ، ويشرفون بتقبيل أعتابه ؛
والكل يرجعون بطاناً مرويّين يشهدون بقوة حجته وشدة عارضته ،
يذعنون له تسليماً واطمئناناً ، ويعترفون بمرجعيته تقديراً واحتراماً .
عاصر الامام الصادق ( عليه السلام ) عصرا أقلّ ما فيه أنه عصر
الاتجاهات غير المتجانسة فكان ( عليه السلام ) يجمع بين
المتفرقات ويفرق بين المجتمعات ؛
مدرسة سيارة لكنها شاملة مستوعبة لكل ما تحتاجه الأمة في
حاضرها ومستقبلها معبّراً عن طموحها وتطلعاتها .
وكثر من استقى منه العلم ،
حتى بلغ من عرف منهم أربعة آلاف أو يزيدون ،
فهو ( عليه السلام ) منعطف هام في تاريخ الاسلام الشيعي العلمي .
أما الذين أخذوا عنه ( عليه السلام ) العلم من غير الامامية ،
فكانوا يرون جلالته وسيادته وإمامته ،
وقد عدّوا أخذهم عنه منقبةً شرفوا بها وفضيلة اكتسبوها
( تهذيب الأسماء واللغات ، وشرح النهج لابن أبي الحديد : 1 : 6 ) .
وفي ( صواعق ) ابن حجر ..
ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان
وانتشر صيته في جميع البلدان .
ومما قاله النووي : ( اتفقوا على إمامته ( الصادق ) وجلالته وسيادته ) .
وقال عمرو بن أبي المقدام : " كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد ،
علمت أنه من سلالة النبيين" ( تهذيب الأسماء واللغات : 1 : 149 ـ 150 ) . وهذا ابن أبي الحديد المعتزلي قد أرجع علم المذاهب الاسلامية الأربعة
( الحنفي والحنبلي والمالكي والشافعي ) إليه في الفقه
( شرح نهج البلاغة 1: 6 ) . وقد حث ( عليه السلام )
تلامذته على كتابة العلم ونشره ، فقال ( عليه السلام ) :
" اكتبوا ، فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا " ؛ ومما قاله ( عليه السلام )
لمفضل بن عمر : "اكتب وبث علمك في إخوانك ،
فإن متَّ فورِّث كتبك بنيك ، فإنه يأتي زمان هرج ،
ما يأنسون فيه إلا بكتبهم" ( بحار الأنوار 46: 265 ) .
وكان من تأثير توجيهه ( عليه السلام ) هذا إن جمع شطر من الأحاديث
التي رويت عنه وعن آبائه وأبنائه في الأخلاق والأدب والأحكام وحدها ، فكانت الحصيلة أربعة كتب هي : ( الكافي )
و ( من لا يحضره الفقيه ) و ( التهذيب ) و ( الاستبصار ) .
هذا بالاضافة الى حشد كبير من تلامذة الامام الصادق ( عليه السلام )
ممن تتلمذ على يده المابركة وألف الكتب والعلوم والنظريات
في مختلف العلوم من الطب والكيمياء والنجوم والفلك والجغرافيا
والفيزياء والفلسفة وغيرها من العلوم الحديثة .
فكان الامام جعفر بن محمد الصادق ( عليهما السلام ) ،
من أوسع الناس علماً ، وأكثرهم اطلاعاً ،
حيث قال فيه الشهرستاني في كتابه ( الملل والنحل ) :
" انه ذو علم غزير في الدين ، وأدب كامل في الوحدة ،
وزهد بالغ في الدنيا ، وورع تام عن الشهوات " .
فهذا جابر بن حيّان الطرطوسي من أشهر تلامذة الامام ( عليه السلام )
في الكيمياء حيث يسجل تقريرات الامام ( عليه السلام )
في خمسمائة رسالة وفي ألف ورقة ( الفهرست 450 ـ 498 ) ؛
وهذا اسماعيل بن مهران بن أبي نصر السكوني ؛
وهذا أبو جعفر أحمد بن خالد البرقي ؛
وهذا أحمد بن الحسين بن أبي الحسن الفلكي الطوسي ،
وهذا أبو النضر محمد بن مسعود العياشي التميمي ؛
وهذا أبو على الحسن بن فضال وغيرهم من أصحاب
الامام جعفر الصادق ( عليه السلام ) ،
لكل منهم تأليفات وتدوينات عديدة في الحديث والطب والفلك
والكيمياء والفيزياء والجغرافيا ،
حيث لا يسع لهذا المقال الصغير أن يستعرضها كلها .
وقد جمع بعض علماء السلف شيئاً كثيراً من آراء الأئمة ( عليهم السلام )
في الطب وسموه ( طب الأئمة ) .
ويروي العلامة المجلسي ( قدس سره )
الكثير عن هذا الكتاب في كتابه ( بحار الأنوار ) ،
وكذلك الشيخ الحرّ العاملي في ( وسائل الشيعة ) ،
إلا أن هذا الكتاب لا وجود له اليوم .
وقد خصص الإمام الصادق ( عليه السلام ) في ما القاه على
المفضّل بن عمر الجعفي فصلاً تحدّث فيه عن الطبائع وفوائد الأدوية
وتشريح الجسم ومعرفة وظائف الأعضاء ( الفسيولوجيا ) .
كما أن الامام الصادق ( عليه السلام ) كان على علم
بخواص الأشياء منفردة ومركّبة ،
وأنه درّس علم الكيمياء في مدرسته قبل اثني عشر قرناً
ونصف قرن من وصول المنظرين اليه .
واشهر اصحابه وتلامذته في هذا العلم هشام بن الحكم
المتوفي حوالي سنة ( 199 للهجرة ) ،
وله نظرية في جسمية الأعراض كاللون والطعم والرائحة ،
وقد أخذ ابراهيم بن سيّار النظّام المعتزلي هذه النظرية لمّا تتلمذ
على يد هشام ( ابن خنلكان في أحوال الصادق 1: 150 ) .
ووقف الامام الصادق ( عليه السلام ) قبل غيره بل
وأكثر منهم في علم الفلك والنجوم ،
وله آراء ونظريات في دوران الكرة الأرضية وحركتها ،
وفي مقدار اشعة النجوم ، وحركة الضوء .
وكان من تأثير توجيهاته ( عليه السلام ) وارشاداته في علوم الهيئة
والفلك أن اهتم تلامذته بهذه العلوم ،
واشتغلوا بالأرصاد والأزياج والتقاويم والتنجيم والاختبارات وغير ذلك
من فروع علم الفلك من أقدم الأزمنة .
فكان ابو اسحاق ابراهيم حبيب الفزاري المتوفى عام ( 161 هـ ـ 777م ) ،
وهو من أصحاب الإمامين الصادق وموسى بن جعفر ( عليهما السلام ) ،
أول من عمل الاصطرلاب ( مرآة النجوم ) في الاسلام .
وأول من ألف فيه ؛
وله في ذلك كتابي " العمل بالاصطرلابات ذوات الحلق "،
و" العمل بالاصطرلاب السطح "
( الإمام الصادق ملهم الكيمياء : 156 محمد يحيى الهاشمي ) .
وهذا أحمد بن الحسن بن أبي الحسن الفلكي الطوسي ،
تخصص في علم الفلك حتى اشتهر به ،
ووضع كتاب " المنار " وكتاب " شرح التهذيب في الامامة "
وله في النجوم والفلك كتاب " ريحان المجالس وتحفة المؤانس " ،
وقد نقل عنه السيد ابن طاووس .
وقال عنه في كتابه " فرج المهموم " إن الكتاب عندي ،
وفيه أحاديث الكواكب وأسرارها واختيارها
( انظر الذريعة إلى تصانيف الشيعة ) .
وهذا محمد بن مسعود العياشي التميمي ،
وصفه ابن النديم بقوله : أوحد أهل دهره وزمانه في غزارة العلم ،
له كتاب " النجوم والفأر " ، و " القيافة والزجر " و " كتاب الطب "
( الفهرست : 274 ـ 275 ) .
وسبق الامام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام )
عصر العلم والاكتشافات الحديثة بألف سنة ،
بذهابه الى أن الهواء مركّب من عناصر مختلفة ؛ والواقع أن أبرز
العلماء والفلاسفة منذ أيام " أرسطو " والى القرن الثامن عشر للميلاد
الذي يعدّ قرن التقدّم والازدهار في ميادين العلوم ،
لم يكتشفوا أن الهواء ليس من العناصر البسيطة ،
ولم يقل أحد بهذا الـــرأي حتى جاء العــــالم الفرنسي " لافوازيـــيه "
( أبو الكيمياء الحديثة الذي اعدم عام 1794
بالمقصلة في الثورة الفرنسية )
فحلل الهواء ، وأستخرج منه الأوكسجين ،
وبرهن على أثره الحيوي الفعّال في التنفس وفي حياة الإنسان
وفي عمليات الاحتراق ؛ فأقبل جمهور العلماء والباحثين
على رأي " لافوازييه " باهتمام ،
وسلّموا بأن الهواء مركب من عناصر مختلفة .
وكان الامام جعفر بن محمد ( عليه السلام ) أول من فند القول
بأن هناك عناصر أربعة ( أصل الكون ) ،
وهي : ( التراب ، والماء ، والهواء ، والنار )
فقوض ( عليه السلام ) نظرية علماء ومفكري اليونان والتي
أستمرت لألف عام ؛ فأبدى الامام الصادق ( عليه السلام )
استغرابه لأن أرسطو لم ينتبه إلى أن العناصر الأربعة ومنها التراب
ليست عناصر بسيطة غير قابلة للتجزئة ،
وقال : إن التراب مركب من أجزاء وعناصر كثيرة ،
منها الحديد وهو بدوره مركب من أجزاء كل جزء منها يعتبر عنصراً مستقلاً . كما قال ( عليه السلام ) أن الهواء بدوره ليس عنصراً بسيطاً ،
بل هو مركب من أجزاء وعناصر شتى ،
وذلك خلافاً لما كان يعتقده أرسطو ايضاً .
والكلام عن علوم الامام جعفر بن محمد بن على بن الحسين
بن على بن أبي طالب أمير المؤمنين ( عليهم السلام ) ،
سادس أئمة الهداية والامامة التي خصهم الله سبحانه وتعالى
بهذه المنزلة الرفيعة والسامية دون سائر الخلق ؛
طويل وكثير والمقال والزمان لم ولن يتسع لسرده ولو بأختصار فاخذنا
منه بعض الموجز لنقف على دور زعيم الطائفة ومؤسسها صادق
أهل بيت العصمة والطهارة ( عليهم السلام ) في نشر علم الله
سبحانه وتعالى على كل المستويات الفقهية والعلمية بمختلف
شقوقها وسطوحها بتبيين واضح وشفاف وهادف لتوعية
وتنوير أفكار البشرية جمعاء ،
وهذا ما لا يروق لحكام الظلم والزور والتزوير والطغيان والفرعنة
من بني العباس ولم يطيقوه .
وقد استشهد الامام الصادق ( عليه السلام ) مساء يوم الاثنين ( 25 )
شهر شوال سنة ( 148 ) بعد الهجرة وله من العمر ( 65 ) سنة 148 ،
متأثراً بسم دسه إليه المنصور العباسي على يد عامله على المدينة
" محمد بن سليمان " بعد أن أقدم على قتل الامام ( عليه السلام )
عدة مرات وحتى أنه أحرق داره ذات مرة ( تقريب التهذيب : 68 ،
ورسائل الجاحظ للسندوبي : 106 ) .
وقد تم دفن جسده الطاهر ( عليه السلام ) في البقيع
وهو مقبرة المدينة المنورة في العهد النبوي الشريف وفيه دفن جمع
كثير من الصحابة منهم ابن النبي إبراهيم وأم النبي وكذلك الأئمة
الأربعة من أهل البيت ( عليهم السلام )
وهم : أبيه الباقر ، وجده زين العابدين ، وعمه الحسن السبط ،
( صلوات الله عليهم أجمعين ) .
وهدم قبره الشريف مع سائر قبور أئمة المسلمين من أهل
بيت النبوة والامامة ( عليهم السلام ) أجمعين في مرحلتين على
يد أعداء الله ورسوله ( صلى الله عليه وعلى اله وسلم )
والمسلمين جميعاٌ وهم الوهابية الحاقدين التكفيريين كان ثانيها
هو في الثامن من شوال سنة 1344 للهجرة ولا تزال مهدمة
وسط صمت مطبق عربي واسلامي والمتشدقين بحقوق انسان .
اللهم اكتبنا من شيعة جعفر بن محمد ( عليه السلام )
كما أراد لنا الامام جعفر الصادق ( عليه السلام ) أن نكون
تعليق