وكان أهل الكوفة يرجون الخير من معاوية وتنفيذ وعوده لهم ولكن معاوية فاجئهم بقوله (أني جئت لا أمركم بالصلاة ولا الصيام . بل جئت لأتمر عليكم). عندها وضحت الصورة لبعض المرتابين من أهل الكوفة في صدق قول أهل البيت في بني أمية من قول معاوية وأخذوا يبكون على ما فعلوه في الإمام الحسن(u) .
ثم تحولت الخلافة إلى مُلكُ عضوض يرثه من بعده ولده يزيد(اللعين) المعروف عند العامة والخاصة بالفسق والفجور وشرب الخمور .... وغيرها كثير .
ولعلم الإمام الحسين بجميع تلك الأمور ومدى خطورتها على الأمة وعلى المفاهيم الإسلامية ثار أبو الأحرار الحسين بن علي(u) على تلك الهمجية الرعناء والمنحرفة في إدارة شؤون البلاد وَرَسم للناس من ثورته شعارات خطها بدمه على وجه التاريخ والتي أنتجت شعائر نابعة من حقيقة الثورة ومن وجدانها النابض بدمه ودم أهل بيته (عليهم السلام) وأصحابه لتصنع تراث تعيش عليه الجماهير ومن خلاله يستمدون القوة والعزم والإرادة والصبر والتضحية في سبيل الله وفي سبيل الإنسانية والمبادئ السامية التي يحملونها ولأهمية تلك المواقف وعظمتها أكد أئمة أهل البيت(عليهم السلام)من حياة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من بعده وإلى الإمام الثاني عشر المهدي الموعود(u) على إحياء تلك الشعائر في كل وقت ومكان وزمان لما تحمله من سمات تربوية تصقل فكر الفرد ومواهبه نحو البناء العام والصحيح للمجتمع على منهج رسالة الإسلام وكذلك تشكل مظهر من مظاهر السياسة المعارضة لكل السياسات الخاطئة التي تريد السيطرة على مقدرات الأمة في كل زمان ومكان . وكذلك تحافظ على مبادئ ثورة الطف من خلال مجابهة الإعلام المضاد الذي يريد طمس حقيقة الطف وأهدافها .
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال(اجتمعوا وتذكروا تحف بكم الملائكة . رحم الله من أحيا أمرنــــــا )([1]) .
ولو دققنا ملياً في ذلك النتاج الضخم الذي أفرزته واقعة الطف من شعائر حسينية أيام عاشوراء من حيث الشكل والمضمون نجد أن تلك المواكب الزاحفة بشتى أصنافها من أصقاع الأرض كأنها السيل الجارف تشكل مسيرات كبيرة معارضة للسياسات المنحرفة عن جادة الحق والصواب في جميع بقاع الأرض من خلال استعراضهم الحاشد والشعارات التي يطلقونها وهي تندد بكل أنواع الظلم والاستبداد والاستكبار والهيمنة المتمثلة بحكومة يزيد(اللعين) وسياسته الرعناء وقد عبر عنها المتظاهرون من خلال الكلمات التي يكتبونها على البيارق واللافتات التي يحملونها والبوسترات الجدارية التي يعلقونها على الجدران أو الهتافات التي يرددونها عند المسير أو القصائد التي تقرأ على المنابر والتي تعبر جميعها عن مدى التلاحم والوثيق بين المشاركين والقضية التي يؤمنون بها ويعملون على تحقيقها في كل وقت والتي تعلموها من إمامهم ومقتداهم في الدنيا وشفيعهم يوم القيامة أنه الإمام الحسين (عليه السلام) ( ورب سائل يسأل عن عدم وجود تلك الشعارات التي أسلفناها في الشعائر الحسينية فنقول أن الكلمات التي تتضمن ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) في البعد الفكري والعقائدي تصب في صلب تلك الكلمات التي ذكرت آنفاً).
حتى يصل التلاحم بين الأفراد المشاركين إلى تفجير الطاقات الكامنة التي يملكونها من شعر ونثر وخطابة وإيثار وتعاون إلى مواكب طويلة وحاشدة للّطم على الصدر أو ضرب الأكتاف بالسلاسل (الزنجيل) أو التطبير (شق مقدمة الرأس بالقامة) مع إلقاء قصائد حماسية تصف هول المصيبة التي حدثت في واقعة الطف . مما يعكس للمتأمل عن حالة اندماج كامل للشخصية الإسلامية مع أحداث الواقعة بكل مكوناتها وأحداثها وكلماتها . حتى وصل الأمر بالمشاركين أن ينسوا كل حاجاتهم وآلامهم وأمور معيشتهم وحتى أولادهم ونسائهم ومصالحهم الدنيوية الأخرى ويذوبون في الإمام الحسين(عليه السلام) وكأنهم يعيشون واقعة الطف الأليمة بكل مكوناتها ويرونها جليةً أمام أبصارهم حتى ينعكس ذلك الأمر على كامل تصرفاتهم مما يشكل خطر واضحا على السياسة الحاكمة في ذلك الوقت والتي تستمد سياستها من منهج سياسة يزيد وأبيه(عليهم اللعنة) مما تضطر تلك الحكومات إلى قمع الشعائر الحسينية ومحاولة تفتيت مكوناتها . ولكن صوت الجماهير المؤمنة يعلوا في الأفق رغم تلك الأساليب المشينة من قتل واعتقال وتعذيب مقتدين بإمامهم أبا الأحرار الإمام الحسين(عليه السلام) وهم يرددون كلماته(هيهات منا الذلة . هيهات منا الذلة ) .ويعملون بها في حياتهم اليومية .
قال الإمام الحسين(عليه السلام)[ إلا أن الدعي أبن الدعي قد ركز بين اثنتين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وأرحام طهرت على أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ](1)وهذا الشعار الذي قاله الإمام الحسين(عليه السلام) والذي حملته المواكب الحسينية يوم العاشر من محرم تحتذي به كل أفراد الأمة وتطرز به صدورها لأنه يعني باعتزاز المؤمن بنفسه وإيمانه بقضيته وصموده في جانب الحق . وليس هذا من التكبر الباطل في شيء وإنما هو الاعتزاز بالله ورسوله وحسبنا.
قول الإمام السجاد(عليه السلام) (من أراد عزاً بلا عشيرة وهيبة من غير سلطان وعزاً من غير مال وطاعة من غير نبل فليتحول من ذل معصيته إلى عز طاعته فأنه يجد ذلك )(1).
1 ـ الـلـهـوف / ص 41
وكذلك قول الإمام الحسين في دعاء يوم عرفه (عليه السلام)(فأولياءه بعزته يعتزون) . وليسلهم كبرياء مستقل عن كبرياء الله عز وجل ولا شك إن الإمام الحسين(عليه السلام)وأهل بيته وأصحابه هم المصداق الحقيقي والواضح لتلك النصوص الشريفة وبالتالي تنعكس تلك المفاهيم والمصاديق على من يؤمن بتلك الأمور من خلال مشاركته الفاعلة في الشعائر الحسينية أيام عاشوراء فيها حتى يحقق الغاية التي ينشدها الإمام . وبذلك يكون قد لبى نداء الإمام الحسين(عليه السلام) (هل من ناصر ينصرنا هل من معين يعيننا هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم")
وكذلك قوله(من سمع واعيتنا ولم ينصرنا أكبه الله على منخريه في النار يوم القيامة )(2).
وبذلك تكون شعارات الطف قناديل وضاءة تحيّ ضمير الأمة نحو مستقبل أفضل وهي تعيش ذكرى عاشوراء في كل عام تشارك بكل ما تملك بشعائره التي تجسد تلك الشعارات بالقول والعمل حتى تصبح صرخة مدوية تحملها ألسنة المشاركين في تلك الشعائر . ترهب من خلالها قلوب أئمة الضلال والكفر والانحراف الذين أحبوا الحياة الدنيا وملذاتها القليلة على الحياة الآخرة والتي هي الحيوان عملوا لها بكل طاقاتهم وكأنها دار قرار. بعكس أصحاب المبادئ السامية والثابتة الذين ينشدون خير الدارين واستعمارهما بما فيه رضي الله تعالى فأنهم يرون الموت
1 ـ آمال الطوسي / ج 18 ص 137
2 ـ مـقـتل الخـوارزمـي ص 227
في سبيل القضية التي عشقوها وعشقوا صاحبها وهو الله تعالى منتهى السعادة والمنى ويرون العيش مع الظالمين خسارة فادحة. قال الإمام الحسين(عليه السلام) [أن الحق لا يعمل به وأن الباطل لا ينتهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً فإني لا أرى الموت إلا الحياة والحياة مع الظالمين إلا برما](1).
لذلك ترى الأعداء بشتى صنوفها وتوجهاتها يبغضون تلك الشعائر والعاملين على إحياءها ويعملون بكل طاقاتهم على تفتيتها والقضاء على معالمها التاريخية والحضارية والفكرية والعقائدية والاجتماعية بشتى السبل وقتل المؤمنين بها والعاملين على إحياءها في كل مكان وزمان . لأن تلك الشعائر وبكل مكوناتها آنفة الذكر تشكل مظهر من مظاهر المعارضة التي تهز مضاجعهم وترجف فرائصهم وتنخر في سياستهم الفاسدة وتجعل طرق النجاة أمامهم ضيقة أو معدومة لذلك يعمدون على محاربتها.
أما أصحاب المبادئ والقيم الذين يؤمنون بفكر الشعائر الحسينية لا يبالون بالغالي والنفيس من أجل تحقيق أهدافهم المنشودة والتي هي نبع من فيض أهداف ثورة الطفال خالدة ويعتبر اشتراكهم بتلك الشعائر المقدسة ترجمة لتلك الرسالة الإسلامية الخالدة التي جاء بها نبي الله محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) . لذلك تراهم يصرون على إحياءها من خلال إقامة المآتم ومراسيم العزاء بكافة أنواعه من اللطم على الصدور وضرب الأكتاف بالسلاسل(الزنجيل) أو التطبير (بالقامة) مع نقر الطبول ومهرجانات الخطابة والشعر بأنواعه وإقامة ولائم الطعام ولبس السواد والذهاب إلى زيارات مراقد أئمة أهل البيت(عليهم السلام) من خلال المسير أو ركوب العجلات وغيرها كثير من أعمال البر
1 ـ بـحـار الأنـوار /ج 75 ص 116
يعجز إحصائه إيماناً منهم بقدسية تلك الشعائر التي هي شعائر الله جل وعلا وما لها من فائدة في توضيف إمكانياتهم لبناء مجتمع يسوده السلام والإسلام . وفق سياسة منهجية خطها الله تعالى في لوحه المحفوظ وعمل بها أئمة أهل البين الأطهار (عليهم السلام).لذلك ترى الحكام الذين تعاقبوا على كرسي الحكم بعد يزيد(عليه اللعنة) كانوا على حرب طاحنة وليس لها هوادة مع فكر الإمام الحسين(عليه السلام) وسيرته الذاتية ومحاولة تسويف أهدافه التي كان ينشدها . وحتى قبره الشريف في تلك البقعة المقدسة لم يسلم من الهدم وحرث الأرض وإغراقه بالماء لتضيّع مَعلمهِ مِنْ على الأرض!ولكن شاء الله تعالى أن يبقى الحسين وفكره الوضاء ومعلم قبره الشامخ بقبته الذهبية علماً ومنارةً لهداية البشرية على مر السنين الماضية والحاضرة وأجيال المستقبل .
أما أنصاره والسائرون على خطاه في كل زمن فأنهم لم يسلموا من أيدي حكام الجور والطغاة على مر العصور والدهور حتى ضاقت بهم السجون والثكنات والمعتقلات . لأنهم يشكلون المعارضة الحقيقية والخطرة على سياستهم الفاسدة لما يحملوا من فكر أصيل تعلموه من الإمام الحسين(عليه السلام) وساروا به وفق منهجه الذي خطه على أرض الطف وأنتج شعائر تنمي روح الحماس والتضحية لديهم وفي مجملها تشكل حربا علنية على أنظمتهم الفاسدة . لأن فكر الإمام الحسين (عليه السلام) يُعلم الناس المبادئ السامية وكيفية الأيمان بها والعمل بموجبها والموت دونها وبهذه الطريقة تنكشف عورات أنظمتهم الفاسدة التي تفوح على سطح الحقيقة مثل الجيف النتنة عندما تكشفها حرارة الشمس وحركة الريح . من هذا المنطلق استمرت ثورة الطف على مر التاريخ وشعائرها حيةً في ضمير الأمة وفي وجدانها وفي نبض حياتها الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والثقافية والسياسية إلى عصرنا الحاضر حتى تسقط كل أنظمة الدجل والتسويف والعنصرية والاضطهاد والطغيان التي صنعتها أيادي الشيطان على مر التاريخ القديم والحديث . وخير دليل على ذلك الثورات التي أعقبت واقعة الطف في الكوفة أو غيرها . مثل ثورة التوابين بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي وأتباعه في الكوفة ضد جيش بن زياد وكذلك ثورة المختار والتي من خلالها أستطاع القضاء على جميع من أشترك بقتل الإمام الحسين(عليه السلام) . وهكذا مع باقي الثورات التي تبعت ذلك من أولاد الإمام الحسن(عليه السلام) وأولاد الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) (زيد وولده يحيى)(عليهم السلام)والتي كانت جميعها تحمل شعارات الإمام الحسين(عليه السلام)والمطالبة بالثأر من بني أمية(عليهم اللعنة) حتى جاءت ثورة العباسيين ضد الأمويين وهي تحمل نفس الشعارات والطلب بثأر الإمام الحسين (عليه السلام) ولكن في حقيقتها تطلب أهداف أخرى وهو الملك والسلطان وسرعان ما أنكشف ذلك للعيان بعد استلام السلطة من قبلهم وأخذهم برقاب أهل البيت (عليهم السلام) في السجن والتقتيل بأبشع الصور حتى أنها فاقت أعمال بني أمية. من هذا نكتشف مدى تأثير قضية الإمام الحسين(عليه السلام)في نفوس أفراده الأمة و مسيرة حركتها ورسم مقدراتها نحو المستقبل المشرق الذي يقوده الإمام الموعود المهدي المنتظر(عجل الله فرجه الشريف) ومدى تأثيرها على السياسات المنحرفة في العالم وعلى استمرارية بقاءها في دفة الحكم . لذلك ترى اليوم وبعد مرور أكثر من ألف سنة على واقعة الطف واستشهاد الإمام الحسين(عليه السلام) كيف أن تلك السياسات الظالمة تحارب كل من ينتمي إلى مذهب أهل البيت(عليهم السلام) وتمنع إقامة الشعائر الحسينية وبشتى الطرق حتى لو بالقتل والتشريد لمنع ذلك الصوت الذي يهز مضاجعهم.
أما أسباب استدامة وبقاء الشعارات والشعائر الحسينية هو تأكيد أئمة أهل البيت في كثير من المواطن وفي كثير من الروايات وعلى مرور الوقت وتعدد الأدوار لهم (عليهم السلام)على أحياءها والاستضاءة بنور معطياتها الفكرية والعقائدية والسياسية والثقافية والاجتماعية .
عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) :أنه أوصى رجلاً من أصحابه أنفذه إلى قوم من شيعته فقال : بلغ شيعتنا السلام وأوصهم بتقوى الله العظيم وبأن يعود غنيهم على فقيرهم ويعود صحيحهم عليلهم ويحضر حيهم جنازة ميتهم ويتلاقوا في بيوتهم فإن لقاء بعضهم بعضاً حياة لأمرنا رحم الله أمرا أحيا أمرانا وعمل بأحسنه . قل لهم إنا لا نغني عنكم من الله شيئاً إلا يعمل صالح ولن تنالوا ولايتنا إلا بالورع وإن أشد الناس حسرة يوم القيامة من وصف عملاً ثم خالف إلى غيره)(1).
وكذلك تحمل معنى الثورة من أجل مصلحة المجتمع وليس مصلحة أصحابها . وهنا إذا قارنا كل الثورات التي سبقت والتي لحقت واقعة الطف لوجدتها أنها تبحث عن تحقيق ذوات أصحابها لأنهم يبحثون عن حقيقة مصالحهم الذاتية من خلال امتلاك السلطة والنفوذ ,إلا ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) والثورات التي سارت والتي تسير ضمن مسار ثورة الطف .
لذلك ارتسمت تلك الثورة في وجدان وضمير الإنسانية مع ما تحمل من شعائر وأصبحت منهاجاً رسالي كاملاً في جميع جوابه يصنع للأمة مسيرتها التي أرادها الله تعالى لها فيهذه المعمورة من خلال تحقيق أهم أهدافها وهو إقامة دولة العدل الإلهي بقيادة الإمام المهدي المنتظر(عجل الله فرجه الشريف)
1 ـ مسـتدرك الوسائل / ج 8 ص 311
[1] - وسائل الشيعة / ج 12 ص 22
ثم تحولت الخلافة إلى مُلكُ عضوض يرثه من بعده ولده يزيد(اللعين) المعروف عند العامة والخاصة بالفسق والفجور وشرب الخمور .... وغيرها كثير .
ولعلم الإمام الحسين بجميع تلك الأمور ومدى خطورتها على الأمة وعلى المفاهيم الإسلامية ثار أبو الأحرار الحسين بن علي(u) على تلك الهمجية الرعناء والمنحرفة في إدارة شؤون البلاد وَرَسم للناس من ثورته شعارات خطها بدمه على وجه التاريخ والتي أنتجت شعائر نابعة من حقيقة الثورة ومن وجدانها النابض بدمه ودم أهل بيته (عليهم السلام) وأصحابه لتصنع تراث تعيش عليه الجماهير ومن خلاله يستمدون القوة والعزم والإرادة والصبر والتضحية في سبيل الله وفي سبيل الإنسانية والمبادئ السامية التي يحملونها ولأهمية تلك المواقف وعظمتها أكد أئمة أهل البيت(عليهم السلام)من حياة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من بعده وإلى الإمام الثاني عشر المهدي الموعود(u) على إحياء تلك الشعائر في كل وقت ومكان وزمان لما تحمله من سمات تربوية تصقل فكر الفرد ومواهبه نحو البناء العام والصحيح للمجتمع على منهج رسالة الإسلام وكذلك تشكل مظهر من مظاهر السياسة المعارضة لكل السياسات الخاطئة التي تريد السيطرة على مقدرات الأمة في كل زمان ومكان . وكذلك تحافظ على مبادئ ثورة الطف من خلال مجابهة الإعلام المضاد الذي يريد طمس حقيقة الطف وأهدافها .
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال(اجتمعوا وتذكروا تحف بكم الملائكة . رحم الله من أحيا أمرنــــــا )([1]) .
ولو دققنا ملياً في ذلك النتاج الضخم الذي أفرزته واقعة الطف من شعائر حسينية أيام عاشوراء من حيث الشكل والمضمون نجد أن تلك المواكب الزاحفة بشتى أصنافها من أصقاع الأرض كأنها السيل الجارف تشكل مسيرات كبيرة معارضة للسياسات المنحرفة عن جادة الحق والصواب في جميع بقاع الأرض من خلال استعراضهم الحاشد والشعارات التي يطلقونها وهي تندد بكل أنواع الظلم والاستبداد والاستكبار والهيمنة المتمثلة بحكومة يزيد(اللعين) وسياسته الرعناء وقد عبر عنها المتظاهرون من خلال الكلمات التي يكتبونها على البيارق واللافتات التي يحملونها والبوسترات الجدارية التي يعلقونها على الجدران أو الهتافات التي يرددونها عند المسير أو القصائد التي تقرأ على المنابر والتي تعبر جميعها عن مدى التلاحم والوثيق بين المشاركين والقضية التي يؤمنون بها ويعملون على تحقيقها في كل وقت والتي تعلموها من إمامهم ومقتداهم في الدنيا وشفيعهم يوم القيامة أنه الإمام الحسين (عليه السلام) ( ورب سائل يسأل عن عدم وجود تلك الشعارات التي أسلفناها في الشعائر الحسينية فنقول أن الكلمات التي تتضمن ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) في البعد الفكري والعقائدي تصب في صلب تلك الكلمات التي ذكرت آنفاً).
حتى يصل التلاحم بين الأفراد المشاركين إلى تفجير الطاقات الكامنة التي يملكونها من شعر ونثر وخطابة وإيثار وتعاون إلى مواكب طويلة وحاشدة للّطم على الصدر أو ضرب الأكتاف بالسلاسل (الزنجيل) أو التطبير (شق مقدمة الرأس بالقامة) مع إلقاء قصائد حماسية تصف هول المصيبة التي حدثت في واقعة الطف . مما يعكس للمتأمل عن حالة اندماج كامل للشخصية الإسلامية مع أحداث الواقعة بكل مكوناتها وأحداثها وكلماتها . حتى وصل الأمر بالمشاركين أن ينسوا كل حاجاتهم وآلامهم وأمور معيشتهم وحتى أولادهم ونسائهم ومصالحهم الدنيوية الأخرى ويذوبون في الإمام الحسين(عليه السلام) وكأنهم يعيشون واقعة الطف الأليمة بكل مكوناتها ويرونها جليةً أمام أبصارهم حتى ينعكس ذلك الأمر على كامل تصرفاتهم مما يشكل خطر واضحا على السياسة الحاكمة في ذلك الوقت والتي تستمد سياستها من منهج سياسة يزيد وأبيه(عليهم اللعنة) مما تضطر تلك الحكومات إلى قمع الشعائر الحسينية ومحاولة تفتيت مكوناتها . ولكن صوت الجماهير المؤمنة يعلوا في الأفق رغم تلك الأساليب المشينة من قتل واعتقال وتعذيب مقتدين بإمامهم أبا الأحرار الإمام الحسين(عليه السلام) وهم يرددون كلماته(هيهات منا الذلة . هيهات منا الذلة ) .ويعملون بها في حياتهم اليومية .
قال الإمام الحسين(عليه السلام)[ إلا أن الدعي أبن الدعي قد ركز بين اثنتين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وأرحام طهرت على أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ](1)وهذا الشعار الذي قاله الإمام الحسين(عليه السلام) والذي حملته المواكب الحسينية يوم العاشر من محرم تحتذي به كل أفراد الأمة وتطرز به صدورها لأنه يعني باعتزاز المؤمن بنفسه وإيمانه بقضيته وصموده في جانب الحق . وليس هذا من التكبر الباطل في شيء وإنما هو الاعتزاز بالله ورسوله وحسبنا.
قول الإمام السجاد(عليه السلام) (من أراد عزاً بلا عشيرة وهيبة من غير سلطان وعزاً من غير مال وطاعة من غير نبل فليتحول من ذل معصيته إلى عز طاعته فأنه يجد ذلك )(1).
1 ـ الـلـهـوف / ص 41
وكذلك قول الإمام الحسين في دعاء يوم عرفه (عليه السلام)(فأولياءه بعزته يعتزون) . وليسلهم كبرياء مستقل عن كبرياء الله عز وجل ولا شك إن الإمام الحسين(عليه السلام)وأهل بيته وأصحابه هم المصداق الحقيقي والواضح لتلك النصوص الشريفة وبالتالي تنعكس تلك المفاهيم والمصاديق على من يؤمن بتلك الأمور من خلال مشاركته الفاعلة في الشعائر الحسينية أيام عاشوراء فيها حتى يحقق الغاية التي ينشدها الإمام . وبذلك يكون قد لبى نداء الإمام الحسين(عليه السلام) (هل من ناصر ينصرنا هل من معين يعيننا هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم")
وكذلك قوله(من سمع واعيتنا ولم ينصرنا أكبه الله على منخريه في النار يوم القيامة )(2).
وبذلك تكون شعارات الطف قناديل وضاءة تحيّ ضمير الأمة نحو مستقبل أفضل وهي تعيش ذكرى عاشوراء في كل عام تشارك بكل ما تملك بشعائره التي تجسد تلك الشعارات بالقول والعمل حتى تصبح صرخة مدوية تحملها ألسنة المشاركين في تلك الشعائر . ترهب من خلالها قلوب أئمة الضلال والكفر والانحراف الذين أحبوا الحياة الدنيا وملذاتها القليلة على الحياة الآخرة والتي هي الحيوان عملوا لها بكل طاقاتهم وكأنها دار قرار. بعكس أصحاب المبادئ السامية والثابتة الذين ينشدون خير الدارين واستعمارهما بما فيه رضي الله تعالى فأنهم يرون الموت
1 ـ آمال الطوسي / ج 18 ص 137
2 ـ مـقـتل الخـوارزمـي ص 227
في سبيل القضية التي عشقوها وعشقوا صاحبها وهو الله تعالى منتهى السعادة والمنى ويرون العيش مع الظالمين خسارة فادحة. قال الإمام الحسين(عليه السلام) [أن الحق لا يعمل به وأن الباطل لا ينتهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً فإني لا أرى الموت إلا الحياة والحياة مع الظالمين إلا برما](1).
لذلك ترى الأعداء بشتى صنوفها وتوجهاتها يبغضون تلك الشعائر والعاملين على إحياءها ويعملون بكل طاقاتهم على تفتيتها والقضاء على معالمها التاريخية والحضارية والفكرية والعقائدية والاجتماعية بشتى السبل وقتل المؤمنين بها والعاملين على إحياءها في كل مكان وزمان . لأن تلك الشعائر وبكل مكوناتها آنفة الذكر تشكل مظهر من مظاهر المعارضة التي تهز مضاجعهم وترجف فرائصهم وتنخر في سياستهم الفاسدة وتجعل طرق النجاة أمامهم ضيقة أو معدومة لذلك يعمدون على محاربتها.
أما أصحاب المبادئ والقيم الذين يؤمنون بفكر الشعائر الحسينية لا يبالون بالغالي والنفيس من أجل تحقيق أهدافهم المنشودة والتي هي نبع من فيض أهداف ثورة الطفال خالدة ويعتبر اشتراكهم بتلك الشعائر المقدسة ترجمة لتلك الرسالة الإسلامية الخالدة التي جاء بها نبي الله محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) . لذلك تراهم يصرون على إحياءها من خلال إقامة المآتم ومراسيم العزاء بكافة أنواعه من اللطم على الصدور وضرب الأكتاف بالسلاسل(الزنجيل) أو التطبير (بالقامة) مع نقر الطبول ومهرجانات الخطابة والشعر بأنواعه وإقامة ولائم الطعام ولبس السواد والذهاب إلى زيارات مراقد أئمة أهل البيت(عليهم السلام) من خلال المسير أو ركوب العجلات وغيرها كثير من أعمال البر
1 ـ بـحـار الأنـوار /ج 75 ص 116
يعجز إحصائه إيماناً منهم بقدسية تلك الشعائر التي هي شعائر الله جل وعلا وما لها من فائدة في توضيف إمكانياتهم لبناء مجتمع يسوده السلام والإسلام . وفق سياسة منهجية خطها الله تعالى في لوحه المحفوظ وعمل بها أئمة أهل البين الأطهار (عليهم السلام).لذلك ترى الحكام الذين تعاقبوا على كرسي الحكم بعد يزيد(عليه اللعنة) كانوا على حرب طاحنة وليس لها هوادة مع فكر الإمام الحسين(عليه السلام) وسيرته الذاتية ومحاولة تسويف أهدافه التي كان ينشدها . وحتى قبره الشريف في تلك البقعة المقدسة لم يسلم من الهدم وحرث الأرض وإغراقه بالماء لتضيّع مَعلمهِ مِنْ على الأرض!ولكن شاء الله تعالى أن يبقى الحسين وفكره الوضاء ومعلم قبره الشامخ بقبته الذهبية علماً ومنارةً لهداية البشرية على مر السنين الماضية والحاضرة وأجيال المستقبل .
أما أنصاره والسائرون على خطاه في كل زمن فأنهم لم يسلموا من أيدي حكام الجور والطغاة على مر العصور والدهور حتى ضاقت بهم السجون والثكنات والمعتقلات . لأنهم يشكلون المعارضة الحقيقية والخطرة على سياستهم الفاسدة لما يحملوا من فكر أصيل تعلموه من الإمام الحسين(عليه السلام) وساروا به وفق منهجه الذي خطه على أرض الطف وأنتج شعائر تنمي روح الحماس والتضحية لديهم وفي مجملها تشكل حربا علنية على أنظمتهم الفاسدة . لأن فكر الإمام الحسين (عليه السلام) يُعلم الناس المبادئ السامية وكيفية الأيمان بها والعمل بموجبها والموت دونها وبهذه الطريقة تنكشف عورات أنظمتهم الفاسدة التي تفوح على سطح الحقيقة مثل الجيف النتنة عندما تكشفها حرارة الشمس وحركة الريح . من هذا المنطلق استمرت ثورة الطف على مر التاريخ وشعائرها حيةً في ضمير الأمة وفي وجدانها وفي نبض حياتها الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والثقافية والسياسية إلى عصرنا الحاضر حتى تسقط كل أنظمة الدجل والتسويف والعنصرية والاضطهاد والطغيان التي صنعتها أيادي الشيطان على مر التاريخ القديم والحديث . وخير دليل على ذلك الثورات التي أعقبت واقعة الطف في الكوفة أو غيرها . مثل ثورة التوابين بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي وأتباعه في الكوفة ضد جيش بن زياد وكذلك ثورة المختار والتي من خلالها أستطاع القضاء على جميع من أشترك بقتل الإمام الحسين(عليه السلام) . وهكذا مع باقي الثورات التي تبعت ذلك من أولاد الإمام الحسن(عليه السلام) وأولاد الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) (زيد وولده يحيى)(عليهم السلام)والتي كانت جميعها تحمل شعارات الإمام الحسين(عليه السلام)والمطالبة بالثأر من بني أمية(عليهم اللعنة) حتى جاءت ثورة العباسيين ضد الأمويين وهي تحمل نفس الشعارات والطلب بثأر الإمام الحسين (عليه السلام) ولكن في حقيقتها تطلب أهداف أخرى وهو الملك والسلطان وسرعان ما أنكشف ذلك للعيان بعد استلام السلطة من قبلهم وأخذهم برقاب أهل البيت (عليهم السلام) في السجن والتقتيل بأبشع الصور حتى أنها فاقت أعمال بني أمية. من هذا نكتشف مدى تأثير قضية الإمام الحسين(عليه السلام)في نفوس أفراده الأمة و مسيرة حركتها ورسم مقدراتها نحو المستقبل المشرق الذي يقوده الإمام الموعود المهدي المنتظر(عجل الله فرجه الشريف) ومدى تأثيرها على السياسات المنحرفة في العالم وعلى استمرارية بقاءها في دفة الحكم . لذلك ترى اليوم وبعد مرور أكثر من ألف سنة على واقعة الطف واستشهاد الإمام الحسين(عليه السلام) كيف أن تلك السياسات الظالمة تحارب كل من ينتمي إلى مذهب أهل البيت(عليهم السلام) وتمنع إقامة الشعائر الحسينية وبشتى الطرق حتى لو بالقتل والتشريد لمنع ذلك الصوت الذي يهز مضاجعهم.
أما أسباب استدامة وبقاء الشعارات والشعائر الحسينية هو تأكيد أئمة أهل البيت في كثير من المواطن وفي كثير من الروايات وعلى مرور الوقت وتعدد الأدوار لهم (عليهم السلام)على أحياءها والاستضاءة بنور معطياتها الفكرية والعقائدية والسياسية والثقافية والاجتماعية .
عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) :أنه أوصى رجلاً من أصحابه أنفذه إلى قوم من شيعته فقال : بلغ شيعتنا السلام وأوصهم بتقوى الله العظيم وبأن يعود غنيهم على فقيرهم ويعود صحيحهم عليلهم ويحضر حيهم جنازة ميتهم ويتلاقوا في بيوتهم فإن لقاء بعضهم بعضاً حياة لأمرنا رحم الله أمرا أحيا أمرانا وعمل بأحسنه . قل لهم إنا لا نغني عنكم من الله شيئاً إلا يعمل صالح ولن تنالوا ولايتنا إلا بالورع وإن أشد الناس حسرة يوم القيامة من وصف عملاً ثم خالف إلى غيره)(1).
وكذلك تحمل معنى الثورة من أجل مصلحة المجتمع وليس مصلحة أصحابها . وهنا إذا قارنا كل الثورات التي سبقت والتي لحقت واقعة الطف لوجدتها أنها تبحث عن تحقيق ذوات أصحابها لأنهم يبحثون عن حقيقة مصالحهم الذاتية من خلال امتلاك السلطة والنفوذ ,إلا ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) والثورات التي سارت والتي تسير ضمن مسار ثورة الطف .
لذلك ارتسمت تلك الثورة في وجدان وضمير الإنسانية مع ما تحمل من شعائر وأصبحت منهاجاً رسالي كاملاً في جميع جوابه يصنع للأمة مسيرتها التي أرادها الله تعالى لها فيهذه المعمورة من خلال تحقيق أهم أهدافها وهو إقامة دولة العدل الإلهي بقيادة الإمام المهدي المنتظر(عجل الله فرجه الشريف)
1 ـ مسـتدرك الوسائل / ج 8 ص 311
[1] - وسائل الشيعة / ج 12 ص 22
تعليق