ساعي بريد كربلاء
حاتم أبو صاحب بقلم عدنان فاضل الربيعي
حاتم أبو صاحب بقلم عدنان فاضل الربيعي
علي دراجته القديمة، حاملا حقيبته الجلدية البنية، كان «حاتم أبو صاحب » يطوف شوارع كربلاء حاملا بريده اليومي.. يقف قليلا.. يحدق جيدا في العناوين، قبل أن يتجه إلى المنزل المقابل، يطرق الأبواب، أو يرفع رأسه إلى بلكونات الشقق مناديا «يا أبو فلان رسالة اجتك » ثم ينصرف إلى بيت آخر.. وكلما قل عدد الخطابات في حقيبته، بانقضاء ساعات النهار يزداد تفاؤلا.
«عمو حاتم» الذي ترك مهنته منذ سنين يسير في نفس الشوارع، حاملا حقيبته، وان كانت فارغة من الرسائل هذه المرة، لكنه يحمل فيها اليوم الوجبة (الغذائية ) من زيت وسكر ورز ونادرا ما يجدهن معا وهمس في إذني وقال ( الله يلعن كلمن يبوك قوت الشعب ) كما قال لي «كلما أذهب إلى مركز المدينة أرقب وجوه المارة الذاهبين لأعمالهم والعائدين منها، أعرفهم بالاسم ويعرفونني جيدا ساعي البريد هو ملك الشوارع .. هو الذي يعرفه كل الناس وأحيانا ينتظرونه على ناصية الشارع في الفترات العصيبة، يكرهونه أحيانا ـ بلا ذنب ـ إذا جاء حاملا خبرا سيئا، يتهمونه بالفضول، ويعتبرونه أحيانا واحدا من أسرتهم، بديلا عن ابنهم المسافر، حين يأتي حاملا خطاباته، وأخباره «المهنة انتهت »هكذا يقول حاتم رغم انه لا يعرف ما هو «البريد الإلكتروني» ولم يجرب مرة أن يرسل «ايميلا»
ويضيف: الناس أصبحت تفضل أن تتصل بالتليفون، وبعد أن انتشرت التليفونات الجوالة. أصبح الشخص بدلا من أن يرسل خطابا يظل في البريد لمدة أسبوع .. فانه يتصل .. التليفونات الآن في كل بيت، حتى المسافرون في الخارج للعمل أو المهاجرون يفضلون الاتصال. هناك أيضا البريد الإلكتروني الذي لا يعرفه حاتم فبضغطة واحدة تستطيع أن ترسل أطول رسالة أو أي صورة لأي مكان في العالم.. يمكنك أيضا أن ترسل رسالتك بالفاكس لتصل في نفس اللحظة، يمكنك أن تجري اتصالا.. لتستغني بكل هذا عن ملك الشوارع القديم، الساعي .
ساعي البريد، أحدى الشخصيات التاريخية، والتي تحولت الى فولكلورية .. قديما كان يسافر على جواده حاملا الرسائل من الملوك إلى الملوك، أو حاملا نذيرا بالحرب، أو حاملا الجزية، ومع ظهور طوابع البريد والطائرات والقطارات أصبحت مهمته قاصرة على التنقل داخل بلدته، يحفظ شوارعها وبيوتها يعرف أولادها وبناتها ورجالها ونساءها بالاسم، ويعرف أخبارهم أيضا. وفي الجيش أستخدم الساعي لنقل الكتب بين الوحدات العسكرية متخطيا كل الصعاب وقد أستشهد الكثير منهم في جبهات القتال. أبو صاحب حاتم الذي درس حتى الصف الـ لم يشاهد اياما مثل فترة السبعينات «كانت أيام عز حيث كثر عدد المسافرين وكانوا يرسلوا أخبارهم وحوالاتهم ولان هناك قطاعا كبيرا لا يجيد القراءة كان عمو حاتم يقوم بقراءة الرسائل لهم . وطمأنه الأهل. وعندما كان المسافر الغائب يرسل حوالة كان أهله لا ينسونه بشئ منها » ويقول «كنت مثل وكالة الأنباء المتنقلة أي أحد يقابلني يسألني شنو الأخبار، ماكو رسالة جديدة وكان أبناء المنطقة كلها قديما يجعلونني اقرأ لهم خطاباتهم لا طمئنهم على أولادهم. ويحكي عن مواقف كثيرة محرجة ومحزنة، فمثلاٌ عن المرأة التي مات ابنها في الحرب ورغم ذلك تأتي إليه كل يوم في «مكتب البريد» لتسأله عن خطابات من ابنها، ساعي البريد يحمل حكايات القدر وتصريفه، فهو يحمل أخبار الفرح والحزن، الحياة والموت والوجد والفقر يقول أبو حاتم : هنا يكره الناس بريد الحكومة ويرونها تأتي حاملة مشكلة، وهم الذين لا يتعاملون معها إلا في أضيق الحدود، ولا تتوطد علاقتي بهم إلا إذا سافر أحد أبنائهم إلى الخارج وقتها فقط، تبدأ العلاقة ... والتي قد تستمر حتى بعد عودة الغائب. منذ سقوط النظام لم أرى ساعي البريد ولا الصندوق الأحمر الذي هو للرسائل الخارجية ولا الصندوق الأزرق الذي هو للرسائل الداخلية. أحدهم قال لي انه لا شيء يعوض ساعي البريد، فالنقود والحوالات التي تأتي من الخارج تأتي في البريد حتى الآن، ولا يمكن أن ترسل بالايميل، وأرى أن هناك أمية ثقافية، تحول بين كثيرين وبين استخدام البريد الإلكتروني. الخطر الحقيقي الذي أراه هو رسائل الجوال، فإرسال رسالة عبر الجوال، أسرع وأسهل من إرسالها في البريد، ثقافة الكتابة في اعتقادي تراجعت، «قديما كنت اكتب ملاحظات أنا وزوجتي في البيت على ورق إذا خرج أحدنا الآن أصبحت هناك رسائل الجوال». هواية جمع الطوابع إحدى الهوايات التي تتهدد بالانقراض مع انقراض فكرة ساعي البريد، هناك أيضا وظيفة العرضحالجي هذا الرجل الذي يجلس أمام أي مكتب بريد ليقوم بكتابة الرسائل وملء الأوراق الحكومية. والتاريخ يقول أيضا عن ساعي البريد في أول وثيقة جاء بها ذكر البريد في حوالي عام 2000 ق.م وهي وصية كاتب لولده يحدثه فيها عن أهمية صناعة الكتابة والمستقبل الزاهر للعمل في وظائف الحكومة، ومن بين ما قاله «أما ساعي البريد فانه يحمل أثقالا فادحة، ويكتب وصيته قبل أن ينطلق في مهمته توقعا لما يصيبه، من الوحوش، والآسيويين». وفي مجموعة «رسائل تل العمارنة» الشهيرة هناك رسائل يعود تاريخها إلى عام 1364 ق.م بين ملوك مصر القديمة وملوك الحيثيين وآشور وبابل وقبرص.لا ريب أن «عم حاتم » يرى أن كثرة الرسائل خير، لكن الزمان تغير، وأصبح ساعي البريد مثل الكائنات البدائية، أصبح يقاوم الانقراض ويصارع التكنولوجيا الحديثة. أما الجيل الجديد، يستطيع أن يرسل آلاف الرسائل عبر البريد الإلكتروني هذا الذي لا يحمل قلبا يخفق، أو يخاف على المرسل إليه، البريد الإلكتروني لا يأتي على دراجة، ولا يحمل بسمة صافية على شفتيه، البريد الإلكتروني ابن لهذا العصر، لكنه يسحق تحت قدميه مهنة قديمة قدم التاريخ.. البريد الإلكتروني قد يقتل يوما ساعي البريد وقد يجعل المطربة أنوار عبد الوهاب عندما تدق بابها أن لا تتصور ساعي البريد عند الباب وتكف عن غناء ( كلما يندك باب داري أصورك ساعي البريد عندي صورة وصاحب الصورة بعيد بعيد )
تعليق