إكتسب خبرة من هذا المدير
بقلم: حيدر محمد الوائلي
من حيٍ شعبيٍ فقير بأطراف مدينة مُلِئت بؤساً وفقراً وظلماً وسكان، خرج مدير مدرسة من بيته الصغير قاصداً سوق المدينة الكبير راجياً قضاء بعض الوقت فقد أصابه الأحباط والخيبة لدى سماعه نشرة الأخبار التي أدمن سماعها والأعتراض عليها والغضب في نقاش تداعياتها.
يُسمي الناس حيه بحي (الحواسم) وهي عشوائيات وُجِدَت وازدادت بعد سقوط نظام حكم صدام يسكنها من لا يملك دار ولا عقار وليست له طاقة بدفع إيجار.
هو مديرٌ مجتهد بأداء واجبه ومحب للتربية والتعليم وتخريج أجيالٍ يفخر بها، ليس كلها فلابد من فاشلين يعكرون زهو النجاح، ولكن المهم عنده صنع فرص النجاح وبذل الجهد والأجتهاد لمعالجة مواضع الفشل.
إعتاد التأنق لدى خروجه مبكراً للمدرسة بأجمل الملابس ومتعطراً بعطرٍ جميل، من يراه يحسبه في يوم عرسه لا يوم دوامه اليومي فهو يعطي مظهره حقه ومكان عمله حقوقه بما يعكس إنطباعاً جيداً حول شخصيته خصوصاً وأن المدير والمدرس قدوة يقتدى بها في المدرسة وخارجها ويستشهد بوظيفته كمثال حسن ولو أساء فيصبح مثل سوء، مثلما كل مسؤول وموظف وأب وأم وأخ وأخت وصديق ربما هو قدوة من حيث يدري أو لا يدري لفردٍ من عائلته أو لقريبٍ له، جار ربما أو صديق أو زميل في العمل.
كان ذاهباً للسوق متأنقاً كالعادة، لم يراعه أنه سوقٌ شعبي (سوق سيد سعد) وسط مدينة (الناصرية) جنوب العراق. إصطحب معه إبن أخيه يسليه ويتجاذب معه أطراف الحديث فهو مدرسٌ أيضاً، صنوان في المسلك التربوي وشبيه الشيء منجذبٌ إليه.
كان مديرنا هذا صاحب حكمة في الحياة، ليست الحكمة التي يقرأها البعض صدفة فيُعجب بها لفترة ثم ينساها أو يتناساها ويتجاهلها، بل حكمة يؤمن بها عن دراية وتجربة وتؤثر بشخصيته ومجرى حياته.
دخل السوق متصفحاً وجوه الباعة وأنواع البضاعة وأحوال المتبضعين.
كانت السلع معروضة بترتيب جميل أو عشوائية قبيحة حسب ذوق صاحب الدكان أو (البسطة) وأغلبها ملابس وأدوات منزلية وكهربائية وفواكه وخضروات مع أكوام أوساخ من هاهنا وهاهناك تصيب ناظرها بالقرف، فالنظافة من الأيمان في حديث النبي (ص) فقط وليس من حيث التطبيق، فلا بلدية المسلمين ولا المسلمين يهمهم ذلك ولا يلتفتوا له فلا النظافة من الإيمان ولا هم يحزنون، مثلما يُلقي الكثيرون بأساسيات الدين وجوهره خلف الظهر ويُتمَسك بالزخارف والقشور والمظاهر رياءاً ونفاق.
بالرغم من ذلك لم تفارق صاحبنا الأبتسامة لدى تجواله من دكانٍ لآخر ومن فرعٍ لثانٍ ومن بائعة تصيح بأعلى الأصوات الخشنة تكرّهك بالجنس الاخر لأخرى بناعم الصوت يدغدغ مشاعرك بأن هنالك جنسٌ لطيف.
من بائعة خضارٍ تكركر ضاحكة لنكتة قليلة الأدب!! لبائعة سمكٍ تنعى بهمسٍ حزين (أبوذية) :
لَوَن عينك تِصل گلبي وتارة
إسيوفك گطّعت منه وَتارة
تارة إكتم بحسباتي وتارة
يهل دمعي ويورج الناس بيه...
لا تعرف ما سر فرح الأولى ومم حزن الثانية ولكنهما تفرحان وتحزنان وستعودان في اليوم التالي لممارسة نفس العمل ولربما تتبدل الأحوال فتصبح ضحكة البارحة كآبة وملل لا يُطاق، ومن نفّسّت عن حزنها بأبوذية .
كل ذاك يعطي للسوق رونقاً خاصاً وسمفونية من ضوضاء شعبية يعزف ألحانها أبسط الناس بأبسط الوسائط وعلى باب الله يسترزقون (والله خير الرازقين).
إستمر في التجوال والوقت يمضي ليس لحاله حال، وبدا على إبن أخيه الضجر فقد مرت ساعة ولم يشتر العم شيئاً فهو يكتفي بالنظر وتقليب السلع والسؤال عن الأسعار ولم يمد يده في جيبه قط ليخرج ما فيه من كنوز بقايا الراتب الذي من المفترض أن يسد حاجة شهر للموظف ولكنه ليس كذلك أبداً فأمده بالكثير إسبوعين أو ربما ثلاث عند التوفير والأقتصاد.
ليس هو بالبخيل فرغم فقره يرفّه عن نفسه وأسرته ويجلب لهم ما يحبونه، وهو لا يكنز الأموال مثل سارقي قوت الشعب بأسم الدين والسياسة ممن ستحمى عليهم كنوزهم في جهنم وتكوى بها جباههم وجنوبهم هذا ما كسبتم وكنزتم وترفهتم به من رشوة وسرقة وإحتيال وغش وفساد إداري وتبريرات دينية وسياسية لتحصيل الأموال لأنفسكم وجماعاتكم فذوقوا ما كنتم تكنزون.
مرت ساعة ثانية وثالثة ليخرج المدير من السوق الكبير كما دخل له (خال الوفاض) فلم يعجبه شيئاً ليشتريه وهنا امتعض إبن الأخ المدرس فقد مضت ثلاث ساعاتٍ بلا فائدة كما يمضى العمر لدى الكثيرين بلا فائدة سوى (الطعام والشراب والنوم و.........!!) وهكذا دواليك تمضي سني عمره ويسمها حياة.
سأل إبن الأخ عمه بإنزعاج: (ما فائدة خروجنا من البيت وذهابنا للسوق وها قد خرجنا منه بلا فائدة...؟!)
إنزعج العم من إبن الأخ...!
ليس لسؤاله وإعتراضه فهو رجل منفتح وديمقراطي يؤمن بالخلاف وأنه لا يفسد بالود قضية ليس كمثل الكثيرين من السياسيين ورجال الدين الذي أحرقوا الأخضر واليابس وزرعوا الفتن في المجتمع وسالت دماء الأبرياء لمجرد خلاف سياسي وديني وطائفي فيما بينهم وجروا الشعب إليه وأحرقوه فيه.
إنزعج من كلمة (بلا فائدة) فعرف أن خبرته في الحياة قليلة ولم يتعلم من يومه شيئاً فألتفت إليه يعطيه درساً ذا فائدة.
قال له: لا تقل لم نستفد شيئاً وأن تجوالنا بالسوق كان بلا فائدة، فلقد إكتسبنا وتعلمنا خبرة.
إكتسبنا وتعلمنا (خبرة) في أحوال السوق والأسعار وما موجود فيه وما ليس فيه ولقد تسلينا بالتجوال وقضاء وقتاً معاً، وفي المرة القادمة عندما تمر بهذا السوق تصبح لديك فكرة اولية عنه و(خبرة) فكيف كل ذلك يذهب سدى وبلا فائدة، وتقول لم نستفد شيء؟!
في كل وقت ومكان هنالك درس وعبرة وتعلم و(خبرة) وعلى الأقل تجربة ربما تكون ممتعة.
بقلم: حيدر محمد الوائلي
من حيٍ شعبيٍ فقير بأطراف مدينة مُلِئت بؤساً وفقراً وظلماً وسكان، خرج مدير مدرسة من بيته الصغير قاصداً سوق المدينة الكبير راجياً قضاء بعض الوقت فقد أصابه الأحباط والخيبة لدى سماعه نشرة الأخبار التي أدمن سماعها والأعتراض عليها والغضب في نقاش تداعياتها.
يُسمي الناس حيه بحي (الحواسم) وهي عشوائيات وُجِدَت وازدادت بعد سقوط نظام حكم صدام يسكنها من لا يملك دار ولا عقار وليست له طاقة بدفع إيجار.
هو مديرٌ مجتهد بأداء واجبه ومحب للتربية والتعليم وتخريج أجيالٍ يفخر بها، ليس كلها فلابد من فاشلين يعكرون زهو النجاح، ولكن المهم عنده صنع فرص النجاح وبذل الجهد والأجتهاد لمعالجة مواضع الفشل.
إعتاد التأنق لدى خروجه مبكراً للمدرسة بأجمل الملابس ومتعطراً بعطرٍ جميل، من يراه يحسبه في يوم عرسه لا يوم دوامه اليومي فهو يعطي مظهره حقه ومكان عمله حقوقه بما يعكس إنطباعاً جيداً حول شخصيته خصوصاً وأن المدير والمدرس قدوة يقتدى بها في المدرسة وخارجها ويستشهد بوظيفته كمثال حسن ولو أساء فيصبح مثل سوء، مثلما كل مسؤول وموظف وأب وأم وأخ وأخت وصديق ربما هو قدوة من حيث يدري أو لا يدري لفردٍ من عائلته أو لقريبٍ له، جار ربما أو صديق أو زميل في العمل.
كان ذاهباً للسوق متأنقاً كالعادة، لم يراعه أنه سوقٌ شعبي (سوق سيد سعد) وسط مدينة (الناصرية) جنوب العراق. إصطحب معه إبن أخيه يسليه ويتجاذب معه أطراف الحديث فهو مدرسٌ أيضاً، صنوان في المسلك التربوي وشبيه الشيء منجذبٌ إليه.
كان مديرنا هذا صاحب حكمة في الحياة، ليست الحكمة التي يقرأها البعض صدفة فيُعجب بها لفترة ثم ينساها أو يتناساها ويتجاهلها، بل حكمة يؤمن بها عن دراية وتجربة وتؤثر بشخصيته ومجرى حياته.
دخل السوق متصفحاً وجوه الباعة وأنواع البضاعة وأحوال المتبضعين.
كانت السلع معروضة بترتيب جميل أو عشوائية قبيحة حسب ذوق صاحب الدكان أو (البسطة) وأغلبها ملابس وأدوات منزلية وكهربائية وفواكه وخضروات مع أكوام أوساخ من هاهنا وهاهناك تصيب ناظرها بالقرف، فالنظافة من الأيمان في حديث النبي (ص) فقط وليس من حيث التطبيق، فلا بلدية المسلمين ولا المسلمين يهمهم ذلك ولا يلتفتوا له فلا النظافة من الإيمان ولا هم يحزنون، مثلما يُلقي الكثيرون بأساسيات الدين وجوهره خلف الظهر ويُتمَسك بالزخارف والقشور والمظاهر رياءاً ونفاق.
بالرغم من ذلك لم تفارق صاحبنا الأبتسامة لدى تجواله من دكانٍ لآخر ومن فرعٍ لثانٍ ومن بائعة تصيح بأعلى الأصوات الخشنة تكرّهك بالجنس الاخر لأخرى بناعم الصوت يدغدغ مشاعرك بأن هنالك جنسٌ لطيف.
من بائعة خضارٍ تكركر ضاحكة لنكتة قليلة الأدب!! لبائعة سمكٍ تنعى بهمسٍ حزين (أبوذية) :
لَوَن عينك تِصل گلبي وتارة
إسيوفك گطّعت منه وَتارة
تارة إكتم بحسباتي وتارة
يهل دمعي ويورج الناس بيه...
لا تعرف ما سر فرح الأولى ومم حزن الثانية ولكنهما تفرحان وتحزنان وستعودان في اليوم التالي لممارسة نفس العمل ولربما تتبدل الأحوال فتصبح ضحكة البارحة كآبة وملل لا يُطاق، ومن نفّسّت عن حزنها بأبوذية .
كل ذاك يعطي للسوق رونقاً خاصاً وسمفونية من ضوضاء شعبية يعزف ألحانها أبسط الناس بأبسط الوسائط وعلى باب الله يسترزقون (والله خير الرازقين).
إستمر في التجوال والوقت يمضي ليس لحاله حال، وبدا على إبن أخيه الضجر فقد مرت ساعة ولم يشتر العم شيئاً فهو يكتفي بالنظر وتقليب السلع والسؤال عن الأسعار ولم يمد يده في جيبه قط ليخرج ما فيه من كنوز بقايا الراتب الذي من المفترض أن يسد حاجة شهر للموظف ولكنه ليس كذلك أبداً فأمده بالكثير إسبوعين أو ربما ثلاث عند التوفير والأقتصاد.
ليس هو بالبخيل فرغم فقره يرفّه عن نفسه وأسرته ويجلب لهم ما يحبونه، وهو لا يكنز الأموال مثل سارقي قوت الشعب بأسم الدين والسياسة ممن ستحمى عليهم كنوزهم في جهنم وتكوى بها جباههم وجنوبهم هذا ما كسبتم وكنزتم وترفهتم به من رشوة وسرقة وإحتيال وغش وفساد إداري وتبريرات دينية وسياسية لتحصيل الأموال لأنفسكم وجماعاتكم فذوقوا ما كنتم تكنزون.
مرت ساعة ثانية وثالثة ليخرج المدير من السوق الكبير كما دخل له (خال الوفاض) فلم يعجبه شيئاً ليشتريه وهنا امتعض إبن الأخ المدرس فقد مضت ثلاث ساعاتٍ بلا فائدة كما يمضى العمر لدى الكثيرين بلا فائدة سوى (الطعام والشراب والنوم و.........!!) وهكذا دواليك تمضي سني عمره ويسمها حياة.
سأل إبن الأخ عمه بإنزعاج: (ما فائدة خروجنا من البيت وذهابنا للسوق وها قد خرجنا منه بلا فائدة...؟!)
إنزعج العم من إبن الأخ...!
ليس لسؤاله وإعتراضه فهو رجل منفتح وديمقراطي يؤمن بالخلاف وأنه لا يفسد بالود قضية ليس كمثل الكثيرين من السياسيين ورجال الدين الذي أحرقوا الأخضر واليابس وزرعوا الفتن في المجتمع وسالت دماء الأبرياء لمجرد خلاف سياسي وديني وطائفي فيما بينهم وجروا الشعب إليه وأحرقوه فيه.
إنزعج من كلمة (بلا فائدة) فعرف أن خبرته في الحياة قليلة ولم يتعلم من يومه شيئاً فألتفت إليه يعطيه درساً ذا فائدة.
قال له: لا تقل لم نستفد شيئاً وأن تجوالنا بالسوق كان بلا فائدة، فلقد إكتسبنا وتعلمنا خبرة.
إكتسبنا وتعلمنا (خبرة) في أحوال السوق والأسعار وما موجود فيه وما ليس فيه ولقد تسلينا بالتجوال وقضاء وقتاً معاً، وفي المرة القادمة عندما تمر بهذا السوق تصبح لديك فكرة اولية عنه و(خبرة) فكيف كل ذلك يذهب سدى وبلا فائدة، وتقول لم نستفد شيء؟!
في كل وقت ومكان هنالك درس وعبرة وتعلم و(خبرة) وعلى الأقل تجربة ربما تكون ممتعة.
تعليق