الفصل الرابع : الرد على قوله : ( الفرق الثالث : التقية الشرعية رخصة وليست عزيمة )
قال الدكتور في الفرق الثالث ما نصه :
التقية الشرعية جاءت رخصةً وتخفيفًا على الأمة في بعض الأحوال الاستثنائيَّة الضرورية، ولا حرج لمن ترك هذه الرُّخصة وأخذ بالعزيمة، بل قال العلماء بأنَّ من أخذ بالعزيمة فتضرَّر، فإنَّ ذلك أفضل.قال ابن بطَّال: "وأجمعوا على أنَّ من أُكره على الكفر، واختار القتل أنَّه أعظم أجرًا عند الله". وقال الرازيُّ: "لو أفصح بالإيمان والحقِّ حيث يجوز له التقيَّةُ، كان ذلك أفضل". قال أصحاب أبي حنيفة: التقيَّة رخصة من الله - تعالى - وتَرْكُها أفضل، فلو أُكْرِه على الكفر فلم يَفعل حتى قُتل، فهو أفضل ممن أظهر، وكذلك كل أمرٍ فيه إعزاز الدِّين فالإقدام عليه حتَّى يُقتل أفضل من الأخذ بالرُّخصة. وعن الإمام أحمد أيَّام محنته في خَلْق القرآن أنه سُئل: إنْ عُرِضْتَ على السّيف تجيب؟ قال: لا، وقال: "إذا أجاب العالِمُ تقيَّةً، والجاهلُ يجهل، فمتى يتبيَّن الحقُّ؟".أما التقية الشيعيَّة: فهي عزيمة وواجبة، وليست اختيارًا بحيث يمكن تركُها، ولا فرق في استخدامها بين حالة الإكراه والاضطرار، وبين حالة السَّعة والاختيار. قال ابن بابويه مِن أئمتهم: "والتقيَّةُ واجبة، لا يجوز رفعها إلى أن يَخْرج القائم، فمن تركها قبل خروجه، فقد خرج عن دين الله - تعالى - وعن دين الإماميَّة، وخالف الله ورسوله والأئمة".انتهى كلام الدكتور بلفظه .
الرد على ما افاده في الفرق الثالث .
قلتُ : يقع الكلام مع الدكتور في نقاط :
1ـ الخلط بين مشروعية التقية وبين العمل بها وحكمها .وقع الدكتور في خلط واضح بين امرين :الاول : في مشروعية اصل التقية في الاسلام .الثاني : في حكمها والعمل بها .بمعنى اننا تارة نبحث عن مشروعية التقية في الدين الاسلامي وهل هي مفردة شرعية اسلامية واردة في القرآن او السنة ويجب الايمان بها كسائر ما جائنا به الاسلام الحنيف ؟ والفصل الاول الذي عقدناه و عنوان بحث الدكتور كفيل بالاجابة عن هذا السؤال دون ادنى ريب .وتارة اخرى نبحث عن موارد العمل بها وحكمها وهل هي واجبة مطلقا او محرمة مطلقا او نحو ذلك ؟ فالجواب هو فيما ذكرناه في الجهة الرابعة من الفصل الثاني حيث ذكرنا ان التقية تنقسم حسب الاحكام التكليفة الخمسة ، فقد يجب العمل بها وقد يحرم وقد يباح وقد يكره وقد يستحب كما مر فراجع ثمة . فلا حكم مطلق في التقية بل حكمها في كل مورد بحسبه .
2ـ قلب الموازين بالقاء اللائمة على الضحية دون الجلاد .مقتضى الانصاف ان لا يلام المتقي باعتباره الضحية وانما توجه اللائمة على المتقى منه باعتباره الجلاد ولكن هذه هي العقلية التي تحكم القوم فسهام نقدهم توجه دائما على المجني عليه دون الجاني ، ولهذا ينطلقون في تعامل الرعية مع الحاكم من مبدأ السمع والطاعة ولو سلخ جلدك ونهب مالك فلا غرابة من نقدهم للشيعة باستعمال التقية ، ولذا نقول ونكرر دوما : التقية ضرورة لعن الله من اكرهنا عليها . ولاجل ايقاف القارئ على أُنموذج من عشرات إن لم نقل المئات او الآلاف ، يحكي لنا الواقع المرير الذي كان يعيشه الشيعة في عصر الطغات والظلمة واعوانهم ــــ علماء البلاط ووعاظ السلاطين ــــ على ان تلكم النماذج قد طفحت بها كتب الشيعة ، ولكنا هنا سننقل من كتب المخالفين لنا في العقيدة ليكون اوقع في في نفس القارئ الكريم ـ سنيا كان او شيعيا ــ فقد روى البغدادي في تاريخه في المجلد الثالث عشر صفحة ( 287 ) ما يلي القصة التالية :7255 - نصر بن علي بن نصر بن علي بن صهبان بن أبي أبو عمرو الجهضمي البصري سمع نوح بن قيس وحاتم بن وردان ومعتمر بن سليمان وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وبشر بن المفضل وغندرا ويزيد بن زريع وأبا داود الطيالسي والأصمعي وأبا احمد الزبيري وغيرهم روى عنه إسماعيل بن إسحاق القاضي ومسلم بن الحجاج في صحيحه وعبد الله بن احمد بن حنبل وأحمد بن مسروق الطوسي وأبو معشر الدارمي وعبد الله بن محمد بن ياسين ومحمد بن محمد الباغندي وأبو خبيب البرتي وأبو القاسم البغوي ومحمد بن منصور السبيعي وأحمد بن زنجويه القطان وأبو بكر بن أبي داود في آخرين وهو من أهل البصرة قدم بغداد وحدث بها أخبرنا عبد الملك بن محمد بن عبد الله الواعظ حدثنا أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن الصواف حدثنا عبد الله بن أحمد حدثني نصر بن علي قال أخبرني علي بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي حدثني أخي موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذ بيد حسن وحسين قال من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة قال أبو عبد الرحمن عبد الله لما حدث بهذا الحديث نصر بن علي أمر المتوكل بضربه ألف سوط وكلمه جعفر بن عبد الواحد وجعل يقول له هذا الرجل من أهل السنة ولم يزل به حتى تركه وكان له أرزاق فوفرها عليه موسى . قلت إنما أمر المتوكل بضربه لأنه ظنه رافضيا فلما علم أنه من أهل السنة تركه .." إهــــ فما رأي القارئ الفطن وما رأي فضيلة الدكتور باسم بالقصة اعلاه ، وهي غيض من فيض ولكنا التزمنا بالرد على ما سطره الدكتور دون الخوض في المسائل التاريخية ، ونترك الحكم للقارئ المنصف لعقله وانسانيته . !!
3ــ افضلية او تساوي العمل بالتقية وتركه مذهبنا ايضا ونقل احاديث في ذلك .اما ما نقله عن علمائه من جواز تركها والافصاح بالايمان فهو مذهبنا ايضا ولكن مشكلتنا مع القوم انهم يأخذون ببعض الاحاديث ويتركون الاخرى فهم كــ {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر : 91] والا فكان بامكان الدكتور ان يلقي نظرة كاملة ويقرأ بكلا عينية لا بعين واحدة ما نقلته اوثق مجامعنا الحديثية في باب التقية ويستخلص منها رؤيا كاملة عن التقية عند الشيعة إن ابى الاخذ بما يقوله علماء الطائفة الحقة ، فاليك حديثين في ذلك مما ورد في الكافي الشريف ج 2 في باب التقية .الحديث الاول : الحديث رقم (10) في الباب ونصه : - علي بن إبراهيم ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة قال : قيللأبي عبد الله ( عليه السلام ) : إن الناس يروون أن عليا ( عليه السلام ) قال على منبر الكوفة : أيها الناس إنكم ستدعون إلى سبي فسبوني ، ثم تدعون إلى البراءة مني فلا تبرؤوا مني ، فقال : ما أكثر ما يكذب الناس على علي ( عليه السلام ) ، ثم قال : إنما قال : إنكم ستدعون إلى سبي فسبوني ، ثم ستدعون إلى البراءة مني وإني لعلى دين محمد ، ولم يقل : لا تبرؤوا مني . فقال له السائل : أرأيت إن اختار القتل دون البراءة ؟ فقال : والله ما ذلك عليه وماله إلا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن بالايمان ، فأنزل الله عز وجل فيه " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان " فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) عندها : يا عمار إن عادوا فعد فقد أنزل الله عز وجل عذرك وأمرك أن تعود إن عادوا .الحديث الثاني : الحديث رقم (21 ) في الباب وهذا نصه :- محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن زكريا المؤمن ، عن عبد الله ابن أسد ، عن عبد الله بن عطاء قال : قلت لأبي جعفر ( عليه السلام ) : رجلان من أهل الكوفة اخذا فقيل لهما : ابرئا من أمير المؤمنين فبرئ واحد منهما وأبى الآخر فخلي سبيل الذي برئ وقتل الآخر ؟ فقال : أما الذي برئ فرجل فقيه في دينه وأما الذي لم يبرء فرجل تعجل إلى الجنة . إهــ فهل ترى ايها القارئ المنصف وجها لاعتراض الدكتور بعد هذا ؟ اما كان من الاولى به ان يلقي نظرة بسيطة في اهم كتاب الا وهو الكافي الشريف عند طائفة كتب عنها في موضوع يخصها ، فان كان يعرف ذلك فتلك مصيبة وان كان لا يدري فالمصيبة اعظم !!
4ـــ اما ما ذكره من ان العمل بالتقية قد يلزمه كتمان الحق ، فلعمري هذا هو رأي الطائفة الحقة ايضا ولكن أنى للدكتور ان يطلع عليه وقد مر عليك امثلة على انصافه وامانته وخبرته باصول ومباني الشيعة العقائدية والحديثية والفقهية ؟ ! ! ويكفينا شاهدا على ما نقول ننقل كلام أحد اعلام الطائفة في القرن الاخير وهو السيد الخميني قدس سره الشريف ، ولولا خوف الاطالة لسردنا لك آراء اعلام الطائفة :يقول السيد الخميني : في رسالته الموسومة بــ " رسالة في التقية ص 117 " تحت عنوان : ( حول موارد استثنيت من الأدلة )
ما نصه :" ..منها بعض المحرمات والواجبات التي في نظر الشارع والمتشرعة في غاية الأهمية مثل هدم الكعبة والمشاهد المشرفة بنحو يمحو الأثر ولا يرجى عوده، ومثل الرد على
الإسلام والقرآن والتفسير بما يفسد المذهب ويطابق الإلحاد وغيرها من عظائم المحرمات، فان القول بحكومة نفي الحرج أو الضرر وغيرهما على أدلتها بمجرد تحقق عنوان الحرج والاضطرار والإكراه والضرر والتقية بعيد عن مذاق الشرع غايته،
فهل ترى من نفسك ان عرض على مسلم تخريب بيت الله الحرام وقبر رسول الله صلى الله عليه وآله أو الحبس شهرا أو شهرين أو أخذ مائة أو مائتين منه يجوز له ذلك
تمسكا بدليل الحرج والضرر، والظاهر هو الرجوع في أمثال تلك العظائم إلى تزاحم
المقتضيات من غير توجه إلى حكومة تلك الأدلة على أدلتها.
ويشهد له مضافا إلى وضوحه: موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث وتفسير ما يتقى مثل ان يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق
وفعله فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدى إلى الفساد في الدين
فإنه جائز ، هذا مع ان في دليل الضرر كلاما تعرضنا له في رسالة لا ضرر وذكرنا انه أجنبي عن الحكومة على أدلة الأحكام.
ومن هذا الباب ما إذا كان المتقى ممن له شأن وأهمية في نظر الخلق بحيث يكون
ارتكابه لبعض المحرمات تقية أو تركه لبعض الواجبات مما يعد موهنا للمذهب وهاتكا
لحرمته كما لو أكره على شرب المسكر والزنا مثلا فان جواز التقية في مثله تشبثا
بحكومة دليل الرفع وأدلة التقية مشكل بل ممنوع، ولعله عليه محمول قوله في صحيحة
زرارة الآتية عدم اتقائه من شرب المسكر (إلخ).
وأولى من ذلك كله في عدم جواز التقية فيه ما لو كان أصل من أصول الإسلام أو
المذهب أو ضروري من ضروريات الدين في معرض الزوال والهدم والتغيير كما لو أراد
المنحرفون الطغاة تغيير أحكام الإرث والطلاق والصلاة والحج وغيرها من أصول
الأحكام فضلا عن أصول الدين أو المذهب فان التقية في مثلها غير جائزة، ضرورة ان
تشريعها لبقاء المذهب وحفظ الأصول وجمع شتات المسلمين لإقامة الدين وأصوله
فإذا بلغ الأمر إلى هدمها فلا تجوز التقية وهو مع وضوحه يظهر من الموثقة المتقدمة " اهـ
5ــ وقد اتضح مما مر عليك مرارا ــ خصوصا فيما نقلنا لعبارة الشيخ الاعظم الانصاري في تقسيم التقية بحسب الاحكام الخمسة ـــ عدم اطلاع الدكتور على ابجديات فقه الشيعة وهو يكتب عنهم ! وتسرعه في اطلاقه نسبة القول بعزيمة التقية عند الشيعة ، ولعمري إن لم يصدق على هذا قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج : 8] فلا نجد لهذه الآية موردا ، فالله يحكم بيننا يوم القيامة وهو خير الحاكمين .6ــــ أما ما نقله عن الشيخ الصدوق طيب الله ثراه ، فليسمح لي الدكتور ان ابوح له وللقارئ الكريم بما عنّ لي وهو انه انطبق على الدكتور قول الشاعر ــــ بحروفه ومعناه ــــ :وكم من عائب قولا صحيحا ** وآفته من الفهم السقيموالا فما وجه انتقاده : أـــ هل هو في حكم الشيخ الصدوق بتشريعها ووجوب العمل بها ؟ فنقول : اولا : ان ذلك لا يوجب التشنيع ولا يحق لاحد الحكم بمخالفتها للشرعية طالما استندت على على نصوص على اقل التقادير نراها حجة وملزمة لنا ، والا وجب على الدكتور ان يكتب وينتقد المذاهب الفقهية المختلفة في الكثير من المسائل الفقهية والاحكام الشرعية والا فما وجه تربيع المذاهب التي ندين الله بانها ما انزل الله بها من سلطان بل ونرى حصر المذهب الحق بالتشيع اصولا وفروعا باعتباره المذهب الاوحد الذي تمسك بوصية النبي صلى الله عليه واله : ولنعم ما قال الشاعر :
قلدتم النعمان او محمدا * او مالك ابن انس او احمــــــــــدا
افهل اتى الذكر به او وصى * به النبــــي او وجدتم نصــــا
ثانيا : قد ذكرنا مرارا ان حكم التقية يختلف في كل مورد بحسبه ، ولهذا يقول الشيخ المفيد في شرحه لكتاب الاعتقادات للصدوق مبينا العبارة التي نقلها الدكتور قائلا : " ..التقية : كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقب ضررا في الدين أو الدنيا ، وفرض ذلك إذا علم بالضرورة أو قوي في الظن ، فمتى لم يعلم ضررا بإظهار الحق ولا قوي في الظن ذلك لم يجب فرض التقية . وقد أمر الصادقون - عليهم السلام - جماعة من أشياعهم بالكف والامساك عن إظهار الحق ، والمباطنة والستر له عن أعداء الدين ، والمظاهرة لهم بما يزيل الريب عنهم في خلافهم . وكان ذلك هو الأصلح لهم ، وأمروا طائفة أخرى من شيعتهم بمكالمة الخصوم ومظاهرتهم ودعائهم إلى الحق ، لعلمهم بأنه لا ضرر عليهم في ذلك ، فالتقية تجب بحسب ما ذكرناه ، ويسقط فرضها في مواضع أخرى .." اهـــ وهو صريح في المطلوب كما تراه .ثالثا : ما ذنب ابن بابويه في قوله : التقية واجبة ، اذا كان متبعا لإهل بيت النبي صلى الله عليه واله الذين امرنا باتباعهم واخذ ديننا منهم كما هو صريح حديث الثقلين وغيره من النصوص القرآنية والنبوية ؟الستم انتم من نقلتم عن الامام الصادق عليه السلام قوله : " التقية واجبة .." كما نقلها علي الشحود في كتابه الخلاصة في احكام التقية ص 25 وغيره وهي مطابقة تمام المطابقة لما قاله الشيخ الصدوق ؟ فاين دعوى اتباعكم لاهل البيت ؟ ! !ب ــ اما ان كان الدكتور يلمح بنقله لعبارة الشيخ الصدوق الى نقد اخر ، هو على ديمومة التقية واستمرارها الى زمان ظهور صاحب العصر والزمان ارواحنا فداه فنسأله هنا عن الفرق بين كلام الشيخ الصدوق وبين قول الحسن البصري الذي مر ذكره من صحيح البخاري " التقية الى يوم القيامة " . ؟ ! بل يمكن ان نقلب السحر على الساحر كما هو واضح لمن تامل ولكنّا قوم نترفع عن الاساليب الرخيصة التي يجيدها كل احد ، ونسال الله السلامة في الدين والدنيا .!!
قال الدكتور في الفرق الثالث ما نصه :
التقية الشرعية جاءت رخصةً وتخفيفًا على الأمة في بعض الأحوال الاستثنائيَّة الضرورية، ولا حرج لمن ترك هذه الرُّخصة وأخذ بالعزيمة، بل قال العلماء بأنَّ من أخذ بالعزيمة فتضرَّر، فإنَّ ذلك أفضل.قال ابن بطَّال: "وأجمعوا على أنَّ من أُكره على الكفر، واختار القتل أنَّه أعظم أجرًا عند الله". وقال الرازيُّ: "لو أفصح بالإيمان والحقِّ حيث يجوز له التقيَّةُ، كان ذلك أفضل". قال أصحاب أبي حنيفة: التقيَّة رخصة من الله - تعالى - وتَرْكُها أفضل، فلو أُكْرِه على الكفر فلم يَفعل حتى قُتل، فهو أفضل ممن أظهر، وكذلك كل أمرٍ فيه إعزاز الدِّين فالإقدام عليه حتَّى يُقتل أفضل من الأخذ بالرُّخصة. وعن الإمام أحمد أيَّام محنته في خَلْق القرآن أنه سُئل: إنْ عُرِضْتَ على السّيف تجيب؟ قال: لا، وقال: "إذا أجاب العالِمُ تقيَّةً، والجاهلُ يجهل، فمتى يتبيَّن الحقُّ؟".أما التقية الشيعيَّة: فهي عزيمة وواجبة، وليست اختيارًا بحيث يمكن تركُها، ولا فرق في استخدامها بين حالة الإكراه والاضطرار، وبين حالة السَّعة والاختيار. قال ابن بابويه مِن أئمتهم: "والتقيَّةُ واجبة، لا يجوز رفعها إلى أن يَخْرج القائم، فمن تركها قبل خروجه، فقد خرج عن دين الله - تعالى - وعن دين الإماميَّة، وخالف الله ورسوله والأئمة".انتهى كلام الدكتور بلفظه .
الرد على ما افاده في الفرق الثالث .
قلتُ : يقع الكلام مع الدكتور في نقاط :
1ـ الخلط بين مشروعية التقية وبين العمل بها وحكمها .وقع الدكتور في خلط واضح بين امرين :الاول : في مشروعية اصل التقية في الاسلام .الثاني : في حكمها والعمل بها .بمعنى اننا تارة نبحث عن مشروعية التقية في الدين الاسلامي وهل هي مفردة شرعية اسلامية واردة في القرآن او السنة ويجب الايمان بها كسائر ما جائنا به الاسلام الحنيف ؟ والفصل الاول الذي عقدناه و عنوان بحث الدكتور كفيل بالاجابة عن هذا السؤال دون ادنى ريب .وتارة اخرى نبحث عن موارد العمل بها وحكمها وهل هي واجبة مطلقا او محرمة مطلقا او نحو ذلك ؟ فالجواب هو فيما ذكرناه في الجهة الرابعة من الفصل الثاني حيث ذكرنا ان التقية تنقسم حسب الاحكام التكليفة الخمسة ، فقد يجب العمل بها وقد يحرم وقد يباح وقد يكره وقد يستحب كما مر فراجع ثمة . فلا حكم مطلق في التقية بل حكمها في كل مورد بحسبه .
2ـ قلب الموازين بالقاء اللائمة على الضحية دون الجلاد .مقتضى الانصاف ان لا يلام المتقي باعتباره الضحية وانما توجه اللائمة على المتقى منه باعتباره الجلاد ولكن هذه هي العقلية التي تحكم القوم فسهام نقدهم توجه دائما على المجني عليه دون الجاني ، ولهذا ينطلقون في تعامل الرعية مع الحاكم من مبدأ السمع والطاعة ولو سلخ جلدك ونهب مالك فلا غرابة من نقدهم للشيعة باستعمال التقية ، ولذا نقول ونكرر دوما : التقية ضرورة لعن الله من اكرهنا عليها . ولاجل ايقاف القارئ على أُنموذج من عشرات إن لم نقل المئات او الآلاف ، يحكي لنا الواقع المرير الذي كان يعيشه الشيعة في عصر الطغات والظلمة واعوانهم ــــ علماء البلاط ووعاظ السلاطين ــــ على ان تلكم النماذج قد طفحت بها كتب الشيعة ، ولكنا هنا سننقل من كتب المخالفين لنا في العقيدة ليكون اوقع في في نفس القارئ الكريم ـ سنيا كان او شيعيا ــ فقد روى البغدادي في تاريخه في المجلد الثالث عشر صفحة ( 287 ) ما يلي القصة التالية :7255 - نصر بن علي بن نصر بن علي بن صهبان بن أبي أبو عمرو الجهضمي البصري سمع نوح بن قيس وحاتم بن وردان ومعتمر بن سليمان وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وبشر بن المفضل وغندرا ويزيد بن زريع وأبا داود الطيالسي والأصمعي وأبا احمد الزبيري وغيرهم روى عنه إسماعيل بن إسحاق القاضي ومسلم بن الحجاج في صحيحه وعبد الله بن احمد بن حنبل وأحمد بن مسروق الطوسي وأبو معشر الدارمي وعبد الله بن محمد بن ياسين ومحمد بن محمد الباغندي وأبو خبيب البرتي وأبو القاسم البغوي ومحمد بن منصور السبيعي وأحمد بن زنجويه القطان وأبو بكر بن أبي داود في آخرين وهو من أهل البصرة قدم بغداد وحدث بها أخبرنا عبد الملك بن محمد بن عبد الله الواعظ حدثنا أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن الصواف حدثنا عبد الله بن أحمد حدثني نصر بن علي قال أخبرني علي بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي حدثني أخي موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذ بيد حسن وحسين قال من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة قال أبو عبد الرحمن عبد الله لما حدث بهذا الحديث نصر بن علي أمر المتوكل بضربه ألف سوط وكلمه جعفر بن عبد الواحد وجعل يقول له هذا الرجل من أهل السنة ولم يزل به حتى تركه وكان له أرزاق فوفرها عليه موسى . قلت إنما أمر المتوكل بضربه لأنه ظنه رافضيا فلما علم أنه من أهل السنة تركه .." إهــــ فما رأي القارئ الفطن وما رأي فضيلة الدكتور باسم بالقصة اعلاه ، وهي غيض من فيض ولكنا التزمنا بالرد على ما سطره الدكتور دون الخوض في المسائل التاريخية ، ونترك الحكم للقارئ المنصف لعقله وانسانيته . !!
3ــ افضلية او تساوي العمل بالتقية وتركه مذهبنا ايضا ونقل احاديث في ذلك .اما ما نقله عن علمائه من جواز تركها والافصاح بالايمان فهو مذهبنا ايضا ولكن مشكلتنا مع القوم انهم يأخذون ببعض الاحاديث ويتركون الاخرى فهم كــ {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر : 91] والا فكان بامكان الدكتور ان يلقي نظرة كاملة ويقرأ بكلا عينية لا بعين واحدة ما نقلته اوثق مجامعنا الحديثية في باب التقية ويستخلص منها رؤيا كاملة عن التقية عند الشيعة إن ابى الاخذ بما يقوله علماء الطائفة الحقة ، فاليك حديثين في ذلك مما ورد في الكافي الشريف ج 2 في باب التقية .الحديث الاول : الحديث رقم (10) في الباب ونصه : - علي بن إبراهيم ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة قال : قيللأبي عبد الله ( عليه السلام ) : إن الناس يروون أن عليا ( عليه السلام ) قال على منبر الكوفة : أيها الناس إنكم ستدعون إلى سبي فسبوني ، ثم تدعون إلى البراءة مني فلا تبرؤوا مني ، فقال : ما أكثر ما يكذب الناس على علي ( عليه السلام ) ، ثم قال : إنما قال : إنكم ستدعون إلى سبي فسبوني ، ثم ستدعون إلى البراءة مني وإني لعلى دين محمد ، ولم يقل : لا تبرؤوا مني . فقال له السائل : أرأيت إن اختار القتل دون البراءة ؟ فقال : والله ما ذلك عليه وماله إلا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن بالايمان ، فأنزل الله عز وجل فيه " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان " فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) عندها : يا عمار إن عادوا فعد فقد أنزل الله عز وجل عذرك وأمرك أن تعود إن عادوا .الحديث الثاني : الحديث رقم (21 ) في الباب وهذا نصه :- محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن زكريا المؤمن ، عن عبد الله ابن أسد ، عن عبد الله بن عطاء قال : قلت لأبي جعفر ( عليه السلام ) : رجلان من أهل الكوفة اخذا فقيل لهما : ابرئا من أمير المؤمنين فبرئ واحد منهما وأبى الآخر فخلي سبيل الذي برئ وقتل الآخر ؟ فقال : أما الذي برئ فرجل فقيه في دينه وأما الذي لم يبرء فرجل تعجل إلى الجنة . إهــ فهل ترى ايها القارئ المنصف وجها لاعتراض الدكتور بعد هذا ؟ اما كان من الاولى به ان يلقي نظرة بسيطة في اهم كتاب الا وهو الكافي الشريف عند طائفة كتب عنها في موضوع يخصها ، فان كان يعرف ذلك فتلك مصيبة وان كان لا يدري فالمصيبة اعظم !!
4ـــ اما ما ذكره من ان العمل بالتقية قد يلزمه كتمان الحق ، فلعمري هذا هو رأي الطائفة الحقة ايضا ولكن أنى للدكتور ان يطلع عليه وقد مر عليك امثلة على انصافه وامانته وخبرته باصول ومباني الشيعة العقائدية والحديثية والفقهية ؟ ! ! ويكفينا شاهدا على ما نقول ننقل كلام أحد اعلام الطائفة في القرن الاخير وهو السيد الخميني قدس سره الشريف ، ولولا خوف الاطالة لسردنا لك آراء اعلام الطائفة :يقول السيد الخميني : في رسالته الموسومة بــ " رسالة في التقية ص 117 " تحت عنوان : ( حول موارد استثنيت من الأدلة )
ما نصه :" ..منها بعض المحرمات والواجبات التي في نظر الشارع والمتشرعة في غاية الأهمية مثل هدم الكعبة والمشاهد المشرفة بنحو يمحو الأثر ولا يرجى عوده، ومثل الرد على
الإسلام والقرآن والتفسير بما يفسد المذهب ويطابق الإلحاد وغيرها من عظائم المحرمات، فان القول بحكومة نفي الحرج أو الضرر وغيرهما على أدلتها بمجرد تحقق عنوان الحرج والاضطرار والإكراه والضرر والتقية بعيد عن مذاق الشرع غايته،
فهل ترى من نفسك ان عرض على مسلم تخريب بيت الله الحرام وقبر رسول الله صلى الله عليه وآله أو الحبس شهرا أو شهرين أو أخذ مائة أو مائتين منه يجوز له ذلك
تمسكا بدليل الحرج والضرر، والظاهر هو الرجوع في أمثال تلك العظائم إلى تزاحم
المقتضيات من غير توجه إلى حكومة تلك الأدلة على أدلتها.
ويشهد له مضافا إلى وضوحه: موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث وتفسير ما يتقى مثل ان يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق
وفعله فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدى إلى الفساد في الدين
فإنه جائز ، هذا مع ان في دليل الضرر كلاما تعرضنا له في رسالة لا ضرر وذكرنا انه أجنبي عن الحكومة على أدلة الأحكام.
ومن هذا الباب ما إذا كان المتقى ممن له شأن وأهمية في نظر الخلق بحيث يكون
ارتكابه لبعض المحرمات تقية أو تركه لبعض الواجبات مما يعد موهنا للمذهب وهاتكا
لحرمته كما لو أكره على شرب المسكر والزنا مثلا فان جواز التقية في مثله تشبثا
بحكومة دليل الرفع وأدلة التقية مشكل بل ممنوع، ولعله عليه محمول قوله في صحيحة
زرارة الآتية عدم اتقائه من شرب المسكر (إلخ).
وأولى من ذلك كله في عدم جواز التقية فيه ما لو كان أصل من أصول الإسلام أو
المذهب أو ضروري من ضروريات الدين في معرض الزوال والهدم والتغيير كما لو أراد
المنحرفون الطغاة تغيير أحكام الإرث والطلاق والصلاة والحج وغيرها من أصول
الأحكام فضلا عن أصول الدين أو المذهب فان التقية في مثلها غير جائزة، ضرورة ان
تشريعها لبقاء المذهب وحفظ الأصول وجمع شتات المسلمين لإقامة الدين وأصوله
فإذا بلغ الأمر إلى هدمها فلا تجوز التقية وهو مع وضوحه يظهر من الموثقة المتقدمة " اهـ
5ــ وقد اتضح مما مر عليك مرارا ــ خصوصا فيما نقلنا لعبارة الشيخ الاعظم الانصاري في تقسيم التقية بحسب الاحكام الخمسة ـــ عدم اطلاع الدكتور على ابجديات فقه الشيعة وهو يكتب عنهم ! وتسرعه في اطلاقه نسبة القول بعزيمة التقية عند الشيعة ، ولعمري إن لم يصدق على هذا قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج : 8] فلا نجد لهذه الآية موردا ، فالله يحكم بيننا يوم القيامة وهو خير الحاكمين .6ــــ أما ما نقله عن الشيخ الصدوق طيب الله ثراه ، فليسمح لي الدكتور ان ابوح له وللقارئ الكريم بما عنّ لي وهو انه انطبق على الدكتور قول الشاعر ــــ بحروفه ومعناه ــــ :وكم من عائب قولا صحيحا ** وآفته من الفهم السقيموالا فما وجه انتقاده : أـــ هل هو في حكم الشيخ الصدوق بتشريعها ووجوب العمل بها ؟ فنقول : اولا : ان ذلك لا يوجب التشنيع ولا يحق لاحد الحكم بمخالفتها للشرعية طالما استندت على على نصوص على اقل التقادير نراها حجة وملزمة لنا ، والا وجب على الدكتور ان يكتب وينتقد المذاهب الفقهية المختلفة في الكثير من المسائل الفقهية والاحكام الشرعية والا فما وجه تربيع المذاهب التي ندين الله بانها ما انزل الله بها من سلطان بل ونرى حصر المذهب الحق بالتشيع اصولا وفروعا باعتباره المذهب الاوحد الذي تمسك بوصية النبي صلى الله عليه واله : ولنعم ما قال الشاعر :
قلدتم النعمان او محمدا * او مالك ابن انس او احمــــــــــدا
افهل اتى الذكر به او وصى * به النبــــي او وجدتم نصــــا
ثانيا : قد ذكرنا مرارا ان حكم التقية يختلف في كل مورد بحسبه ، ولهذا يقول الشيخ المفيد في شرحه لكتاب الاعتقادات للصدوق مبينا العبارة التي نقلها الدكتور قائلا : " ..التقية : كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقب ضررا في الدين أو الدنيا ، وفرض ذلك إذا علم بالضرورة أو قوي في الظن ، فمتى لم يعلم ضررا بإظهار الحق ولا قوي في الظن ذلك لم يجب فرض التقية . وقد أمر الصادقون - عليهم السلام - جماعة من أشياعهم بالكف والامساك عن إظهار الحق ، والمباطنة والستر له عن أعداء الدين ، والمظاهرة لهم بما يزيل الريب عنهم في خلافهم . وكان ذلك هو الأصلح لهم ، وأمروا طائفة أخرى من شيعتهم بمكالمة الخصوم ومظاهرتهم ودعائهم إلى الحق ، لعلمهم بأنه لا ضرر عليهم في ذلك ، فالتقية تجب بحسب ما ذكرناه ، ويسقط فرضها في مواضع أخرى .." اهـــ وهو صريح في المطلوب كما تراه .ثالثا : ما ذنب ابن بابويه في قوله : التقية واجبة ، اذا كان متبعا لإهل بيت النبي صلى الله عليه واله الذين امرنا باتباعهم واخذ ديننا منهم كما هو صريح حديث الثقلين وغيره من النصوص القرآنية والنبوية ؟الستم انتم من نقلتم عن الامام الصادق عليه السلام قوله : " التقية واجبة .." كما نقلها علي الشحود في كتابه الخلاصة في احكام التقية ص 25 وغيره وهي مطابقة تمام المطابقة لما قاله الشيخ الصدوق ؟ فاين دعوى اتباعكم لاهل البيت ؟ ! !ب ــ اما ان كان الدكتور يلمح بنقله لعبارة الشيخ الصدوق الى نقد اخر ، هو على ديمومة التقية واستمرارها الى زمان ظهور صاحب العصر والزمان ارواحنا فداه فنسأله هنا عن الفرق بين كلام الشيخ الصدوق وبين قول الحسن البصري الذي مر ذكره من صحيح البخاري " التقية الى يوم القيامة " . ؟ ! بل يمكن ان نقلب السحر على الساحر كما هو واضح لمن تامل ولكنّا قوم نترفع عن الاساليب الرخيصة التي يجيدها كل احد ، ونسال الله السلامة في الدين والدنيا .!!
تعليق