التوسّل بالأعمال الصالحة
إذا كان التوسّل بمعنى تقديم شيء إلى ساحة الله ليستجيب دعاءه، فلا شك في أنّ العمل الصالح أحسن شيء يتقرّب به الإنسان إلى الله تعالى، وأحسنُ وسيلة يُتمسّك بها فتكون نتيجة التقرّب هي نزول رحمته عليه وإجابة دعائه، وفي بعض الآيات الكريمة تلميح إلى ذلك، وإن لم يكن فيها تصريح إلاّ أنّ السنّة النبويّة صرّحت بذلك، أمّا الآيات فنأتي بنموذجين منها:1 ـ { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السميع العليم * ربّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذرّيّتنا أُمّة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنّك أنت التوّاب الرحيم } (البقرة/127 ـ 128).}
ترى أنّ إبراهيم وولده الحليم قدّما إلى الله تبارك وتعالى وسيلة وهي بناء البيت، فعند ذلك طلبا من الله سبحانه عدّة أُمور تجمعها الأُمور التالية:
تقبّل منّا، واجعلنا مسلمين لك، ومن ذريّتنا أُمّة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا، وتب علينا.
والآية إن لم تكن صريحة فيما نبتغيه غير أنّ دعاء إبراهيم في الظروف التي كان يرفع فيها قواعد البيت مع ابنه، ترشدنا إلى أنّ طلب الدعاء في ذلك الظرف، لم يكن أمراً اعتباطياً، بل كانت هناك صلة بين العمل الصالح والدعاء، وأنّه في قرار نفسه تمسك بالأوّل ليستجيب دعاءه.
2 ـ قوله سبحانه {الذين يقولون ربّنا إنّنا آمنّا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار } (آل عمران/169). ترى أنّه عطف طلب الغفران بالفاء على قوله { ربّنا إنّنا آمنّا {، ففاء التفريع تعرب عن صلة بين الإيمان وطلب الغفران.
وأنت إذا سبرت الآيات الكريمة تقف على نظير ذلك فكلّها من قبيل التلميح لا التصريح، غير أنّ في السنّة النبوية تصريح على أنّ ذكر العمل الصالح الذي أتى به الإنسان لله تبارك وتعالى، يثير رحمته، فتنزل رحمته على عبده ويُستجاب دعاؤه، وقد روى الفريقان القصّة التالية وفيها غنى وكفاية:
روى البخاري عن ابن عمران عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " بينما ثلاثة نفر ممّن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر، فآووا إلى غار فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنّه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلاّ الصدق، فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنّه قد صدق فيه. فقال واحد منهم: اللّهمّ إن كنت تعلم أنّه كان لي أجير عمِلَ لي على فرق من أرُز، فذهب وتركه، وإنّي عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، فصار من أمره أنّي اشتريت منه بقراً، وأنّه أتاني يطلب أجره، فقلت: اعمد إلى تلك البقر فسقها، فقال لي: إنّما لي عندك فَرَق من أرُز، فقلت له: اعمد إلى تلك البقر فإنّها من ذلك الفَرَق، فساقها، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك، ففرّج عنّا، فانساحت عنهم الصخرة.
فقال الآخر: اللّهمّ إن كنت تعلم كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي فأبطأتُ عليهما ليلةً، فجئتُ وقد رقدا، وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع، فكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي، فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أدعهما فَيسْتَكنّا لشربتهما، فلم أزل انتظر حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنّا، فانساحت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء.
فقال الآخر: اللّهمّ إن كنت تعلم أنّه كان لي ابنة عم من أحبّ الناس إليّ وأنّي راودتها عن نفسها فأبت إلاّ أن آتيها بمائة دينار، فطلبتها حتى قدرتُ، فأتيتها بها، فدفعتها إليها، فأمكنتني من نفسها، فلمّا قعدت بين رجليها فقالت: اتّق الله ولا تفضّ الخاتم إلاّ بحقّه، فقمت وتركت المائة دينار، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنّا، ففرّج الله عنهم فخرجوا "([1]).
لم تكن الغاية من تحديث النبي بما ذكر إلاّ تعليم أُمته حتى يتّخذوا ذكر العمل الصالح وسيلة لاستجابة دعوتهم. ولو كان ذلك من خصائص الأُمم الماضية لصرّح بها. وقد رواه الفريقان، باختلاف في اللفظ.
3 ـ روى البرقي أحمد بن خالد (ت 427 هـ) في محاسنه، عن عبد الرحمن ابن أبي نجران، عن المفضل بن صالح، عن جابر الجعفي، يرفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " خرج ثلاثة نفر يسيحون في الأرض، فبينما هم يعبدون الله في كهف في قلّة جبل حتى بدت صخرة من أعلى الجبل حتى التقمت باب الكهف، فقال بعضهم لبعض: عباد الله والله ما ينجيكم ممّا وقعتم إلاّ أن تصدقوا الله، فهلمّوا ما عملتم لله خالصاً، فانّما أسلمتم بالذنوب.
فقال أحدهم: اللّهمّ إن كنت تعلم أنّي طلبت امرأة لحسنها وجمالها، فأعطيت فيها مالا ضخماً، حتى إذا قدرت عليها وجلست منها مجلس الرجل من المرأة وذكرت النار، فقمت عنها فزعاً منك، اللّهمّ فارفع عنّا هذه الصخرة، فانصدعت حتى نظروا إلى الصدع. ثم قال الآخر: اللّهمّ إن كنت تعلم أنّي استأجرت قوماً يحرثون كل رجل منهم بنصف درهم، فلمّا فرغوا أعطيتهم أُجورهم، فقال أحدهم: قد عملت عمل اثنين والله لا آخذ إلاّ درهماً واحداً، وترك ماله عندي، فبذرت بذلك النصف الدرهم في الأرض، فأخرج الله من ذلك رزقاً، وجاء صاحب النصف الدرهم فأراده، فدفعت إليه ثمن عشرة آلاف، فإن كنت تعلم أنّما فعلته مخافة منك فارفع عنّا هذه الصخرة، قال: فانفرجت منهم حتى نظر بعضهم إلى بعض. ثم إنّ الآخر قال: اللّهمّ إن كنت تعلم أنّ أبي وأُمّي كانا نائمين، فأتيتهما بقعب من لبن، فخفت أن أضعه أن تمج فيه هامة، وكرهت أن أُوقظهما من نومهما، فيشق ذلك عليهما، فلم أزل كذلك حتى استيقظا وشربا، اللّهمّ فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك ابتغاء وجهك فارفع عنّا هذه الصخرة، فانفرجت لهم حتى سهل لهم طريقهم، ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من صدق الله نجا "([2]).
4 ـ وقال الإمام الطبرسي: أصحاب الرقيم هم النفر الثلاثة الذين دخلوا في غار، فانسدّ عليهم، فقالوا: ليدعُ الله تعالى كل واحد منّا بعمله حتى يفرّج الله عنّا، ففعلوا، فنجّاهم الله. رواه النعمان بن بشر مرفوعاً([3]).
ولعل فيها غنىً وكفاية ومن أراد التبسط فعليه السبر في غضون الروايات.
[1] - البخاري: الصحيح: 4/173، كتاب الأنبياء، الباب 53 ; ورواه في كتاب البيوع، الباب 98، واللفظ لكتاب الأنبياء.
[2] - نور الثقلين: الجزء 3 في تفسير قوله: (أم حسبت أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً) (الكهف/9) نقلا عن محاسن البرقي في تفسير الآية
- [3] -الطبرسي: مجمع البيان: 3 / 452.
تعليق