يجيب المقريزي بقوله كان التشييع معروفا بأرض مصر قبل ذلك
وينقل رواية الكندي في كتاب " الموالي " عن عبد الله بن لهيعة أنه قال قال يزيد بن أبي حبيب : نشأت بمصر وهي علوية فقلبتها عثمانية . . ( 1 )
ويذكر لنا التاريخ ثورة محمد بن أبي حذيفة في مصر عام 35 ه والتي خلع فيها والي عثمان عقبة بن عامر وجمع الناس وألبهم على عثمان ودخل في صدام مع أنصاره في مصر وحبس بعضهم بعد أن تمكن منهم وهم " بسر بن أرطأه " و " معاوية بن خديج " .
ثم بعث ابن أبي حذيفة بقوة إلى عثمان بالمدينة ساهمت في الثورة عليه وقتله . . ( 2 ) وحين عادت القوة إلى مصر بعد مصرع عثمان دخلت البلاد وهي ترتجل :
* خذها إليك واحذرن أبا الحسن *
* إنا نمر الحرب إمرار الوسن *
* بالسيف كي تخمد نيران الفتن . . *
فلما دخلوا المسجد صاحوا لسنا قتلة عثمان ولكن الله قتله . . ( 3 )
وكان من أمر شيعة عثمان أن جمعوا صفوفهم وانطلقوا إلى معاوية وبايعوه على الطلب بدم عثمان . فسار بهم معاوية إلى الصعيد وهزم أصحاب ابن أبي حذيفة . . وبعث ابن أبي حذيفة
بجيش آخر عليه قيس بن حرمل فاقتتلوا في ( خربتا ) أول شهر رمضان عام 36 ه فقتل قيس وسار معاوية إلى مصر فخرج إليه ابن أبي حذيفة في أهل مصر فمنعوه أن يدخلها ثم حدث
اتفاق بين الطرفين على أن يسلم قادة الشيعة الثلاثة أنفسهم لمعاوية كرهائن إلى حين يتم القبض على قتلة عثمان إلا أن معاوية غدر بالقادة الثلاثة واستولى على مصر . . ( 4 ) ولما
بلغ علي بن مصاب أبي حذيفة بعث قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري على مصر فدخلها سنة سبع وثلاثين واستمال الخارجين بأهل خربتا ومصر يومئذ من جيش علي إلا أهل خربتا
الخارجين بها . . ( 5 ) ثم أوقع معاوية بين قيس والإمام علي
وتم عزل قيس وتولية محمد بن أبي بكر الذي لم يتمكن من الصمود أمام جيش معاوية بقيادة عمرو بن العاص وسقط قتيلا في عام 38 ه ولم يمكث في الحكم سوى خمسة أشهر . . ( 6 )
ويبدو أن محمد بن أبي بكر استفز القوم في مصر كما لم يتمكن من التصدي لهذا التحدي الخارجي القادم من الشام بالإضافة إلى مواجهة الفتن في الداخل . . وبعد سقوط بني أمية
وقيام دولة بني العباس ظهرت دعوة بني حسن بن علي بمصر وتكلم الناس بها . وبايع كثير منهم لعلي بن محمد بن عبد الله . وكان أول علوي قدم مصر . وقام بأمر دعوته خالد بن
سعيد بن حبيش الصوفي من خاصة الإمام علي وشيعته وحضر الدار في قتل عثمان . . ( 7 ) وما زالت شيعة علي بمصر إلى أن ورد كتاب المتوكل على الله إلى مصر يأمر فيه بإخراج
آل أبي طالب من مصر إلى العراق فأخرجوا في رجب عام 236 ه . . واستتر من كان بمصر على رأس العلوية .
وقام يزيد بن عبد الله أمير مصر يومئذ بتتبع الروافض وحملهم إلى العراق . .
ومات المتوكل وجاء المستنصر فورد كتابه إلى مصر بألا يقبل علوي ضيعه . ولا يركب فرسا . ولا يسافر من الفسطاط إلى طرف من أطرافها
وأن يمنعوا من اتخاذ العبيد إلا العبد الواحد .
ومن كان بينه وبين أحد من الطالبيين خصومة قبل قول خصمه فيه ولم يطالب ببينة . . ( 8 ) وجاء المستعين واستمرت سياسة التهجير لشيعة مصر من الطالبيين . .
وهذه السياسة التي مارستها حكومات بني العباس ضد أبناء آل البيت في مصر إنما كان الهدف منها القضاء على الوجود الشيعي في مصر بنفي قيادات الشيعة والعناصر الفاعلة في
دائرتها ليتم عزل جماهير الشيعة تمهيدا لاحتوائها وتصفيتها . . وفي عام 252 ه قامت ثورة شيعية بالإسكندرية بقيادة جابر بن الوليد المدلجي واجتمع إليه خلق كثير من بني مدلج وهزم
جيش العباسيين وقوي أمره وأتاه الناس وتمكن من السيطرة على الوجه البحري . إلا أن هذه الثورة لم تنجح . . ( 9 ) ثم حدثت ثورة أخرى صغيرة قادها بغا الأكبر - يمتد نسبه إلى الحسين - في الصعيد .
وقامت بعدها ثورة أخرى قادها بغا الأصغر فيما بين الإسكندرية وبرقة في عام 255 ه . في عهد ابن طولون وسار في جمع إلى الصعيد لكنه قتل . .
وثار ابن الصوفي العلوي في الصعيد واستولى على إسنا وهزم جيش ابن طولون لكنه هزم في إخميم وفر إلى مكه وقبض عليه ابن طولون بعد ذلك . .
وفي عهد خمارويه بن أحمد بن طولون ظهر رجل ينكر أن أحدا خيرا من أهل البيت فوثب عليه العامة وضرب بالسياط في عام 285 ه . . ( 10 ) وحدث صدام بين جمع من الأهالي
والجند أمام الجامع العتيق - جامع عمرو - بسبب لوحة على باب الجامع ذكر فيها الصحابة والقرآن . وأراد الأهالي خلعها فتصدى لهم الجند ووقعت إصابات في الجانبين . . ( 11 )
يقول المقريزي : وما زال أمر الشيعة يقوى في مصر إلى أن دخلت سنة 350 ه ففي يوم عاشوراء وقعت منازعة بين الجند وبين جماعة من الرعية عند قبر كلثوم
العلوية بسبب ذكر السلف والنوح وقتل فيها جماعة من الطرفين . . وتعصب السودان - الجنود - على الرعية فكانوا إذا لقوا أحدا قالوا : من خالك . . ؟ فإن لم يقل معاوية بطشوا به وشلحوه
. ثم كثر القول : معاوية خال علي . . ( 12 ) وكان على باب الجامع العتيق شيخان من العامة يناديان في كل يوم جمعة في رجوة الناس من الخاص والعام : معاوية خالي وخال المؤمنين .
وكاتب الوحي ورديف رسول الله - وهذا أحسن ما يقولونه - وإلا فقد كانوا يقولون : معاوية خال علي من ها هنا - ويشيرون إلى أصل الأذن - ويلقون أبا جعفر الحسيني فيقولون له ذلك في وجهه .
وكان بمصر أسود يصيح دائما : معاوية خال علي فقتل بتنيس أيام القائد جوهر . . ( 13 ) وقد قام خصوم الشيعة في مصر بمظاهرة في عهد كافور الأخشيدي يطالبونه فيها بنصرة إخوانهم الذين ثار عليهم الطالبيين بمكة . . ( 14 )
واستمرت مطاردة الشيعة وضربهم كلما ظهرت لهم شعيرة أو ارتفع لهم صوت وضرب رجل شيعي بالسياط وجعل في عنقه غل وحبس حتى مات وأراد العامة نبش قبره إلا أن جند كافور منعوهم . .
وفي عام 356 ه كتب على المساجد ذكر الصحابة والتفضيل أي تفضيل أبي بكر على علي . لكن كافور أمر بإزالته . .
ومثل هذا السرد التاريخي إن دل على شئ فإنما يدل على أن الشيعة كان لها وجودها البارز والفعال على الساحة المصرية وفي قلب القاعدة الشعبية .
وهذه الوقائع تشهد على هذا فهي رد فعل سني تجاه هذا التواجد المستفز لهم . .* بين العباسيين والفاطميين :
وبعد سقوط الأخشيديين ودخول الفاطميين مصر ظهر مذهب التشيع وأذن في مساجد مصر الجامعة وغيرها : حي على خير العمل .
وبدأت الشعارات الشيعية تبرز على ساحة الواقع ومنها الجهر بأفضلية علي والصلاة عليه وعلى الحسن
والحسين وفاطمة .
ودارت الدائرة وهم جوهر الصقلي بإحراق رحبة الصيارفة بسبب تظاهرهم ضد الحكومة رافعين شعار : معاوية خال علي . . ( 15 ) وصدر الأمر بالجهر بالبسملة وكتب على سائر
الأماكن في مصر : خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي . وأمر بالصوم والفطر على مذهب الشيعة . وقطعت صلاة التراويح من جميع البلاد المصرية . . ( 16 )
وفي ربيع 385 ه جلس القاضي محمد بن النعمان على كرسي بالقصر في القاهرة لقراءة علوم أهل البيت .
وتسارع الناس إلى الدخول في الدعوة فقدموا من سائر النواحي والضياع فكان للرجال يوم الأحد والنساء يوم الأربعاء . للأشراف وذوي الحاجة يوم الثلاثاء .
وتزاحم الناس على الدخول في الدعوة فمات عدة من الرجال والنساء . . ( 17 ) ولم تواجه جماهير السنة في مصر أية ضغوط من قبل الدولة الفاطمية لإجبارها على التخلي عن مذهبها كما أشاع خصوم الفاطميين .
وإنما الجماهير هي التي زحفت طواعية نحو دعوة آل البيت حتى تحول أنصار مذهب السنة إلى أقلية .
وقد كانت الحرب الدعائية على أشدها ضد الفاطميين من قبل العباسيين في بغداد .
ومن صور هذه الحرب إعلان العباسيين وثيقة وقع عليها وجهاء من السنة . والشيعة تدعي بطلان دعوى الفاطميين في الانتساب إلى آل البيت . . ( 18 ) وقد تأثرت الكتابات التاريخية
التي رصدت تلك الفترة بهذه الحرب وانحازت إلى صف العباسيين السنة . وبرز هذا الأمر بوضوح بعد سقوط الدولة الفاطمية على أيدي الأيوبيين . . ( 19 )
ويدافع المقريزي عن حملات التشكيك التي وجهت للفاطميين في مسألة نسبهم لآل البيت ومحاولة نسبتهم لليهود والمجوس . .
يقول المقريزي : وهذه أقوال إن أنصفت يتبين لك أنها موضوعة . فإن بني علي قد كانوا إذ ذاك على غاية من وفور العدد وجلالة القدر عند الشيعة . فما الحامل لشيعتهم على الإعراض
عنهم والدعاء لابن مجوس أو لابن يهودي . فهذا مما لا يفعله أحد ولو بلغ الغاية في الجهل والسخف . . وإنما جاء ذلك من قبيل ضعفة خلفاء بني العباس عندما غضوا بمكان الفاطميين.
وأسجل القضاء بنفيهم من نسب العلويين وشهد بذلك من أعلام الناس جماعة منهم الشريفان الرضي والمرتضى وأبو حامد الإسفراييني في عدة وافرة عندما جمعوا لذلك في سنة 402 ه
أيام القادر . . وكانت شهادة القوم في ذلك على السماع لما اشتهر وعرف بين الناس ببغداد وأهلها إنما هم شيعة بني العباس الطاعنون في هذا النسب والمتطيرون من بني علي الفاعلون
فيهم منذ ابتداء دولتهم الأفاعيل القبيحة . فنقل الأخباريون وأهل التاريخ . ذلك كما سمعوه ورووه حسبما تلقوه من غير تدبر . . ( 20 )
* الفاطميون ومصر :
لم تستفد مصر من ولاتها الذين حكموها منذ الفتح الإسلامي قدر ما استفادت وانتفعت من الفاطميين على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية وأن بناء القاهرة
والجامع الأزهر لهما خير دليل على ذلك . . والتاريخ يحدثنا عن نهضة واسعة في الحياة الفكرية والأدبية في العصر الفاطمي كما يحدثنا عن ازدهار العلوم الفلسفية والرياضيات والفلك والتنجيم والطب .
ويقول الدكتور محمد كامل حسين : . . في العصر الفاطمي نرى تطورا جارفا في الحياة الفكرية ولا سيما في العلوم الفلسفية على اختلاف ألوانها وفنونها . إذ ازدهرت هذه العلوم ورعاها الخلفاء الفاطميون .
بل كان هؤلاء الخلفاء من العلماء المبرزين في بعض هذه العلوم . وخاصة في الإلهيات والفلك . . وقد اهتم الفاطميون برصد النجوم واهتموا بعلماء الرياضيات اهتماما خاصا . . كما اهتموا بالشعر واتخذوه وسيلة من وسائل دعوتهم السياسية .
وكان الفاطميون أساتذة فن الدعاية واتخذوا لها كل الوسائل الممكنة في عصرهم وجندوا للدعاية كل من يفيدهم في هذا
المضمار . . ولا أكاد أعرف دولة من الدول الإسلامية أقامت للشعراء هذا التمجيد . أو اهتمت بهم هذا الاهتمام فلا غرو إذا إن ازدهر الشعر المصري ازدهارا لم يعرف من قبل . . ( 21 )
ويقول الدكتور عبد المنعم الماجد : . . ويرجع الفضل إلى الفاطميين في خلق أهمية مركز مصر الدولي للتجارة . إذ أنهم عرفوا مزايا الموقع الجغرافي لمصر في مفترق القارات لتربط
بين عالمين ولكي يسهل الفاطميون نقل التجارة بين الشرق والغرب فتحوا القنال بين النيل والبحر الأحمر وهو ما عرف في عهد المستنصر بالخليج الحاكمي نسبة إلى الحاكم بأمر الله . . ( 22 )
وقد ذكر الرحالة ناصر خسرو عندما مر بمصر في تلك الفترة : أن المصريين كانوا في حالة حسنة جدا . وأنه رأى أموالا يملكها بعض المصريين لو ذكرها أو وصفها لما صدقه أحد . فهي لا تقع تحت تحديد أو حصر . وهي للنصارى والمسلمين على السواء . . ( 23 )
وذكر أيضا : وقد رأيت الأمن والعدل فيما رأيت من بلاد العرب والعجم في أربعة مواضع : الأول بالدشت أيام نشكر خان . والثاني بالديلم أيام أمير الأمراء جستان بن إبراهيم والثالث
بمصر أيام المستنصر بالله أمير المؤمنين . والرابع بطبس أيام الأمير أبي الحسن بن محمد . فلم أسمع على كثرة ما سافرت بهذه الجهات عن الأمن ولم أره . . ( 24 )
لقد أصحبت مصر لأول مرة في التاريخ مركز الحكم والتوجيه وتحولت القاهرة إلى عاصمة للعالم الإسلامي كما أصحبت منارة العلم وقبلة المتعلمين وذلك بفضل الفاطميين الشيعة .
وكانت الدولة الفاطمية تمتد من أقصى المحيط الأطلسي إلى الفرات وبلغت دعوتها إلى أقصى انتشارها ووصل غناها إلى الذروة . وهكذا كان حال الدولة الفاطمية حين تسلمها المستنصر بالله الخليفة الثامن من خلفاء الفاطميين . . ( 25 )
وكانت الدولة الفاطمية في خلافة الظاهر والد المستنصر في غاية الاستقرار والرفاهية ولأجل ذلك مال الظاهر إلى الدعة والراحة ولما جاء المستنصر ركن إلى
هذا الحال . . ( 26 )
وقد ازدهرت الحركة العمرانية في عهد الفاطميين كما ازدهرت صناعة النسيج واشتهرت مصر بصناعة أنواع خاصة من النسيج .
وكانت الحكومة تقوم بكسوة موظفيها في الصيف والشتاء وكسوة العامة من الفقراء والمحتاجين . . ( 27 ) ولم تكن المواكب المترفة غاية الترف التي كانت تخرج في شوارع القاهرة في
المناسبات الدينية كعيد الفطر والأضحى وبداية رمضان وكذلك في عيد ميلاد الخليفة - هذه المواكب تشير في دلالة واضحة إلى حالة الرخاء والسعة التي كانت تعيشها في تلك الفترة . .
وجميع أفراد الشعب كانوا يتأنقون لهذه المواكب فيلبسون أغلى الملابس وأروعها والتي كانت تصنع في دور الطرز المصرية . وهي أماكن لصناعة الملابس أغلبها مذهبة . يشملها زي مصري عام ذو أكمام واسعة . . وقد بلغت الناس غاية التأنق في عهد الظاهر . . ( 28 )
وكان الخليفة العزيز يقول : أحب أن أرى النعم عند كل الناس ظاهرة . وأرى عليهم الذهب والفضة والجوهر. ولهم الخيل واللباس والضياع والعقار. وأن يكون ذلك كله من عندي.. ( 29 )
ويروي المؤرخون الكثير عن عدل المستنصر ورحمته بالناس فقد كان يعطي الدواء لمن يطلبه المجان ويخالط الناس ويسمع شكواهم وقد أحبته الرعية حبا شديدا . . ( 30 )
كما يروى أن النفقة على قافلة الحج في عهد المستنصر بلغت مائتي ألف دينار ولم تبلغ هذه النفقة مثل ذلك في دولة من الدول حيث كانت تشمل ثمن الطيب والشمع والحماية والصدقة
وأجرة الجمال ومعونة خدم القافلة ومن يسير معها من العسكر الذين بلغت نفقاتهم في عهد المستنصر ستين ألف دينار زيادة على مرتباتهم أو ألف دينار في اليوم . . ( 31 )
وقد أنشأ الحاكم بأمر الله دار الحكمة أو دار العلم في عام 395 ه وزوده
بالكتب من كل نوع في العلوم والآداب والعقائد وكان الطلاب يفدون إليها من شتى الأقطار . فكانت أشبه بجامعة تتكون من عدة كليات .. وكانت خزانة الكتب في زمن المستنصر لا نظير
لها في جميع بلاد الإسلام وهي تتكون من أربعين خزانة فيها أكثر من مائتي ألف كتاب وعدد كبير من الكتاب والنساخ . . ( 32 ) وبلغ عدد المساجد في مصر آنذاك ستة وثلاثون ألف
مسجد في جميع المدن والقرى ولكل مسجد يقع في حدود الدولة من الشام إلى القيروان نفقات يقدمها الخليفة المستنصر من زيت وحصير وسجاجيد للصلاة ورواتب للقوام والفراشين والمؤذنين وغيرهم . . ( 33 )
واعتاد خلفاء الفاطميين أن يقيموا في قصورهم الولائم الفاخرة في الأعياد لعامة الناس حيث تقدم لهم الفطرة وهي حلوى من دقيق وفستق ولوز وبندق وتمر وزبيب وعسل وهي تنشر كالجبل الشاهق على مائدة طويلة بالإيوان الكبير . . ( 34 )
وفي عيد الأضحى كان الخليفة ينحر بنفسه الأضاحي إيذانا منه ببدء النحر . وكانت تنحر في فترة العيد ما يزيد على الألف رأس توزع لحومها على الموظفين وطلبة العلم والقائمين بشئون الجوامع . . ( 35 )
إن الدولة الفاطمية التي استقرت بمصر فكانت أوفرها بين الدول بهاء وأبقاها أثرا وما زال الجامع الأزهر غرس الدولة الفاطمية اليانع يقوم منذ ألف عام أثرا خالدا ورمزا باهرا لهذا العصر الزاهر وهذه الدولة المستنيرة العادلة .
وربما كان العصر الفاطمي بين عصور مصر الإسلامية الغابرة أجودها من هذه الناحية بالدرس والتمحيص وأحفلها بالمواقف الشائقة وأكثرها سحرا وفتنة وأبعثها إلى التأمل والعطف
لأن الخلافة الفاطمية بالرغم مما كان يحيق بأصولها وأمامها من الريب فقد كانت بنظمها الطريفة ورسومها الفخمة وخلالها الباهرة تنثر من حولها فيض من العظمة والبهاء وتطبع
العصر بطابع عميق من روحها الباذخ كما يحدثنا التاريخ . . ( 36 )
وفي أيام هذه الدولة أخذت أنوار الحضارة الإسلامية تنبثق من هذه المدينة الزاهية على أرجاء الأرض . وأخذ الفن المصري الإسلامي يتألق في جميع
نواحيه .
وفي رعاية هذه الدولة وثبت العمارة الإسلامية وثبة قوية حتى قاربت الكمال لأن خلفاءها تباروا في إنشاء وتأسيس المساجد الكبرى والحصون والقصور والمناظر والحدائق والبساتين .
وفي هذا العصر الزاهي انتشر الزخرف في واجهات المساجد وانتعش التصوير ونبغ المصورون وترقت ودقت صناعة الجص والأخشاب . . وكانت أيامهم كلها أعيادا بما ابتكروه من حفلات جمعت بين جلالة الملك وطرب الشعب وبهجته . . ( 37 )* مواسم الفاطميين :
اشتهر العصر الفاطمي بكثرة المواسم والاحتفالات والإنفاق ببذخ عليها .
وقد تفاعل المصريون مع هذه الإحتفالات والمناسبات وأحبوها لما كانت تمثله بالنسبة لهم من أهمية معنوية وترفيهية بالإضافة إلى أهميتها الاقتصادية حيث كانت توزع فيها العطايا من أموال وكسوة وطعام . .
وأهم هذه المناسبات التي كان يحتفل بها الفاطميون . مناسبة رأس السنة الهجرية ومناسبة عاشوراء . ومولد النبي ( ص ) . وعيد الفطر . وعيد النحر ( الأضحى ) . وليلة النصف من
شعبان . ومولد الإمام علي . ومولد الحسن . ومولد الحسين . ومولد فاطمة . وأول رمضان . وعيد الغدير . وموسم فتح الخليج . وكسوة الشتاء . وكسوة الصيف. ويوم النيروز. وليلة أول
رجب ونصفه . وذلك غير المناسبات الأخرى الخاصة بخلفاء الفاطميين . . ( 38 ) وقد توقفت معظم هذه الإحتفالات بعد سقوط الفاطميين ولم يبق إلا القليل منها مما تبنته الدول التي قامت
بعدهم . وتبنته الطرق الصوفية . توقف الاحتفال بمولد أئمة آل البيت عدا مولد الحسين . كما توقف الاحتفال بعيد الغدير وكسوة الشتاء والصيف وعاشوراء وشهر رجب . وبقي الاحتفال
بليلة النصف من شعبان ورمضان اختصت به الطرق الصوفية . أما الاحتفال برأس السنة الهجرية ومولد النبي وعيد الفطر والأضحى فقد تبنته الدول الأيوبية والمملوكية والعثمانية
واستثمرته إعلاميا ودعائيا لصالحها غير أنها قامت بتغيير تواريخ الاحتفال بهذه
المناسبات والتي كانت من وضع الفاطميين . . ( 39 ) ولا تزال هذه النظم الفاطمية سائدة في مصر حتى اليوم بالنسبة للاحتفالات الخاصة بالمناسبات التي لا زالت باقية . مثل الموالد وليلة
النصف من شعبان ورأس السنة الهجرية وعاشوراء التي غير جوهر الاحتفال بها من الحزن إلى الفرح نكاية بالفاطميين الشيعة الذين كانوا يتخذون من يوم عاشوراء يوم حزن بسبب
المذبحة التي وقعت لأبناء الرسول بكربلاء في يوم العاشر من محرم . . وكان الاحتفال بعاشوراء زمن الفاطميين تتعطل فيه الأسواق ويعمل فيه السماط العظيم المسمى بسماط الحزن . وكان يصل إلى الناس منه شئ كثير . . ( 40 )
يروي المسبحي : وفي يوم عاشوراء ( بداية من عام 396 ه ) جرى الأمر فيه على ما يجري كل سنة من تعطيل الأسواق وخروج المنشدين إلى جامع القاهرة ( الأزهر ) ونزولهم
مجتمعين بالنوح والنشيد . . ( 41 ) وكان إذا جاء يوم العاشر من محرم يحتجب الخليفة عن الناس فإذا علا النهار ركب قاضي القضاة والشهود وقد غيروا زيهم . ثم صاروا إلى المشهد
الحسيني وكان قبل ذلك يعمل في الجامع الأزهر . فإذا جلسوا فيه ومن معهم من القراء والمتصدرين في الجوامع . جاء الوزير فجلس صدرا والقاضي والداعي من جانبيه .
والقراء يقرأون نوبة نوبة . وينشد قوم من الشعراء غير شعراء الخليفة شعرا يرثون به أهل البيت ( ع ) فإن كان الوزير رافضيا - هكذا يقول المقريزي - تغالوا وإن كان سنيا اقتصدوا .
ثم يستدعون بعد ذلك إلى القصر حيث يجلسون ويقرأ القراء وينشد المنشدون أيضا . ويفرش سماط الحزن مقدار ألف زبدية من العدس والملوحات والمخللات والأجبان والألبان والأعسال
والفطير والخبز المغير لونه - إلى السواد - بالقصد - أي عمدا - ويأكل الجميع من الناس على اختلاف طبقاتهم . فإذا فرغ القوم انفصلوا إلى أماكنهم ركبانا بذلك الزي الذي ظهروا فيه .
وطاف النواح بالقاهرة ذلك اليوم . وأغلق البياعون حوانيتهم إلى جواز العصر . فيفتح الناس بعد ذلك ويتصرفون . . ( 42 )
ولما زال حكم الفاطميين اتخذ ملوك بني أيوب يوم عاشوراء يوم سرور يوسعون
فيه على عيالهم ويتبسطون في المطاعم ويصنعون الحلاوات ويتخذون الأواني الجديدة ويكتحلون ويدخلون الحمام جريا على عادة أهل الشام التي سنها لهم الحجاج في أيام
عبد الملك بن مروان ليرغموا بذلك آناف شيعة علي بن أبي طالب الذين يتخذون يوم عاشوراء يوم حزن على الحسين . . ( 43 )
أما يوم الغدير فيوافق الثامن عشر من ذي الحجة وهو يوم وقف الرسول (ص) بغدير خم في حجة الوداع وخطب في الصحابة وأوصى بالإمامة لعلي . . ( 44 ) وفي هذه المناسبة كانت تزوج الأيامى وتوزع فيه الكسوة وتفرق الهبات . وفيه تنحر الماشية وتعتق الرقاب . . ( 45 )
وفي عيد الفطر يركب الخليفة لصلاة العيد وتفرق الكسوة ويعمل السماط وكذلك في عيد الأضحى الذي تفرق فيه الأضاحي بالإضافة إلى الكسوة والأموال على أرباب السيف والقلم . . ( 46 )
وكان الفاطميون بالإضافة إلى ذلك يحتفلون بعيد النيروز ويوزعون فيه أصناف الحلوى..( 47 )
وفي الاحتفال برأس السنة الهجرية كان الخلفاء يقيمون الولائم ويوزعون الحلوى ويحضر الاحتفال رجال الدولة وأصحاب الرتب وجميع أرباب السيوف والأقلام . . ( 48 )
وفي فصل الشتاء كانت توزع كسوة الشتاء . وفي فصل الصيف كانت توزع كسوة الصيف على أهل الدولة وعلى أولادهم ونسائهم . . ( 49 )
إن هذه الإحتفالات إنما كانت تعكس الحالة الاقتصادية السائدة في العصر الفاطمي . وهي حالة على ما يبدو من هذه الإحتفالات تدل على رغد العيش واتساع الأرزاق . .
المصدر الشيعة في مصر - صالح الورداني
تعليق