بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم:
أ ـ روى المفضّل عن الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) عن أبيه عن جدّه : «أنّ الحسن بن علي بن أبي طالب كان أعبد الناس في زمانه، وأزهدهم وأفضلهم ، وكان إذا حجّ حجّ ماشياً ، وربّما مشى حافياً ، وكان إذا ذكر الموت بكى ، وإذا ذكر القبر بكى، وإذا ذكر البعث والنشور بكى ، وإذا ذكر الممرّ على الصراط بكى ، وإذا ذكر العرض على الله ـ تعالى ذكره ـ شهق شهقةً يغشى عليه منها .
وكان إذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربّه عزّوجلّ ، وكان إذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم[1] وسأل الله الجنّة وتعوّذ به من النار ، وكان لا يقرأ من كتاب الله عزّوجل (يا أيّها الذين آمنوا) إلاّ قال : لبيّك اللهمّ لبيّك ، ولم يُرَ في شيء من أحواله إلاّ ذاكراً لله سبحانه ، وكان أصدق الناس لهجةً وأفصحهم منطقاً ...»[2].
ب ـ وكان (عليه السلام) إذا توضّأ; ارتعدت مفاصله واصفرّ لونه، فقيل له في ذلك فقال : «حقٌ على كلّ من وقف بين يدي ربّ العرش أن يصفرّ لونه وترتعد مفاصله».
ج ـ وكان إذا بلغ باب المسجد رفع رأسه ويقول : «ضيفك ببابك ، يا محسن قد أتاك المسيء، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم»[3] .
د ـ وكان إذا فرغ من الفجر لم يتكلّم حتى تطلع الشمس وإن زحزح[4] .
هـ ـ وعن الإمام محمد بن علي الباقر(عليه السلام) : «أنّ الحسن (عليه السلام) قال : إنّي لأستحي من ربّي أن ألقاه ولم أمشِ الى بيته ، فمشى عشرين مرّة من المدينة على رجليه»[5] .
و ـ وعن علي بن جذعان : أنّ الحسن بن علي(عليه السلام) خرج من ماله مرتين، وقاسم الله ماله ثلاث مرّات، حتى أن كان ليعطي نعلاً، ويمسك نعلاً ويعطي خفّاً ويمسك خفّاً[6] .
@@@وللإمام المجتبى(عليه السلام) أدعية شتّى رُويت عنه@@@
، وهي تتضمّن مجموعةً من المعارف والآداب، كما تحمل أدب التقديس لله تعالى والخضوع له والتذلّل بين يديه، ونشير الى نموذج منها :
قال(عليه السلام) :
«اللهمّ إنّك الخَلَفُ من جميع خَلقِك، وليس في خلقِكَ خَلَفٌ مثلُكَ ، إلهِي من أحسنَ فبرحمتكَ ، ومن أساء فبخطيئته ، فلا الذي أحسنَ استغنى عن رَدفك ومعونتك ، ولا الذي أساء استبدل بك وخرج من قدرتك ، الهي بك عرفتك، وبك اهتديتُ الى أمرك ، ولو لا أنتَ لم أدرِ ما أنتَ ، فيا من هو هكذا ولا هكذا غيره صلّ على محمد وآل محمد، وارزقني الإخلاص في عملي والسعة في رزقي ، اللهمّ اجعل خير عملي آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيّامي يوم ألقاك ، إلهي أطعتك ولك المنّة عليَّ في أحبّ الأشياء اليك : الإيمان بك والتصديق برسولك، ولم أعصك في أبغض الأشياء اليك: الشرك بك والتكذيب برسولك ، فاغفر لي ما بينهما يا أرحم الراحمين »[7].
وعن ابن كثير : أنّ الحسن كان يقرأ كلّ ليلة سورة الكهف في لوح مكتوب، يدور معه حيث دار من بيوت أزواجه قبل أن ينام وهو في الفراش[8] .
لقد تغذّى الإمام الحسن (عليه السلام) بلباب المعرفة وبجوهر الإيمان وبواقع الدين، وانطبعت مُثُلُه في دخائل نفسه وأعماق ذاته ، فكان من أشدّ الناس إيماناً، ومن أكثرهم إخلاصاً وطاعةً لله[9] .
@@@حلمه وعفوه @@@
لقد عُرف الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) بعظيم حلمه، وأدلّ دليل على ذلك هو تحمّله لتوابع صلحه مع معاوية الذي نازع علياً حقّه وتسلّق من خلال ذلك الى منصب الحكم بالباطل، وتحمّل (عليه السلام) بعد الصلح أشد أنواع التأنيب من خيرة أصحابه، فكان يواجههم بعفوه وأناته، ويتحمّل منهم أنواع الجفاء في ذات الله صابراً محتسباً .
وروي أنّ مروان بن الحكم خطب يوماً فذكر علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فنال منه والحسن بن علي (عليهما السلام) جالس ، فبلغ ذلك الحسين(عليه السلام) فجاء الى مروان فقال : يا ابن الزرقاء! أنت الواقع في عليّ؟!، ثم دخل على الحسن(عليه السلام) فقال : تسمع هذا يسبّ أباك ولا تقول له شيئاً؟!، فقال : وما عسيتُ أن أقول لرجل مسلّط يقول ما شاء ويفعل ما يشاء .
وذُكر أنّ مروان بن الحكم شتم الحسن بن علي(عليه السلام)، فلمّا فرغ قال الحسن : إنّي والله لا أمحو عنك شيئاً، ولكن مهّدك الله ، فلئن كنت صادقاً فجزاك الله بصدقك ، ولئن كنت كاذباً فجزاك الله بكذبك، والله أشدّ نقمةً منِّي .
وروي أنّ غلاماً له(عليه السلام) جنى جنايةً توجب العقاب، فأمر به أن يُضرب، فقال : يا مولاي «والعافين عن الناس)، قال : عفوت عنك، قال : يا مولاي «والله يحب المحسنين)، قال : أنت حرٌ لوجه الله ولك ضعف ما كنت أعطيك[10].
وروى المبرّد وابن عائشة: أنّ شاميّاً رآه راكباً فجعل يلعنه والحسن لا يردّ ، فلما فرغ أقبل الحسن(عليه السلام) فسلّم عليه وضحك، فقال : «أيها الشيخ! أظنّك غريباً؟ ولعلّك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك ، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسَوْناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك ، وإن كان لك حاجة قضيناها لك ، فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا الى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأنّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً» .
فلمّا سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال : أشهد أنّك خليفة الله في أرضه، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ، والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ ...[11]
@@@كرمه وجوده @@@
إنّ السخاء الحقيقي هو بذل الخير بداعي الخير، وبذل الإحسان بداعي الإحسان، وقد تجلّت هذه الصفة الرفيعة بأجلى مظاهرها وأسمى معانيها في الإمام أبي محمد الحسن المجتبى(عليه السلام) حتى لُقّب بكريم أهل البيت .
فقد كان لا يعرف للمال قيمةً سوى ما يردّ به جوع جائع، أو يكسو به عارياً، أو يغيث به ملهوفاً، أو يفي به دين غارم ، وقد كانت له جفان واسعة أعدّها للضيوف، ويقال: إنّه ما قال لسائل «لا» قَطّ.
وقيل له : لأىّ شيء لا نراك تردّ سائلاً ؟ فأجاب : «إنّي لله سائل وفيه راغب، وأنا أستحي أن أكون سائلاً وأردّ سائلاً ، وإنّ الله عوّدني عادةً أن يفيض نعمه عليَّ ، وعوّدته أن أفيض نعمه على الناس، فأخشى إن قطعت العادة أن يمنعني العادة»[12] .
واجتاز (عليه السلام) يوماً على غلام أسود بين يديه رغيف يأكل منه لقمة ويدفع لكلب كان عنده لقمة اُخرى ، فقال له الإمام : ما حملك على ذلك؟ فقال الغلام : إنّي لأستحي أن آكل ولا اُطعمه .
وهنا رأى الإمام فيه خصلة حميدة، فأحبّ أن يجازيه على جميل صنعه، فقال له : لا تبرح من مكانك، ثم انطلق فاشتراه من مولاه، واشترى الحائط (البستان) الذي هو فيه، وأعتقه وملّكه إيّاه[13] .
وروي أنّ جارية حيّته بطاقة من ريحان، فقال (عليه السلام) لها : أنت حرّة لوجه الله، فلامه أنس على ذلك ، فأجابه(عليه السلام) : «أدّبنا الله فقال تعالى : (وإذا حُيّيتم بتحيّة فحيّوا بأحسن منها)[14] وكان أحسن منها إعتاقها»[15].
@@@ومن مكارم أخلاقه@@@
أنّه ما اشترى من أحد حائطاً ثمّ افتقر البائع إلاّ ردّه عليه وأردفه بالثمن معه .
وجاءه فقير يشكو حاله ولم يكن عنده شيء في ذلك اليوم فعزّ عليه الأمر واستحى من ردّه، فقال (عليه السلام) له : إنّي أدلّك على شيء يحصل لك منه الخير ، فقال الفقير يا ابن رسول الله ما هو؟ قال (عليه السلام) : اذهب الى الخليفة، فإنّ ابنته قد توفيت وانقطع عليها، وما سمع من أحد تعزيةً بليغة، فعزّه بهذه الكلمات يحصل لك منه الخير، قال: يا ابن رسول الله حفّظني إيّاها،
قال (عليه السلام): قل له : «الحمد لله الذي سترها بجلوسك على قبرها، ولم يهتكها بجلوسها على قبرك»، وحفظ الفقير هذه الكلمات وجاء الى الخليفة فعزّاه بها، فذهب عنه حزنه وأمر له بجائزة، ثم قال له : أكلامك هذا؟ فقال : لا، وإنّما هو كلام الإمام الحسن ، قال الخليفة : صدقت فإنّه معدن الكلام الفصيح، وأمر له بجائزة اُخرى[16].
لقد كان (عليه السلام) يمنح الفقراء برّه قبل أن يبوحوا بحوائجهم ويذكروا مديحهم، لئلا يظهر عليهم ذلّ السؤال[17].
@@@تواضعه وزهده @@@
إنّ التواضع دليل على كمال النفس وسموّها وشرفها ، والتواضع لا يزيد العبد إلاّ رفعةً وعظمةً، وقد حذا الإمام الحسن (عليه السلام) حذو جدّه وأبيه في أخلاقه الكريمة، وقد أثبت التاريخ بوادر كثيرة تشير الى سموّ الإمام في هذا الخلق الرفيع، نشير الى شيء منها :
أ ـ اجتاز الإمام على جماعة من الفقراء قد وضعوا على الأرض كسيرات وهم قعود يلتقطونها ويأكلونها ، فقالوا له: هلمّ يابن بنت رسول الله الى الغذاء، فنزل(عليه السلام) وقال : «إنّ الله لا يحبّ المستكبرين»، وجعل يأكل معهم حتى اكتفوا والزاد على حاله ببركته، ثم دعاهم الى ضيافته وأطعمهم وكساهم[18].
ب ـ ومرّ (عليه السلام) على صبيان يتناولون الطعام، فدعوه لمشاركتهم فأجابهم الى ذلك، ثم حملهم الى منزله فمنحهم برّه ومعروفه، وقال : «اليد لهم لأنّهم لم يجدوا غير ما أطعموني، ونحن نجد ما أعطيناهم»[19] .
ورفض الإمام جميع ملاذّ الحياة ومباهجها متّجهاً الى الدار الآخرة التي أعدّها الله للمتّقين من عباده، فمن أهمّ مظاهر زهده : زهده في الملك طلباً لمرضاة الله، ويتجلّى ذلك إذا لاحظنا مدى حرص معاوية على الملك واستعماله لكلّ الأساليب اللاأخلاقية للوصول الى السلطة، بينما نجد الإمام الحسن (عليه السلام) يتنازل عن الملك حينما لا يراه يحقّق شيئاً سوى إراقة دماء المسلمين.
@@@ومن جملة مظاهر زهده أيضاً@@@
ما حدّث به مدرك بن زياد أنّه قال : كنّا في حيطان ابن عباس، فجاء ابن عبّاس وحسن وحسين فطافوا في تلك البساتين ثم جلسوا على ضفاف بعض السواقي ،
فقال الحسن : يا مدرك! هل عندك غذاء؟ فقلت له : نعم، ثم انطلقت فجئته بخبز وشيء من الملح مع طاقتين من بقل، فأكل منه، وقال : يا مدرك! ما أطيب هذا؟ ، وجيء بعد ذلك بالطعام وكان في منتهى الحُسن، فالتفت (عليه السلام) الى مدرك وأمره بأن يجمع الغلمان ويقدّم لهم الطعام، فدعاهم مدرك فأكلوا منه ولم يأكل الإمام منه شيئاً، فقال له مدرك : لماذا لا تأكل منه؟ فقال(عليه السلام) : «إنّ ذاك الطعام أحبّ عندي»[20].
________________________________________
[1] اضطراب السليم من لسعة العقرب .
[2] راجع الأمالي للصدوق : 150 ، وبحار الأنوار : 43 / 331 .
[3] المناقب : 3 / 180، والبحار : 43 / 339 .
[4] بحار الأنوار: 43 / 339 ، وأخبار إصبهان : 1 / 44 .
[5] المناقب : 3 / 180 ، وبحار الأنوار : 43 / 339 .
[6] المصدر السابق .
[7] مهج الدعوات : 144 .
[8] راجع البداية والنهاية : 8 / 42 ، طبعة دار إحياء التراث العربي 1408 هـ .
[9] حياة الإمام الحسن : 1 / 326 .
[10] بحار الأنوار : 43 / 352 .
[11] العوالم (الإمام الحسن) : 121 نقلاً عن المناقب : 3 / 184 .
[12] حياة الإمام الحسن : 1 / 316 ـ 317 عن أنساب الأشراف: 1 / 319 ، والطبقات الكبرى: 1 / 23 .
[13] راجع البداية والنهاية : 8 / 38 .
[14] النساء (4) : 86 .
[15] المناقب لابن شهر آشوب : 2 / 23 ، وحياة الإمام الحسن : 1 / 322 عن الخوارزمي.
[16] نور الأبصار : 135 ـ 136 .
[17] المصدر السابق : 325 ، وحياة الإمام الحسن: 1 / 325 .
[18] عوالم العلوم ( الإمام الحسن ) : 123 عن المناقب : 3 / 187 .
[19] حياة الإمام الحسن : 1 / 313 عن الصبان على هامش نور الأبصار : 196 .
[20] مختصر تاريخ دمشق : 7 / 21 ، طبعة دار الفكر .
السلام عليكم:
أ ـ روى المفضّل عن الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) عن أبيه عن جدّه : «أنّ الحسن بن علي بن أبي طالب كان أعبد الناس في زمانه، وأزهدهم وأفضلهم ، وكان إذا حجّ حجّ ماشياً ، وربّما مشى حافياً ، وكان إذا ذكر الموت بكى ، وإذا ذكر القبر بكى، وإذا ذكر البعث والنشور بكى ، وإذا ذكر الممرّ على الصراط بكى ، وإذا ذكر العرض على الله ـ تعالى ذكره ـ شهق شهقةً يغشى عليه منها .
وكان إذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربّه عزّوجلّ ، وكان إذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم[1] وسأل الله الجنّة وتعوّذ به من النار ، وكان لا يقرأ من كتاب الله عزّوجل (يا أيّها الذين آمنوا) إلاّ قال : لبيّك اللهمّ لبيّك ، ولم يُرَ في شيء من أحواله إلاّ ذاكراً لله سبحانه ، وكان أصدق الناس لهجةً وأفصحهم منطقاً ...»[2].
ب ـ وكان (عليه السلام) إذا توضّأ; ارتعدت مفاصله واصفرّ لونه، فقيل له في ذلك فقال : «حقٌ على كلّ من وقف بين يدي ربّ العرش أن يصفرّ لونه وترتعد مفاصله».
ج ـ وكان إذا بلغ باب المسجد رفع رأسه ويقول : «ضيفك ببابك ، يا محسن قد أتاك المسيء، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم»[3] .
د ـ وكان إذا فرغ من الفجر لم يتكلّم حتى تطلع الشمس وإن زحزح[4] .
هـ ـ وعن الإمام محمد بن علي الباقر(عليه السلام) : «أنّ الحسن (عليه السلام) قال : إنّي لأستحي من ربّي أن ألقاه ولم أمشِ الى بيته ، فمشى عشرين مرّة من المدينة على رجليه»[5] .
و ـ وعن علي بن جذعان : أنّ الحسن بن علي(عليه السلام) خرج من ماله مرتين، وقاسم الله ماله ثلاث مرّات، حتى أن كان ليعطي نعلاً، ويمسك نعلاً ويعطي خفّاً ويمسك خفّاً[6] .
@@@وللإمام المجتبى(عليه السلام) أدعية شتّى رُويت عنه@@@
، وهي تتضمّن مجموعةً من المعارف والآداب، كما تحمل أدب التقديس لله تعالى والخضوع له والتذلّل بين يديه، ونشير الى نموذج منها :
قال(عليه السلام) :
«اللهمّ إنّك الخَلَفُ من جميع خَلقِك، وليس في خلقِكَ خَلَفٌ مثلُكَ ، إلهِي من أحسنَ فبرحمتكَ ، ومن أساء فبخطيئته ، فلا الذي أحسنَ استغنى عن رَدفك ومعونتك ، ولا الذي أساء استبدل بك وخرج من قدرتك ، الهي بك عرفتك، وبك اهتديتُ الى أمرك ، ولو لا أنتَ لم أدرِ ما أنتَ ، فيا من هو هكذا ولا هكذا غيره صلّ على محمد وآل محمد، وارزقني الإخلاص في عملي والسعة في رزقي ، اللهمّ اجعل خير عملي آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيّامي يوم ألقاك ، إلهي أطعتك ولك المنّة عليَّ في أحبّ الأشياء اليك : الإيمان بك والتصديق برسولك، ولم أعصك في أبغض الأشياء اليك: الشرك بك والتكذيب برسولك ، فاغفر لي ما بينهما يا أرحم الراحمين »[7].
وعن ابن كثير : أنّ الحسن كان يقرأ كلّ ليلة سورة الكهف في لوح مكتوب، يدور معه حيث دار من بيوت أزواجه قبل أن ينام وهو في الفراش[8] .
لقد تغذّى الإمام الحسن (عليه السلام) بلباب المعرفة وبجوهر الإيمان وبواقع الدين، وانطبعت مُثُلُه في دخائل نفسه وأعماق ذاته ، فكان من أشدّ الناس إيماناً، ومن أكثرهم إخلاصاً وطاعةً لله[9] .
@@@حلمه وعفوه @@@
لقد عُرف الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) بعظيم حلمه، وأدلّ دليل على ذلك هو تحمّله لتوابع صلحه مع معاوية الذي نازع علياً حقّه وتسلّق من خلال ذلك الى منصب الحكم بالباطل، وتحمّل (عليه السلام) بعد الصلح أشد أنواع التأنيب من خيرة أصحابه، فكان يواجههم بعفوه وأناته، ويتحمّل منهم أنواع الجفاء في ذات الله صابراً محتسباً .
وروي أنّ مروان بن الحكم خطب يوماً فذكر علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فنال منه والحسن بن علي (عليهما السلام) جالس ، فبلغ ذلك الحسين(عليه السلام) فجاء الى مروان فقال : يا ابن الزرقاء! أنت الواقع في عليّ؟!، ثم دخل على الحسن(عليه السلام) فقال : تسمع هذا يسبّ أباك ولا تقول له شيئاً؟!، فقال : وما عسيتُ أن أقول لرجل مسلّط يقول ما شاء ويفعل ما يشاء .
وذُكر أنّ مروان بن الحكم شتم الحسن بن علي(عليه السلام)، فلمّا فرغ قال الحسن : إنّي والله لا أمحو عنك شيئاً، ولكن مهّدك الله ، فلئن كنت صادقاً فجزاك الله بصدقك ، ولئن كنت كاذباً فجزاك الله بكذبك، والله أشدّ نقمةً منِّي .
وروي أنّ غلاماً له(عليه السلام) جنى جنايةً توجب العقاب، فأمر به أن يُضرب، فقال : يا مولاي «والعافين عن الناس)، قال : عفوت عنك، قال : يا مولاي «والله يحب المحسنين)، قال : أنت حرٌ لوجه الله ولك ضعف ما كنت أعطيك[10].
وروى المبرّد وابن عائشة: أنّ شاميّاً رآه راكباً فجعل يلعنه والحسن لا يردّ ، فلما فرغ أقبل الحسن(عليه السلام) فسلّم عليه وضحك، فقال : «أيها الشيخ! أظنّك غريباً؟ ولعلّك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك ، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسَوْناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك ، وإن كان لك حاجة قضيناها لك ، فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا الى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأنّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً» .
فلمّا سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال : أشهد أنّك خليفة الله في أرضه، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ، والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ ...[11]
@@@كرمه وجوده @@@
إنّ السخاء الحقيقي هو بذل الخير بداعي الخير، وبذل الإحسان بداعي الإحسان، وقد تجلّت هذه الصفة الرفيعة بأجلى مظاهرها وأسمى معانيها في الإمام أبي محمد الحسن المجتبى(عليه السلام) حتى لُقّب بكريم أهل البيت .
فقد كان لا يعرف للمال قيمةً سوى ما يردّ به جوع جائع، أو يكسو به عارياً، أو يغيث به ملهوفاً، أو يفي به دين غارم ، وقد كانت له جفان واسعة أعدّها للضيوف، ويقال: إنّه ما قال لسائل «لا» قَطّ.
وقيل له : لأىّ شيء لا نراك تردّ سائلاً ؟ فأجاب : «إنّي لله سائل وفيه راغب، وأنا أستحي أن أكون سائلاً وأردّ سائلاً ، وإنّ الله عوّدني عادةً أن يفيض نعمه عليَّ ، وعوّدته أن أفيض نعمه على الناس، فأخشى إن قطعت العادة أن يمنعني العادة»[12] .
واجتاز (عليه السلام) يوماً على غلام أسود بين يديه رغيف يأكل منه لقمة ويدفع لكلب كان عنده لقمة اُخرى ، فقال له الإمام : ما حملك على ذلك؟ فقال الغلام : إنّي لأستحي أن آكل ولا اُطعمه .
وهنا رأى الإمام فيه خصلة حميدة، فأحبّ أن يجازيه على جميل صنعه، فقال له : لا تبرح من مكانك، ثم انطلق فاشتراه من مولاه، واشترى الحائط (البستان) الذي هو فيه، وأعتقه وملّكه إيّاه[13] .
وروي أنّ جارية حيّته بطاقة من ريحان، فقال (عليه السلام) لها : أنت حرّة لوجه الله، فلامه أنس على ذلك ، فأجابه(عليه السلام) : «أدّبنا الله فقال تعالى : (وإذا حُيّيتم بتحيّة فحيّوا بأحسن منها)[14] وكان أحسن منها إعتاقها»[15].
@@@ومن مكارم أخلاقه@@@
أنّه ما اشترى من أحد حائطاً ثمّ افتقر البائع إلاّ ردّه عليه وأردفه بالثمن معه .
وجاءه فقير يشكو حاله ولم يكن عنده شيء في ذلك اليوم فعزّ عليه الأمر واستحى من ردّه، فقال (عليه السلام) له : إنّي أدلّك على شيء يحصل لك منه الخير ، فقال الفقير يا ابن رسول الله ما هو؟ قال (عليه السلام) : اذهب الى الخليفة، فإنّ ابنته قد توفيت وانقطع عليها، وما سمع من أحد تعزيةً بليغة، فعزّه بهذه الكلمات يحصل لك منه الخير، قال: يا ابن رسول الله حفّظني إيّاها،
قال (عليه السلام): قل له : «الحمد لله الذي سترها بجلوسك على قبرها، ولم يهتكها بجلوسها على قبرك»، وحفظ الفقير هذه الكلمات وجاء الى الخليفة فعزّاه بها، فذهب عنه حزنه وأمر له بجائزة، ثم قال له : أكلامك هذا؟ فقال : لا، وإنّما هو كلام الإمام الحسن ، قال الخليفة : صدقت فإنّه معدن الكلام الفصيح، وأمر له بجائزة اُخرى[16].
لقد كان (عليه السلام) يمنح الفقراء برّه قبل أن يبوحوا بحوائجهم ويذكروا مديحهم، لئلا يظهر عليهم ذلّ السؤال[17].
@@@تواضعه وزهده @@@
إنّ التواضع دليل على كمال النفس وسموّها وشرفها ، والتواضع لا يزيد العبد إلاّ رفعةً وعظمةً، وقد حذا الإمام الحسن (عليه السلام) حذو جدّه وأبيه في أخلاقه الكريمة، وقد أثبت التاريخ بوادر كثيرة تشير الى سموّ الإمام في هذا الخلق الرفيع، نشير الى شيء منها :
أ ـ اجتاز الإمام على جماعة من الفقراء قد وضعوا على الأرض كسيرات وهم قعود يلتقطونها ويأكلونها ، فقالوا له: هلمّ يابن بنت رسول الله الى الغذاء، فنزل(عليه السلام) وقال : «إنّ الله لا يحبّ المستكبرين»، وجعل يأكل معهم حتى اكتفوا والزاد على حاله ببركته، ثم دعاهم الى ضيافته وأطعمهم وكساهم[18].
ب ـ ومرّ (عليه السلام) على صبيان يتناولون الطعام، فدعوه لمشاركتهم فأجابهم الى ذلك، ثم حملهم الى منزله فمنحهم برّه ومعروفه، وقال : «اليد لهم لأنّهم لم يجدوا غير ما أطعموني، ونحن نجد ما أعطيناهم»[19] .
ورفض الإمام جميع ملاذّ الحياة ومباهجها متّجهاً الى الدار الآخرة التي أعدّها الله للمتّقين من عباده، فمن أهمّ مظاهر زهده : زهده في الملك طلباً لمرضاة الله، ويتجلّى ذلك إذا لاحظنا مدى حرص معاوية على الملك واستعماله لكلّ الأساليب اللاأخلاقية للوصول الى السلطة، بينما نجد الإمام الحسن (عليه السلام) يتنازل عن الملك حينما لا يراه يحقّق شيئاً سوى إراقة دماء المسلمين.
@@@ومن جملة مظاهر زهده أيضاً@@@
ما حدّث به مدرك بن زياد أنّه قال : كنّا في حيطان ابن عباس، فجاء ابن عبّاس وحسن وحسين فطافوا في تلك البساتين ثم جلسوا على ضفاف بعض السواقي ،
فقال الحسن : يا مدرك! هل عندك غذاء؟ فقلت له : نعم، ثم انطلقت فجئته بخبز وشيء من الملح مع طاقتين من بقل، فأكل منه، وقال : يا مدرك! ما أطيب هذا؟ ، وجيء بعد ذلك بالطعام وكان في منتهى الحُسن، فالتفت (عليه السلام) الى مدرك وأمره بأن يجمع الغلمان ويقدّم لهم الطعام، فدعاهم مدرك فأكلوا منه ولم يأكل الإمام منه شيئاً، فقال له مدرك : لماذا لا تأكل منه؟ فقال(عليه السلام) : «إنّ ذاك الطعام أحبّ عندي»[20].
________________________________________
[1] اضطراب السليم من لسعة العقرب .
[2] راجع الأمالي للصدوق : 150 ، وبحار الأنوار : 43 / 331 .
[3] المناقب : 3 / 180، والبحار : 43 / 339 .
[4] بحار الأنوار: 43 / 339 ، وأخبار إصبهان : 1 / 44 .
[5] المناقب : 3 / 180 ، وبحار الأنوار : 43 / 339 .
[6] المصدر السابق .
[7] مهج الدعوات : 144 .
[8] راجع البداية والنهاية : 8 / 42 ، طبعة دار إحياء التراث العربي 1408 هـ .
[9] حياة الإمام الحسن : 1 / 326 .
[10] بحار الأنوار : 43 / 352 .
[11] العوالم (الإمام الحسن) : 121 نقلاً عن المناقب : 3 / 184 .
[12] حياة الإمام الحسن : 1 / 316 ـ 317 عن أنساب الأشراف: 1 / 319 ، والطبقات الكبرى: 1 / 23 .
[13] راجع البداية والنهاية : 8 / 38 .
[14] النساء (4) : 86 .
[15] المناقب لابن شهر آشوب : 2 / 23 ، وحياة الإمام الحسن : 1 / 322 عن الخوارزمي.
[16] نور الأبصار : 135 ـ 136 .
[17] المصدر السابق : 325 ، وحياة الإمام الحسن: 1 / 325 .
[18] عوالم العلوم ( الإمام الحسن ) : 123 عن المناقب : 3 / 187 .
[19] حياة الإمام الحسن : 1 / 313 عن الصبان على هامش نور الأبصار : 196 .
[20] مختصر تاريخ دمشق : 7 / 21 ، طبعة دار الفكر .
تعليق