التوسّل بدعاء النبي في حياته البرزخية
الشيخ / جعفر السبحاني
ثم استغفر وانصرف، قال: فرقدت فرأيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نومي وهو يقول: إلحق الرجل وبشّره بأنّ الله غفر له بشفاعتي، فاستيقظت، فخرجت أطلبه فلم أجده.الشيخ / جعفر السبحاني
قلت: بل قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن موسى بن النعمان في كتابه "مصباح الظلام": إنّ الحافظ أبا سعيد السمعاني ذكر فيما روينا عنه عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) قال: قدم علينا أعرابي بعدما دفنّا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحثا من ترابه على رأسه، وقال: يا رسول الله قلت فسمعنا قولك، ووعيت عن الله سبحانه وما وعينا عنك، وكان فيما أُنزل عليك{ ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءُوك فاستغفروا الله... }وقد ظلمت، وجئتك تستغفر لي، فنودي من القبر: انّه قد غفر لك، انتهى.
وروى ذلك أبو الحسن علي بن إبراهيم بن عبد الله الكرخي عن علي بن محمد بن علي، قال: حدثّنا أحمد بن محمد بن الهيثم الطائي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن سلمة بن كهيل، عن ابن صادق، عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، فذكره، ولا منافاة بين النقلين لإمكان التعدّد، وعلى فرض الوحدة فأحد النقلين اقتصر، والآخر أسهب في النقل، فنقل جميع القصة.
وقد أدرك ذلك الأعرابي بسلامة فطرته أنّ الآية الكريمة التي تدعو المسلمين إلى المجيء إلى النبي حتى يطلبوا منه أن يستغفر لهم،
ليست خاصة بحياة النبي الدنيوية، بل تعم الحياة الأُخروية، فلأجل ذلك قام يطلب من النبي أن يستغفر له، وقال عياض في الشفاء بسند جيد عن ابن حميد ـ أحد الرواة ـ عن مالك فيما يظهر، قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال مالك: " يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فانّ الله تعالى أدّب قوماً فقال} لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النَّبي { الآية، ومدح قوماً فقال }إنّ الذين يغضّون أصواتهم عند رسول الله }الآية، وذمّ قوماً فقال {إنّ الذين ينادونك من وراء الحجرات { الآية، وانّ حرمته ميتاً كحرمته حياً، فاستكان لها أبو جعفر، فقال: يا أبا عبد الله أستقبلُ القبلة وأدعو أم أستقبلُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال: لم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم (عليه السلام) إلى الله يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به، فيشفعك الله تعالى قال الله تعالى } ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم { الآية.
فانظر هذا الكلام من مالك، وما اشتمل عليه من أمر الزيارة والتوسّل بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واستقباله عند الدعاء وحسن الأدب التام معه.
وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسين السامري الحنبلي في المستوعب "باب زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)" وذكر آداب الزيارة، وقال: ثم يأتي حائط القبر فيقف ناحيته ويجعل القبر تلقاء وجهه، والقبلة خلف ظهره، والمنبر عن يساره، وذكر كيفية السلام والدعاء.
منه: اللّهم إنّك قلت في كتابك لنبيك (عليه السلام) : { ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك } الآية، وإنّي قد أتيت نبيّك مسغفراً، فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللّهمّ إنّي أتوجه إليك بنبيّك (صلى الله عليه وآله وسلم) وذكر دعاءً طويلا([1]). هذه نماذج قدمناه إليك لتكون على بيّنة من هذا الأمر وانّه لم يكن هناك فرق بين الحياتين، وقد نقل المؤرخون أُموراً كثيرة يضيق الوقت بنقلها ولو كنّا شاكّين في صدق بعض هذه التوسّلات ولكن نقل علماء السيرة والتاريخ المقدار الهائل من التوسّلات بدعاء النبي ـ بعد رحيله ـ يكشف أنّ التوسّل بدعاء النبي الأكرم كان أمراً رائجاً بين المسلمين ولم يكن أمراً غريباً ولا محظوراً وإلاّ لما صحّ أن ينقل المؤرخ ما يتلقاه المسلمون أمراً مرغوباً عنه. وقد ذكرها لفيف من المحقّقين في كتبهم فراجعها([2]).
وليس لنا أن نترك السيرة المستمرة الهائلة التي يلمسها من توقف هنيئة لدى القبر الشريف النبوي وقد قال سبحانه} ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنَّم وساءت مصيراً }([3]).
وقد نقل السمهودي نبذاً ممّا وقع لمن استغاث بالنبي أو طلب منه شيئاً عند قبره فأعطى مطلوبه ونال مرغوبه ممّا ذكره الإمام محمد بن موسى بن النعمان في كتابه "مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام"([4]).
[1] - السمهودي: وفاء الوفا: 4/1360 ـ 1362.
[2] - لاحظ شفاء السقام في زيارة خير الأنام للسبكي، والدرر السنية لزيني دحلان، والمبرد المبكي في رد الصارم المنكي لابن علان، ونضرة الإمام السبكي برد الصارم المنكي للسمهودي
[3] - النساء/115
[4] - وفاء الوفا: 4/1380 ـ 1387. طالع ذلك الفصل تجد فيه حكايات وقضايا كثيرة تدل على جريان السيرة بين المسلمين على التوسّل بدعاء النبي الأكرم.
تعليق