إنّ اتّخاذ موقف مسبق في المسألة يشكّل مانعاً من الوصول إلى الحقيقة، ويعد من موانع المعرفة الصحيحة فبما أنّ القائل يقتفي أثر من يقول لا يصح التوسّل بدعاء النبي الأكرم في البرزخ، فقد أراد نحتَ دليل لقوله ففسّر البرزخ في الآية بمعنى المانع عن الاتصال لا المانع عن انتقال أهل البرزخ إلى الدنيا، فكأنّه يصوّر أنّ بين الحياتين ستاراً حديدياً أو جداراً ضخماً يمنع من اللقاء والسماع، وليس لما يتخيله دليل، بل الدليل على خلافه، ترى أنّه سبحانه يحكي عن ماء البحرين أحدهما عذب فرات والآخر ملح أُجاج ثم يقول} وبينهما برزخ لا يبغيان }أي مانع يمنع عن اختلاط المائين، يقول سبحانه} مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان }([1]) ولم يكشف العلم عن وجود سدّ مادّي بين البحرين.
الشبهة الثانية: امتناع اسماع الموتى
إنّ الله تعالى يقول } فإنّك لا تسمع الموتى }([2]) والنمل بحذف الفاء/80 ويقول عزّ وجلّ}وما أنت بمسمع من في القبور([3]) {. والرسول بعد أن توفّاه الله هو من الموتى ومن أهل القبور فثبت أنّه لا يسمع دعاء أحد من أهل الدنيا وإن كان هو والأنبياء، لا يُبْلُون لأنّ الله قد حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، ولكنّهم أجساد بلا
أرواح وهم أموات([4]).
فعلى هامش هذه الشبهة نقول: أوّلا: إنّ قوله: " الرسول بعدما توفّاه الله هو من الموتى " ظاهر في إنكار الحياة البرزخية للأنبياء، فلو كان النبي من الموتى فالشهداء من الموتى مع أنّ القرآن يندد من يعدهم أمواتاً إذ يقول }ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربّهم يرزقون{.
نعم يقول سبحانه} إنك ميّت وإنّهم ميّتون }([5]) ولكن لا بمعنى الفناء المطلق، بل انسلاخ الروح عن البدن وانتقاله إلى العالم الآخر.
وثانياً: إنّ هاتين الآيتين ناظرتان إلى الأجساد الموجودة في القبور، فإنّها هي التي لا تسمع ولا تعي والاتصال لا يكون بيننا وبين هذه الأجساد، بل يتحقق بيننا وبين الأرواح الطاهرة والنفوس الزكية الباقية الخالدة، وإنْ تبعثر الجسد وتناثرت أجزاؤه، فالأرواح هي التي يُسلّم ويُصلّى عليها وهي التي تَسمع وتَرد.
وأمّا الحضور عند المراقد التي تضمّنت الأجساد والأبدان، فلأجل أنّه يبعث على التوجه إلى صاحب تلك الأجساد ويكون أدعى إلى تذكّر خصاله أو صفاته، وإلاّ فانّ الارتباط بهم، والسلام عليهم، ممكن حتى من مكان ناء وبلد بعيد، كما تصرح بذلك بعض أحاديث الصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسل).
ولابن القيم كلام في تفسير الآيتين نأتي بنصّه:
قال: أمّا قوله تعالى} وما أنتَ بمسع من في القبور { فسياق الآية يدل على أنّ المراد منها أنّ الكافر الميّت القلب لا تقدر على إسماعه إسماعاً يُنتفع به كما أنّ من في القبور لا نقدر على إسماعهم إسماعاً ينتفعون به، ولم يُرِد سبحانه أنّ أصحاب القبور لا يسمعون شيئاً البتة كيف وقد أخبر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّهم يسمعون خفق نعال المشيّعين وأخبر أنّ قتلى بدر سمعوا كلامه وخطابه وشرّع السلام عليهم بصيغة الخطاب للحاضر الذي يسمع، وأخبر أنّ من سلّم على أخيه المؤمن ردّ عليه السلام.
هذه الآية نظير قوله {إنّك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصُّمّ الدعاء إذا ولّوا مدبرين { وقد يقال: نفي إسماع الصُمّ مع نفي إسماع الموتى يدل على أنّ المراد عدم أهلية كل منهما للسماع، وأنّ قلوب هؤلاء لمّا كانت ميتة صمّاء كان إسماعها ممتنعاً بمنزلة خطاب الميّت والأصمّ، وهذا حقّ ولكن لا ينفي إسماع الأرواح بعد الموت إسماع توبيخ وتقريع بواسطة تعلّقها بالأبدان في وقت ما، فهذا غير الإسماع المنفي والله أعلم([6]).
وقال أيضاً: قال ابن عبد البر: ثبت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: ما من مسلم يمرّ على قبر أخيه كانَ يعرفه في الدنيا فيسلِّم عليه إلاّ ردَّ الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام. فهذا نص في أنّه يعرفه بعينه ويرد عليه السلام.
وفي الصحيحين عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من وجوه متعددة أنّه أمر بقتلى بدر فأُلقوا في قليب، ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقّاً فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقّاً؟ فقال له عمر: يا رسول الله ما تخاطب من أقوام قد جيّفوا؟ فقال: والذي بعثني بالحقّ ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنّهم لا يستطيعون جواباً. وثبت عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ الميت يسمع قرع نعال المشيّعين له إذا انصرفوا عنه.
وقد شرّع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأُمّته إذا سلّموا على أهل القبور أن يُسلِّموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل ـ ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد.
والسلف مجمعون على هذا وقد تواترت الآثار عنهم بأنّ الميّت يعرف زيارة الحيّ له ويستبشر به.
قال أبوبكر عبد الله بن محمّد بن عبيد بن أبي الدنيا في كتاب القبور، باب معرفة الموتى بزيارة الأحياء:
(حدثنا) محمد بن عون: حدّثنا يحيى بن يمان، عن عبد الله بن سمعان، عن زيد بن أسلم، عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلاّ استأنس به وردّ عليه حتى يقوم.
(حدثنا) محمد بن قدامة الجوهري: حدّثنا معن بن عيسى القزاز: أخبرنا هشام بن سعد: حدثنا زيد بن أسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: إذا مرّ الرجل بقبر أخيه يعرفه فسلّم عليه ردّ عليه السلام
وعرفه، وإذا مرّ بقبر لا يعرفه فسلّم عليه ردّ عليه السلام([7]).
ويدل على هذا أيضاً ما جرى عليه عمل الناس قديماً وإلى الآن من تلقين الميّت في قبره، ولولا أنّه يسمع ذلك وانتفع به لم يكن فيه فائدة وكان عبثاً، وقد سئل عنه الإمام أحمد (رحمه الله) فاستحسنه واحتجّ عليه بالعمل.
[1] - الرحمن 19 ـ 20
[2] - الروم/52
[3] - فاطر/22
[4] - التوصل إلى حقيقة التوسّل: 267.
[5] - الزمر/20
[6] - الإمام شمس الدين ابن القيم: الروح: 45 ـ 46، طـ. دار الكتب العلمية بيروت.
[7]- الإمام شمس الدين ابن القيم: الروح: 5 ـ 6.
الشبهة الثانية: امتناع اسماع الموتى
إنّ الله تعالى يقول } فإنّك لا تسمع الموتى }([2]) والنمل بحذف الفاء/80 ويقول عزّ وجلّ}وما أنت بمسمع من في القبور([3]) {. والرسول بعد أن توفّاه الله هو من الموتى ومن أهل القبور فثبت أنّه لا يسمع دعاء أحد من أهل الدنيا وإن كان هو والأنبياء، لا يُبْلُون لأنّ الله قد حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، ولكنّهم أجساد بلا
أرواح وهم أموات([4]).
فعلى هامش هذه الشبهة نقول: أوّلا: إنّ قوله: " الرسول بعدما توفّاه الله هو من الموتى " ظاهر في إنكار الحياة البرزخية للأنبياء، فلو كان النبي من الموتى فالشهداء من الموتى مع أنّ القرآن يندد من يعدهم أمواتاً إذ يقول }ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربّهم يرزقون{.
نعم يقول سبحانه} إنك ميّت وإنّهم ميّتون }([5]) ولكن لا بمعنى الفناء المطلق، بل انسلاخ الروح عن البدن وانتقاله إلى العالم الآخر.
وثانياً: إنّ هاتين الآيتين ناظرتان إلى الأجساد الموجودة في القبور، فإنّها هي التي لا تسمع ولا تعي والاتصال لا يكون بيننا وبين هذه الأجساد، بل يتحقق بيننا وبين الأرواح الطاهرة والنفوس الزكية الباقية الخالدة، وإنْ تبعثر الجسد وتناثرت أجزاؤه، فالأرواح هي التي يُسلّم ويُصلّى عليها وهي التي تَسمع وتَرد.
وأمّا الحضور عند المراقد التي تضمّنت الأجساد والأبدان، فلأجل أنّه يبعث على التوجه إلى صاحب تلك الأجساد ويكون أدعى إلى تذكّر خصاله أو صفاته، وإلاّ فانّ الارتباط بهم، والسلام عليهم، ممكن حتى من مكان ناء وبلد بعيد، كما تصرح بذلك بعض أحاديث الصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسل).
ولابن القيم كلام في تفسير الآيتين نأتي بنصّه:
قال: أمّا قوله تعالى} وما أنتَ بمسع من في القبور { فسياق الآية يدل على أنّ المراد منها أنّ الكافر الميّت القلب لا تقدر على إسماعه إسماعاً يُنتفع به كما أنّ من في القبور لا نقدر على إسماعهم إسماعاً ينتفعون به، ولم يُرِد سبحانه أنّ أصحاب القبور لا يسمعون شيئاً البتة كيف وقد أخبر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّهم يسمعون خفق نعال المشيّعين وأخبر أنّ قتلى بدر سمعوا كلامه وخطابه وشرّع السلام عليهم بصيغة الخطاب للحاضر الذي يسمع، وأخبر أنّ من سلّم على أخيه المؤمن ردّ عليه السلام.
هذه الآية نظير قوله {إنّك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصُّمّ الدعاء إذا ولّوا مدبرين { وقد يقال: نفي إسماع الصُمّ مع نفي إسماع الموتى يدل على أنّ المراد عدم أهلية كل منهما للسماع، وأنّ قلوب هؤلاء لمّا كانت ميتة صمّاء كان إسماعها ممتنعاً بمنزلة خطاب الميّت والأصمّ، وهذا حقّ ولكن لا ينفي إسماع الأرواح بعد الموت إسماع توبيخ وتقريع بواسطة تعلّقها بالأبدان في وقت ما، فهذا غير الإسماع المنفي والله أعلم([6]).
وقال أيضاً: قال ابن عبد البر: ثبت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: ما من مسلم يمرّ على قبر أخيه كانَ يعرفه في الدنيا فيسلِّم عليه إلاّ ردَّ الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام. فهذا نص في أنّه يعرفه بعينه ويرد عليه السلام.
وفي الصحيحين عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من وجوه متعددة أنّه أمر بقتلى بدر فأُلقوا في قليب، ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقّاً فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقّاً؟ فقال له عمر: يا رسول الله ما تخاطب من أقوام قد جيّفوا؟ فقال: والذي بعثني بالحقّ ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنّهم لا يستطيعون جواباً. وثبت عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ الميت يسمع قرع نعال المشيّعين له إذا انصرفوا عنه.
وقد شرّع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأُمّته إذا سلّموا على أهل القبور أن يُسلِّموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل ـ ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد.
والسلف مجمعون على هذا وقد تواترت الآثار عنهم بأنّ الميّت يعرف زيارة الحيّ له ويستبشر به.
قال أبوبكر عبد الله بن محمّد بن عبيد بن أبي الدنيا في كتاب القبور، باب معرفة الموتى بزيارة الأحياء:
(حدثنا) محمد بن عون: حدّثنا يحيى بن يمان، عن عبد الله بن سمعان، عن زيد بن أسلم، عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلاّ استأنس به وردّ عليه حتى يقوم.
(حدثنا) محمد بن قدامة الجوهري: حدّثنا معن بن عيسى القزاز: أخبرنا هشام بن سعد: حدثنا زيد بن أسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: إذا مرّ الرجل بقبر أخيه يعرفه فسلّم عليه ردّ عليه السلام
وعرفه، وإذا مرّ بقبر لا يعرفه فسلّم عليه ردّ عليه السلام([7]).
ويدل على هذا أيضاً ما جرى عليه عمل الناس قديماً وإلى الآن من تلقين الميّت في قبره، ولولا أنّه يسمع ذلك وانتفع به لم يكن فيه فائدة وكان عبثاً، وقد سئل عنه الإمام أحمد (رحمه الله) فاستحسنه واحتجّ عليه بالعمل.
[1] - الرحمن 19 ـ 20
[2] - الروم/52
[3] - فاطر/22
[4] - التوصل إلى حقيقة التوسّل: 267.
[5] - الزمر/20
[6] - الإمام شمس الدين ابن القيم: الروح: 45 ـ 46، طـ. دار الكتب العلمية بيروت.
[7]- الإمام شمس الدين ابن القيم: الروح: 5 ـ 6.
تعليق