إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

هل في مراسيم عاشوراء عمل حرام شرعاً ؟

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • هل في مراسيم عاشوراء عمل حرام شرعاً ؟

    بسم الله الرحمن الرحيم
    هل في مراسيم عاشوراء عمل حرام شرعاً ؟
    متى بـدأت أعمال الاحتفال بذكرى عاشوراء ؟
    أكثر ما يثير الاستغراب والتساؤل في مظاهر عاشوراء عند الشيعة هو ما يقوم به بعضهم من مظاهر عزائية قاسية تتصف بالعنف أحياناً ، مثل اللطم على الصدور العارية ، والضرب على الظهور والأكتاف المجرّدة بالسلاسل الحديدية الجارحة ، وإدماء الرؤوس بالسيوف ، وغير ذلك ممّا يثير الاستغراب لدى البعض ، بل يثير الاستهجان والانتقاد لدى البعض الآخر ، ويتساءلون : لماذا يفعل هؤلاء هكذا بأنفسهم ؟ ولماذا لا يمنعهم العلماء ورجال الدين ؟ وهل أنّ هذه الأعمال جائزة شرعاً وصحيحة بحسب العرف العقلائي ؟
    والجواب على هذا السؤال هو : إنّ تلك الأعمال من حيث الأصل مباحة شرعاً إذا كان القيام بها لهدف مشروع وغرض عقلائي ، ولم يترتّب عليها ضرر كبير أو خطر على حياة الإنسان . هذا ما يقوله العلماء مراجع التقليد العُليا في كلّ زمان ومكان .
    هذا من حيث الأصل ، وأمّا قيام الشيعة بها في عاشوراء فهو أولاً : لأغراض عقلائيّة مشروعة ، وبدافع الحبّ والولاء الشديد للحسين (عليه السّلام) ؛ فهم بتلك الأعمال يعبّرون عن تأسّيهم بالحسين (عليه السّلام) ، ومواساتهم له في تحمّل ألم الجراح وجريان الدماء ، وفي نفس الوقت يمثّلون بها دور العمل الفدائي في سبيل قضية الحسين (عليه السّلام) التي استشهد دفاعاً عنها ، ويظهرون استعدادهم للتضحية من أجلها بكلّ غال وعزيز .
    بالإضافة إلى أنّها ـ أي تلك الأعمال ـ عندهم كتظاهرة كبرى ضد أعداء الحسين (عليه السّلام) الذين يخطّئون الحسين (عليه السّلام) في قيامه ضدّ الدولة الاُمويّة ، ويبررون إقدام يزيد على قتل الحسين (عليه السّلام) ، وهؤلاء موجودون بيننا وفي عصرنا بكثرة .

    ومن جهةٍ اُخرى : هي كتأييد عملي ودعم شعبي لثورته المقدّسة ، وبالتالي هي استنكار صارخ للظلم والعدوان ، وتأييد للتحرر والإصلاح في كلّ زمان ومكان . كيف لا ومظاهر القسوة والعنف في أعمال الاحتجاج أمر متداول في عصرنا هذا ؟! فكم نسمع عن أشخاص أحرقوا أنفسهم حتّى الموت ، وأضربوا عن الطعام حتّى أشرفوا على الموت ، كلّ ذلك احتجاجاً على ظلم أو اعتداء فلم يسخر منهم شباب العصر ، بل يعتبرونهم بذلك أبطالاً مناضلين ، ولكن إذا قام شيعة أهل البيت بما هو أقل من ذلك وأبسط اتّهموا بالسخف والرجعية والوحشية . . . لماذا ؟

    أضف إلى ذلك أنّ قيامهم بتلك الأعمال هو بمثابة تدريب وتمرين على خلق الروح النضالية ، وعلى عمل التضحية والاستشهاد عندهم ؛ ليكونوا دائماً وأبداً على استعداد تام لتلبية نداء الحقّ ، وداعية الثورة الإصلاحية العلميّة في أي وقت .
    لا شك أنّ الروح النضالية الفعّالة والمعنوية العسكرية الراقية لا تتحقّقان لدى شباب الاُمّة بمجرد بعض التمارين الخالية الجوفاء ، والتمثيليات الفارغة التي لا تخلق سوى جيشاً انهزامياً فرّاراً غير كرارٍ ، يصدق عليهم قول الشاعر العربي القديم :

    وفي الغزواتِ ما جرّبتُ نفسي ولكنْ في الهزيمة كالغزالِ

    ويصدق عليهم قوله تعالى : ( إِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنّهُمْ خُشُبٌ مُسَنّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوّ )(1) .
    أجل ، إنّ الاستهانة بالموت تحتاج إلى تهيُّؤ وتدريب جدّي ، وتمارين شاقّة خشنة ، وإلاّ فالواقع ما قاله البطل الثائر زيد بن علي بن الحسين (عليه السّلام) : ما كره قوم حرّ السيف إلاّ ذلّوا .
    والخلاصة : هي أنّ هذه دوافع الشيعة وأهدافهم لدى قيامهم بتلك الأعمال في عاشوراء ، وهي كما تراها دوافع مشروعة وأهداف عقلائيّة نافعة .
    هذا مع العلم بأنّهم لا يرون فيها ضرراً ولا يحسون منها خطراً على صحتهم ولا على حياتهم ، حسب ما يؤكدونه هم أنفسهم القائمون بتلك الأعمال ، وحسب ما يشاهد منهم بالوجدان ، بل الثابت منهم وعنهم عكس ذلك ، أي إنّهم قد يستفيدون من بعضها فوائد صحية .
    نعم ، قد تقع بعض الأخطاء من قبل بعض القائمين بتلك الأعمال ، أو من بعض المشرفين عليها فتؤدي عفواًَ إلى بعض الأضرار البسيطة ، وذلك نادراً والنادر الشاذ لا يُقاس عليه . أمّا إذا أيقن أحد بحصول ضرر بالغ على نفسه من تلك الأعمال فلا يجوز له خاصة أن يقوم بها حتماً .
    هذه خلاصة وجه نظر الشيعة ورأي علمائهم الكبار ، والمطابقة لفتاوى مراجعهم العُليا في النجف الأشرف وغيرها منذ خمسين عاماً أو أكثر حتّى اليوم . وتلك الفتاوى مجموعة ومدوّنة مع ذكر تواريخها وبنصوصها التفصيليّة في ضمن بعض الكتب المؤلّفة حول موضوع الشعائر الحسينية ، أو في كراسات خاصّة مطبوعة يمكنك الاطّلاع عليها إذا شئت .
    ولا أعلم مرجعاً دينياً من مراجع التقليد عند الشيعة سُئل عن حكم هذه الأعمال العزائية في عاشوراء إلاّ وأجاب بالجواز والمشروعية ، هذا مع العلم بأنّ هذه الأعمال كانت تجري ويقوم بها الشيعة أيّام عاشوراء منذ قديم الزمان ، وتحت سمع وبصر كبار العلماء السابقين أرباب الكلمة النافذة واليد المبسوطة أمثال الشيخ المفيد ، والكليني ، والصدوق ، والسيد المرتضى ، والسيد الرضي ، والشيخ الطوسي ، والسيد مهدي بحر العلوم الكبير ، والشيخ جعفر الكبير ، والشيخ الأنصاري . . . وهكذا إلى عصرنا هذا أمثال الميرزا النائيني ، والسيد أبي الحسن ، والشيخ كاشف الغطاء ، والسيد الحكيم ، وغيرهم ، فكانوا يؤيّدون تلك الأعمال ويدعمونها ماديّاً ومعنويّاً .
    وفي هذا دلالة كافية على جواز تلك الأعمال ومحبوبيتها شرعاً ، وفيه أيضاً قناعة كافية لمَنْ يطلب الحقّ ومعرفة الواقع بدون تعنّت وتصلّب واستبداد في الرأي .
    أمّا الناقدون والمعارضون لتلك الأعمال العزائية فليس عندهم سند منطقي ، ولا قاعدة عامّة عقلائيّة يصح الاستدلال بها في معارضتهم لها ، فإنّهم يقولون مثلاً : إنّ القيام بهذه الأعمال توجب السخرية والاستهزاء بهم من قبل الأجانب .
    ونقول في الجواب : إنّ السخرية والاستهزاء والاشمئزاز من قبل بعض الناس على عمل ما لا يثبت فساد ذلك العمل ، ولا يقتضي تركه لمجرد ذلك ، ولا توجد قاعدة عقلائيّة تقول : إنّ كلّ عمل أثار السخرية من قبل شخص أو أشخاص فذلك العمل باطل فاسد يجب تركه ؛ لا لشيء سوى استهزاء بعض الأشخاص البعيدين عن معرفته وحقيقته .
    ولا يوجد عاقل في العالم يؤمن بأنّ محض السخرية ومجرّد الاستهزاء بشيءٍ ما سبب كاف وعلّة تامة لفساد ذلك الشيء ؛ إذ لو كان الأمر هكذا لوجب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في بدء الدعوة أنْ يترك الرسالة والدعوة إلى الإسلام ؛ لأنّ قريش صارت تستهزئ به ، وتسخر من دعوته ، وتشمئز منه لذلك ، أو لوجب عليه أنْ يترك الصلاة على الأقل ؛ لأنّها كانت أكثر ما في الإسلام إثارة لسخرية المشركين واستهزائهم منه بها .

    فهل ترك الصلاة ؟ طبعاً كلاّ ، بل أقول لو كان مجرّد استهزاء البعض على القيام بعمل ما يبرّر تركه ، لكان يلزمنا نحن المصلّين في هذا العصر أن نترك الصلاة ؛ لأنّها أصبحت موضع سخرية واستهزاء من قِبل أكثر الشباب والمتمدنين من أهل زماننا هذا ، فهل يصح تركها لذلك خوف أن يُقال لنا رجعيين ؟!
    وها هو الحجاب للمرأة أصبح عيباً وعاراً ، ومدعاة للسخرية والاتّهام بالرجعية ، فهل صار حراماً وخلعه واجباً أو جائزاً شرعاً لذلك ؟! وها هي أكثرية النساء في البلاد الإسلاميّة قد خلعن حجابهم وبرزن سافرات ، فهل أحسنَّ بهذا صنعاً ؟!
    وأعود فأكرر القول : بأنّ مجرّد استهزاءٍ ومحض سخرية تصدر من أُناس على أفعال وأعمال أُناس آخرين لا يبرر الحكم على تلك الأعمال بالفساد والسوء حتّى يثبت فساد تلك الأعمال من حيث العوامل والنتائج .
    فإذا كان العمل صحيح العوامل والأسباب ، وصحيح النتائج والثمرات بشكل عام فحينئذ الاستهزاء به كهواء في شبك فَأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ )(2) .
    وإنّني إذ أقول هذا لا أستبعد أن يكون أكثر هؤلاء المنتقدين للشعائر الشيعيّة الحسينية قد وقعوا تحت تأثير الدعاية الاُمويّة من حيث يشعرون أو لا يشعرون . تلك الدعاية التي نشطت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة في كثير من البلدان الشيعية ؛ وبقصد القضاء نهائياً على كلّ أثر من ذكر ثورة الحسين (عليه السّلام) ؛ علماً منهم بأنّ هذه الذكرى هي الوسيلة الوحيدة الباقية للدعوة الصادقة المخلصة إلى الحقّ ومكافحة الباطل .
    من إحياء ذكرى الحسين فقط ترتفع أصوات المعارضة الصحيحة ضد الظلم والظالمين ، ومن هذه الذكرى تنطلق الأضواء الكاشفة فتتسلّط على كلّ زوايا المجتمع ومنعطفات طريق السعادة الاجتماعية ؛ لتلفت أنظار الناس إلى ما أمامها من أخطار وعقبات فيتجنبونها ويواصلون سيرهم بسلام آمنين .

    أيّها القارئ الكريم : إنّ ساحة كربلاء يوم العاشر من المحرّم سنة (61) هجريّة كانت أشبه بمسرح تمثيل ؛ في جانب منه قام الحسين (عليه السّلام) وأصحابه بتمثيل أروع دور لمثاليّة الإنسان ، وأسمى ما يمكن أن يرتفع إليه بروحه وخلقه وأريحيته ، بحيث لا يبقى في الوجود ما هو أشرف منه وأفضل سوى خالقه العظيم .
    وفي الطرف الآخر قام أعداء الحسين (عليه السّلام) بتمثيل أدنى وأسفل درك من الحضيض يمكن أن يتدنّى إليه ويهوي فيه هذا البشر من اللؤم والخبث والقسوة والأنانيّة ، بحيث يندى منه جبين الوحش ولا يبقى في الوجود ما هو شرّ منه ولا أسوأ مطلقاً . ولا تزال حوادث تلك المعركة هي المعالم الواضحة ، والحدّ الفاصل ، والسمات الظاهرة بين الحقّ والباطل ، وهي المقياس الدقيق لمعرفة الخير من الشرّ إلى أبد الآبدين .
    أجل ، إنّ معركة كربلاء لم تنتهي بنهاية يوم العاشر من المحرّم ، بل هي لا تزال قائمة بصورها المختلفة وأحجامها العديدة ، وفصولها المتغيّرة في كلّ زمان ومكان ، وما دام في الحياة خير وشر وحق وباطل . وما أحسن تصوير الشاعر لهذا المعنى في معركة كربلاء حيث قال :

    كأنّ كلّ مكانٍ كربلاء لدى عيني وكلّ زمانٍ يوم عاشوراء

    فالحسين (عليه السّلام) من وجهة نظر الشيعة ، وكل الخبراء في العالم إنّما هو رمز الخير والعدل ، والديمقراطيّة الحقّة والعدالة الاجتماعية ، والاُمويّون هم رمز الرذيلة والجور ، والاستبداد والظلم الاجتماعي . وكلّ الأعمال العزائية التي يقوم بها الشيعة أيّام عاشوراء إنّما يعبّرون بها عن دعمهم وتأييدهم للخير والعدل والحقّ ، واستنكارهم وكرههم للظلم والباطل .
    وهذا دليل على وعيهم الاجتماعي ونضجهم السياسي الكامل حسب ما يؤكّده الباحثون ، وحسبما هو واضح من ثوراتهم التحرريّة عبر تاريخهم الطويل والمليء بالتضحيات .

    متى بـدأت أعمال الاحتفال بذكرى عاشوراء ؟

    قد يتوهّم البعض أنّ شعائر الذكرى في عاشوراء المتداولة لدى الشيعة اليوم إنّما هي أمور مستحدثة ودخيلة لا أصل لها في العصور الإسلاميّة الأولى ، وبالتالي فهي من دسائس المغرضين والدخلاء الذين يضمرون الشرّ بالإسلام والمسلمين .
    فأقول لهؤلاء : إنّ هذا الوهم خطأ لا يدعمه إلاّ الجهل بحقائق التاريخ وحوادث الماضي البعيد ، ولا يبعد أن يكون هذا التوهّم بذاته من وحي الدسّاسين وتلقين المغرضين أعداء الشيعة والتشيّع .
    أمّا إقامة مظاهر الحداد والاحتفال لذكرى عاشوراء فهي قديمة جدّاً قدم مأساة عاشوراء بالذات ، حيث بدأت مجالس العزاء والاجتماعات للنوح والبكاء على مأساة الحسين (عليه السّلام) بعد مرور أيّام قليلة على مصرع الحسين (عليه السّلام) ؛ وذلك بتوافد أهل الضواحي والسواد إلى كربلاء بعد رحيل الجيش ، واجتماعهم رجالاً ونساءً حول قبر الحسين (عليه السّلام) .
    ولمّا عاد الإمام زين العابدين (عليه السّلام) من الشام إلى كربلاء يوم الأربعين وجد أهل السواد مجتمعين حول قبر الحسين وقبور الشهداء بالحزن والحداد ، فاستقبلوه بالبكاء والعويل ، يتقدّمهم الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري (رحمه الله تعالى) .
    ولمّا عاد أهل البيت (عليهم السّلام) إلى المدينة المنوّرة استقبلهم الناس بالحداد والأسى ، والنوح والبكاء ، وضجّت المدينة في ذلك اليوم ضجّة واحدة ، حتّى صار ذلك اليوم كيوم مات فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) . ثمّ أُقيمت مجالس العزاء في أنحاء المدينة وخاصّة في حي بني هاشم ، فكان مجلس الإمام زين العابدين (عليه السّلام) ، ومجلس العقيلة زينب ، ومجلس الرباب زوجة الحسين (عليهم السّلام) ، ومجلس اُمّ البنين اُمّ العباس بن علي (عليه السّلام) وغيرها تملأ أجواء المدينة بالكآبة والحزن والحداد .
    وكان الإمام زين العابدين (عليه السّلام) يغتنم كلّ فرصة لإثارة العواطف ، وإحياء ذكر المأساة في نفوس الجماهير ، فمن ذلك مثلاً : مرّ ذات يوم في سوق المدينة على جزّار بيده شاة يجرّها إلى الذبح ، فناداه الإمام (عليه السّلام) : (( يا هذا ، هل سقيتها الماء ؟ )) .
    فقال الجزار : نعم يابن رسول الله ، نحن معاشر الجزارين لا نذبح الشاة حتّى نسقيها الماء . فبكى الإمام (عليه السّلام) وصاح : (( وا لهفاه عليك أبا عبد الله ! الشاة لا تُذبح حتّى تُسقى الماء ، وأنت ابن رسول الله تُذبح عطشان )) .
    وسمع (عليه السّلام) ذات يوم رجلاً ينادي في السوق : أيّها الناس ، ارحموني أنا رجل غريب . فتوجّه إليه الإمام (عليه السّلام) وقال له : (( لو قدّر لك أن تموت في هذه البلدة فهل تبقى بلا دفن ؟ )) . فقال الرجل : الله أكبر ! كيف أبقى بلا دفن وأنا رجل مسلم ، وبين ظهراني اُمّة مسلمة ؟! فبكى الإمام زين العابدين (عليه السّلام) وقال : (( وا أسفاه عليك يا أبتاه ! تبقى ثلاثة أيّام بلا دفن وأنت ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله ) ! )) .
    واستمر أئمّة الهدى (عليهم السّلام) يحثّون شيعتهم على التمسّك بإحياء ذكرى عاشوراء رغم الإرهاب والضغط الذي مارسه الحكّام ضدّهم . وكانوا هم (صلوات الله عليهم) يفتحون أبوابهم للشعراء والمعزّين أيّام عاشوراء منذ عصر الإمامين الباقر والصادق (عليهما السّلام) حتّى عصر الإمام علي الرضا (عليه السّلام) في عهد المأمون العباسي ، الذي توسّعت فيه شعائر الحسين (عليه السّلام) ، وانتشرت مجالس العزاء أيّام عاشوراء بتأييد من الإمام الرضا (عليه السّلام) ودعم من المأمون .
    فكانت دار الإمام الرضا (عليه السّلام) في أيّام عاشوراء تزدحم بالناس يستمعون فيها إلى رثاء الحسين (عليه السّلام) ، وكلمات الحثّ والتشويق والتشجيع من الإمام (عليه السّلام) ، فكان من أقواله المأثورة : (( إنّ أهل الجاهليّة كانوا يعظّمون شهر المحرّم ، ويحرّمون الظلم والقتال فيه ؛ لحرمته ، ولكن هذه الاُمّة ما عرفت حرمة شهرها ولا حرمة نبيّها ، فقتلوا في هذا الشهر أبناءه ، وسبوا نساءه ، فعلى مثل الحسين فليبكي الباكون ؛ فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب )) .
    ولم تزل شعائر عاشوراء تزداد وتتّسع بما تلاقيه من الدعم والتأييد المعنوي من قبل أهل البيت (عليه السّلام) ، والعلماء الأعلام في كلّ الأوساط الشيعية حتّى قامت الدولة الحمدانية الشيعية فأعطت شعائر عاشوراء قدراً كبيراً من الدعم والتأييد ، ثمّ قامت الدولة البويهية الموالية لأهل البيت (عليهم السّلام) فوسّعوا ذكرى عاشوراء وأعطوها صفة رسميّة تعطّل من أجلها الأسواق والأعمال والدوائر الحكومية ، وتخرج المواكب العزائية بالأعلام السود وشارات الحداد تحت رعاية وإشراف كبار العلماء وأقطاب رجال الدين .
    فكانت بغداد مثلاً في عهد عضو الدولة الحسن بن بويه الديلمي تخرج على بكرة أبيها يوم العاشر من المحرّم في مواكب عزائية ضخمة يتقدّمها رجال الدين والدولة ، ولمّا قامت الدولة الفاطمية في مصر والمغرب العربي انتقلت شعائر عاشوراء إلى تلك الأقطار ودامت حوالي القرنين من الزمن إلى أنْ قضى عليها الأيوبي بالقهر والإكراه .
    ثمّ لمّا قامت الدولة الصفويّة وملوكها علويّون نسباً ينحدرون من سلالة الإمام السابع موسى الكاظم (عليه السّلام) , أيّدوا شعائر عاشوراء ووسّعوها ، ومثّلوا واقعة كربلاء تمثيلاً حيّاً تحت رعاية وتوجيه علماء الطائفة ومراجع التقليد ، أمثال العلاّمة الحلّي ، والمحقّق المجلسي وغيرهما (رضوان الله عليهم أجمعين) .
    وهذا التمثيل له جذور في سيرة الأئمة المعصومين (عليهم السّلام) ؛ فإنّه قد أُخذ من حيث الأصل من ظاهرة وردت في مجلس الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السّلام)
    أيّام عاشوراء ، فقد حدّث شاعر أهل البيت الكميت بن زيد الأسدي (رحمه الله) قال : دخلت على أبي عبد الله الصادق (عليه السّلام) يوم عاشوراء ، فأنشدته قصيدة في جدّه الحسين (عليه السّلام) فبكى وبكى الحاضرون ، وكان قد ضرب ستراً في المجلس وأجلس خلفه الفاطميات ، فبينما أنا أنشد والإمام يبكي إذ خرجت جارية من وراء الستار وعلى يدها طفل رضيع مقمّط ، حتّى وضعته في حجر الإمام الصادق (عليه السّلام) ، فلمّا نظر الإمام إلى ذلك الطفل اشتّد بكاؤه وعلا نحيبه ، وكذلك الحاضرون .
    ومعلوم أنّ إرسال الفاطميات لذلك الطفل في تلك الحال ما هو إلاّ بقصد تمثيل طفل الحسين (عليه السّلام) الذي ذُبح على صدر أبيه بسهم حرملة (لعنه الله) يوم العاشر من المحرّم ، وهو عبد الله الرضيع ، وغيره من الأطفال الذين قتلوا في ذلك اليوم .
    والخلاصة هي : إنّ إحياء ذكرى عاشوراء قديم عند الشيعة قدم المأساة نفسها فما زال أهل البيت وشيعتهم يحتفلون بذكرى تلك المأساة الفريدة من نوعها منذ السنة الأولى لقتل الحسين (عليه السّلام) وإلى اليوم ، يحدوهم لذلك الحبّ والولاء للحسين (عليه السّلام) أولاً ، ثمّ خدمة الدين والدعوة إلى الحقّ وتركيز المفاهيم الإنسانية لدى النشء ثانياً .
    والله من وراء القصد وهو والي المؤمنين ، وصدق الأديب الفاضل السيّد جعفر الحلّي (رحمه الله) حيث قال :
    فــي iiكـلِّ عامٍ لنا بالعشرِ واعيةٌ تـطبّقُ iiالـدورَ والأرجاء والسككا
    و iiكـلُّ مـسـلـمةٍ ترمي بزينتِها حتّى السماءَ رمتْ عن وجهها الحُبكا
    يـا مـيّـتـاً تـرك الألباب حائرةً iiوبـالـعـراءِ ثـلاثـاً جسمُهُ تُركا

    ________________________________________
    كتاب-مأساة الحسين (ع) بين السائل و المجيب

    (1) سورة المنافِقُون / 4 .
    (2) سورة الرعد / 17 .


  • #2
    بحث رائع واستفدنا منه كثيرا شكرا لكم اختنا الفاضله انصار المذبوح

    تعليق

    المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
    حفظ-تلقائي
    Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
    x
    يعمل...
    X