يوم العاشر من محرم من ايام الله تعالى
بقلم|مجاهد منعثر منشد
قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور)1.
في الآية الكريمة توجيه إلهي للنبي موسى (ع)أن يذكّر قومه بِـ «أيام الله»، فما المقصود بهذه الأيام؟ الأيام من ناحية زمنية كلها أيام الله، فهو سبحانه خالق الزمان والمكان، وخالق كل ما يحيط بنا في هذا الكون الفسيح.
ولكنّ نسبة أمرٍ مّا إلى الله تعالى يدلّ على تشريفه وتعظيمه، وذلك كنسبة بعض الأمكنة لله، كالمسجد الذي يطلق عليه أنه بيت من «بيوت الله». وكذلك شهر رمضان الذي يطلق عليه أنه «شهر الله».
، روي عن النبي (ص)أنه قال: أيام الله نعمائه وبلاؤه2 .
وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)أنه قال: «كان رسول الله (ص)يخطبنا فيذكّرنا بأيام الله»3.
قال الفخر الرازي: إنه يعبر بالأيام عن الوقائع العظيمة التي وقعت فيها، يقال: فلان عالم بأيام العرب. ويريد وقائعها4 .
قال سيد قطب: وكل الأيام أيام الله، ولكن المقصود هنا أن يذكرهم بالأيام التي يبدو فيها للبشر أو لجماعة منهم أمر بارز أو خارق بالنعمة أو بالنقمة5
وقال الشيخ ناصر مكارم الشيرازي:
أيام الله هي جميع الأيام العظيمة في تاريخ الإنسانية، فكل يوم سطعت فيه الأوامر الإلهية وجعلت بقية الأمور تابعة لها، هي من أيام الله ، وكل يوم يفتح فيه فصل جديد من حياة الناس فيه درس للعبر، أو ظهور نبي فيه، أو سقوط جبار وفرعون أو كل طاغ، ومحوه من الوجود، وكل يوم يعمل فيه بالحق والعدالة وتنهى حالة الظلم والجور هو من أيام الله6 ..
اليوم ـ علميًّا ـ: يعرّف بأنه المدّة الزمنيّة التي تستغرقها الأرض للدوران حول نفسها، والتي تمتدّ لأربعٍ وعشرين ساعة.
بينما اليوم ـ عرفًا ـ: ما يقابل الليل، حيث يبدأ اليوم من شروق الشمس وينتهي بغروبها. فيقال في كثير من أدبيات العرب: اليوم والليلة، و«مسير يومٍ وليلة». وقد وردت بعض الأحاديث الشريفة تستعمل اليوم في هذا المعنى. وقد صنّفت بعض كتب الأدعية فيما يسمّى بِـ «أدعية اليوم والليلة»، بينما الليل يقابله ـ علميًّا ـ النهار، ومن الليل والنهار يتكون اليوم الواحد.
وقد أصبح متداولًا ومعروفًا اليوم في المجتمعات البشرية أنها تهتمّ بأيام ذات أحداث مصيرية وتاريخية مهمّة.
فأغلب الدول تحتفي بيوم استقلالها وتحرّرها من نير الاحتلال الأجنبي، وأصبح هذا الأمر تقليدًا دوليًّا، لا تكاد ترى دولة في العالم لا تحتفل بيوم استقلالها، وتجعله يومًا وطنيًا ويومَ عطلة. كما أن لكل دولة أو أمّة من الأمم أيامًا تحتفي بها رسميًّا وشعبيًّا. فالفرنسيون ـ مثلًا ـ يحتفلون بيوم سقوط الباستيل، ذلك السجن الذي كان رمزًا للظلم والطغيان.
وقد تعارفت بعض المجتمعات البشرية على تخصيص بعض الأيام لتكريس وتأكيد بعض القيم والاهتمامات الجيّدة، وذلك مثل يوم «عيد الأم». الذي هو عرف وتقليد قديم عند المجتمعات الأوروبية من القرن السابع عشر الميلادي، كيوم يتذكّر فيه الناس فضل الأم وتضحياتها ويجدّدون عهد التقدير والاحترام للأم، لما تتحمّله من عناء وبما تفيضه على الأبناء من محبّة وعطف في الحمل والرضاع والتربية.
في الآية القرآنية الكريمة يأمر الله تعالى نبيّه موسى (ع)بتذكير قومه بأيام الله، فالقرآن هنا لم يضع كيفية معيّنة بها يتحقّق هذا التذكير، ولكنّ ما عليه كثير من الأمم والشعوب أن يتم ذلك عادةً من خلال الاحتفال الشعبي وما يصاحب ذلك من إدخالٍ لبعض التقاليد والأعراف في إحياء هذه المناسبات التي ـ غالبًا ـ ما تقام سنويًّا.
وفي تاريخنا الإسلامي وقائعُ لها أهمية، ومنعطفاتٌ تشكّل لحظات مصيرية في تاريخ الأمة، وتؤثّر على وجدانها وثقافتها، وعلى واقعها الاجتماعي والسياسي. هذه الأحداث يمكن أن تكون مصداقًا لعنوان «أيام الله» الوارد في القرآن الكريم.
ويمكننا ـ بكل ثقة ـ أن نَعُدَّ «يوم عاشوراء» مصداقًا بارزًا من بين تلك الأحداث، وذلك لما تحفل به هذه الحادثة من دروس وعبر وقيم للأمة وجماهيرها الواسعة.
يقول بعض علماء اللغة إلى أن مصطلح «عاشوراء» مصطلح إسلامي لم يكن في الجاهلية. هذا ما أكّده ابن دريد في الجمهرة: عاشوراء يوم سمّي في الإسلام ولم يعرف في الجاهلية[9] . الجمهرة في لغة العرب، باب ر ش ع . ويُقْصَد به اليوم العاشر من المحرّم، ولا يطلق على أي يوم عاشر من أي شهر غير المحرّم.
أن هذا المصطلح يظل مصطلحًا إسلاميًّا تعارف المسلمون عليه بسبب الواقعة التي حصلت فيه باستشهاد الإمام الحسين (ع)في ذلك اليوم .
في إحدى فقرات الزيارة الواردة عن الإمام الباقر (ع)، حيث يقول فيها: «... اَللّـهُمَّ إن هذا يَوْمٌ تَبَرَّكَتْ بِهِ بَنُو أمَيَّةَ وَابْنُ آكِلَةِ الأكبادِ »7 .
نجد أن بني أميّة كانوا يريدون التعتيم على هذه الحادثة، لينسى الناس ما حصل لأهل البيت (عليهم السلام )في كربلاء، ومن أجل ذلك كانوا يعلنون ذلك اليوم عيدًا ويوم فرح وسرور.
وينقل أبو الريحان البيروني في الآثار الباقية، «فأما بنو أمية، فقد لبسوا فيه ما تجدد، وتزيّنوا، واكتحلوا، وعيّدوا، وأقاموا الولائم والضيافات، وأطعموا الحلاوات والطيبات، وجرى الرسم في العامة على ذلك أيام ملكهم، وبقي فيهم بعد زواله عنهم8.
كما يشير ابن تيمية، فيقول: «.. وإظهار الفرح والسرور يوم عاشوراء، وتوسيع النفقات فيه، هو من البدع المحدثة، المقابلة للرافضة»، وأضاف ابن تيمية، «.. وقد وُضِعَت في ذلك أحاديث مكذوبة في فضائل ما يصنع فيه، من الاغتسال والاكتحال إلخ ...» وقال: «.. وأحدث فيه بعض الناس أشياء، مستندة إلى أحاديث موضوعة لا أصل لها، مثل: فضل الاغتسال فيه، أو التكحل، أو المصافحة»9
وقال العيني في كتابه عمدة القاري : ما ورد في صلاة ليلة عاشوراء ويوم عاشوراء وفي فضل الكحل يوم عاشوراء لا يصح ومن ذلك من اكتحل بالأثمد وهو حديث موضوع وضعه قتلة الحسين10 .
عاشوراء كواقعة من أهم الأحداث التي وقعت في تاريخ الأمة الإسلامية وتمثّل لنا عظمة الموقف المبدئي الذي وقفه سيد الشهداء الإمام الحسين (ع)وأهل بيته وأصحابه رضي الله عنهم، إذ كانوا قلّة قليلة، ولكنهم ضربوا أروع الأمثلة في الصمود والثبات، والالتزام بالقيم، والدفاع عن المبادئ، والاعتراض على الظلم والفساد والانحراف. ونحن حينما نتذكّر عاشوراء إنما نتذكّر هذه المواقف العظيمة السامية الرائعة. وبشاعة الظلم الذي وقع على أهل البيت (ع)وانتهاك حرمات الله في ذلك اليوم.
فالإمام الحسين (ع)لم يكن رجلاً عاديًّا، وإنما له شخصيته ومكانته وموقعيته التي لا يجهلها أحد من المسلمين. كما أنه لم يمضِ وقت طويل على وفاة رسول الله (ص)، الذي كان المسلمون يسمعون منه ويرون مواقفه التي يعبّر فيها (ص)عن حبّه للحسين وانشداده له.
لقد قال رسول الله (ص)على مرأى من الصحابة ومسمع منهم: «إن الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا»11 ،
عن ابن عباس قال سمعت رسول الله (ص)يقول: (هما ريحانتاي من الدنيا)12 .
وفي موضع آخر سمعوا قوله(ص): «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما»13 .
وروى عبد الله بن شداد عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله (ص)في إحدى صلاتي العشى الظهر أو العصر وهو حامل حسن أو حسين فتقدم النبي (ص)فوضعه ثم كبر للصلاة فصلى فسجد بين ظهري صلاته سجدة أطالها قال إني رفعت رأسي فإذا الصبي على ظهر رسول الله (ص)وهو ساجد فرجعت في سجودي فلما قضى رسول الله (ص)الصلاة قال الناس يا رسول الله انك سجدت بين ظهري الصلاة سجدة أطلتها حتى ظننا انه قد حدث أمر أو انه يوحى إليك قال كل ذلك لم يكن ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضى»14 ..
لذلك لا يمكن عَدّ ما حصل يوم العاشر من المحرّم من انتهاك للحرمات حدثًا عاديًّا، بل يجب التأمّل فيه جيدًا، والوقوف عند محطّات هذه الحادثة للاستفادة من أحداثها والدروس العظيمة التي تجلّت فيها.
فقد كانت هناك مصاديق ننهضة الامام الحسين (ع) :ـ
كونوا احراراً في دنياكم" صرخة الامام الحسين (ع) في صمت المجتمع العربي والاسلامي المذل.
أن معاوية في تنصيبه لابنه يزيد من بعده للخلافة قد نقض عهده المبرم في صلحه مع الإمام الحسن ( ع ). وبذلك أصبح الإمام الحسين ( ع) أمام أمر مستحدث يقتضي منه موقفاً يتناسب وما تمليه مصلحة الإسلام العُليا.
إن تنصيب يزيد من قبل أبيه معاوية خليفة للمسلمين أصبح أكبر قضية تُهدِّد أساس العقيدة الإسلامية, وذلك من خلال الانحراف الخطير الذي سيطرأ على مسألة الحكم الإسلامي وخلافة رسول الله ( ص ).
وقضية الحرية هي مسألة ذات تأصيل فقهي وعقائدي في الاسلام، وتكاد تعادل في اهميتها قضية التوحيد، ومنذ فجر الدعوة الاسلامية ظهر جلياً ان علاقة تكاملية تربط بين مسألتي التوحيد والحرية، لأن الاسلام بتأكيده على التوحيد انما الغى وبشكل تلقائي تعدد الالهة، اصناماً من طين كانت، ام بشراً، ام قيماً وعادات، لذا قال النبي (ص( : اخرجوا من ذل عبادة الناس الى عز عبادة الاله الواحد.وإنّ لقتل الإمام الحسين (عليه السلام) حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً، فعلى مثل سيّد الشهداء الحسين (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) فليبكِ الباكون، وليندب النادبون، وليلطم اللاطمون، وليدمي أبدانَهم المؤمنون.
في مشربة عائشة قال جبرائيل للنبي (ص): سيقتل الحسين وستقتله أمتك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أمّتي؟! قال نعم، وإن شئت أخبرتك بالأرض التي يقتل فيها، فأشار جبرائيل بيده إلى الطف بالعراق فأخذ منه تربة حمراء فأراه إياها. 15.
... فلما ذهب جبرئيل من عند رسول الله والتربة في يده يبكي، قال: يا عائشة إنّ جبرائيل أخبرني أن الحسين ابني مقتول في أرض الطفّ وأنّ أمتي ستفتتن بعدي، ثمّ خرج إلى أصحابه... وهو يبكي، فقالوا: ما يبكيك يا رسول الله؟ فقال: أخبرني جبرائيل أنّ ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطفّ وجاءني بهذه التربة وأخبرني أنّ فيها مضجعه.16.
مواقف كثيرة من رسول الله (ص) بكى فيها على الحسين الشهيد وأقام المأتم، في داره (ص)، وفي بيت أمّ المؤمنين أمّ سلمة، وعائشة، وزينب بنت جحش، وفي دار الإمام عليّ (ع)، وفي مجمع من الصحابة. 17.
عن أم سلمة قالت: كان النبي (ص) جالسا ذات يوم في بيتي فقال: لا يدخلن علي أحد فانتظرت فدخل الحسين فسمعت نشيج النبي (ص) يبكي، فاطلعت فإذا الحسين في حجره أو إلى جنبه يمسح رأسه وهو يبكي. فقلت: والله ما علمت به حتى دخل. قال النبي (ص) أن جبرائيل كان معنا في البيت فقال: أتحبه؟ فقلت: أما من حب الدنيا نعم، فقال: إن أمتك ستقتل هذا بأرض يقال لها كربلا. فتناول من ترابها فأراه النبي (ص)، فلما أحيط بالحسين حين قتل قال: ما اسم هذه الأرض؟ قالوا: أرض كربلا، قال: صدق رسول الله (ص) أرض كرب وبلاء. .)18.
ومن إنذاره (ص) ما رواه عروة عن عائشة قال: دخل الحسين بن علي (ع) على رسول الله (ص) وهو يوحي إليه، فبرك على ظهره وهو منكب ولعب على ظهره، فقال جبرائيل: يا محمد، إن أمتك ستفتن بعدك ويقتل ابنك هذا من بعدك، ومد يده فأتاه بتربة بيضاء وقال: في هذه الأرض يقتل ابنك اسمها الطف 19.
فلما ذهب جبرائيل خرج رسول الله (ص) إلى أصحابه والتربة في يده، وفيهم أبو بكر وعمر وعلي وحذيفة وعمار وأبو ذر وهو يبكي، فقالوا ما يبكيك يا رسول الله (ص)؟ فقال: أخبرني جبرائيل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف وجاءني بهذه التربة فأخبرني أن فيها مضجعه .
عن عبد الله بن نجي عن أبيه (إنه سار مع علي (ع) وكان صاحب مطهرته ( أي الإناء الذي يتطهر به ويتوضأ منه) فلما حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفين فنادى علي (ع) أصبر أبا عبد الله، أصبر أبا عبد الله بشط الفرات قلت: وما ذاك؟ قال، دخلت على النبي (ص) ذات يوم وعيناه تفيضان، قلت، يا نبي الله أغضبك أحد، ما شأن عينيك تفيضان؟ قال: بل قام من عندي جبرائيل قبل أمد فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات. قال فقال: هل لك إلى أن أشمك من تربته؟ قال: قلت نعم، فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني أن فاضتا..)20.
روى الصدوق في الأمالي بسند عن ابن عباس قال: كنت مع أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في خروجه إلى صفين، فلما نزل نينوى وهي بشط الفرات قال بأعلى صوته: يا ابن عباس أتعرف هذا الموضوع؟ قلت: لا أعرفه يا أمير المؤمنين، فقال: لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتى تبكي كبكائي، قال: فبكى كثيراً حتى خضلت لحيته وسالت الدموع على صدره، وبكينا معه وهو يقول: آه آه، مالي ولآل أبي سفيان، صبراً يا أبا عبد الله، فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم..)21.
تبكيك عيني لا لأجل مثوبة ** لكنما عيني لأجلك باكية
(أن علياً مر بقبر الحسين فقال: هاهنا مناخ ركابهم، وهاهنا موضع رحالهم، وهاهنا مهراق دمائهم فتية من آل محمد يقتلون بهذه العرصة تبكي عليهم السماء والأرض...)22.
وعند ذكر اجتماع محمد بن الحنفية أخ الإمام الحسين (ع) في المدينة به قبيل مغادرة الإمام لها، ونصيحة محمد للحسين بأن يخرج إلى مكة فإن اطمأن إلى أهلها وإلا فإلى اليمين، وإلا اللحاق بالرمال وشعوب الجبال، هربا ًمن تعقيب يزيد وزمرته الأمويين له، قال الحسين يا أخي والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية ـ فقطع محمد بن الحنفية عليه الكلام وبكى فبكى الحسين (ع) معه ساعة ثم قال:يا أخي، جزاك الله خيراً، فقد نصحت وأشرت بالصواب، وأنا عازم على الخروج إلى مكة...)23.
لم نعاصر رسول الله (ص) ولكن قد قرأنا وسمعنا ..فكيف نكون أوفياء لرسول الله محمد (ص) .ولابد من أن لانقطع الصلة بالنبي الاكرم محمد (ص) .والبكاء على الحسين (ع) صلة للرسول الاعظم (ص) .وقد ورد في الروايات أن الباكي قد أدى حقنا .
وأن الزهراء البتول تبكي على الحسين (ع) كل يوم .فهنيئا لمن واسى مولاتنا السيده فاطمة الزهراء (ع) .
فدمعاتكم أخواني نصرا للحسين (ع) .
أحبتي الحسينيون أن عيونكم من أحب العيون عند الله عزوجل ..ويوم القيامه تلك العيون الضاحكة المستبشرة
فعن رسول الله (ص)أنه قال : كل عين باكية يوم القيامة إلا عين بكت على مصاب الحسين ، فإنها ضاحكة مستبشرة .
.فالملائكة تمس تلك الدموع ويأخذونها .تلك الدموع لوسقطت قطره منها على جهنم لأطفأت حرها .
أنها تدفع إلى خزنة الجنان فيمزجونها بماء الحيوان الذي هو من الجنة فيزيد في عذوبته ألف ضعف ..فهذه هي الدمعه على الحسين (ع) .
• قال الرضا (ع) :"يا بن شبيب !.. إن كنت باكيا لشيء فابك للحسين بن علي بن أبي طالب (ع) فإنه ذُبح كما يُذبح الكبش ، وقُتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلا ، ما لهم في الأرض شبيهون ، ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله ، ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصره ، فوجدوه قد قُتل ، فهم عند قبره شعثٌ غبْرٌ إلى أن يقوم القائم ، فيكونون من أنصاره ، وشعارهم :
يا لثارات الحسين ..
يا بن شبيب !.. لقد حدثني أبي ، عن أبيه ، عن جده : أنه لما قُتل جدّي الحسين أمطرت السماء دما وترابا أحمر .
يا بن شبيب !.. إن بكيتَ على الحسين حتى تصير دموعك على خديك ، غفر الله لك كل ذنب أذنبته صغيرا كان أو كبيرا ، قليلا كان أو كثيرا ..
يا بن شبيب !.. إن سرك أن تلقى الله عز وجل ولا ذنب عليك فزر الحسين "ع"
يا بن شبيب !.. إن سرّك أن تسكن الغرف المبنية في الجنة مع النبي (ص) فالعن قَتَلة الحسين .
يا بن شبيب !.. إن سرّك أن يكون لك من الثواب مثلُ ما لمن استشهد مع الحسين ، فقل متى ما ذكرته : يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما . يا بن شبيب !.. إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان ، فاحزن لحزننا ، وافرح لفرحنا ، وعليك بولايتنا ، فلو أن رجلا تولّى حجراً لحشره الله معه يوم القيامة.
عن أبي جعفر(ع)، قال: كان علي بن الحسين (ع) يقول: أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي(ع) دمعة حتى تسيل على خده بوأه الله بها في الجنة غرفا يسكنها أحقابا، وأيما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خده فينا لأذى مسنا من عدونا في الدنيا بوأه الله بها في الجنة مبوأ صدق، وأيما مؤمن مسه أذى فينا فدمعت عيناه حتى تسيل على خده من مضاضة ما أوذي فينا صرف الله، عن وجهه الأذى وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار.
وقال أبو عبد الله (ع)في حديث طويل له: ومن ذكر الحسين (ع) عنده فخرج من عينيه من الدموع مقدار جناح ذباب كان ثوابه على الله عز وجل، ولم يرض له بدون الجنة.
وعن أبي عبد الله(ع)، قال: نظر أمير المؤمنين(ع) إلى الحسين فقال: يا عبرة كل مؤمن، فقال: أنا يا أبتاه، قال: نعم يا بني.
مات معاوية بن أبي سفيان (عليه لعائن الله ) في النصف من رجب سنة 59 أو 60 من الهجرة , فأستلم اللعين يزيد مسند الخلافة .ورغم عدم وجود مؤهّلات الخلافة في يزيد ادّعى أنه خليفة رسول الله والقائم مقامه. وكان يحمل عقيدة الإلحاد والزندقة كما صرّح بذلك يوم فقال:
لَعِبــــــَتْ هـــاشمُ بـــــالملك فلا خَـــبَر جــــاء ولا وحـــي نـزلْ .
ويزيد مستخدم الموبقات كان يرتكبها من الخمور والفجور واللعب بالكلاب والقردة، والاستهتار بجميع معنى الكلمة أضافه الى نسبه المهتوك وحسبه الدنيء. فلم يكن ليزيد أيُّ تحرج عن هتك حرمات الله جلَّ وعلا فقد ذكر المؤرخون انَّ يزيد كان مستهتراً يميل الى الطرب ويتعاطى الخمر ويلعب مع القرود والفهود24.
وارسل يزيد خبرا بموت معاوية الى ابن عمه والي المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ويأمره بأخذ البيعة من أهل المدينة عامّة ومن الحسين بن علي خاصّة.
وقرأ الوليد كتاب يزيد على الامام الحسين (ع) ! فأجاب الامام الحسين (ع) الوليد :ـ : أيها الوليد: إنّك تعلم انا أهلُ بيتٍ بنا فَتَح الله وبنا يَختم، ومِثْلي لا يبايع ليزيد شارب الخمور وراكب الفجور وقاتل النفس المحترمة .
وخرج الإمام الحسين من المدينة قاصدا مكّة؛ فجعل أهل العراق يكاتبونه ويراسلونه ويطلبون منه التوجّه إلى العراق ليبايعوه بالخلافة، فإنه ابن رسول الله وسبطه، والمنصوص عليه بالإمامة عل لسان جدّه المصطفى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لقوله: (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا).
إلى أن وصل الى الامام الحسين (ع) إثنا عشر ألف كتاب من أهل العراق وكلّها مضمون واحد، كتبوا إليه: قد أينعتِ الثمار واخضرّ الجناب، وإنما تقدم على جندٍ لك مجنّدة، إن لك في الكوفة مائة ألف سيف، إذا لم تقدم إلينا فإنا نخاصمك غداً بين يدي الله.
فأرسل الامام الحسين (ع) مسلم بن عقيل إلى الكوفة، فلمّا دخل الكوفة اجتمع الناس حوله وبايعوه لأنه سفير الحسين وداعيته فبايعه ثمانية عشر ألفاً .
فلما علم يزيد ببيعة الناس الى مسلم بن عقيل (رض ) أرسل عبيد الله بن زياد إلى الكوفة، فدخل ابن زياد الكوفة وأرسل إلى رؤساء العشائر والقبائل يُهدّدهم بجيش الشام ويطمعهم.
فحينها أخذ يتفرّقون عن مسلم شيئاً فشيئاً، إلى أن بقي مسلم وحيداً، فأضافته امرأة تسمى طوعه (رض )فطوّقوا الدار التي كان فيها، وخرج مسلم، وقتل مسلم منهم مقتلة عظيمة، وألقي عليه القبض يوضربوا عنقه، وكانوا يسحبونه في الأسواق والحبل في رجليه.
وقد خرج الامام الحسين (ع) من مكة متجه الى العراق يوم الثامن من ذي الحجة، ومنعه أصحابه وأحدهم عبد الله بن العباس (حَبْر الأمّة) فقال الامام الحسين (ع) له : يابن عباس: إن رسول الله أمرني بأمرٍ أنا ماضٍ فيه.
وقد خرج الامام الحسين (ع) من مكة متجه الى العراق يوم الثامن من ذي الحجة، ومنعه أصحابه وأحدهم عبد الله بن العباس (حَبْر الأمّة) فقال الامام الحسين (ع) له : يابن عباس: إن رسول الله أمرني بأمرٍ أنا ماضٍ فيه.
فقال: بماذا أمرك جدّك؟
فقال الامام الحسين(ع): أتاني جدّي في المنام وقال: يا حسين أخرج إلى العراق فإن الله شاء أن يراك قتيلا.
فقال ابن عباس: إذن فما معنى حملُك هؤلاء النساء معك؟
فقال الامام الحسين (ع): هنّ ودائع رسول الله ولا آمنُ عليهنّ أحدا، وهنّ أيضاً لا يُفارقنني.
وخرج الامام الحسين(ع) قاصداً الكوفة، وفي أثناء الطريق التقى به سريّة من الجيش تتكوّن من ألف فارس بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي، وأرادوا إلقاء القبض على الامام الحسين (ع)وإدخاله الكوفة على ابن زياد، إلا أن الامام الحسين (ع) امتنع من الانقياد لهم، فتمّ القرار على أن يسلك الامام الحسين (ع) طريقاً لا يدخله الكوفة ولا يردّه إلى المدينة، فوصل إلى ارض كربلاء فنزل فيها.
فخطب ابن زياد في الكوفة وقال: من يأتيني براس الحسين فله الجائزة العظمى، وأعطه ولاية ملك الرّي عشر سنوات. فقام عمر بن سعد بن أبي وقاص وقال: أنا.
فعقد له رايةً في أربعة آلاف رجل، وعندما اصبح الصباح، وأولُ راية سارتْ نحو كربلاء راية عمر بن سعد، ولم تزل الرايات تترى حتى تكاملوا في اليوم التاسع من المحرم ثلاثين ألفاً أو خمسين ألفاً أو أكثر من ذلك.
وحالوا بين الحسين وأهل بيته وبين ماء الفرات من اليوم السابع من المحرم، ولما كان اليوم التاسع اشتدّ بهم العطش، واشتدّ الأمر بالأطفال الرضّع .
قالت السيدة سكينة بنت الامام الحسين(ع): عزّ ماؤنا ليلة التاسع من المحرّم فجفّت الأواني ويبست الشفاه حتى صرنا نتوقّع الجرعة من الماء فلم نجدها، فقلت في نفسي أمضي إلى عمّتي زينب لعلّها ادّخرت لنا شيئاً من الماء، فمضيتُ إلى خيمتها فرأيتها جالسة وفي حجرها أخي عبد الله الرضيع وهو يلوك بلسانه من شدّة العطش وهي تارة تقوم وتارة تقعد، فخفقتني العبرة فلزمتُ السكوت، فقالت عمتي: ما يُبكيك؟ قالت: حال أخي الرضيع أبكاني، ثم قلت: عمتاه قومي لنمضي إلى خيم عمومتي لعلّهم ادّخروا شيئاً من الماء، فمضينا واخترقنا الخيم بأجمعها فلم نجد عندهم شيئاً من الماء، فرجعت عمّتي إلى خيمتها فتبعتها وتبعنا من نحو عشرين صبياً وصبيّة، وهم يطلبون منها الماء وينادون: العطش.. العطش.
وكانت آخر راية وصلت إلى كربلاء راية شمر بن ذي الجوشن(لعنة الله عليه ) في ستة آلاف مساء يوم التاسع، ومعه كتاب من ابن زياد إلى ابن سعد، فيه: فإن نزل الامام الحسين (ع) وأصحابه على حكمي واستسلموا فابعث بهم إليّ سلما، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم، فإن قتلت حسيناً فأوطئ الخيل صدره وظهره... إلى آخره.
وعند المساء بعد العصر زحف الجيش نحو خيام الامام الحسين (ع) ..واقترب من خيمة أمامنا الحسين (ع) والامام جالس أمام خيمته، إذ خفق برأسه على ركبتيه، وسمعت الصيحة أخته زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين (سلام الله عليهم ) فادنت من أخيها وقالت: يا أخي أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت؟
فرفعالامام الحسين (ع) رأسه وقال: أخيّة: أتى رسول الله الساعة في المنام فقال لي: إنك تروح إلينا.
فلطمتْ أخته وجهها وصاحت: واويلاه،
فقال لها الامام الحسين(ع) : ليس الويل لك يا أخيّة، ولا تُشمتي القوم بنا، اسكتي رحمك الله. فقال له العباس بن عليّ: يا أخي قد أتاك القوم فانهض.
فنهض ثم قال: يا عباس اركب ـ بنفسي أنت ـ يا أخي حتى تلقاهم وتقول لهم: ما لكم وما بدا لكم؟ وما تريدون؟
فأتاهم مولانا ابا الفضل العباس في نحو عشرين فارساً، فقال لهم مولاي العباس: ما بدا لكم وما تريدون؟
قالوا: قد جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم.
فعاد قمر بني هاشم الى أخيه يخبره بما قاله القوم الفاسقين , فقال الامام الحسين(ع): ارجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غد، وتدفعهم عنّا العشيّة لعلّنا نُصلّي لربّنا الليلة، وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني قد كنت أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه.
فمضى العباس إلى القوم وسألهم ذلك، فأبوا أن يمهلوهم،
فقال عمرو بن الحجاج الزبيدي: ويلكم والله لو أنهم من الترك والديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم فكيف وهم آل محمد؟!
وبات الإمام الحسين(ع) وأصحابه وأهل بيته ليلة عاشوراء، ولهم دويٌّ كدويّ النحل، ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد.
وجمع الحسين اصحابه وقام فيهم خطيباً
وقال: أما بعد:
فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيتٍ أبرّ ولا أوصل ولا أفضل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً عنّي خيراً، فلقد بررتم وعاونتم، ألا: وإني لا أظن يوماً لنا من هؤلاء الأعداء إلا غداً، ألا: وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍّ من بيعتي ليس عليكم مني حرج ولا ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرّقوا في سواد هذا الليل، وذروني وهؤلاء القوم، فإنهم لا يريدون غيري.
فقال له اخوته وأبناؤه وأبناء عبد الله بن جعفر:و لِمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبدا، وتكلّم اخوته وجميع أهل بيته فقالوا: يابن رسول الله: فما يقول لنا الناس وماذا نقول لهم؟ نقول: إنا تركنا شيخنا وكبيرنا وابن بنت نبيّنا لم نرم معه بسهم، ولم نطعن معه برمح، ولم نضرب معه بسيف لا والله يابن رسول الله لا نفارقك أبداً، ولكن نقيك بأنفسنا حتى نقتل بين يديك ونرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك.
ثم قام مسلم بن عوسجة وقال: نحن نخلّيك هكذا وننصرف عنك وقد أحاط بك هذا العدو؟! لا والله لا يراني الله وأنا أفعل ذلك حتى أكسر في صدورهم رمحي، وأضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ولو لم يكن لي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، ولا أفارقك حتى أموت معك.
وقام سعد بن عبد الله الحنفي فقال: لا والله يابن رسول الله لا نخلّيك أبداً حتى يعلم الله أنا قد حفظنا فيك وصيّة رسوله محمد، ولو علمت أني أقتل فيك ثم أحيى، ثم أحرق احياً، ثم أذرى ويفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة، ثم أنال الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟
ثم قام زهير بن القين فقال: والله يابن رسول الله لوددت أني قتلت ثمّ نشرت ألف مرة وإن الله قد دفع القتل عنك وعن هؤلاء الفتية من اخوتك وولدك وأهل بيتك.
وقام الأصحاب وتكلّموا بما تكلّموا، فلما رأى الحسين ذلك منهم قال لهم: إن كنتم كذلك فارفعوا رؤوسكم وانظروا إلى منازلكم.
فكشف لهم الغطاء ـ بإذن الله ـ ورأوا منازلهم وحورهم وقصورهم، فقال لهم الامام الحسين (ع): يا قوم إني غداً أقتل وتقتلون كلكم معي، ولا يبقى منكم واحد.
فقالوا: الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك، وشرّفنا بالقتل معك، أو لا ترضى أن نكون في درجتك يابن رسول الله؟
فقال: جزاكم الله خيراً.
فقال له القاسم بن الإمام الحسن المجتبى: وأنا في يمن يُقتل؟ فاشفق عليه الامام الحسين (ع) وقال: يا بني كيف الموت عندك؟
قال: يا عمّ فيك أحلى من العسل.
فقال الامام الحسين(ع): إي والله ـ فداك عمّك ـ إنك لأحدُ من يقتل من الرجال معي، بعد أن تبلوا بلاءً حسناً، ويقتل ابني عبد الله.
فقال: يا عمّ ويصلون إلى النساء حتى يقتل وهو رضيع؟
فقال الامام الحسين(ع): أحمله لأدنيه من فمي فيرميه فاسق فينحره.
ثم قال الامام الحسين (ع): ألا ومن كان في رَحْلهِ امرأة فلينصرف بها إلى بني أسد.
فقام علي بن مظاهر وقال: لماذا يا سيدي؟
فقال: إنّ نسائي تُسبى بعد قتلي، وأخاف على نسائكم من السبي، فمضى علي بن مظاهر إلى خيمته فقامت زوجته واستقبلته وتبسّمت في وجهه، فقال لها: دَعيني والتبسّم فقالت: يابن مظاهر إني سمعتُ غريب فاطمة طب فيكم خطبة وسمعت في آخرها همهمة ودمدمة فما علمتُ ما يقول؟
قال: يا هذه إن الحسين قال لنا: ألا ومن كان في رحله امرأة فليذهب بها إلى بني أسد، لأني غداً اقتل ونسائي تسبى.
فقالت: وما أنت صانع؟
قال: قومي حتى ألحقك ببني عمّك. فقامت ونطحت رأسها بعمود الخيمة وقالت: والله ما أنصفتني يابن مظاهر أيسرّك أن تسبى بنات رسول الله وأنا آمنة من السبي ؟ أيسرّك أن يبيّض وجهك عند رسول الله ويسوّد وجهي عند فاطمة الزهراء؟ والله أنتم تواسون الرجال ونحن نواسي النساء. فرجع علي بن مظاهر إلى الحسين وهو يبكي فقال الحسين: ما يبكيك؟ قال: يا سيدي أبتِ الأسدية إلا مواساتكم، فبكى الحسين وقال: جُزيتم منّا خيراً.
وعندما أصبح الصباح من يوم عاشوراء نادى الامام الحسين (ع) أصحابه وامرهم بالصلاة، فتيمّموا بدلاً عن الوضوء وصلّى بأصحابه صلاة الصبح ثم قال: (اللهم أنت ثقتي في كلّ كربٍ وأنت رجائي في كل شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة، كم من كربٍ يضعف فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو، أنزلته بك وشكوته إليك رغبة مني إليك عمّن سواك، ففرّجته عنّي، وكشفته، فأنت وليّ كلّ نعمة؛ وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة).
ثم نظر إلى أصحابه وقال: (إن الله قد أذن في قتلكم وقتلي؛ وكلّكم تقتلون في هذا اليوم إلا ولدي علي بن الحسين (أي زين العابدين) فاتقوا الله واصبروا).
واصبح عمر بن سعد في ذلك اليوم وخرج بالناس، وجع على ميمنة العسكر عمرو بن الحجاج الزبيدي؛ وعلى المسيرة شمر بن ذي الجوشن، وعلى الخيل عروة بن قيس، وعلى الرجّالة شبث بن ربعي، وأعطى الراية دُريداً غلامه.
ودعى امامنا الحسين (ع) بفرس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) المترجزْ، وعبّأ أصحابه، وكان معه اثنان وثلاثون فارساً، وأربعون راجلاً، فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه، وحبيب بن مظاهر في المسيرة، وأعطى رايته أخاه العباس، وجعلوا البيوت والخيم في ظهورهم؛ وأمر بحطب وقصب أن يترك في خندق عملوه في ساعة من الليل، وأشعلوا فيه النار مخافة أن يأتيهم العدو من ورائهم، وجعلوا جبهة القتال جهةً واحدة، فغضب الأعداء بأجمعهم، فنادى شمر بأعلى صوته: يا حسين أتعجّلت النار قبل يوم القيامة؟
فقال الامام الحسين (ع): من هذا، كأنه شمر؟
فقالوا: نعم.
فقال: يابن راعية المعزى أنت أولى بها صليّا. وأراد مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم فمنعه الامام الحسين (ع)، وقال: أكره أن أبدأهم بالقتال.
ثم تقدّم الامام الحسين (ع) نحو القوم في نفر من أصحابه وبين يديه برير بن خضير الهمداني، فقال له الامام الحسين (ع): كلّم القوم. فتقدّم برير وقال: يا قوم اتقوا الله فإن ثِقل محمد (صلّى الله عليه وآله) قد أصبح بين أظهركم، هؤلاء ذريته وعترته وبناته وحرمهن فهاتوا ما عندكم وما الذي تريدون أن تصنعوه؟
فقالوا: نريد أن نمكّن منهم الأمير عبيد الله بن زياد فيرى رأيه فيهم.
فقال برير: أفلا تقبلون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي جاؤوا منه؟ ويلكم يا اهل الكوفة أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها؟! ويلكم أدعوتم أهل بيت نبيّكم وحلأتموهم عن ماء الفرات؟! بئس ما خلّفتم نبيكم في عترته، مالكم لا سقاكم الله يوم القيامة، فبئس القوم أنتم.
فقال نفر منهم: ما ندري ما تقول.
فقال برير: الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة، اللهم إني أبرءُ إليك من فعال القوم، اللهم ألق بأسهم بينهم حتى يلقوك وأنت عليهم غضبان.
فجعل القوم يرمونه بالسهام فرجع برير إلى ورائه، فتقدّم الامام الحسين (ع) نحو القوم، ثم نادى بأعلى صوته: يا أهل العراق ـ وكلهم يسمعون ـ فقال: (أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما يحقّ لكم عليّ، وحتى أعذر إليكم، فإن أعطيتموني النصف كنتم بذلك سعداء وإن لم تعطوني النصف من أنفسكم فأجمعوا رأيكم ثم لا يكن أمركم عليكم غُمّة ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون، إنّ وليّي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين.
ثم حمد الله وأثنى عليه وذكره بما هو أهله، وصلى على النبي وآله وعلى الملائكة والأنبياء، فلم يسمع متكلّم قط قبله ولا بعده أبلغ منه في المنطق.
ثم قال: أما بعد يا أهل الكوفة فانسبوني فانظروا من أنا، ثم راجعوا أنفسكم فعاتبوها فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟
الستُ ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه وأول مصدّق لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) بما جاء به من عند ربّه؟
أو ليس حمزة سيد الشهداء عمّ أبي؟
أو ليس جعفر الطيّار في الجنة بجناحين عمّي؟
أو لم يبلغكم ما قال رسول الله لي ولأخي: (هذان سيدا شباب أهل الجنة).
فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحق، والله ما تعمّدتُ كذبً منذ علمتُ أن الله يمقت عليه أهله، وإن كذّبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي؛ وزيد بن أرقم؛ وأنس بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي... أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟ يا قوم فإن كنتم في شكٍ من ذلك، أفتشكّون أني ابن بنت نبيّكم فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم، ويحكم! أتطالبوني بقتيل منكم قتله أو مالٍ استملكته، أو بقصاص من جراح؟
فأخذوا لا يكلّمونه، ونادى بأعلى صوته فقال: أنشدكم الله هل تعرفونني؟
قالوا: نعم أنت ابن رسول الله وسبطه.
فقال: أنشدكم الله هل تعلمون أن جدي رسول الله؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن أبي علي بن أبي طالب؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن أمي فاطمة بنت رسول الله؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم هل تعلمون أن جدّتي خديجة بنت خويلد أول نساء هذه الأمة إسلاماً؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن حمزة سيد الشهداء عمّ أبي؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن جعفر الطيّار في الجنّة عمّي؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن هذا سيف رسول الله أنا متقلّده؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن هذه عمامة رسول الله أنا لابسها؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن علياً كان أول القوم إسلاماً وأعلمهم عِلماً وأعظمهم حلما، وانه ولي كل مؤمن ومؤمنة؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: فبم تستحلّون دمي وأبي الذائدُ عن الحوض يذود عنه رجالاً كما يذاد البعير الصادر عن الماء، ولواءُ الحمد في يد أبي يوم القيامة؟!
قالوا: قد علمنا ذلك كلّه ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشانا).
فلما خطب بهذه الخطبة وسمعت بناته وأخته زينب كلامه بكين وندبن ولطمن خدودهن، وارتفعت أصواتهن، فوجّه إليهن أخاه العباس وابنه عليّاً، وقال لهما: أسكتاهنّ فلعمري ليكثرن بكاؤهن.
وذكر السيد ابن طاووس خطبةً أخرى الامام للحسين(ع) قال: فركب الامام الحسين (ع) ناقته، وقيل: فرسه، فاستنصتهم فأنصتوا، وفي رواية: فأبوا أن يُنصتوا حتى قال: ويلكم ما عليكم أن لا تنصتوا لي فتسمعوا قولي، وإنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد، فمن أطاعني كان من المرشدين ومن عصاني كان من المهلكين، وكلّكم عاصٍ لأمري غير مستمعٍ قولي فقد مُلئتْ بطونكم من الحرام وطُبعَ على قلوبكم، ويلكم! ألا تنصفون؟ ألا تسمعون؟ ألا تنصتون؟ فتلاوم القوم وقالوا أنصتوا له فأنصتوا.
فحمد الله وأثنى عليه وذكره بما هو أهله، وصلّى على محمد وآله وعلى الملائكة والأنبياء والرسل، وابلغ في المقال ثم قال:
(تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحا حين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم، فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدلٍ أفشوه فيكم ولا أملٍ أصبح لكم فيهم؛ فهلاّ لكم الويلات؟ تركتمونا والسيف مشيم والجأش طامن، والرأي لما يستحصف ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدبا وتداعيتم إليها كتداعي الفراش، فسُحقا لكم يا عبيد الأمة، وشذاذ الأحزاب؛ ونبذة الكتاب ومحرّفي الكلم، وعصبة الآثام، ونفثة الشيطان ومطفئ السنن. أهؤلاء تعضدون؟ وعنّا تتخاذلون؟ أجل والله غدرٌ فيكم قديم، وشجت إليه أصولكم، وتأرّزت عليه فروعكم، فكنتم أخبث ثمر شجا للناظر وأكلة للغاصب، إلا وإن الدعيّ بن الدعيّ قد ركّز بين اثنتين: بين السلّة والذلّة وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله، وحجور طابت وجدودٌ طهرت، وأنوفُ حميّة ونفوسٌ أبيّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإني زاحفٌ بهذه الأسرة مع قلّة العدد وخذلان الناصر، ثم قال:
فــــإن نــــهزم فــهزّامون قدماً وإن نُغــــلبْ فغَــــير مُـــــغَلّبينا
ومــــا إن طــــبّنا جــــبنٌ ولكن منايـــــانا ودولـــــة آخــــــرينا
إذا مـــا المـوت رفّع عن اناس كــــــلا كـــــله أنـــــاخ بآخرينا
فأفنى ذلــــكم ســـــرواة قومـي كمـــــا أفـــــنى القرون الأوّلينا
فلو خـــــلد المـــلوك إذن خلدنا ولو بقــــي الكــــرام إذن بـقينا
فــــقل للشــــامتين بــــنا أفيقوا سيــــلقى الشــامتون كما لقينا
ثم أيم الله لا تلبثون بعده إلا كريث ما يركب الفرس حتى تدور بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور، عهدٌ عهده إليّ أبي عن جدّي، فأجمعوا أمركم وشركاءكم، ثم لا يكن أمركم عليكم غمّة ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون إني توكّلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إنّ ربّي على صراط مستقيم.
اللهم احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسنّي يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كاساً مصبرة، فإنهم كذبونا وخذلونا وأنت ربّنا عليك توكّلنا واليك أنبنا واليك المصير).
وخطب فيهم خطبة أخرى، وأتمّ عليهم الحجّة فما أفاد فيهم الكلام ثم أناخ راحلته، ودعى بفرس رسول الله (ص) المرتجز فركبه، فعند ذلك تقدّم عمر بن سعد وقال: يا دريد أدن رايتك ثم أخذ سهماً ووضعه في كبد القوس وقال: اشهدوا لي عند الأمير فأنا أول من رمى الحسين، فاقبلت السهام من القوم كأنها شآبيب المطر، فقال الحسين لأصحابه: قوموا رحمكم الله فإن هذه السهام رسل القوم إليكم.
فاقتتلوا ساعة من النهار حملةً وحملةً، فلما انجلت الغبرة وإذا بخمسين من أصحاب الحسين صرعى، فعند ذلك ضرب الحسين بيده على لحيته الكريمة وقال: (اشتدّ غضبُ الله على اليهود إذ جعلوا له ولدا، واشتدّ غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة، واشتدّ غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر، واشتدّ غضبه على قوم اتّفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيهم، أما والله لا أجيبهم إلى شيء ممّا يريدون حتى ألقى الله وأن مخضّب بدمي).
ثم جعل أصحاب الامام الحسين (ع) يبرزون واحداً بعد واحد، وكل من أراد منهم الخروج ودّع الامام الحسين وقال السلام عليك يا أبا عبد الله. فيجيبه الامام الحسين (ع): وعليك السلام ونحن خلفك، ثم يتلو: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً).
ولا يبرز منهم رجلٌ حتى يقتل خلقاً كثيراً من أهل الكوفة، فضيّقوا المجال على الأعداء حتى قال رجل من أهل الكوفة يصفهم:
ثارت علينا عصابةُ أيديها على مقابض سيوفها، كالأسود الضارية تحطّم الفرسان يميناً وشمالاً، وتلقي أنفسها على الموت، لا تقبل الأمان، ولا ترغب في المال، ولا يحول حائل بينها بين الورود على حياض المنية، والاستيلاء على الملك، فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها).
ونعم ما قيل في حقّهم:
قـــــــومٌ إذا نـــــودوا لــــدفع ملمّةٍ والخـــــيل بـــين مدَعّسٍ ومكردس
لبسوا القـلوب على الدروع وأقبلوا يـــــتهافتون عـــلى ذهاب الأنفس
وأقبل الحرّ بن يزيد الرياحي إلى عمر بن سعد وقال: يا عمر أمقاتل أنت هذا الرجل؟
قال: إي والله قتالاً أيسرهُ أن تطير الرؤوس وتطيح الأيدي.
فقال الحر: أفمالكم فيما عرضه عليكم رضى؟
قال عمر: أما لو كان الأمر لي لفعلت، ولكن أميرك أبى.
فاقبل الحرّ حتى وقف موقفاً من الناس، فأخذ يدنو من الحسين قليلاً قليلاً، فقال له المهاجر بن أوس: ما تريد أن تصنع؟ أتريد أن تحمل عليه؟
فلم يجيبه الحر، وأخذه مثل الإفكل وهي الرعدة، فقال له المهاجر: إن أمرك لمريب، والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل هذا، ولو قيل لي من أشجع أهل الكوفة ما عدوتك، فما هذا الذي أراه منك؟!
يتبع لطفا ....
تعليق